بعد الخامس من حزيران 1967 أيّ لبنان؟

السؤال الأكبر: لماذا يمسخ مائة مليون عربي آذاناً تلتصق بموجات الأثير أيام الخامس من حزيران؟ وذلك التحرّق والتمزّق اللذان يحفران في نفس كل مواطن قبل المحنة وبعدها، كيف نحيلهما طاقة معبأة منظمة، كيف نفجِّر منهما العمل والجهد والعطاء؟
أولئك الأطفال الذين يشبُّون مع العار ويترعرعون على حديث الذلّ، كيف نقلب هوائهم تحدياً لا يعرف الحدود ومرارة ينبجس منها العمل القادر العميق، واستشهاداً ينتصر على الموت؟
والشبان الذين ضاقت بهم نفوسهم، بعد الذي رأوا من تخاذل آبائهم، والذين شهدوا عنفوان شبابهم وشموخ سنِّهم وكبرياء الحياة المشرئبة في عروقهم تصفعها جميعاً يد فتاة صهيونية تصوّب إلى أترابهم في الديار المحتلة خنجر المذلة والخسف، هؤلاء الشبان من لهم بتعبئة حرقتهم المهدورة وثورتهم الضائعة وألمهم التائه؟
وفي زوايا الكنائس والمساجد، أكفّ ترتفع مبتهلة إلى الله أن يكشف الغمة ويرفع الكرب والمقت، من عساه يستخرج من نداءاتها شوكة سلاح ويحيل دعاءها القاعد المطمئن دعوة إلى الجهاد وصيحة للنضال؟
وتلك الجموع الشعبية التي خشيت يوم الخامس من حزيران أفول النجم الذي عبدته، فوقفت من أجل الحاكم متضرعة باكية، هل لها بأن تقف في السلوى والبلوى مع الحاكم لا من أجله، تدفعه إلى المعركة ويدفعها، وتصوّب خطواته ويوجه خطواتها، وتصْدقه ويصْدقها؟

والنفوس الخائفة اليائسة التي لم تعرف ما الذي جرى يوم المعركة، فنسبته إلى المعجزات والخوارق والسحر، أليست جديرة بأن تعرف فلا تهرف ولا تسرف؟
وأخرى ذهب بها الغرور كل مذهب، فاستهترت قبل المعركة بقوة عدوها، وظلت تنكرها بعد المعركة، ونسبتها كلها إلى سواها، أليست قمينة بأن تبصر فلا تحلم؟
أسئلة تتداعى وتثور في الخاطر، لا بدّ أن تلقى أجوبة صريحة إن نحن أردنا أن نبدأ الطريق ونخرج من الدور الفاسد والدوار المعطل؟ ومنطلقنا في هذا بيِّن سليم:
نحن أمام قضية القضايا في وجودنا وكياننا، نحن أمام مسألة بيِّنة بذاتها لا يختلف فيها اثنان، نحن جميعاً بلا استثناء ثورة ضد جسم دخيل وانتفاض في وجه سرطان خبيث. لسنا في القضية الفلسطينية في حاجة إلى مزيد من الإيمان والثورة والألم.
ومع ذلك فثورتنا سلبية، وإيماننا انفعال، وألمنا خدر. منذ نيف ونصف قرن، جيلاً بعد جيل، ونظاماً تلو نظام، نواجه المعضلة حائرين ونحمل الأسى يائسين، ونتأبط الهزائم ضائعين. لسْنا قلة ليغفر لنا عديدنا، لسنا فقراء لنتأسى بفقرنا، ولا نحن أغبياء نجد السلوى حتى في غباوتنا؟
فما لنا؟ وما بنا؟ ذلكم هو السؤال الحائر الكبير؟ وراءه ألف جواب وجواب، وراءه عللنا وآفاتنا، ودونه الكشف الصادق عن حقيقتنا. قد نقول كل شيء في الجواب على عجزنا: التخلف والاستعمار والفرقة وما نشاء.
غير أن صارخاً من أعماق الفييتنام سيقول لنا: هذا كله لا يكفي. ومكمن الداء وراء ذلك.
أجل مكمن الداء في هدرنا لطاقات الملايين، في ضعف سعينا لتعبئة الجماهير بشتى وسائل التعبئة، في تخلُّفنا عن تحريك العقول والنفوس وتنظيمها.
والدواء إذن ليس عصياً. والطريق ليس مسدوداً. ومفتاح الأمر بيدنا، بيد الواعين منا، بيد القادرين على التوعية والتعبئة.
الطريق بيِّن، والعلاج ممكن، على أنه ليس سهلاً بل دونه عرق ونصب، دونه خرق القتاد. ولكن لا بد من اقتحامه، ولا اختيار سواه، ولا مخرج إلاّه.
نحن لا نقول قولة من حسب العرض جوهراً والزائل عريقاً، فنسب ما بنا إلى عجز أصيل وخصال مغروسة مفطورة. فلقد تجاوز العلم وتجاوز تاريخ الشعوب تلك المزاعم العرقية. ولقد رفض تراث أمتنا وماضيها أيام ازدهارها مركبات النقص ومبرراتها، وما يزال حاضرنا يجأر برفض يومئ إلى قدرتنا على التجاوز وامتطاء الصعود.
نحن نقول مطمئنين عكس ما تريده هذه المزاعم التي تحسب الداء العارض بنية أصيلة والتردي الطارئ عجزاً أزلياً. نحن نقول:
لو لم تكن البنية الأصيلة في شعبنا قوية عميقة، لما صمدت أمام هذه الهزات كلها، ولما أنكرت ورفضت وانتفضت رغم ما أصابها من إهمال وتشويه وقسر. ليس عجباً بعد الذي لقيه شعبنا من محن، وبعد ما لقيه خاصة من إهمال قادته وتفريطهم، ومن تقصير قياداته الواعية وسدرها، أن نجد هذا الشعب معطل القوى مشتَّت الإدارة. بل العجب كل العجب، والقوة كل القوة، والدليل الذي لا يخطئ على الأصالة، أن نجده مع ذلك متنمراً متحفزاً، يطلب من قادته أن يتجاوزوا ضعفهم وعجزهم، ويتأهب لمدّهم بدم جديد بل لإبدالهم بجيل أقدر.
أجل ليس الداء في جماهيرنا الشعبية، بل في قياداتها في مختلف مراتبها وأشكالها. صحيح أن القيادات وليدة الجماهير إلى حد كبير، غير أن الصحيح كذلك أن دور القيادات في الشعوب المتخلفة يظل كبيراً، ويظل غالباً، ويظل الأداة الكبرى لخلق الاتجاهات والمواقف وتكوين الروح المعنوية وتنظيمها. وليس من اليسير على الشعوب المتخلفة، مهما تمتلك من روح التمرد والثورة والأصالة، أن تجتنب العطالة والجمود والتحجر التي تخلقها جميعها قيادات لم تعمل على توعية شعبها، واستخدمت وسائل السلطة المخيفة في عصرنا، لتعمل على تضليله أو تعميته أو اضطهاده، بدلاً من توعيته وتحريره. وليس من السهل على شعب يفيق من رقاد طويل، أن يزيح العصائب عن عينيه، والحجارة عن كاهله، والزيف عن عقله، إذا أسهمت في تضليله واستغلال جهله وعجزه والرقص على أشلائه، قيادات متسلسلة متتالية، تبدأ بالقيادات المثقفة الواعية وتنتهي بالقيادات السياسية الحاكمة. وهل نطلب من الشعب الأعزل من كل سلاح، ومن سلاح الثقافة البارع خاصة، أن يبلي خيراً من بلاء المثقفين أنفسهم، حملة القيم وسدنة الحقيقة، فيرتفع صوته يوم تخمد أصواتهم، ويرفض ويأبى يوم يستخذون ويركعون، ويخلص للحقيقة يوم يمتهنونها وهم حماتها؟
ورغم هذا، ومع هذا، نجد الشعب يتحرك ويتململ تحت ثقل أحماله، يتحرك في عنف ووعي معاً، لا يحمِّل القيادات أكثر مما تحتمل ولكنه يطالبها بأن يكون معها إن هي أحكمت تعبئته، ويعدها بأن يشدّ أزرها إن لم تغفله وتهمله، وينذرها بأن يتجاوزها إذا هي تجاوزته.

أجل نحن نتَّهم. نحن نتهم القادة أولاً ولا نتهم الشعب إلاّ في المنزلة الثانية. نتهم القيادات على اختلاف مراتبها وأشكالها، وعلى رأسها قيادات الفكر. نقول للعلماء: إنهم إذا وقفوا على أبواب الملوك ذلوا وأذلوا. ونقول للملوك: إنهم إذا أهانوا العلم ومرّغوه، افتقدوه يوم المحنة فلم يجدوه، وافتقدوا الشعب ساعة الكرب، فلم يستطع أن يجيب، وافتقدوا الإنسان، القوة الحقّة القادرة على الصمود بقيمها وإرادتها وإيمانها ومهاراتها، فوجدوه حطاماً ومزقاً من جني أيديهم.
نقولها، ونقولها للمفكرين والمثقفين خاصة: إنهم القوة الفاعلة في المجتمع، وإنهم مسؤولون عن الشعب والساسة معاً، فكلاهما في حاجة إليهم ولو أنكراهم أحياناً. الساسة في حاجة دوماً إلى صوت القيم ومعايير الحقيقة، وإن هزؤوا منها في ساعات سكرهم بالسلطان! قد لا يجترعونها بيسر، وقد يجرّعون قائلها المر والصاب، ولكنهم لا بدّ واجدوها يوم الجد، ولا بدّ عائدون إليها وقت المحنة، ولا بدّ أن تفعل فعلها في نفوسهم، حين تخرج نقية صادقة من فم الحقيقة. إنهم بشر، فيهم ما في سائر البشر، وأكثر مما في سائر البشر، من صلف ومكابرة وعدوان، ولكن فيهم ما في سائر البشر، وأحياناً أكثر مما في سائر البشر، من إذعان لصوت الحق، حين يكون صادقاً، ومن خضوع لأنين الواقع، حين يعرف هذا الواقع أن يسمعهم أنينه. فيهم ككل الناس، الحيوان والإنسان، الشيطان والملاك. وسدنة الفكر هم الذين يقودونهم، كما يقودون الإنسانية كلها، نحو معارج الإنسان، نحو مصاعد السماء، نحو ذرى الألوهية.
والآن بعد أن عاد القادة إلى مراجعة أعمالهم ونقد ذاتهم، وأخذت ترنّ في ذاكرتهم أصداء أقوال، طالما سمعوها من قلة من المفكرين الصادقين، وطالما كانوا عنها مدبرين، وبعد أن بدأت القيادات المثقفة تتفحص دورها وتحاسب نفسها وتتلمس طريقها، ما عسى أولئك وهؤلاء فاعلين؟ وما هي معالم الطريق التي توصلهم إلى تعبئة الشعب بعد طول إهمال، وإلى تنظيم طاقاته بعد طول تفريط؟
قليل من كثير نستطيع أن نقوله في هذه الجلسة القصيرة. لن نقول كل شيء، ولعلنا نقول ما هو أولى بأن يقال:
ميدانان كبيران ينفتحان أمام القيادات السياسية والفكرية في إطار هذه الغاية الكبرى: تعبئة الشعب وتنظيم قواه المعنوية. أولهما يتصل بأهم الاتجاهات الفكرية التي ينبغي أن تأخذ بها هذه القيادات، إذا أرادت أن تخلق وعياً شعبياً منظماً، قادراً على الخروج من المحنة. وثانيهما يتصل بجوهر الصلة بين هذه القيادات وبين الشعب الذي تقوده. نعني خاصة بين الحكام والمحكومين، بين الحكم والشعب.
ولنبدأ بالميدان الأول: لنسائل عن مقومات الاتجاهات التي ينبغي أن تنظم عمل القادة – ساسة ومفكرين – في محاولتهم بناء روح معنوية شعبية فعالة ومنظمة، قادرة على الصمود في وجه الخصم، متأهبة للخروج من المحنة.
وههنا أيضاً نقول القليل من كثير:
(1) نقول أولاً لا بدّ في كل بداية من الانطلاق من الواقع، لنبني على أساسه الواجب. لا بدّ أن نبحث فيما هو كائن إذا أردنا أن نعرف ما ينبغي أن يكون. لا بدّ أن نجعل أهدافنا ومثلنا مطمئنة إلى الأرض وهي تشرئب إلى السماء.
ولن نتحدث عن أهمية الانطلاق من معرفة واقعنا العربي وتحليله، ليكون ذلك رائدنا في تغييره. وحسبنا أن نتحدث عن أمر قد لا يقلّ عنه بل قد يفوقه، نعني معرفتنا بعدوّنا. لقد قيل الكثير عن أهمية معرفتنا بعدونا، وإن كنا في مجال هذه المعرفة متخلفين. وما أظننا رغم كل ما قيل وكتب عن العدو نعرف الشيء الكثير عن حقيقة وجوده، عن حقيقة الصهيونية. ما أظننا نعرف ما ينبغي أن يعرف عن نشأة هذه الحركة وأهدافها المرسومة منذ حوالي قرن من الزمان، وعن قرارات مؤتمراتها التي نيَّفت على السبعين، وعن مذكرات أربابها المليئة بالمعلومات الخطيرة، وعن الصهيونية كتنظيم عالمي، بل كحكومة غير منظورة لها مواردها المالية، ولها جعلها الذي تفرضه على كل يهودي، ولها قادتها الظاهرون والمستترون في أنحاء العالم جميعها. بل ما نظننا نعرف الشيء الكثير عن توزع اليهود في العالم وقواعد تجمعهم ومراكز السلطة التي يشغلونها. وإسرائيل نفسها لا نعرف عنها إلاّ النذر اليسير، بل لا نعرف عنها إلاّ أفكاراً مغلوطة، تغالي في شانها حيناً وتحط من شأنها حيناً آخر.
إن المعرفة، كما قال «أوغست كونت»، منذ القديم هي القوة. ونحن لا نستطيع أن نغالب الأشياء ما لم نخضع لها أولاً، أي ما لم نعرف قوانينها، على حد قول «بيكون». والمعرفة الصحيحة، هي التي تجنبنا الإفراط والتفريط: فلا نحن نجعل من العدو أسطورة الأساطير ومعجزة المعجزات، ولا نحن نهمل شأنه ونستهتر بخطره، ونرى فيه مسخاً وقزماً. إن وضع الأمور في نصابها سمة العلم وسمة المعرفة العلمية الواعية. والغلو والروح الأسطورية، ووجهها الآخر نعني الروح المستهترة بالخصم، كلاهما من نتاج الجهل. لطالما حسبنا، قبل خلق دولة الصهاينة وبعد خلقها، أن عدم اعترافنا بإسرائيل يبرر عدم معرفتنا لها، وأن عدم الاعتراف وعدم المعرفة صنوان، وأن إنكارنا لإسرائيل يكفي ليقف حائلاً دون وجودها ونموها. ومن هنا هان علينا أن نتحدث عن قدرتنا على قذف إسرائيل في البحر خلال أيام معدودات، ودفعنا ثمن ذلك أن قذفتنا إسرائيل إلى البر خلال أيام معدودات. ومن سخرية القدر أن نكون قد أثبتنا بذلك أن اللانهايايت تلتقيان، وأن «الزائد أخو الناقص» كما يقول المثل الشعبي. من سخرية القدر أن ما حدث في الخامس من حزيران كان مسطوراً في كثير من الوثائق والكتب قبل المعركة، أو كان من الممكن أن نقرأه بين السطور، وأن نقرأه حتى من خلال العدوان الثلاثي عام 1956.
من السهل أن نبحث عن الأسباب وأن نلتمس لنفسنا الأعذار، ولكن الواقع يبقى أقسى من تعليله. لم نعرف عدونا حق المعرفة، ولا جانباً من المعرفة.
(2) وإلى جانب هذا الدور الذي ينبغي أن تضطلع به القيادات في تعرية الصهيونية ومعرفة إسرائيل وتكوين الموقف الموضوعي العلمي منها بالتالي، ينهض دور متصل به، صادر عنه إلى حد كبير، نعني العمل على تحرير الشعب – نتيجة للمعرفة ولإشاعة الروح العلمية – من التفكير السحري والتواكل السحري. إن الكثير من شعبنا ما يزالون ينتظرون المعجزة، معجزة القضاء على إسرائيل، ينتظرونها سهواً رهواً، تأتي إليهم هينة طائعة، وينسون أنهم وحدهم المعجزة، أن علمهم ودرايتهم وتعبئتهم وتنظيمهم هي أدوات المعجزة الوحيدة. إن الذي لا يعرف القوانين التي تسير وفقها الأشياء لا بدّ أن يفكر تفكيراً سحرياً. والذي لا يعرف مقومات الصهيونية ومقومات الطريق الموصل إلى التغلب عليها، يظل ينتظر المن والسلوى تساقط عليه النصر، ويظل ينتظر الفارس الأسود الملثم الذي يستطيع بسيفه وحده – سيف عنترة – أن يقضي على منتجات عصر الصواريخ والذرة.
إنه يحلم أحياناً بصاروخ من صنع سوفياتي يستفيق الناس على أنباء تدميره لإسرائيل عن بكرة أبيها. ويحلم أحياناً أخرى بيد إلهيّة ترسل على إسرائيل ريحاً صرصراً عاتية فلا تذر فيها من باقية.
وقد تراود خياله حملة مضرية على إسرائيل يتنادى إلى صيحتها كل عربي، ولو كان مسلحاً بالحجارة. أوَلم تنتشر الشائعات السخية في خاتمة حزيران يوم زيارة «بودغورني» للقاهرة، متحدثة عن وصول «أسلحة سرية» تضمها صناديق عملاقة حطت في مطار القاهرة أو في ميناء الإسكندرية قادرة على أن ترد إسرائيل إلى حدودها خلال أقل من 48 ساعة؟
أوَلَم ترتق الصواريخ التي أغرقت الباخرة إيلات أخيلة الكثيرين فكبرت وكبرت وامتدت رؤوسها النووية حتى كادت تطل على تل أبيب؟
إن العقل السحري – وهو وليد عدم المعرفة أولاً وقبل كل شيء – خدين كما نرى للاتكالية السحرية بشتى صورها وأشكالها. ولا بدّ أن يعلن قادة الرأي العام الحرب عليه. لا بدّ من القضاء على روح التواكل، وتحرير الشعب من الأوهام التي تعفيه من الجهد وتجعله يفرّ من الحرية ومسؤولياتها. لا بدّ من إخراجه من إطار هذا الحلم الكسول الذي يقوم بوظيفة كل حلم، نعني الحيلولة دون اليقظة. أليس الحلم حارساً للنوم مانعاً لليقظة كما يقول «فرويد»؟ أليس ملجأ لمن يريد أن يهرب من مرارة الواقع؟ ألا يشفي رغبات وأماني لا يجد المرء سبيلاً إلى شفائها وهو يقظان؟
إن من مهمات قادة الرأي العام أن يحرروا الشعب من هذا التواكل المريع، أن يعلموه أن يحيا دون هرب، أن يتكئ على سعيه وجهده، أن يكون سيد مصيره وخالق مستقبله. إن من واجبهم أن يعلِّموه أن الجائع لا يشبع من موائد الخيال، وأن الظمآن في حمارة القيظ لا ترويه ذكرى الأنهار، ولا رؤى السراب، وأن المشلول لا يستطيع أن يعتمد على رجلين غير رجليه. إن ما لم ينهض بجهد الشعب وتعبه لن ينهض بجهد غيره، وما لم يصدر عن الذات لن يصدر عن السوى، على حد قول الفلاسفة، وما لم تبنه الأمة العربية نفسها لن تبنيه لها أمة على وجه الأرض.
إن من حق هذا الشعب على قادته أن يدحضوا، أمام بصره وبصيرته، كل تفسير للحوادث يردّها إلى صدف أو معجزات أو ظروف استثنائية، وأن يبينوا له أن الصدف نفسها – إن كانت هنالك صدف – لا تأتي في الحياة إلاّ للذين يستحقونها على حد قول «باسكال»، أي للذين يجهدون ويتعبون في سبيلها. الاكتشاف العلمي لا يأتي صدفة – إن صحّ أصلاً أن نستخدم هذه الكلمة – إلاّ بعد أن يجهد الباحثون طويلاً في سبيله. ومثله كل نصر وظفر.
ولعل من أبرز عوامل تحرير الشعب من روح الاتكال هذه، تحريره من الاتكال على صورة أبطاله أنفسهم. إن دور الأبطال لا ينكر، ولكن هؤلاء الأبطال لا يعملون إلاّ من خلال شعب متحرر غير متكل حتى عليهم. والشعب الذي تعطله صورة البطل أو صورة الأب (Pater imago) كما يقول علماء النفس، بدلاً من أن تلهبه وتحركه وتدفعه إلى مزيد من التضحية والعطاء والمشاركة، شعب ما يلبث حتى يغدو عبئاً على البطل والبطولة.
ومن عناصر الاتكالية الذميمة كذلك الاتكالية الدينية المشوهة. فالأدعية لا تسقط الطائرات إلا إذا كان معناها الاستشهاد في سبيل القيم الدينية التي تصدر عنها. والدين – أي دين – يطلب من ديَّانيه أن يعقلوا الناقة أولاً ثم يتوكلوا. يطلب إليهم أن يعدّوا لعدوّهم ما يستطيعون، وبعد ذلك يقرنون قوة العدد بقوة الإيمان. يقول لهم قولة عمر بن الخطاب: لا يقعدنّ أحدكم عن طلب الرزق، ويقول اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة.
(3) ومن هنا نلمس جانباً ثالثاً في الدور الذي ينبغي أن يضطلع به قادة الرأي العام في سبيل تعبئته وتنظيمه. ونعني بهذا الدور دور الدين.
إن هذا الدور ما يزال مهملاً. نحن نجتنبه في كثير من الأحيان ونتهيب الخوض فيه، أو نهمله في أحياة أخرى منكرين شأنه. وكلا الموقفين لا يغير من الواقع شيئاً: فالدين قائم هناك في نفوس الجمهرة الكبرى من أبناء الشعب، ولن يقلل من أثره هروبنا من الخوض في شأنه، أو إنكارنا لأهميته. وحين نتحدث عن تهيئة الجماهير، لا بدّ أن نجعل الدين أحد عناصر هذه التعبئة. لاسيما إذا ذكرنا أن الدين في حياة الشعب في البلاد العربية تراث وثقافة وقيم ترتبط بجوهر وجودها القومي.
غير أن الدين حركة إلى أمام، ولم يكن في أعماقه يوماً من الأيام ارتداداً إلى خلف. والدين أولاً وآخراً ما يصنعه الديَّانون. فهم الذين يحيلونه طقوساً جامدة وخرافات ليست منه وتواكلاً لا يمتّ إليه بصلة، وهم الذين يستطيعون أن يجعلوا منه ثورة على الظلم والاستعباد واضطهاد الإنسان، وصيحة للجهاد في سبيل الحق. هم الذين يردّونه إلى قيم سلبية، قوامها الامتناع عن اجتراح السوء وكف الأذى والرضا بالواقع والاستسلام للزهد، وهم الذين يحيونه قيماً إيجابية نشيطة متحدية. على يد الديَّانين ينقلب الدين «أفيوناً للشعوب» وعلى يدهم أيضاً يتحول إلى قوى فكرية وإنسانية جبارة تنشد العدالة وتثور للإنسان، وتظل تدافع عنه، ولو لم يبق على وجه البسيطة أحد يدافع. إنه في أعماقه صورة المثل الأعلى ونموذج الخير الذي يطمح إليه الإنسان. إنه صورة الإنسان الذي يريد أن يرقى إلى مستوى الخالق. وهذه الصورة حية أبداً متغيرة أبداً مع تغيَّر الأزمان، لا تعرف التحجر في قالب معيَّن.
وليس هدفنا الإسهاب في هذا الميدان، ميدان الدين وشأنه في تجنيد الرأي العام، إذا هو تحول – كما ينبغي أن يكون – قوة للعطاء والبذل والتضحية والجهاد في سبيل المبدأ، في سبيل الصدق، في سبيل كل ما يندرج تحت هذا العنوان الكبير: المستقبل الأفضل للإنسان. وحسبنا أن ذكرنا عابرين أهمية الموقف السليم الذي ينبغي أن يقفه القادة من الدين إذا هم أرادوا أن يجعلوا منه أداة التعبئة الشعبية: إنه لن يكون عندئذ استغلالاً للنفوس المؤمنة الطيبة، ولا حماية لاستغلال المستغلين، ولا قناعة ورضاً وزهداً، فضلاً عن أن يكون تجارة رابحة، بل سيكون دعوة صادقة إلى خلق مجتمع تطور فيه الروح المادّة وتقوّيها وتعمل على نمائها السليم، كما تحد من انحرافها وطغيانها. سيكون خاصة متهماً للقاعدين عن الجهاد في سبيل القيم الدينية الحقة، قيم الانتصار للإنسان والدعوة إلى الحق والكفاح في سبيل رفع الظلم.
(4) وإذا كانت معرفة أسباب انتصار العدو – كما سبق أن ذكرنا – واجبة، فمعرفة أسباب النكبة لدينا أوجب. ههنا أيضاً وههنا خاصة، تلزم المكاشفة الجريئة، وتتوجب التعرية وتحرّم التعمية. أجل حرام أن يخيل إلينا أن مما يحمي الروح المعنوية للناس أن نهوّن عليهم ما حدث، وأن نلتمس أمامهم التفسيرات المجانية والسهلة، أو أن نقذف لهم بالأسباب الظاهرة يصبون عليها نقمتهم ويصرفون على حسابها مرارة ثورتهم. فالذي يحمي الروح المعنوية حقاً ويقوى على تعبئتها من جديد ويبقيها متقدة رفيعة، هو الكشف الصادق عن الحقائق، هو الرجولة التي ترفض أن تتعلل بالأعذار أو أن تحتمي بالتأويلات الرخيصة. إن عمق المأساة يفرض علينا عمق المكاشفة وعمق التحليل. إنه يفرض النفاذ إلى ما هو أبعد من الظاهر، وتجاوز القشرة السطحية في تعليلنا للأحداث. وهل بعد المحنة حجاب يبقى، أو ستار يجوز أن يسدل؟ إن كل حجاب نخفي به جانباً من النور، يفتح للشعب سراديب من التيه العميق، من الضلال النفسي المحطِّم. إن الحياة السردابية لن تحمينا، وإن الركون إلى عيش الخفافيش لن يجعل الشمس غير موجودة. «اعرف نفسك» حكمة كانت منقوشة على باب معبد دلف في اليونان، اتخذها سقراط شعاراً، وينبغي أن تكون لنا هادياً. وكم وراء معرفة النفس من جرأة وبطولة وجهد. كم وراء الكشف عن رؤى «العالم الأصغر» من بصيرة برؤى «العالم الأكبر».
إن الكشف عن الحقائق وإدراك أبعاد المسؤولية المشتركة التي دفعت بنا إلى الهوة، هو وحده الذي يحول دون ولادة الاتجاهات النفسية المخربة، ودون تغلغل الدسائس الدخيلة التي تريد أن تخرّب قوانا الروحية وتعطِّل إرادة النضال لدى شعبنا. ليس الإعلام الخاطئ بما حدث هو الذي يقي الناس من اليأس والضياع. إنهم حين تحجب عنهم الأسباب الحقيقية، لا بدّ باحثون عن أسباب أخطر وتفسيرات أمعن في القنوط. وحين لا تملأ نفوسهم الحقيقة الوضاءة – مهما تكن مرة – يحتلها الظلام والأكاذيب والضلالات والسموم الغريبة. لا، لن يستغل المستغلون الحقائق إن هي أعلنت! إن مرتعهم الخصيب أرض الإبهام والغموض والمخادعة.
(5) والحق (وههنا نصل إلى دور آخر ينبغي أن يضطلع به قادة الرأي العام) إن وراء الكثير من الضلال الذي توقع فيه القيادات الشعب، فكرة صحيحة يساء تفسيرها. إنها الفكرة القائلة أن تحرير فلسطين محصلة وثمرة للنضال العربي كله، في جميع صوره وأبعاده، ونتيجة طبيعية للكيان العربي المنشود يوم يستقيم بنيانه ويشتد عوده. إنها الاعتقاد بأن حل القضية الفلسطينية لا بد أن يأتي في خاتمة المطاف، مطاف الكفاح العربي في سبيل بناء مجتمع عربي اشتراكي حر.
لن ينكر منكر أن مأساتنا الفلسطينية تعبير عن ضعف بنياننا، وترجمة لأدوائنا وعللنا العميقة. وليس من جديد القول أن نقول أن التخلف بشتى صوره وأبعاده، هو المسؤول الأول عن تلك المأساة، وإن مجاوزة ذلك التخلف شرط الخلاص منها.
غير أن هذا شيء، وإرجاء العمل للقضية الفلسطينية حتى يأتي ذلك اليوم الموعود شيء آخر. إن عملنا للمدى البعيد – وهو العمل الأصيل الجذري الذي لا ينكره أحد – لا يجوز أن ينفي عملنا للمدى القريب.
إن كل عمل للحاضر والمستقبل القريب لا تهديه نظرة إلى الغد وخطة بعيدة المرمى والقصد، عمل ارتجالي، وارتجافات عصبية مؤقتة، ونار كنار الهشيم تذروها الرياح. ولكن كل عمل لما هو آت، وكل تخطيط لمقبلات الأيام، لا تنبثق عنه خطة للعمل الناجز السريع، يغدو حلماً بعيد المنال ويفتقد أدوات إنفاذه ومراحل صيرورته وانقلابه إلى واقع. فالقريب يمتاح من البعيد بصيرة وهدى ومعرفة بالمصير، والبعيد يكتسب بالقريب حدوده وأبعاده، ويستقي منه إمكانه. البعيد بدون القريب بحث عن المستحيل، عما سيصبح مستحيلاً ما دمنا لم نرسم له المراحل والخطى. وإذا كنا في حاجة ماسة إلى أن نعمل بالنفس الطويل، بالنظرة البعيدة، فنحن في حاجة ماسة أيضاً إلى أن نتقن أسلوب العمل على مراحل ومراتب ومستويات.
وما هي ترجمة هذا كله إلى لغة فلسطين؟ أمر بسيط هام:
لا بد أن يكون العمل من أجل القضية الفلسطينية عملاً يومياً وجهداً متصلاً ينطلق من الظروف القائمة لتعبئتها وتطويرها. لا يمكن أن ننتظر كل شيء حتى نربح الجولة. الخطأ كل الخطأ أن نقعد عن العمل والجهد – مهما يكن صغيراً – في انتظار الحل الأكبر، في انتظار خلاص البلاد العربية من تخلفها، في انتظار وصولها إلى كيانها الحر المنشود، في انتظار تحقيقها لثوراتها الشاملة على أوضاعها. الثورة الشاملة نتيجة لجهد متراكم، وينبغي أن نتعلم كيف نصنع من الجهود الصغيرة ثورة حين تعوزنا الجهود الكبيرة. والثورة الشاملة لا تكون إذا نحن غفونا كالأرنب دهراً، ثم قفزنا على حين غرة، فإذا بنا لا نلحق حتى بالسلحفاة. الثورة تغيير جذري، ولكن هذا لا يعني أنها لا تكون إلا إذا أهملنا كل علاج زمناً، وانتظرنا استشراء الداء حتى نقوم بعملية جراحية.
إن المبدأ القائل: «كل شيء أو لا شيء» مبدأ خطير في كل مجال، وخطير في مجال القضية الفلسطينية. نريد أن نصنع اليوم كل شيء، ونريد أن نغير الأمور بعصا سحرية ونريد أن نبيد إسرائيل بين عشية وضحاها. فإن لم نفعل، أرجأنا كل شيء أيضاً إلى غد بعيد، لا نعدّ له ولا نبنيه بناء موصولاً، بل نتقابل وإياه من جديد ونحن في مكاننا من التخلف لم نبرحه، ونحاول فيه كرة أخرى أن نفعل كل شيء، فلا نفلح.
بالجهد الموصول، بالعمل الدائب، بالنضال المتراكم، يبنى التقدم وتبنى الثورات. والعمل للهدف الكبير لا يحول دون العمل لهدف أصغر بل يشترطه. والسياسة ليست فن المستحيل بل فن الممكن. إنها التعامل مع الواقع لاستخراج أحسن ما فيه وتغييره وتوجيهه شطر هدف يزداد ابتعاداً عنا كلما اقتربنا منه.
إن علينا أن نعرف كيف نعمل من أجل القضية الفلسطينية عملاً يومياً ومن خلال صيغ متعددة الأشكال ومتطورة، وضمن الظروف القائمة ومن خلالها. مثل هذا العمل هو شرط الثورة العلمية. ومثل هذه النظرة هي التي تحررنا من أوهام وأوهام، من بينها ذلك الوهم الذي أشرنا إليه منذ حين، وهم القول أن هدف العدو ليس الأرض والوطن أولاً. بالعمل الدائب وبسياسة المراحل، وصل عدوّنا إلى هدفه البعيد الذي رسمه منذ حوالي قرن. وبالعمل الدائب وبسياسة المراحل ينبغي أن نعرف كيف نتغلب عليه.
إن القول بأن القضية الفلسطينية مرتبطة بنجاح الثورة العربية الشاملة قول من لا يريد أن يفلح على حد قول الجاحظ، قول من يريد أن يجعل من المبادئ تتويجاً للعجز والعطالة. إن الصلة بين القضية الفلسطينية وبين الثورة الشاملة – كالصلة بين أي علة ومعلول في الحياة الإنسانية – ليست صلة أفقية خطية بل صلة دائرية. نعني أن العمل الدائب والمتصل من أجل القضية الفلسطينية ومن خلال الظروف القائمة، يحدد نجاح الثورة العربية الشاملة، كما أن نجاح الثورة العربية الشاملة يحدد نجاح القضية الفلسطينية. وإذا كان الأمر كذلك، فالسبيل أن يسير العمل لهما جنباً إلى جنب متوازياً، وعلى مراحل. وليس السبيل أن ننتظر الأولى لنحقق الثانية أو ننتظر الثانية لنحقق الأولى. كلاهما لن تتحقق – الثورة والقضية الفلسطينية – إن نحن عزلناهما الواحدة عن الأخرى، وإن جعلنا إحداهما علة والأخرى معلولة. كلاهما علة ومعلول. من خال هذه الحقيقة ينبغي أن نعمل لهما.
هذا طرف من المسائل التي لا بد أن يواجهها قادة الرأي العام إن هم أرادوا تعبئة القوى الشعبية وتنظيمها. ما أشرنا إليه هو أمهات الاتجاهات في نظرنا، وقد أغفلنا عن قصد مسائل عديدة لا يتسع لها المقام.
فلنمض إذن إلى الميدان الثاني الكبير الذي أشرنا إليه منذ البداية حين تساءلنا عن وسائل هذه التعبئة الشعبية الواعية المنظمة. ونعني به ميدان الصلة بين القادة والمقودين، بين الحكم والشعب.
وههنا نلج ميداناً شائكاً صعباً، لا بد من ولوجه واقتحامه. فكل تصد لموضوع الإسهام الشعبي والمشاركة الشعبية الواعية، يظل منقوصاً بل مضللاً إن هو لم يقف الوقفة الجريئة الصريحة عند الأثر الكبير الذي تخلفه في هذه المشاركة الصلة بين الحكم والشعب. وليس بالمحدث أن نقول أن للقيادة عامة وللقيادة السياسية خاصة دوراً وأي دور في تحديد مستوى الروح المعنوية لدى أفراد أي مجتمع. ويزداد هذا الدور حدة ووضوحاً في البلدان المتخلفة والسائرة في طريق النمو، حيث يضطلع الحكم السياسي بالنصيب الأوفى من قيادة الناس، وحيث تتضاءل القيادات الأخرى والتنظيمات الأخرى. وفي بلداننا العربية يكاد يطغي موضوع هذه الصلة بين الحكم والشعب على أي شيء سواه، ويكاد يحدد سلوك المواطنين ومواقفهم حتى من القضايا المصيرية الكبرى كقضية فلسطين. ولا نغلو إذا قلنا أن الدرس القاسي الذي نستخرجه من المحنة هو أننا لا نستطيع أن نعبئ شعباً يقوم انفصال كبير بينه وبين حكامه. وإذا كان من الصحيح أن الجوع يكاد يكون كفراً، فمن الصحيح – فيما نشهد ونعاني – أن الظلم لدى الشعوب يكاد يكون أشد من الكفر ويكاد يدفع إلى ما هو أشد من الكفر. ولا يجدي أن نتهم، فاتهامنا لا يغير من الواقع شيئاً، وما هو أجدى أن نزيل أسباب الاتهام المتبادل بين الشعب والحاكم.
المسألة أننا نريد تعبئة الشعب كله أو معظمه، والإفادة من طاقات كل مواطن وتجنب الهدر والضياع ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. وإذا نحن آمنا أن هذا المطلب يقدم على سواه وأن الطريق طريق تجنيد القوى الشعبية ولفِّها حول المعركة وتنظيم طاقاتها، فلزام علينا أن نؤمن أن مثل هذه الغاية لا تبلغ إلا باتهام الحكم قبل الشعب.
جوهر القضية أننا بلدان متخلفة تسعى إلى تجاوز تخلفها، وأن تجاوز هذا التخلف يستلزم غالباً حكومة ذات سلطان وأيد وقوة. غير أن هذه الحكومة القوية وهذه اليد القديرة الممسكة بزمام الأمور التي تحتاج إلهيا مثل بلداننا السائرة في طريق النمو السريع، كثيراً ما تنزلق في المنزلق السهل الخطر، فتنقلب عندها السلطة إلى فوضى واستعباد وفساد. ويقوي من خطر هذا المنزلق أن طبيعة مثل هذه البلدان تجعل الرقابة الديمقراطية غير ممكنة إلى حد بعيد. ويزيد في الأمر ضغثاً على إبالة أن الدولة الحديثة في عصرنا – ولاسيما في البلدان المتخلفة – ما تزال وريثة الأشكال البدائية للسلطة، نعني السلطة التي عرفتها الأقوام القديمة والمستندة إلى السحر والدين إلى حد بعيد. فلقد كان الحكام في المجتمعات القديمة كما نعلم رسل القوى الغيبية التي تحكم العالم أو ألسنة الآلهة التي تسيِّر الكون. ومن هنا كان الخضوع لهم ولأوامرهم الصادرة عن هذه القوى العليا هو النظام الاجتماعي.
هذه الطبيعة السحرية والقدسية التي كانت للحكام القدماء، ما تزال ترافق الحكام المحدثين، وما تزال مفاهيم الشرعية والحق مرتبطة بقرارات السلطة، بل بالصيغة الشكلية لهذه القرارات. بل ما يزال الحق والقانون إلى حد بعيد – ولاسيما في البلدان المتخلفة – إحدى الوسائل الكبرى التي تختبئ فيها السلطة والقوة وتلبس لبوسها.
ويزيد في هذه الطبيعة التسلطية لدى الحكام المحدثين ما تخلفه وسائل الحكم الحديثة من قدرة هائلة، تسهم في منحهم وجوداً سحرياً وقدسياً محدثاً، قوامه قوى خفية مستسرّة أيضاً، ولكنها قوى النار والحديد والسلطان، بدلاً من قوى الآلهة والأرواح والسحرة في المجتمعات القديمة. إن وسائل الاتصال الحديثة، ووسائل الدعاوة الحديثة، ووسائل القوة الحديثة، تعطي الحكام المتسلطين سلطة على الشعوب لا مجال لمقارنتها بسلطة الطغاة القدماء. زد على ذلك أن عدد الحكام الذين يحكمون شعباً من الشعوب يتسع في عصرنا، ومعنى هذا أن عدد الأشخاص الذين ينبغي أن يخضع لهم المواطن يزداد، فإذا به أمام مجموعة من الطغاة الصغار بدلاً من طاغية واحد.
من هنا تقع كثير من البلدان السائرة في طريق النمو في طريق مسدود: تقوم فيها الحكومات القوية في سبيل دفعها إلى التقدم السريع، غير أن هذه الحكومات ما تلبث حتى تجد نفسها أمام المنزلق الخطير، منزلق الاستبداد والتسلط، أمام عنف يدفع إلى عنف أقوى منه، ويزيد في ابتعاد الشعب عن الحكم شيئاً بعد شيء. وإذا بالحكم في نهاية الأمر عاجز، لأنه لا يستطيع أن يحقق شيئاً دون مشاركة الجماهير، الجماهير التي عزفت عنه وصدت.
تلكم هي بلغة مبسَّطة وقد تكون مخلة قصة الشعب والحكم في مثل بلداننا. الحاكم الغائب عاجز عن تطوير المجتمع، والحاكم ذو السلطان معروض لأن ينزلق في مهاوي الاستبداد فينعزل عنه الشعب ويعجز. الحاكم غير الموجود والحاكم الموجود جداً، كلاهما يعطل نمو الإرادة الشعبية، ويحول دون تعبئتها وتنظيمها.
فما هي سبيل النجاة من بين قرني الإحراج كما يقول المناطقة؟
لن نعاود حديثاً مكروراً، حديث الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية، حديث الموازنة أو التأليف بينهما.
كما أننا لا نبتغي عقد مقارنة بين أنظمة الحكم المختلفة في موقفها من الديمقراطية، ولاسيما النظامين الكبيرين في العالم، نظام الحكم الغربي ونظام الحكم الماركسي.
وحسبنا، تمهيداً لما نريد الوصول إليه، أن نقول موجزين أن الفصل بين الديمقراطيتين – السياسية والاجتماعية – وبالتالي بين النظامين الصادرين عنهما – النظام الغربي والنظام الماركسي – لا يخلو من خطأ وتعميم سريع واستقراء ناقص لتطور الأنظمة في العالم.
ولا نعني بذلك فقط أن الديمقراطية السياسية لا تأخذ كامل معناها ومداها وتظل ديمقراطية زائفة إذا لم ترتبط بالديمقراطية الاجتماعية، وأن الديمقراطية الاجتماعية بدورها إذا هي لم تأتلف بالديمقراطية السياسية لا تستطيع أن تحقق أغراضها، وتنقلب إلى تسلط على الإنسان الذي تريد أن تنقذه من عبودية أوضاعه الاقتصادية السيئة. لا نعني بذلك هذا المعنى فحسب، وهو معنى مستمد من لغة الواجب، من لغة ما ينبغي أن يكون، بل نعني شيئاً آخر مستمداً من لغة الواقع نفسه، من لغة ما هو كائن. نعني أن تطور أنظمة الحاكم في العالم يحدثنا عن تقارب طبيعي تدريجي يزداد وثوقاً، يوماً بعد يوم، بين الأنظمة الغربية، التي تأخذ فيما يقال بالديمقراطية السياسية في الجملة، وبين الأنظمة الماركسية التي تأخذ بالديمقراطية الاجتماعية. فعلى الرغم من الفوارق الكبيرة القائمة بين هاتين المجموعتين من الأنظمة في كثير من مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، يظل من الصحيح أنهما في مجال المفهوم السياسي أقرب مما تتصوران. ذلك أن كلاً من النظام الغربي والنظام الماركسي يسير نحو اشتراكية ديمقراطية – إن صح التعبير – لعلها هي الصيغة السليمة الصحيحة التي تنتظر سائر الدول في مقبلات الأيام. وهما يسيران صوب هذه الاشتراكية الديمقراطية عبر اتجاهين متلاقيين في النهاية: اتجاه إلى مزيد من الحرية والديمقراطية في الشرق، واتجاه إلى مزيد من التحرير الاجتماعي والاقتصادي، أي إلى مزيد من الاشتراكية في الغرب. كلاهما يبحث عن قطبي الديمقراطية الصحيحين، نعني الحرية والتحرير. كلاهما يريد أن يمنح للديمقراطية معناها ومضمونها عن طريق ملئها بمحتواها الحق. وما عسى أن يكون محتواها، إن لم يكن تحرير الإنسان من أنواع العبودية كلها، سواء كانت عبودية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أو عبودية الساسة والحكام، عبودية المال أو عبودية الرجال؟ أنصار النظام الغربي يدركون يوماً بعد يوم أن الديمقراطية الخلوة من المحتوى الاجتماعي والاقتصادي، تجعل الحرية احتكاراً لمن يملكون وسائل التصرف بها، نعني لمن يملكون المال ووسائل الإنتاج، وتجعلها بالتالي شكلاً لا جوهر له. إنهم يدركون إدراكاً متزايداً أن الديمقراطية الحقة ليست شعاراً مكتوباً ولا فكرة مجردة معلقة بين السماء والأرض، وإنما هي ديمقراطية لا بد أن تبدأ من النضال ضد العوامل الموضوعية التي تؤدي إلى عبودية الفرد، نعني العوامل الاقتصادية والاجتماعية. إن التجربة تكشف لهم كرة بعد كرة أن العمل للحرية لا يكون إلا عن طريق النظر في القوى الاجتماعية الواقعية الفعلية، وفي علائقها المتبادلة، وفيما بينها من تصارع وتضارب، بغية تنظيمها التنظيم الذي يكفل للإنسان وجوده الكريم. وأنصار النظام الماركسي بدورهم، في بحثهم الشائك عن الصيغة الملائمة للديمقراطية الاشتراكية، يدركون إدراكاً متزايداً أيضاً أن كل انحراف عن الديمقراطية والحرية، ضمن المجتمع الاشتراكي، لا بد أن يؤدي إلى انحراف في الاشتراكية نفسها. إنهم يرون أن الأخطار الحقيقية التي تواجه الاشتراكية لم تعد تأتيها من خارجها، من الأنظمة المعادية لها، بقدر ما تتهددها من داخلها، من عجزها عن إيجاد اللحمة العضوية العميقة التي تربطها بالحرية، حرية الإنسان في أوسع معانيها. إنهم يؤكدون مرة بعد مرة أن قيمة الديمقراطية في أي نظام، هي بمقدار ما للإنسان داخل هذا النظام من قيمة. وتحرير الفرد الذي تهدف إليه هذه الأنظمة الماركسية يتبدى يوماً بعد يوم تحريراً شاملاً لا جزئياً، تحريراً من جميع أشكال الضغط والظلم. إنه لا يرضى بأن يحرر الناس من عبودية المال ليوقعهم في خطر عبودية الرجال. إن المسألة تتراءى لهذه الأنظمة، مع تقدم الزمن، مسألة خبز وكرامة معاً، لا مسألة معدة. فمن الصحيح دوماً وأبداً أن «ليس بالخبر وحده يحيا الإنسان».
يضاف إلى هذا، بل قبل هذا، أن تفوق الاشتراكية على الرأسمالية هو في أعماقه وفي خاتمة المطاف تفوق التنظيم على عدم التنظيم. فإذا ما فقدت الاشتراكية – بسبب إمعانها في مجانبة المناخ الديمقراطي اللازم لكل تنظيم فعال ولكل مشاركة خصيب منتجة – صفة التنظيم هذه، فقدت الدين والدنيا، وضلت الحسنيين.
ولا حاجة بنا إلى تعداد الأمثلة الكثيرة التي تشهد على هذا التغير في كل من نظام الحكم الغربي ونظام الحكم الماركسي، سواء عن طريق التجارب الفعلية التي تقوم في بعض الدول، أو عن طريق الأبحاث والدراسات الإيديولوجية الآخذة في تطوير مفاهيم الديمقراطية بكلا معنييها. وأولى بنا أن نقف عند بلدان العالم الثالث، البلدان السائرة في طريق النمو، بلداننا:
ليس جديداً أن نقول أن من المسلمات الاقتصادية اليوم أن العالم الثالث لا يستطيع أن يغدو حديثاً متقدماً ويتجاوز الهوة بينه وبين البلدان المتقدمة، عن طريق الرأسمالية. ولسنا متجنين إذا قلنا أن من المستحيل بناء مجتمع إنساني حقيقي – في بلدان العالم الثالث وسواها – على أساس مبادئ الرأسمالية. فهذه المبادئ تسير نحو الزوال والهبوط، وتفقد قيمها يوماً بعد يوم. ذلك أن الرأسمالية، بطبيعتها وطبعها، ضد ما هو اجتماعي. إنها تجعل نشاط كل فرد مركزاً حول ذاته، وتجعل كل إنسان يعيش في قوقعة أنانيته. ومن هنا قام ويقوم بين الرأسمالية وبين الديانات العالمية الكبرى، تناقض أساسي، وبرز هذا التناقض واضحاً حاداً في تاريخ الرأسمالية الغربية في صلتها بالمسيحية. وإذا كانت للرأسمالية حتى اليوم بقية باقية من شرعية، فهي شرعية سلبية لا إيجابية، لا تستقي من صحة مبادئها وقوة قيمها، بل تستمد مبررات بقائها من تفضيلها على نقيض آخر لها قد يفوقها سوءاً، هو الستالينية في شتى صورها وأشكالها.
وهكذا تسلك كثير من بلدان العالم الثالث – انطلاقاً من التجربة العالمية ومن متطلبات التنمية السريعة عندها – طريق الاشتراكية. غير أن هذه الاشتراكية في مثل هذه البلدان لا بد أن تكون – كما سبق أن قلنا – معتمدة على قدر من السلطة والقوة، ما دامت بنية هذه البلدان في مراحل تطورها الأولى تجعل الديمقراطية متعذرة. وكثيراً ما تنزلق هذه السلطة في المنزلق الميسر لها، والخطر المفتوح أمامها دوماً، نعني الاستبداد في شتى صوره.
ومن هنا قد يكون من غير الممكن، في بلدان العالم الثالث، أن تقوم مباشرة اشتراكية ديمقراطية، تربط ربطاُ وثيقاً منذ البداية بين قطبي الديمقراطية، نعني الحرية والتحرير. ولا بد لها في معظم الحالات أن تتعرض في المرحلة الأولى من حياتها، مرحلة دخول الطريق الاشتراكي، إلى شيء من فقدان التوازن بين الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، وبين الأهداف الإنسانية الكاملة، على حساب هذه الأخيرة. وإذا كان قدر من فقدان التوازن قدراً يصعب الهروب منه، فهو يختلف اختلافاً جذرياً عن موقف آخر هو الخطير: إنه موقف من يريد أن يستغل هذه الظروف المرحلية في نشأة هذه البلدان ليبرر عن طريقها كل أنواع التسلط والعنف، بل ليجعل من التسلط والعنف أصلاً ومبدأ. إنه موقف من ينحدر في طريق العنف شيئاً بعد شيء، حتى يحسبه أنجع طريق وأفضل طريق، إن لم يفلسفه ويجعل منه خير مرب للشعوب.
وآية هذا كله، أن الطريق الذي يومئ إليه مستقبل التطور في بلدان العالم الثالث – كما تومئ إليه التجربة العالمية كلها – هو طريق الاشتراكية الديمقراطية، التي تسعى جاهدة للتغلب على مصاعب التحول الاشتراكي ومخاطره اللاديمقراطية. إنه الطريق الذي يعمل بوعي ودأب وجهد على تطوير نظام اشتراكي، فيه من العنف أقله، يفسح المجال لأقصى حد ممكن من الحريات السياسية، كمرحلة أولى نحو اشتراكية ديمقراطية أكثر تكاملاً وتعانقاً. ولعل استقراء تجارب كثير من الدول النامية في أفريقيا وآسيا، يشير إشارات واضحة إلى هذا الطريق، ويشهد على أنه طريق المستقبل.
إن ما يسهل على كثير من أنظمة الحكم في البلدان الناشئة وسواها، أمران كلاهما مرّ: الأول سلوك طريق الديمقراطية الليبرالية السائبة إلى حد كبير، تلك الديمقراطية الوديعة في ظاهرها، المحملة في أعماقها بكل احتمالات الانفجار والثورة، الحاملة في داخلها بذور انقضاضها على ذاتها. والثاني سلوك طريق الديكتاتورية السافرة، التي توحي بظاهر من النجع والنظام والنتاج، غير أنها تحمل أيضاً في ذاتها بذور عطالتها وموتها، حين تعزل الشعب عن تقدم لا يكون بدونه. كلا الطريقين سهل، سهل في بدايته صعب في خواتيمه. أما الطريق الشاق والمثمر معاً، فهو الطريق الذي يبحث دائباً عن الصيغة التي تحقق الربط بين قطبي الديمقراطية الأصليين، الذي يسلط كل ذكائه وعبقريته في الحكم على تجنب أشواك المسير، على الحيلولة دون انقلاب السلطة إلى عنف، على الخروج في أسرع وقت ممكن من مرحلة العنف النسبي الذي لا يمكن اجتنابه أحياناً. إنه الطريق الذي يضع في بداية الطريق نهايته، نعني الديمقراطية الاشتراكية، ولا تنسيه تعقيدات الطريق ومراحل الوصول، الهدف النهائي الذي يعمل له، والذي ينبغي أن يغذي كل خطوة من خطواته.
إن بلدان العالم الثالث في موقف ممتاز بعض الشيء: إن أمامها تجارب الدول الأخرى، تلك التجارب التي تبين لها كيف يسير التطور نحو تقارب طبيعي بين قطبي الديمقراطية، كيف ينصبّ الجهد على تحقيق اللحمة بين هذين الميدانين، كيف انبثقت المآسي من الفصل بينهما. غير أن المعضلة هي في موقف غريب تقفه بعض هذه البلدان، حين تعيد – على حسابها – التجارب العالمية إعادة حرفية، كأنها ترى في تكرار ما حدث لبعض الدول عبر تطورها، وما تجاوزته بعد ذلك، قدراً لا يمكن اجتنابه. ومن هنا كان المنطلق في نظرنا هو في استنطاق التجربة العالمية واستخراج معناها واتجاهها: هو في الخروج بهذه النتيجة التي كادت تصبح أوضح من الوضوح، نعني اتجاه التجربة العالمية نحو التقارب الطبيعي بين قطبي الحرية، نحو الاشتراكية الديمقراطية. إن كل شيء في التجربة العالمية، وفي واقع البلدان السائرة في طريق النمو، يشير إلى أن هذه البلدان لا بد أن يؤدي بها المسير يوماً إلى طريق الاشتراكية الديمقراطية، والمسألة كل المسألة أن تدرك اتجاه التطور هذا فتيسِّره، بدلاً من أن تدور حول الطريق، فلا تبلغه إلا بعد تخبط وتعثر، والتفاف وانعراج، مارة بالشيوعية أو الرأسمالية ومآسيهما، كغيرها من بلدان العالم فيما مضى.
عن هذه النظرة ينبغي أن تصدر أنظمة الحكم في بلادنا إن هي أرادت أن تكون ضمن التاريخ لا خارجه. وهذه النظرة هي التي تجنب بلادناً كثيراً من الكوارث وضروب التخبط. ولا يعني هذا أن تطبيق هذه النظرة يمكن أن يكون واحداً فيها جميعها. فمثل هذا التطبيق
لا بد أن يختلف باختلاف مستوى النمو، وطبيعة الحياة، ومستوى الثقافة، وتكوين المجتمع، في كل بلد من هذه البلدان. غير أن من الصحيح دوماً أن في وسع هذه البلدان جميعها أن تستهدي هذه النظرة، أن تضع درس التاريخ نصب عينيها. فلا أخطر ولا أحمق من مغالبة دروس التاريخ.
وهذه النظرة حين تجنب بلادنا ما تجنبها، تعمل على تحقيق مطلب أساسي هو قصدنا في هذه الكلمة، نعني مطلب الالتفاف الشعبي حول أنظمة الحكم، وإمكان قيام تعبئة شعبية منظمة، يقودها الحكم والجماهير معاً. الحرية الفعالة، الحرية الحافظة لكرامة الإنسان، المانعة لاستغلاله، هي القادرة على تحقيق وحدة الشعب وربطه بوطنه وبقيم وطنه، وهي القادرة على جعل كل مواطن مستعداً للاستشهاد في سبيل الحفاظ على تلك الثورة المشتركة التي منها لا بد أن نبدأ، إذا أردنا أن نتقن تعبئة الشعب في سبيل قضيته الكبرى. وإذا كان من الجائز جدلاً أن نهمل هذه الحرية وذلك التحرير في المراحل العادية من حياة أي مجتمع، فإهمالها في مثل هذه المرحلة الاستثنائية التي نمر بها، أكثر من جريمة قومية.
لا بد لنا أن نواجه الداء في أصله وجذره: عسير بل مستحيل، كما قلنا ونقول، أن نحقق تعبئة شعبية في بلد يقوم فيه انفصال بين الحاكم والمحكوم. عسير أن نقف في وجه عدو شرس متقدم موحد، ونحن شتات وشيع، ملل ونحل، حكام ومحكومون، شعب وسلطة، جيش وشعب، ظالمون ومظلومون، حاقدون وشامتون. والقيادة، والقيادة السياسية خاصة، أهم عامل في وحدتنا، في استقطاب إرادتنا. إن التفاف الشعب حول الحكم أصدق ترجمة لالتفافه حول نفسه.
وبعد، كان بودنا أن نتم بعض نقائص هذا الحديث – وهي كثيرة – بالوقوف عند جانب مكمل لكل ما طرقناه، هو البحث في الصيغة التنظيمية لهذه الإرادة الشعبية – التي أردناها واعية، معبأة، مدركة للهدف، مؤمنة به، عاملة له عملاً يومياً متصلاً. كان بودنا أن نتحدث عن الروح التعاونية والعمل التعاوني – ولاسيما في مجال الزراعة – كوسيلة من وسائل تعميق الإرادة الشعبية وتنظيمها، ووسيلة من الربط الوثيق بين الأرض والدفاع عنها، ووسيلة لمقاومة ما شرعته الدولة العدوة في مزارعها التعاونية، وما لجأت إليه من ربط للمهاجرين الجدد بأرضهم ووطنهم، ومن جعل التعاونيات نفسها مراكز ومنظمات دفاعية. كان بودنا أن نتحدث عن أهمية إقامة منظمات مختلفة الأشكال، يرتبط بها العمل الجماعي ويزكو وينمو، وتتضاءل فيها الروح الفردية الطاغية في مجتمعاتنا، كما تتكون خلالها الإرادة المشتركة، والتعبئة المشتركة ضد العدو. كان بودنا أن نبيِّن أهمية المنظمات التي تعنى بدراسة الرأي العام في بلادنا دراسة اجتماعية علمية منظمة، لتستخرج اتجاهاته، وتحسن توجيهه، وتحول دون توجيه العدو له. كان بودنا أن نتحدث عن التنظيم العسكري للشعب، وعن تدريبه على القتال كوسيلة مثلى من وسائل تعبئته ورفع روح النضال لديه. كان حقاً علينا أن نشير إلى الوسائل التربوية – في تعليم الصغار والكبار – اللازمة لخلق الاتجاهات النفسية القادرة على تعبئة المواطنين وتوحيدهم.
كان لزاماً علينا أن نتحدث عن هذا كله وعن كثير سواه، لو لم يكن موضوع بحثنا شتيت الجوانب عريض الأرجاء. ولعل لنا إلى هذا الجانب التنظيمي عوداً في مجال آخر.
* * *
وقد تقولون: أين لبنان من هذا كله؟ ونقول أنه منه في القلب. إن له الدور الذي تمنيت لأي بلد عربي، ويزيد. يزيد لأن ثقافته لا بد أن تكون موقداً للقيم التي رجوت، وللاتجاهات الفكرية التي آثرت. يزيد، لأن مناخه الديمقراطي – ولاسيما حين يوغل في استنباط النتائج التي تلزم عنه، والشروط القمينة بكمال تفتيحه – أصل لبناء المجتمع الذي ننشد، والصوى الروحية التي نستهدي. يزيد، لأن عروبته – عروبته التي تريد أن تكون واعية علمية تقدمية – غذاء للعروبة كلها ووقاء. رسالته أن يكون بين البلاد العربية أفضل مختبر لتوليد الفكر وتصحيح التجارب. وقدره أن يخف لأن يجعل من الإنسان العربي أنى كان، الإنسان الذي يريد، إنسان التليد والطريف، إنسان الثورة والنظام، إنسان الفرد والمجتمع. هو بين تخوم الشرق والغرب، ليحقق التفاعل الأصيل الخلاق بينهما، ليجد ذاته ويجد العروبة من خلال سواه، ليكون هو من هو حين يتحداه الوجود الغربي الدخيل عليه. لينمو أصالة وتربة وقومية، حين ينفتح على الإنسان والإنسانية. ليجد العروبة ويجددها ويقوّمها، حين يجد ذاته ويدرك أبعاد مصيره. ليصبح قرارة التحدي للصهيونية، حين يقرع في وجهها تقدماً بتقدم، وعلماً بعلم، ووجوداً بوجود.
أجل من شواطئ لبنان، ومن غير لبنان، نرتجي أن تقوم القيادة الفكرية والسياسية التي تبني سفينة النجاة. من كل بلد عربي نطمح إلى القيادة التي تقود الشعب وتعبِّئه وتنظِّمه. نهيب بالقيادة القادرة على تحريك المليون المائة، المبدعة للأفكار القوى، الخالقة للاتجاهات الروحية المتفجرة عطاءً وعملاً. نريد القيادة الفكرية والسياسية التي تستطيع أن تعيد النظر في ذاتها دوماً وأبداً، وتعيد بناء نفسها أولاً لنستطيع أن تعيد بناء شعبها. نريد الفكر الذي يتجاوز ذاته، والسياسة التي تعرف أن ترفض نهجها قبل أن نرفض غيرها. نريد الإنسان الذي يخلق، بتواضعه للإنسان، وركوعه أمامه، كبرياء الإنسان وإشراقته. نطمح إلى الأفكار التي ألهبتها نار المأساة فركعت في محراب الحقيقة لترى، لتضيء، لينقلب ضياؤها وهجاً، طاقة جبارة، براكين تغلي في النفوس.

دور القيادة والقيادة الفكرية خاصة، في مثل بلداننا، كبير، ومسؤوليتها أكبر. هي التي نرجو لنخلق لدى الجماهير الروح العلمية والموقف الموضوعي، لنقضي على العقل السحري والتفسيرات المجانية، لنكشف الأسباب الحقيقية للمحنة دون ما تعمية أو تضليل، لنقيم صلة عضوية بين الحكم والشعب.
ولكن القيادة، والقيادة الفكرية خاصة، وعي وبطولة. وعي قمته ومنتهى نضجه أن يرقى إلى البطولة. وبطولة لا تكون ولا تعمق إلا إذا كانت وعياً دائماً لذاتها. إنساننا القائد الذي إليه نحنّ، كالنهر يسقي وهو مقبل منحدر، وكالشجرة تشمخ وجذورها في التراب، وأوراقها على الأرض ظلال، وثمارها من الأرض وإلى الأرض. كالشجرة، من تواضعه للإنسان، من غوصه في وحله، يخلق الإنسان الباسق الأشم، وكالنهر، من حنينه إلى الشاطئ وحدبه عليه، يفجر الينابيع.