الإنسان العربي الجديد: رؤى جديدة، مهمات جديدة

مجلة مواقف – العدد 3- آذار، نيسان – 1969

الإنسان العربي الجديد
رؤى جديدة، مهمات جديدة
عبد الله عبد الدائم

تكاد كلمة «جديد» أن تغدو في وطننا العربي، بعد محنة الخامس من حزيران، كلمة الساعة، كلمة الوعود والآمال، كلمة المستقبل ورؤاه. «الجديد» هو الذي يتراءى في الأفق، وكأنه «القوة» المرجوة، والمنقذ والمخلص. على أنه إذا كان الإرهاص بالجديد مظهراً بيناً وشعوراً شاملاً، فمعالم هذا الجديد يكتنفها الكثير من الضباب، وتجللها سحب الغموض. ولا تثريب في ذلك، فمن مواطن القوة في الجديد ما يشتمل عليه من عناصر عصية على النبوءة، عامرة بقوة المفاجأة، محملة بغنى الممكن وثراء المكنون. غير أن الغنى يغدو فقراً والثراء وهماً، عندما لا يحمل تصور الجديد من معالم هذا الجديد إلا اللفظة أو الشعور اللفظي، عندما يغدو التعلق بالجديد تعلقاً بمولود سحري سوف يهبط من السماء، دون أن يدري أحد عن قسماته شيئاً، ودون أن تنبئ عن ولادته جهود الحاضر. فالمستقبل الغني لابد أن يعمل له الحاضر، دون أن يستوعب كامل إمكاناته. والمستقبل إلى حد بعيد اتجاه من اتجاهات الحاضر، ينمو ويترعرع من قلب الحاضر، ثم ما يلبث حتى يغدو غيره. ومن هنا فلا سبيل إلى أن تحلم «بجديد» حق إلا حين تدلنا صورة الحاضر على بعض معالم هذا الجديد، إلا إذا بدأنا ببناء هذا الجديد، ليبنينا هو بعد ذلك، وليتجاوزنا. ولقد مضت – في عصر سيطرة الإنسان على العالم – فكرة المستقبل الذي يفر من بين يدي الإنسان، والذي لا توجهه إرادة الإنسان إلى حد بعيد. والدراسات والأبحاث والمؤسسات التي جعلت همها السيطرة على المستقبل والمستقبل البعيد غدت أكثر من أن تحصى. وما الحديث عن «التحسب Prospective» و«التنبؤ التكنولوجي» و«علم المستقبل Futurologie» إلا جانب من محاولات دائبة، أخذت شكل الدراسات العلمية والرياضية، هدفها الإمساك بمجرى الغد، وبقدر المستقبل.
وإنساننا العربي الجديد، لابد أن نحاول الإطلالة عليه من خلال هذه النظرة، لابد أن نتبين معالمه إذا أردنا فعلاً أن يولد، لابد أن نخلقه إلى حد كبير إذا أردنا أن يخلق. إننا لابد صانعوه إذا أردنا أن يصنعنا، ولابد مطلقوه إذا أردنا أن يتجاوزنا. ليس شأننا معه شأن من ينتظره، بل شأن من يبحث وينقب ويستحث. لن يهبط من الغيب، ولن تحمله المعجزة، ولن يحمل معه المعجزة. لن يكون جديداً إلا بنا، ولن تستبين معالمه إلا من خلال جهدنا. إن نحن قد انتهينا، فلن يكون لنا جديد، وإن أصبحنا القديم القديم، فلا نحلمنّ بالطريف. الإنسان الجديد ليس سوانا، وإن يكن فوقنا. ليس نوعاً جديداً من الإنسان ولا مخلوقاً مبتكراً، بل هو الإنسان ذاته، الإنسان العربي في محاولة ولوجه الأعمق في إنسانيته وعروبته، وتعرفه الأصدق على طريقه وقدره. خطأ أن نقول إن ما لم نستطع أن نفعله لابد أن يفعله جيل بعدنا، وما فشلنا فيه سوف يظفر عليه مستقبل من دوننا. من خلال فشلنا ينبغي أن ندفع الجيل الجديد لينتصر. من خلال صدقنا مع ذاتنا، نفسح المجال لولادة أعمق للجيل المنتظر. من قلب محبتنا للجيل الجديد يمكن أن يولد هذا الجيل. ومحبتنا للجيل الجديد تعني إنكارنا لغرورنا، وتخلينا عن أثرتنا، وتحطيمنا لعبادة ذاتنا. إنها تعني القدرة على الانسلاخ عن إهابنا من أجل الرؤية الجديدة، من أجل المستقبل الذي صنعنا عناصره السلبية إلى حد بعيد.
***
بداية البداية أنه جيلنا الذي قاد المعركة فأخطأها، قد أفلس. ولا ينتقص هذا من جهده وتضحية ونضاله. غير أنه يومئ إلى جهد جديد واجب وتضحية من طراز آخر ونضال يستوي مع سمو المعركة وضخامتها. والمسألة كلها: هل أقر بإفلاسه وتجاوزه، أم ما يزال الفقير المدعي للغنى والفاشل الذي يلبس لبوس الظفر؟ الإقرار بالإفلاس دليل الحياة ومنطلق التجاوز، وبداية العمل لبناء الجيل الجديد. والإصرار على الخطأ والمكابرة فيه دليل التمسك بالماضي والعجز عن إدراك رؤى المستقبل وإقفال الطريق أمام المستقبل.
إن نقد الذات أول معالم الصحة النفسية والسلامة، وأولى بوادر الحيوية. والتغني بالمواقف والتبجح بالأعمال أبرز سمات الشيخوخة. أما كيف أفلس الجيل الذي قاد المعركة حتى الخامس من حزيران، فحديث يطول. حسبنا منه دليله العملي الواقعي، حسبنا منه ما آلت إليه الأمور.
فالنتائج هي المهمة في نظر التاريخ. أما النوايا وأما العلل والأعذار فقد تبرّيء ولكنها لا تُبْريء.
لا يعنينا كثيراً أن نمضي في تحليل الأسباب، من أجل توزيع المسؤوليات. الذي يعنينا أن الأسباب شاملة، وأن المسؤوليات جماعية، وأن جيلاً بكامله قد سقط: هل كانت الأحداث المفاجئة فوق الطاقة والحسبان؟ هل بلي بما لم تبل به أمة من عدو متفوق ماكر؟ هل أهمل القوى الحقيقية، قوى الشعب، فعاش معزولاً عن الجماهير وتخلى عن تربيتها تربية صادقة حقيقية؟ هل أغفل التعبئة الوحيدة الفعالة، تعبئة الشعب ونصب نفسه حاكماً وحيداً؟ هل استهوته المطامع فتساقط عبر الطريق، حين وصل إلى المغانم سريعاً وجنى ثمرات نضاله عاجلاً قبل أن يكتمل عوده وقبل أن تصلب بنيته بالعرق والنصب؟ هل غادر أفكار الشباب الكبيرة في طور مبكر فشاخ قبل الأوان وابتلعته مغريات الطريق؟ هل ابتلي بهزال الفكر وأهمل دور العقل والثقافة والتنظيم العقلاني؟ هل مشكلته مشكلة خواء في الفكر أم مشكلة في الأخلاق أم مشكلة الضعف في كليهما؟ أسئلة عديدة تتزاحم في الذهن. تحليلها له غير هذا الموضع. وهو على أي حال لا يغير من النتيجة شيئاً، ولعله يصل بنا في نهاية الأمر إلى أن السبب هو جماع هذه الأسباب وكثير غيرها، وأن العلة شاملة.
الذي يعنينا ليس مجرد التحليل والكشف عن الأعذار، بل إنكار هذا الجيل لأسلوبه ومنهجه.
إن هذا الإنكار أولاً يولد الحل ويولد المستقبل. من هذا الاعتراف أمام الحقيقة تولد الحقيقة.
من هذا التحرر من «الأنا» الضيقة، تولد حرية الآخرين ويولد عطاؤهم. عندما يعلن هذا الجيل عن إفلاس دوره السابق يغدو له دور. وعندما يتحرر من وطأة «ماضيه» ينفتح على المستقبل ويفتح المستقبل للجيل الذي يتجاوزه.
إن الذي يطلب إليه هو أن يفكر في الأشياء من خلال المستقبل، من خلال نظرة «مستقبلية» لا أن يفكر فيها عير نظرة «تراجعية» تحمل أثقال العادات الماضية. بهذا النهج يقوى على تبين معالم الصورة الجديدة للإنسان العربي المنشود، ويبدأ التنقيب ويشرع في رسم خطواتها وييسر السبيل لظهورها.
ولا يعني هذا أن ولادة الجيل الجديد هي في نهاية الأمر حبيسة إرادة الجيل الحالي، الجيل الذي قاد المعركة حتى الخامس من حزيران. ولا يعني هذا خاصة أن الإنسان الجديد أعطية يمنحها الجيل الحالي، ويجود بها أو لا يجود. فالجيل الجديد يؤخذ ولا يعطى، وينّتزع ولا يُمنَح. سوى أن المسألة في نظرنا لابد أن تكون في حقيقتها أخذاً وعطاء متبادلين بين جيلين. فليس من الصحيح أن الجيل الجديد يولد من لا شيء، كما أنه ليس من الصحيح أنه هبة الجيل الذي سبقه. والصحيح أن الجيل السابق حين ينتقد تجربته ويدرك حدودها، وحين يقسو على ذاته ويستطيع تجاوز إسار ماضيه، يخلق بطبيعة الحال بذور الثورة التي سيتلقفها الجيل الجديد ويوغل فيها ويصل بها إلى غايتها. والصحيح كذلك أن بواكير الجيل الجديد، حين تبدأ بأن ترفض، دون أن تدرك تماماً ماذا تقبل وماذا تريد، تيسر للجيل القديم تجاوزه لذاته ونقده لتجربته وتضعه على طريق خلق الجيل الجديد. وهكذا تضع تباشير الجيل الجديد، الجيل القديم أمام المناخ الروحي اللازم للتجاوز، وأمام الحاجة إلى المراجعة والانقلاب على الذات، فتبدأ عن هذا الطريق ولادة معالم الجيل الجديد ولادة أوضح وتأخذ براعمه بالتفتح وتنطلق اتجاهاته نحو مزيد من التعين والتشكل.
على أن دور الجيل الجديد في خلق ذاته وإطلاق شرارته يظل هو الدور الأساسي. فالإرهاص بالجديد والتحسس بالمستقبل صفات لا نجدها إلا لدى الصفوة القليلة من أبناء الجيل القديم. أما الكثرة الكاثرة فمشدودة إلى عاداتها الماضية. وأصوات الإنسان الجديد هي القادرة على إيقاظ أكبر عدد ممكن من تلك الكثرة، وعلى كسبها من أجل معركة التغير.
ولكي يستطيع هذا الجيل الجديد أن يلعب هذا الدور، لابد أن تكون تضحياته وأعماله بمستوى المهمة التي ندب نفسه لها، ولابد أن يكون بمستوى التجاوز الذي يريده. ومن هنا نستطيع أن ننطلق لتحديد بعض صفات هذا الجيل الجديد القادر على أن ينتزع القيادة ويتصدر المعركة.
1- عن أول صفة لابد أن يتصف بها هذا الجيل، هي المعاناة الفعلية للمعركة. وهذه الصفة أم الصفات الأخرى، لأنها تنبع من طبيعة الواقع الذي نعيشه، ومن طبيعة الضرورة التي تستدعي ظهور هذا الجيل الجديد. فواقع الإنسان العربي هو واقع المعركة الفعلية مع العدو الأول، العدو الصهيوني، ومع سائر القوى المادية والمعنوية، التي تؤكد وجوده، وهو واقع لا يقبل أنصاف الحلول: إنه يبين في غير ما تلكؤ أن سبيل الخلاص هو المعركة، المعركة بكل معانيها، المعركة الحربية، المعركة الدموية.
لقد جرب الجيل القديم الثورة البيضاء، وجرب إحداث تغيير أساسي في بنية المجتمع دون أن يعاني من النضال الدموي إلا أقله. وأثبتت تجربته الفاشلة أن النضال الحقيقي في مجتمع مهدد بالفناء هو خوض معركة الفناء والإفناء. من خلال هذه المعركة، من خلال هذا «المطهر» يمكن أن يتكون الجيل الجديد. ومن معاناتها تتضح سماته وتتضح معالم ثورته. ومن هذه الانتفاضة الحيوية القاسية ضد عوامل الموت، تبزغ الأدلة على مدى قدرة هذا الجيل على تحمل قدره القاسي، قدر إنقاذ أمة مهددة بالموت، عن طريق سلوك «سبيل الموت».
2- ومن هنا فإن الجيل الجديد يختلف اختلافاً جوهرياً عما عداه، في صفة أساسية مميزة، وهي أنه لا يجتنب المعركة، بل يريدها ويتقصدها. إنه جاوز تلك المرحلة التي كان يخيل فيها إلى بعض أفراد الجيل القديم أن من الممكن أن نربح شيئاً بدون معركة فعلية شاملة وأنه في وسعنا أن ننقذ شيئاً دون تعبئة فعلية لقوى كل فرد من أفراد الشعب من أجل يوم موعود. إنه يدرك أن قدره هو قدر المقاتلة والمعركة، ولابد أن يقذف نفسه في هذا القدر، ولا سبيل إلى اجتنابه. إنه لم يعد في وضع الجندي الذي ما يزال يأمل في عدم وقوع المعركة، بل غدا في وضع الذي أصبح في حمياها وقلبها، وما عليه إلا الإيغال فيها والإمعان في الضراوة والشراسة ليبلغ النصر. إنه يدرك أن أقصر طريق للنصر وأقلها نفقات هي طريق الاتجاه صوب المعركة تواً والتعبئة من أجل المعركة بكل الإمكانات والوسائل. أما ما سوى ذلك ففرار من الواقع إلى الأحلام، فراراً لن يقود الجميع إلا إلى ميتة البعير.
3- وترتبط بهذا سمة أخرى أساسية من سمات جيل القدر الصعب، قدر الأمة العربية، هي إيمان هذا الجيل أن ثمرات نضاله قد لا يجنيها هو في حياته. إنه جيل الحرمان والتضحية، جيل الثورة التي لا ينتظر صاحبها من ورائها المغانم. وفي هذا أيضاً يختلف اختلافاً أساسياً عن كثير من أبناء الجيل السابق. فالثورة الناقصة التي قادها بعض أفراد ذلك الجيل، كانت مقودة برؤى المغانم الدانية، أو كانت على أحسن تقدير تجمع بين الغرم والغنم، وتعتبر الغنم حقاً مكتسباً يانع القطاف لمن أصابه بعض الغرم. ومن هنا تعثرت هذه الثورة في الطريق وتساقطت أمام المغريات وتمزقت يوم دنا القطاف. وظهر زيفها بوجه خاص عندما تعرضت للمحنة الصعبة، محنة التضحية الفعلية أمام خطر العدو المداهم. والتجاوز الأساسي الذي لابد أن يحققه الجيل الجديد، أن يكون جيل الأشواك والصعاب والتضحيات، أن يدرك أن المسيرة الجدية غير دانية الجنى وغير معسولة الوعود.
4- ومثل هذه النظرة تفترض لدى الجيل الجديد نفساً طويلاً في كل ميدان. وههنا أيضاً يقوم فراق أساسي بينه وبين معظم أفراد الجيل القديم. لقد كان نضال هؤلاء في معظم الأحوال وفي شتى الميادين نضالاً قصير النفس نزق المقاصد، يستعجل الأمور ويريد أن يحقق أغراضه بين عشية وضحاها، ويجد عنتاً في الانتظار الطويل، والمصابرة المديدة. ومن هنا كانت ولادته إجهاضاً وكانت ثمراته فجة. لم يحاول ذلك الجيل أن يسلك الطريق، ولو دارت، ولم يدرك أن للتغيير شروطه ومستلزماته ومراحله وفترات نضجه. ومن هنا سيطر عليه التفكير السحري، بدلاً من التفكر الموضوعي العلمي، واعتقد أن الأمور تتغير بمجرد أن نريد ذلك، وأن الرغبة تعني القوة والمقدرة، وأن الأفكار عصا سحرية تغير البلاد والعباد لمجرد قولها وإلقائها والاحتماء بها. الجيل الجديد يرفض هذا التفكير السحري، هذا الموقف اللاهث، هذه النظرة القصيرة. إنه يؤمن بسياسة النفس الطويل والعمل الدائب والنظر البعيد. إنه جيل الفكر العلمي، الذي يدرك أن للحوادث أسبابها وأن للتغيير عوامله وشروطه، وأن الطريق القصير حقاً هو الطريق الذي يبدأ من حيث يجب أن تكون البداية والذي يذلل المعضلات خطوة خطوة ومرحلة مرحلة. إنه يتعجل ولكن في أناة ووعي، ويجهد ولكن في صبر على مستلزمات المعركة، وفهم لمتطلبات التغيير.
5- وجيل النفس الطويل والبعيد لابد أن يكون جيل النظرة الكلية الشاملة. إنه يدرك صفحة الواقع إدراكاً علمياً، يكشف عن جوانبها المختلفة وعن علاقاتها المترابطة، ويضع خطته بوحي من هذا الفهم الكامل المتكامل لمختلف العوامل التي تفعل فعلها في ذلك الواقع. فالنظرة الجزئية إلى جنبات المعركة نظرة لابد أن تلتقي مع الموقف السحري. إنها حين تدرك جانباً من الأمر وتنسى جوانب، تقع في التقدير الناقص، فتغالي في قيمة ذلك الجانب الذي لا ترى سواه، أو تحقر من شأنه وتهمل أثره حين لا تدرك دوره في الكل الذي ينتسب إليه. إن الإدراك الموضوعي العلمي يعني الإدراك الكلي الشامل لمختلف العوامل التي تؤثر في مجرى الأحداث. وبداية القدرة على مغالبة الأحداث فضح روابطها وعلائقها وتحليلها إلى عواملها وأجزائها. ومنطلق النجاح في أي خطة كبيرة أو صغيرة، في أي مهمة جليلة أو يسيرة، تبيُّن العناصر المختلفة التي تتألف منها هذه المهمة، وإدراك الصلات بينها، ومعرفة مراحلها ومواقيتها وصعوباتها. والتحليل العلمي لأي عمل، تحليلاً يبين المنظومة الكلية التي ينتسب إليها، هو اليوم سبيل النجاح في شتى ميادين الحياة الحديثة. ولسنا غريبين اليوم عن تلك الأساليب الفنية الحديثة التي أثبتت نجعها في ميدان الحرب وفي ميادين النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية، نعني تلك الأساليب التي يطلق عليها حيناً اسم أساليب «التحليل الإجرائي Opernational Analysis» وحيناً آخر اسم «تحليل النظم Systems Analysis». إن الخوف من الواقع ومن الصعوبات وليد الفهم الناقص لهذا الواقع، كما أن الاستهتار بالواقع وبالصعوبات وليد مثل هذا الفهم الناقص. والموقف الفعال المجدي، الموقف المطمئن، هو الموقف الذي يدرك الأمور في صفتها الكاملة، في حقيقة روابطها وعلاقاتها، فيقدرها حق قدرها دونما إفراط أو تفريط، ويعرف من أين يعالجها وكيف ينطلق للتأثير فيها وتغيير مجراها. وفي معركته الطويلة مع العدو، لابد أن يكون سلاح الجيل الجديد هذه المعرفة المتكاملة لعناصر المعركة وعواملها ومراحلها. ولابد أن يكون حصاد ذلك كله تخطيطاً علمياً يقبض على ناصية الأحداث ويذلل معضلاتها مرحلة مرحلة وخطوة خطوة.
6- ومن هنا كان الجيل الجديد جيل التخطيط العلمي والبناء العقلاني للحياة. إنه ينطلق من روح العصر، روح السيطرة على المستقبل، عن طريق رسم الصورة المرجوة لهذا المستقبل، ورسم السبل المؤدية إلى تلك الصورة المنشودة. إنه يستقي من تجربة الحضارة الحديثة كلها، تلك التجربة التي تشهد بحقيقة أساسية وهي المزيد من تحكم الإنسان في مجرى الأحداث، ولو كانت أحداث المستقبل القريب أو البعيد. وإنسان الجيل الجديد، كإنسان العصر الحديث، لا يرضى بأن تقذف له الأيام ما تشاء من أحداث، ولا ينتظر غِيَرَ الدهر وتقلبات الأزمان، بل يمسك بعامل الزمن، ويقبض على المستقبل، عن طريق التنبؤ به والتخطيط له. إنه يريد أن يصنع قدره إلى حد بعيد، أن يرسم عالم مستقبله، من خلال التخطيط العلمي والتأثير في مجرى الأحداث.
وطبيعة المعركة التي يخوضها تزيد في تأكيد موقفه هذا. فالعدو الصهيوني يحاول الانتصار عليه بفضل هذا السلاح الأساسي الذي يمتلكه إلى حد بعيد، سلاح العمل المخطط، المستند إلى وسائل التنظيم الحديثة. وإذا كان كل شئ إلى جانبنا في معركتنا مع هذا العدو، فالشيء الوحيد الذي ما يزال ضدنا، والذي يفسد أشكال التفوق الأخرى التي نملكها، هو تفوق عدونا في التنظيم العقلاني والتخطيط العلمي. وهذا التفوق ليس بالأمر القليل، غير أن امتلاكه ليس بالأمر العسير أيضاً، إذا نحن انطلقنا من حيث ينبغي أن يكون المنطلق، أي من هذا الموقف الذي يريد أن يتحكم في الأحداث، بدلاً من أن تتحكم فيه الأحداث.
7- وإذا كان التخطيط يعني امتلاك المستقبل والسيطرة عليه، فأداة هذه السيطرة الأساسية على الحاضر والمستقبل لابد أن تكون التنظيم، والتنظيم العقلاني العلمي. إن الوجه الآخر للتخطيط وللنظرة الكلية الشاملة هو التنظيم. ولا معنى لخطة توضع إذا لم يوضع التنظيم العملي الذي يؤدي إلى إنفاذها وانقلابها إلى واقع. وأي خطة تبقى حبيسة الورق أو حبيسة الذهن، إذا لم ترسم السبل العملية التي تنقلها من الأذهان إلى الأعيان. وهذه السبل العملية سبل إدارية وتنظيمية تلعب الدور الحاسم في نجاح أي خطة أو فشلها. والتنظيم – أيامنا هذه – فن واسع الأطراف متطور الوسائل والأساليب. لقد دخل ميدان العمليات العسكرية في الجيوش والمؤسسات الاقتصادية المختلفة، وامتد إلى ميدان الحياة الاجتماعية والسياسية والتربوية. ودخلته أيضاً أساليب فنية يتعاظم تطورها وخطرها. فدخلته «النماذج الرياضية» وأسعفته «الحاسبات» وطبقت فيه طرائق «التحليل الإجرائي» وسواها من الطرائق المبتكرة العديدة. والتنظيم يعني استخدام شتى الأساليب الفنية في الإدارة والقيادة، من أجل استخدام الموارد المالية والبشرية المتاحة أفضل استخدام ممكن، ومن أجل تجنب الهدر والضياع في الجهود والنفقات، ومن أجل بلوغ أفضل النتائج بأيسر السبل وأقصر الأزمان. ومثل هذا التنظيم الذي يحسن تعبئة الموارد والإمكانيات ويحسن الإفادة منها، هو أول ما نحتاج إليه في معركتنا، تلك المعركة التي تستلزم تجنيد كل قطرة من جهد، والإفادة من كل ذرة من الموارد. والجيل الجديد، جيل المعركة القاسية الطويلة، جيل الخطط الكاملة البعيدة المدى، لابد أن يتوسل إلى غاياته هذه باقتحامه هذا الميدان الأساسي من ميادين التفوق العلمي والتقني في عصرنا، نعني ميدان التنظيم والقيادة العقلانية المنظمة لشتى جوانب الحياة. وليس جديداً أن نقول – مع العديد من الباحثين اليوم – إن التفوق الحقيقي للمجتمعات المتقدمة اليوم ليس ثاوياً في «تفوق الأدمغة» بل في تفوق الإدارة والتنظيم، في تلك الشبكة المتصالبة المتآخذة التي يسلطها التنظيم على مشكلات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتربوية، في تلك الخطط «الإجرائية» التي تستمد من تلك النظرات الكلية الشاملة.
***
من العسير أن نعدد سائر الصفات المرجوة المرتقبة للجيل الجديد. ولا شك أن هذه الصفات ستكون أولاً وآخراً وليدة المعاناة، وليدة النضال الفعلي الذي سيقوده هذا الجيل. ومن خلال تلك المعاناة سوف تتفتق الصفات وتنبثق المواقف النفسية التي تجعل الجيل الجديد جديداً. وقد تحمل لنا تلك المعاناة مفاجآت عديدة، حين تصهر في بوتقة المعركة الفعلية القوى المتوثبة في أمتنا العربية، حين تحيل ذلك التحرق والتوثب الذي يئن في نفوس الملايين من شعبنا عملاً ونشاطاً وحركة. فالمسألة كل المسألة أن الحياة الراكدة الآسنة لا تحمل الجديد، وأن التحرك والعراك والمغالبة هي التي تحمل على راحاتها عوامل العطاء والخصب والسمو. النفوس المحتمية بالسلامة، الملتصقة بحمأة الأرض، المطمئنة إلى سكنى اللحم والدم، تشد الحياة إلى الموت، وتنتج العقم والجفاف. أما النفوس القادرة على أن تتسلق الذرى وتمتطي قيم الحياة الغنية، وتطلق طاقات العطاء، فهي التي تعيش في خطر، هي التي تركب مرة وإلى الأبد مركب المعركة الفعلية. من هذا الوضع، ومن خلال هذه المنزلة التي تدل البوادر على أن الجيل المنتظر بدأ بارتقائها، تولد سائر الصفات النفسية والمواقف الروحية التي سوف تسم هذا الجيل. ومن قلبه تتكاثر هذه الصفات وتتوالد وتخصب. من مثل هذا الموقف، يصبح ما نخاله عقماً في أمتنا غنى وثراء، وتغدو الحيرة عزماً والقلق تصميماً. من أعماق هذه الوقفة الإيجابية الحاسمة، ينقلب كل ما هو سلب إلى إيجاب.
أجل، ليست صفات الجيل الجديد بناء عقلياً بارداً نبنيه. إنها انصهار في تجربة وانبثاق من قلب معاناة. على أننا إن كنا قد أومأنا إلى بعض الخطوط العريضة التي يمكن أن تحتوي هذه الصفات، فلأننا نعتقد في الوقت نفسه أن التنقيب عن هذه الصفات من عوامل خلقها وتكوينها. فصفات الجيل الجديد، كالجيل الجديد نفسه، لا تبزغ على حين غرة، وإنما هي ولادة متصلة تمتد جذورها إلى الجيل القديم نفسه. صحيح أن هذه الصفات لا تأخذ مداها وقسماتها إلا عبر المعركة ومع الزمن، غير أنه من الصحيح كذلك أن أول المعركة موصول بآخرها، وأول المعركة بذور تبزغ وتطلعات تظهر وتخمينات تنثر هنا وهناك. وأبرز تلك البذور والتطلعات تلك الاتجاهات التي تتحسسها أقلام الكتاب والمفكرين، والتي يرهصون عن طريقها بالمولود الجديد. إن الأحداث والحياة هي التي سوف تخلق الجيل الجديد. غير أن للقيادة الفكرية التي تعرف أن تحلل معنى الأحداث وتدري كيف تستنطق واقع الحياة، دوراً في ذلك الخلق. والجيل الجديد هو صاحب الدور الأول في توليد صورته الموعودة، كما قلنا ونقول. غير أن الجيل القديم لابد أن يسهم في توليد تلك الصورة، ولابد أن يساعد على تكوين معالمها. معركة الجيل الجديد كما قلنا متصلة بمعركة الجيل القديم، ومن شرارة هذا الاتصال الواعي، يخلق المستقبل المرجو.
لقد أصيبت أمتنا العربية في سنواتها الماضية بموطنين من مواطن العقم. أولهما وأبرزهما ابتعادها عن معاناة المعارك والنضال حقبة طويلة من الزمان، واستسلامها لحياة الدعة والمتعة قبل أن تبني كيانها وتوطد أركانها. وثانيهما افتقارها للقيادة الفكرية والروحية الغنية، وتآمر الأحداث على مختلف أشكالها ضد هذه القيادة ومحاولة إلغاء دورها. وانبعاثها المنشود لن يكون إلا بمغالبة هذين المقتلين: لابد لها أن تقذف بنفسها أولاً في جو المعركة، في حرارة الدفاع عن وجودها وحياتها، ولابد ثانياً أن تنتزع قياداتها الفكرية دورها ومهمتها الكبرى في توجيه مسيرتها وتاريخها. من هذا اللقاء بين العمل والفكر، تتفجر الحياة الجديدة الأصيلة. من يملب العمل الشاق يكتمل الفكر وينضج، ومن اكتمال الفكر يتصاعد العمل ويتعاظم.
ولعلنا اليوم على أبواب هذه الولادة. لقد تحرك العمل الجدي وتحركت روح التضحية والفداء والتعبئة الجماعية، وانفتحت في الوقت نفسه أمام الفكر آفاق جديدة ورؤى جديدة ومهمات جديدة، وبدأنا نشهد فيه مخاضاً جديداً. وجيلنا الجديد الذي نرجوه لم يعد في رجم الغيب، بل تململ واضطربت الحياة فيه، فلنسر في إثره نمده بالزاد ونرقب خطواته ونستحثها ونلتحم معها.