نظرات إلى حضارة القرن الحادي والعشرين

مجلة الجامعة اللبنانية – حزيران وتموز 1969
نظرات إلى حضارة القرن الحَادي والعشرين
الدكتور عبد الله عبد الدائم
ليس النظر إلى المستقبل، أيامنا هذه، فراراً من الحاضر إلى نعيم نتوهمه، ولا هو الهرب من هموم حضارتنا ومشاغل حياتنا إلى حمى بعيد نتعزى به أو إلى مدينة فاضلة نضع فيها رغباتنا وتمنياتنا وكل ما هو نقيض النقائض التي تعج بها حياتنا.
أقوال العرافين لها جمالها دوماً ولها سحرها. وأحلام الشعراء فيها عزاء وطرف من شقاء.. وسؤال الشجر والمدر، والحصى والنجم، والأجواء والأضواء.. وأحشاء الحيوان ومواقع الأقدام، ووجوه الناس وأشكال الخلقة، سؤال هذه جميعها وكثير غيرها عما يخبئه الغد ويحمله المستقبل، عادة إنسانية قديمة ولعلها أزلية أبدية.
إنها جميعها تفصح عن غربة الإنسان في هذا الكون، عن جهله أصله ومصيره، عن شعوره بأنه ملقى في عالم لا يعرف مجراه ومستقره، ولا يدرك نواياه وأسراره، عن قلقه وسط سفينة الحياة التي تمر به على كل شاطئ ويتقاذفه فيها كل موج، دون أن يدري إلى أين المسير وما هو المصير.
غير أن إنسان اليوم، إنسان حضارة الثلث الأخير من القرن العشرين، لا يقنع بأن يروي قلقه عن الحياة ومقبلات الأيام بأحلام يتعزى بها أو نبوءات يطمئن لها، أو بنى فكرية يركن إليها. إنه يريد أن يتحدى هذا القلق، كما يتحدى كل شيء في الكون، يريد أن يسيطر على المستقبل، وعلى المستقبل البعيد، كما يسيطر على كثير من معالم الحاضر. يريد بكلمة واحدة أن يكون حقاً خالق مصيره، ومبدع غده. أنه لا يفرش قلقه من المستقبل وخوفه من غِيَر الدهر بمهاد من حرير الأحلام والرؤى تزيد في واقع الأمر من ضياعه وجهله. بل يجرب أن يعرف هذا المستقبل أولاً ليقدر عليه. يجرب أن يسلط على هذا المستقبل أضواء الحلم الحديث ليجلوه وينتهك سره، ويعريه، ويجبره على المثول صاغراً أمام محكمته.
إن إنسان العصر الحديث يريد أن يبني إنسان الغد وحضارة الغد، أن يكون له في خلقهما شأن، ألا يكون مجرد متفرج على حضارة تكر وتمضي كما تمضي الأيام والليالي، وتحمل وتتئم، وتأتي بما تشاء، وتقذف بما يحلو لها.
إنه لا يقبل أن تكون حضارة الإنسان مفروضة عليه، وأن يغدو التقدم الذي أصابه عبئاً يجره إلى حيث يرتضي ولا يرتضي، وأن تنقلب قصة التطور العلمي والتقني إلى جبرية تقود الإنسان خالقها إلى حيث لا يدري، إن لم تقده إلى شقاء الملايين من أبنائه، بل إلى حتفه وفنائه.
إن إنسان العصر الحديث لا يريد أن يرى في خط الحضارة خطاً متقدماً لا محالة، يسير دوماً قدماً إلى أمام، نحو سعادة الإنسان وكرامته. ويرى على العكس من هذا أننا لا نستخرج من الأشياء إلا ما نضعه فيها، ولا نستخرج من حضارة الغد ما نرجوه للإنسان من سعادة ورفاهية إلا إذا وضعنا فيها ذلك من اليوم. ومن هنا يتطلع إلى المستقبل، يتقرّاه، يرهص به، يتحسبه، ليقبض على ما يستطيع القبض عليه، ليمسك بما يقوى عليه من زمام الغد، ليسير بحضارة الإنسان إلى حيث يريد لا إلى حيث تريد أقدار وصدف غريبة عنه.
هل يتأتى له ذلك؟ هل ينجح في مطمحه الكبير؟ ذلك سؤال ضخم سوف نحاول الإجابة عليه من خلال عرضنا لبعض الجهود التي يقوم بها في هذا السبيل.
منذ سنوات ليست بعيدة، منذ عام 1957 على وجه التحديد، أطلق المفكر الفرنسي الكبير “Gaston Berger”، في مقال كتبه في «مجلة العالمين» «Revue des deux Mondes». فكرة جديدة حملت وأخصبت، ونضجت وأينعت وخلقت اليوم دنيا جديدة من الأبحاث والدراسات التي تحاول الإطلالة على المستقبل والإمساك ببعض زمامه.
ومنذ ذلك الحين ولد علم جديد وولدت كلمة جديدة هي كلمة «تحسب» «Prospective» ومنذ ذلك الحين تكاثرت الدراسات والأبحاث والجمعيات والمنظمات التي تبحث في المستقبل بحثاً علمياً حقاً، وولد علم المستقبل «Futurolojie» إن صحت هذه التسمية.
قد يبدو هذا العلم علماً قديماً بعض الشيء، وقد تقفز إلى الأذهان بعض الأسماء الشهيرة التي قامت بدراسات حول المستقبل وحول القران الواحد والعشرين، قبل غاستون بيرجيه والأبحاث التي تلته. قد تقفز إلى الأذهان تلك الدراسات الإنسانية والفلسفية التي وضعها المؤرخ الكبير «ارنولد توينبي» أو التي وضعها من قبله «أوشفلد شبنجلر» في كتابه الشهير عن «أفول الغرب» أو الدراسات التي وضعها قبل ذلك أمثال عالم الاجتماع الألماني «سوروكين» ومن قبله «بوركارت» «Jacob Burckardt». غير أن هذه الدراسات – على قيمتها – تختلف اختلافاً أساسياً عن الدراسات الحديثة التي نشير إليها والتي يضمها ما عرف بالتحسب. قد يعتمد هذا التحسب على مثل هذه الدراسات وعلى سواها. غير أن منهجه مختلف كما أن أهدافه مختلفة. إن أهم ما يميزه من سواه من الدراسات أنه يستهدف بناء نظرة تركيبية عن المستقبل كلية جامعة، تستطيع أن ترشد هذا المستقبل وتوجهه، وتستطيع أن تكون منطلقاً لسياسات اجتماعية مستمدة من ضرورات ذلك المستقبل. فليس هم هذه الدراسات المحدثة التي تحسب الغد، أن تتنبأ به فحسب، بل أن تجعل من تنبؤها هذا أداة لرسم «صور ممكنة للمستقبل» أي أن تضع المسؤولين عن سياسة الأمم والدول أمام الاختيارات المتباينة التي يمكن أن يختاروها والتي تؤثر على صورة المستقبل وأن تبين لهم نتائج كل اختيار وثمن كل اختيار.
إنها تريد أن تتنبأ بأحداث السنين الآتية تنبؤاً مبكراً يمكن المسؤولين أن يتخذوا سلفاً المواقف الملائمة، في سائر ميادين الحياة: في التربية، وتعمير المدن، وبناء الاقتصاد، وتطوير الآلة، وضبط النسل، وفنون الحرب والسلم، وسائر مظاهر الحضارة.
إنها تريد أن تخلق من معرفتها باتجاهات المستقبل قوة، قوة تؤثر بها على تلك الاتجاهات وتسيرها في الوجهة الفضلى.
قد تقولون: وهل ذلك ممكن؟ أو ليس هذا أيضاً حلماً جديداً من الأحلام. حلماً كبيراً يستمد حجمه من حجم التطور الذي أصابته الدراسات العلمية والتقانية في دنيانا؟
ونقول – مستبقين أموراً سوف تتضح بعد حين عند عرضنا لبعض الدراسات التي تمت وقامت فعلاً – أن هذه الدراسات التحسبية لا تنسب إلى نفسها عصمة ليست لها، ولا تدعي قدرة مفرطة لا تتفق مع صعوبات البحث وعقبات الموضوع. إنها تدرك ما في الإحاطة باتجاهات المستقبل من صعوبات، وتدرك أكثر من ذلك أن توجيه هذه الاتجاهات إلى حيث نبتغي ونريد أمرٌ أدهى وأمر. إنها تعلم أن المستقبل محمل بالمفاجآت، وبأحداث تند عن التنبؤ، وبطوارئ قد تغير مجرى الأمور وتقلبها رأساً على عقب.
ولكنها تقول في الوقت نفسه أنها تريد أن ترسم اتجاهات المستقبل التي تبدو أكثر احتمالاً من سواها. وهي بعد هذا، تفترض أن نبوءاتها ونتائجها لا تصدق إلا في حال استمرار التطور الحالي دون ما مفاجآت وحوادث ضخمة يمكن أن تغير مجرى المستقبل كله.
ولندع هذه الملاحظات المنهجية، لننتقل إلى عرض جانب من هذه الدراسات ولنتبين من خلال هذا العرض نفسه حدود خطئها وصدقها.
لقد انضافت أنظار جاستون برجيه الفرنسي إلى «طرائق التنبؤ التكنولوجي» «Technological forecasting» الحديثة التي ولدت في الولايات المتحدة خاصة: لتخلق مجموعة كبيرة من الاهتمامات والدراسات والجمعيات المعنية بتحسب الغد والتأثير فيه.
ولنقف على سبيل المثال عند طرف من دراسات لجنة دعيت باسم «لجنة العام 2000 كونها «المجمع الأميركي للآداب والعلوم». لقد ظهرت بعض نتائج تلك الدراسات في كتاب شهير يحمل اسم «العام 2000» وضعه «هرمان كان» المشرف على مؤسسة هودسون، مع زميل له. والحديث عن تلك الدراسات أمر يطول، يستغرق الساعات الطوال. وحسبنا أن نشير إلى أهم ملامحها، مدركين سلفاً ما يمكن أن نقع فيه من بتر وتشويه نتيجة لهذا الإيجاز المخل:
يتحدث التقرير الذي انتهت إليه دراسات لجنة العام 2000، فيما يتحدث عن الصورة المتوقعة التي ينتظر أن تكون عليها الأمور خلال الثلث الأخير من هذا القرن وفي بداية القرن الحادي والعشرين. ويستند في رسم هذه الصورة المقبلة إلى تقريه الكامل الواسع للصورة الحالية التي نجد عليها التقدم الإنساني. وتستند هذه الصورة الحالية، والصورة المقبلة بالتالي، إلى تحليل الاتجاهات الرئيسية لبلدان الغرب منذ القرن الحادي عشر حتى الآن، وحصرها نتيجة لذلك التحليل في اتجاهات عدتها ثلاثة عشرة اتجاهاً، تكون كلاً متكاملاً ومنزعاً موحداً، يطلق عليه اسم «المنزع المتعدد» أو «الاتجاه المتعدد».
ولا نعدد هنا هذه الاتجاهات الأساسية التي تتبدى أصيلة وثابتة في خط سير الحضارة الغربية. والذي يعنينا أن التقرير ينتهي من تقربه لهذه الاتجاهات الغالبة الأساسية إلى وصف معالم المجتمع الإنساني المقبل، إذا ما استمرت هذه الاتجاهات أو تزايدت صعداً، خلال السنين المقبلة. وهو يرى أن استمرار هذه الاتجاهات هو الأمر المحتمل الذي يومئ به خط التطور كله، وأن سواه هو الغريب والمدهش حقاً.
وعلى هذا الأساس يضع التقرير لائحة تحتوي مائة ميدان من الميادين التي يتوقع أن يحدث فيها تجديد تكنولوجي واسع خلال الثلث المقبل من القرن وفي بداية القرن الجديد.
وتشمل هذه اللائحة ميادين تضم معظم النشاط الإنساني في الصناعة والطب والوراثة والنوم والتعليم وضبط سلوك الإنسان النفسي وضبط النسل واختيار الأولاد وإيجاد أماكن للبيع والشراء أوتوماتيكية، واكتشاف طرق كيميائية لتحسين الذاكرة وعملية التعلم واستخدام مؤثرات كيميائية للتأثير على القابليات الفكرية وقابليات المحاكمة والتحليل الفكري وتحريض الأحلام المقصودة بل تنظيمها، وغير تلك من ميادين النشاط الإنساني.
وبين هذه الميادين الهامة الكثيرة التي يشير التقرير إلى أهم أشكال التطور المتوقعة فيها، يجدر أن نقف ولو وقفة موجزة عند ميدانين كبيرين: ميدان الفنون الإلكترونية والحاسبات الإلكترونية، ثم ميدان الدراسات المتعلقة بعلم النسل الإنساني والتدخل البيولوجي في الإنسان.
أما ميدان الدراسات الإلكترونية الحديث وأكثرها مفاجآت وإثارة فلعله أبرز ميادين التقدم التكنولوجي للدهشة. وإذا كان من حقنا أن نسمي الثلث الثاني من هذا القرن باسم عصر الذرة، وهو عصر تلا عصور البخار والحديد والسيارة، فمن حقنا أن نسمي الثلث الأخير المتبقي من القرن باسم عصر الإلكترون والحاسبات والسيبرنتيك «وهي كلمة وضعها دونالد مايكل» «Donald Michael». ولا شك أن عالم أشعة «Laser» وعالم الحاسبات الإلكترونية هما من أهم نتائج التطور الإلكتروني الكبير الذي سيتم في السنوات المقبلة.
أما فيما يتصل بأشعة «لايزر» فتبين التجارب التي تقوم منذ الآن أن استخدام هذه الأشعة يمكن أن يصل إلى نتائج ضخمة وقوى مخيفة في مجال تحطيم الصخور وشق الأنفاق وتوزيع أقنية الري، وفي مجال الأسلحة الحربية التكتيكية، ومجال المواصلات في الفضاء الخارجي وكثير غيرها من الميادين. وتبين الدراسات أن أشعة «لايزر» سوف تكون في عام 2000 وسيلة للمواصلات الرئيسية في العالم. ذلك أنها ستضاعف قدرة المواصلات الحالية التي نعرفها مليون مرة.
وأما فيما يتصل بالحاسبات الإلكترونية، التي تمثل بدورها بعض نتائج أشعة «لايزر» فدورها اليوم أخذ بالتعاظم، بحيث يمكن أن نقول أن بعض هذه الحاسبات سوف يستطيع حوالي عام 2000 أن يقلد الملكات الإنسانية الخاصة بالإنسان بل أن يتفوق عليها، وبحيث نستطيع أن نصل فعلاً إلى ما يمكن أن نسميه باسم «الذكاء الصناعي».
وذكاء الحاسبات غدا موضوع دراسات لا تحصى. ويكفي أن نشير إلى أن في البيت الأبيض مستشاراً خاصاً لدراسة الإمكانيات الجديدة لهذه الآلات الحاسبة في ميدان الإعلام والمواصلات. وقد كان هذا المستشار حتى عام 1967 هو السيد «ويليام نوكس».
وأهم ما تكشف عنه هذه الدراسات أن عدد هذه الحاسبات أولاً يزداد ازدياداً هائلاً. فبعد أن كان في الولايات المتحدة حوالي ألف حاسبة إلكترونية عام 1955، سوف يصبح عددها حوالي 80 ألف قبل عام 1975. ثم إن حجمها آخذ بالتناقص كما أن ثمنها آخذ بالهبوط. والمرجو أن تكون حاسبات عام 1980 صغيرة وقليلة الثمن. كذلك يرجى أن يصبح استخدامها ميسراً، بحيث يغدو من السهل على المرء أن يتعلم استعمال الحاسبة وعملياتها المختلفة كما يتعلم اليوم قيادة السيارة.
على أن أهم مجال لاستخدام الحاسبات الإلكترونية سوف يكون مجال المعرفة والإعلام ، وسوف يأتي يوم قريب يكون فيه في كل منزل، وعلى منضدة صغيرة جميلة فيه، جهاز حاسب صغير مرتبط بمصلحة عامة للحاسبات في البلد، يلجأ إليه صاحب المنزل كلما أراد أن يحصل على معلومات خاصة من أي نوع. ففي وسعه مثلاً أن يلجأ عن طريق هذا الجهاز الفرعي المربوط بجهاز رئيسي إلى أن يستخرج ما يشاء من معلومات من مكتبة الكونغرس أو أي مكتبة عالمية أخرى. وعلى سبيل المثال يقدر الباحثون اليوم أن عدد المعلومات المجتمعة في مكتبات العالم جميعها يبلغ حوالي 10/15 إشارة (أي حوالي مليون مليار إشارة). ويرون أن من الممكن أن نفكر أن بعض الحاسبات المركزية الكبيرة سوف تستطيع قرابة عام 1980 أن تحتضن هذه المعلومات جميعها في ذاكرتها، وأن تيسرها لمن أراد في الوقت المناسب، عن طريق شبكات الحاسبات الفردية المرتبطة بها. وتعتني الأبحاث القائمة في هذا المجال بتنسيق عمل الحاسبات هذا وتوزيعه، بحيث تستطيع الحاسبة الكبيرة الواحدة أن تجيب على عدة فئات من المتحدثين في آن واحد حول مختلف الأسئلة التي يطرحونها. وهكذا تصبح الآلة الحاسبة أشبه بهاتف منزلي يجيب على أي سؤال يمكن أن يطرح عليه حول أي جانب من جوانب النشاط الاقتصادي أو العلمي أو الاجتماعي أو سواه. وهكذا تستطيع ذاكرة الإنسان أن تجد امتداداً قوياً رائعاً لها في ذاكرة الحاسب.
ويرجو الباحثون في هذا الميدان أن يؤدي استخدام أشعة «لايزر» في الحاسبات الإلكترونية إلى تسجيل ما تحتويه مكتبة بكاملها تضم عشرين ألف مجلد على ورقة صغيرة من النيكل طولها 25سم وعرضها 20سم. ومن الآمال المعقودة على هذه الحاسبات أن تطبق على ميدان التربية كمساعدات للتعليم حيناً (كأن تستطيع الحاسبة أن تقدم درساً فردياً خاصاً لمائة طالب في آن واحد) أو كوسائل مساعدة لتنظيم نفقات التربية أو إدارة التربية أو التخطيط لمواقع المدارس والأبنية المدرسية، أو توزيع ساعات الدروس بين الأساتذة، أو تنظيم سير الباصات المدرسية
أو غيرها.
هذه لمحة خاطفة جداً عما تحمله الحاسبات الإلكترونية من وعود ضخمة ومن مفاجآت. وتنبؤات للباحثين حولها كما نرى مستندة إلى الاتجاهات القائمة فعلاً وإلى المرحلة التي وصلت إليها الدراسات في هذا المجال وليست مجرد رجم بالغيب، أو محض تمنيات على المستقبل.
ويضطرنا ضيق الوقت إلى الانتقال تواً إلى الميدان الثاني الذي يتوقع فيه الباحثون مفاجآت وتطورات مذهلة، نعني ميدان علم النسل الإنساني والتأثير البيولوجي على الإنسان، ونقصد بذلك ما يمكن أن تحدثه الوسائل الطبية والكيميائية والبيولوجية من آثار تغير التكوين النفسي للإنسان وقوته وصحته وعمره، بل تؤثر في البنية الوراثية للكائنات الإنسانية في المستقبل. وههنا نضطر أيضاً إلى أن نقول قليلاً من كثير:
تدل الدراسات في مجال أمراض القلب (تلك الأمراض التي هي سبب 55% من الوفيات في بلد كالولايات المتحدة) إلى قرب إيجاد أدوية جديدة ناجعة قادرة على إزالة الرواسب الدهنية التي تسد مجرى الشرايين الدموية، مما يبشر بتناقص كبير في معدل الوفيات المبكرة بين الخمسين والستين من العمر.
كذلك تدل هذه الدراسات على تحسن وسائل علاج المرضى المصابين بأمراض القلب عن طريق منظمات اصطناعية دائمة توضع في صدر المريض.
وفي مجال السرطان تقوم أبحاث تهدف إلى معالجة هذا المرض الذي يمكن أن تكون أسبابه راجعة إلى نوع من الفيروس، كما يرجح كثير من العلماء اليوم.
وفي ميدان الجراحة، بدأ استعمال أشعة «لايزر» بنجاح من أجل «لحم» الجروح الصغيرة وعاهات الشبكية. ويرجى أن يتسع استخدام هذه الأشعة وأن يؤدي ذلك إلى تطور كبير في عالم الجراحة.
وتشير الدراسات إلى تطورات كبيرة منتظرة وفي مجال تطعيم الأنسجة والأعضاء، وفي مجال الأعضاء والأجهزة الصنعية، بفضل استخدام الميكرو إلكترونيك خاصة. ومما يبشر بتطور الدراسات في هذه الميادين أن حوالي 50 ألف شخص يحملون منذ اليوم شرايين دموية من النيلون والداكرون. ويرجو الباحثون أن يستطيعوا الوصول إلى وسيلة تتغلب على مقاومة الجسم لزرع «أنسجة» غريبة عنه، مما يمكن من التعويض بيسر عن الكبد والبانكرياس والكليتين وسواها، بل مما يمكن من استخدام رئات صنعية، بل أجهزة إلكترونية تستطيع أن تحل محل حواس السمع جميعها بما في ذلك حاسة الرؤية وحاسة اللمس. ويتوقع الباحثون أن تتم معظم هذه الاكتشافات قبل عام 2000، وبصورة خاصة بعد الأعوام 1975-1980.
والحديث يطول عن الاكتشافات المتوقعة في عالم الطب والبيولوجيا سواء اتصلت بإطالة العمر المتوسط للإنسان أو بالتغلب على أمراض الشيخوخة ومتاعبها، وعلى رأسها الأمراض الحرضية «Arthritisme» أو بإنقاذ الأطفال المبكرين الذين يولدون بين الشهر الخامس والسابع من العمر، أو بالتغلب على عدم توافق الدماء بين الوالدين أو فيما يتصل باكتشاف لقاحات جديدة ضد بعض الأمراض الوبائية، أو سواها.
على أن ما هو أدهى وأخطر، ما يجري من أبحاث حول عمليات الفكر نفسها وحول مقوماتها الوراثية، بغية الوصول إلى شيء من السيطرة على الدماغ وعلى الذاكرة، وبغية إيجاد مؤثرات كيماوية يمكن أن تخفف من حالات القلق في الفصام ومن فقدان الذاكرة لدى المسنين ومن ضعف المبادرة لدى الأطفال المتأخرين عقلياً.
بل إن الباحثين ليأملون فيما يأملون أن يصلوا إلى اكتشاف نوع من «ماحيات الذكريات» تمكن الإنسان من أن يمحو ذكرى واقعة مؤلمة أو حادث فظيع. إنهم ليأملون فوق هذا ما يجعل المتهمين ينسون ما اعترفوا به وما قالوه بعد استجواب قسري.
وفضلاً عن هذا كله تتوقع الدراسات أن تستطيع خلق بيئة نفسية موجهة في بداية ولادة الإنسان في وسعها أن تكون من جهة أفراداً ذوي دماغ قليل التطور، ومن جهة أخرى أفراداً متفوقين، وأن تؤدي بالتالي إلى خلق فئتين من الناس، فئة الأسياد وفئة العبيد.
وما هو أشد خطراً وأفدح أثراً ما تأمله الأبحاث في هذا الميدان من نتائج تؤدي إلى التدخل في ولادة الأطفال. ولا يقتصر هذا التدخل على تحديد جنس الوليد من ذكر أو أنثى، بل يجاوز ذلك إلى تحديد كثير من صفات المولود سلفاً. ومطمح هذه الأبحاث أن تستطيع ربة البيت بعد حوالي خمسة عشر عاماً أن تمضي إلى مركز للشرطة أو الأحوال المدنية لتختار بين طائفة من العلب الصغيرة الشبيهة بعلب بذور الأزهار طفلها المنشود. ففي كل واحدة من هذه العلب يرجى أن يقيم جنين طفل في حال التجمد عمره يوم واحد، تشير الورقة المكتوبة على العلبة إلى لون شعره وعينيه، وطول جسمه المحتمل وذكائه المحتمل. وتصحب العلبة كفالة ضد العاهات الوراثية.
وتختار المرأة العلبة التي تحلو لها وتمضي إلى الطبيب ليضع لها الجنين، لينمو ويخرج بشراً سوياً.
ولا شك أننا عندما نبلغ مثل هذه التنبؤات نصل إلى مرحلة مليئة بالاحتمالات، ونضطر إلى أن نقرع ناقوس الخطر كما يفعل كثير من الباحثين. فمن حقنا وحقهم أن نسائل: ما هو مدى النتائج التي يمكن أن يبلغها هذا التدخل في الوراثة البشرية وفي تطور الإنسان البيولوجي؟ أفلا يؤدي مثل هذا التدخل إلى انقلاب في حياة الإنسان ومفاهيمه وثورة في مصيره أعمق من الثورة التي أحدثها التفجر النووي منذ خمسة وثلاثين عاماً؟
إن أبحاث علم النسل تريد كما نرى أن يكون للإنسان خيار في العوامل الوراثية وخيار في تكوين الإنسان الفيزيولوجي والجسدي وسلطة لعقل الإنسان على عقل الإنسان. وعندها لا بد أن نسأل، أمام هذه البحوث المتكاثرة التي تريد أن تؤثر على عمليات الفكر نفسها ووظيفة الدماغ ذاتها: من الذي سيراقب عند ذلك مراقب الأدمغة؟ ومن الذي سيضبط أعمال الفنيين المتوفرين على دراسات النسل، وما عسى أن تكون معايير المراقبة والضبط؟
وتتسع أبعاد المشكلة إذا نحن تخيلنا ما يمكن أن تقود إليه مثلاً الدراسات المتصلة بتحديد النسل. إن هذه الدراسات قد قطعت شوطاً واسعاً وخطيراً منذ اليوم. ولكن ما عسى أن تكون عليه الأمور بعد حوالي عشرين عاماً عندما تغدو مراقبة النسل ظاهرة شاملة عامة تتم بوسائل سهلة ورخيصة تفوق الوسائل الحالية بكثير.
ما عسانا نقول ونفعل حين نصل بعد أقل من عشر سنوات كما يتوقع الباحثون إلى اكتشاف حقن تحت الجلد يمكن أن تؤدي إلى عقم المرأة خلال فترة طويلة تبدأ بعام ومن الممكن أن تمتد إلى عشرين عاماً؟ ما مصير الإنسانية إن بلغت الأبحاث في هذا المجال غايتها التي ترجوها فوصلت إلى اكتشاف حبة أو حقنة تجعل المرأة عقيماً طوال حياتها، وتجعلها ولوداً عندما تريد؟ إلى أين المسير إن أصبح العقم هو الأصل وأصبح الإنجاب هو الشذوذ؟ أسئلة عديدة تطرح في هذا المجال وسواه، لعل أهم ما فيها أنها تبين لنا قيمة هذه الدراسات التنبؤية التحسبية وأهميتها، حين تطلع الإنسان على ما تخبئه له الأيام وما تحتضنه الدراسات والأبحاث، عله يقف منها ما يستطيع ويطور ما يجدر تطويره، وعله يكون له في اختيار مستقبله نصيب.
أسئلة كبيرة تثور أمام إرهاصات القرن الحادي والعشرين يلفها سؤال كبير: هل تقود الجهود التي يبذلها الإنسان من أجل تغيير شروط حياته الطبيعية، من أجل قلب طبيعة بيئته ومجتمعه وحياته النفسية والبيولوجية، إلى أن يجد هذا الإنسان نفسه أمام مصير كمصير فاوست، بعيداً عن إنسانيته مشوه الوجود السياسي والاجتماعي، مقذوفاً في طريق لا عودة عنه وفي مصير لا يستطيع أن يغالبه؟ هل تحرر حضارة الغد الإنسان من كثير من أنواع العبودية لترمي به في عبودية جديدة أرفع وأقسى؟ هل يؤدي التقدم إلى خلق مشكلات متقدمة، وهل يؤدي تفوق الإنسان إلى طرح معضلات متفوقة؟
تساؤلات وشكوك كان بودنا أن نجيب عليها من خلال بعض التأملات في الاتجاهات الفكرية والفلسفية والاجتماعية التي يحملها الغد. كان بودنا أن نكمل الصورة، فنتحدث عن دراسات المتحسبين في ميادين أخرى لا تقتصر على ميادين التكنولوجيا والاكتشافات التكنولوجية بل تمتد إلى رسم الصورة التي يرونها عن مستقبل التربية والاقتصاد والنمو الاجتماعي والسياسة وسواها من الميادين الإنسانية التي من شأنها أن تكمل تصورنا للمستقبل ومرتجياته.
غير أن الحديث يطول، وهو ذو شجون، فإلى مناسبة أخرى.
الدكتور عبد الله عبد الدائم