التربية وطريقنا الجديد إلى النصر

نشر في مجلة الآداب عدد تموز – آب ، 1967

التربية وطريقنا الجديد إلى النصر
بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم
مدخل:
بعد المعركة، بعد النكسة، قد ينقشع البصر وتتفتح الرؤية وتنجلي المواقف.
وقد تزداد الأمور إبهاماً وخواء وتضليلاً. وتطوقها سحب جديدة من الظلام.
ومهمتنا أن نعمل للأولى لا للثانية. أن ننتشل قدمنا من النكسة عن طريق الوضوح في كل شيء وتبين معالم المسير.
لقد كان الفكر في بلادنا العربية، منذ سنوات ليست قصيرة، في معزل عن دوره الحقيقي. ولم يستطع – لأسباب عديدة – أن يضطلع بمهمته الأصيلة، مهمة الشرح والتوضيح والتوجيه الواعي والقيادة الجريئة العامة للأمور.
لقد كان الفكر – على حد قول برغسون – مسدوداً بالعمل. لقد كان معطلاً إلى حد بعيد بضرب من الدوار الذي خلقه عمل سياسي غير ناضج المعالم. وقد كان تابعاً لا قائداً، مسوداًً لا سيداً. ذلك أن طرازاً من العمل السياسي والاجتماعي اتصف في كثير من الأحيان بظاهر من الجدية والجرأة والفهم، استطاع أن يمتص العمل الفكري وأن يبتلعه وأن يخضعه إلى حد بعيد لإرادته بل لإرهابه. وكان
الفكر – وسط هذا التيار الجارف الذي لا يخلو من مظاهر الخداع إلى حد بعيد – يفكر دون أن يفكر، ولا يعدو في الواقع أن يعكس تياراً لم يشارك في صنعه إلا بمقدار يسير.
ولهذا كان العمل يسير على قدم واحدة ويغربل في مشيته. ولهذا كان عاجزاً عن أن يبلغ كامل مداه ويعطي عطاء حقيقياً: ولهذا كان الخذلان وكان الضياع الذي نشهده.
وليس من جديد أن نقول أن العمل بلا نظر يظل أعمى، كما أن النظر بلا عمل يظل أجوف.
والمسألة المسألة أن نحقق التوازن بين التكامل والاندماج، بين النظر والعمل. بين الفكر وحركة الواقع.
المسألة كلها أن ندرك أن الحياة – في أي ميدان من ميادينها – تستلزم اجتماع العمل الثري بالتفكير وتجربة الفكر، إلى الفكر المنبثق من معاناة الواقع الحي والتمرس بالعمل.
كما لا نقول جديداً إذا قلنا أن العمل – سياسةً كان أو اجتماعاً أو اقتصاداً أو تربيةً – لا بد أن يكون تجسيداً للفكرة الحية، لا بد أن يكون هو الفكرة نفسها في حال حركتها وانطلاقها وتحققها وانقلابها إلى واقع، لأنها ابنة الواقع ولسانه.
إن مهمة الفكر بعد النكسة ألا يعاود سيرته قبلها، وأن يدخل الساحة في جرأة ووضوح، وأن يسعف العمل ويمده بالوقود اللازم، وأن يأبى ألا يكون له دوره الحق، دور القائد للمعركة، تلك المعركة التي لا بد أن تكون معركة الفكر والعمل معاً، معركة المفكر والسياسي في آن واحد، والتي لا بد أن نبرز فيها دور القيادة الفكرية بعد طول احتجاب وإبعاد.
تلك كلمة أولى لا بد من قولها بين يدي حديثنا عن دور التربية في معركتنا الجديدة. وهي في واقع الأمر من قلب الحديث وصميمه، فالتربية تعني الفكر أولاً وتعني تربية هذا الفكر التربية التي تجعل منه نصيراً للعمل المنتج.
وعندما نمنح التربية دورها – بل دورها الراجح – في معركتنا الجديدة فنحن في واقع الأمر نعيد مكروراً من القول ونرجّع بدهيات من الأمر. فلقد غدا من الأمور البينة اليوم – بعد الدراسات المحدثة الكثيرة التي قام بها رجال التربية ورجال الاقتصاد والاجتماع – توكيد حقيقة أساسية، هي أن رأس المال المنتج المثمر في أي بلد، هو رأس المال الإنساني، نعني الإنسان، وأن أحسن استثمار وتوظيف لرؤوس الأموال المادية هو ميدان التربية. فتوظيف الأموال في تربية الناشئة هو الذي يعود على أي بلد بالتنمية الاقتصادية الحقيقية في شتى جوانب الحياة الصناعية والزراعية والتجارية وغيرها. ذلك أن التربية – ولا سيما في مفهومها الحديث – تعني تكوين القوة العاملة اللازمة لهذه الميادين، وإعداد الخبراء والأخصائيين الذين يستطيعون وحدهم – بفضل خبرتهم الفنية أن يخرجوا من الأرض ثمراتها ومن الطبيعة خيراتها ومن الاقتصاد كله أفضل نتاجه وعطائه. وليس المجال مجال الحديث عن الدراسات العديدة التي قامت على قدم وساق منذ نيف وعشر سنوات في شتى أنحاء الأرض، لتقيم الدليل تلو الدليل على أن للتربية مردوداً اقتصادياً و »عائدات اقتصادية« وأن الثمرات المالية التي نجنيها من استثمار الأموال عن طريق التعليم تفوق الثمرات التي نجنيها عن طريق استثمار هذه الأموال في أي مشروع صناعي أو زراعي أو تجاري. ذلك أن الأصل في إنتاج أي مشروع صناعي أو غيره توافر الخبرة الفنية القادرة على حسن تسيير ذلك المشروع. ولا قيمة للمصانع وسائر المؤسسات إذا لم نوفر لها اليد العاملة الخبيرة في شتى المجالات الفنية والإدارية وغيرها. وإذا كان إنشاء المصانع وبناء الآلات أو شراؤها أمراً سهلاً، فإن بناء الإنسان اللازم للمصانع واللازم لتسيير الآلات هو الصعب وهو الهام.
من هنا كانت العقبة الكأداء التي واجهتها وتواجهها معظم الدول التي انطلقت حديثاً في طريق التنمية – ومن بينها الدول العربية – افتقارها إلى الطاقة العاملة المهيأة الخبيرة، القادرة على قيادة عملية التنمية. وما هي عملية التنمية أولاً وآخراً؟ إنها الجهد العقلي والخبرة الفنية والدراية العلمية التي نصبها على موارد الطبيعة من أجل استنباطها على أكمل وجه. إنها تسليط اليد الصناع والعقل المبدع على أمور التنمية. ومهمة التربية أولاً وآخراً استنباط هذه القدرة المبدعة الخلاقة، وتزويدها بالمهارة الفنية وإعدادها من أجل القيام بدورها الصحيح في دولاب الإنتاج الاقتصادي والاجتماعي الكبير. إن من حق اقتصادي فرنسي مثل »دومون Dumont « أن ينصح الدول الحديثة – ولا سيما الدول التي تعزم على السير في طريق اشتراكية – أن تفكر أولاً وقبل كل شيء بعملية الإعداد، إعداد الخبراء والفنيين اللازمين للتحويل الاقتصادي والقادرين على قيادة عملية التنمية السريعة الناجعة. وقد بين أكثر من كاتب اقتصادي أن العقبة الأساسية التي تقوم في أكثر من دولة تجرب السير في طريق النمو السريع، هي افتقارها إلى الإنسان المدرب الخبير، وإلى التربية التي تعد كل إنسان ليكون الشخص الصالح في المكان الصالح. ومثال الصين الشعبية من أوضح الأمثلة على ما نقول. لقد كانت الصعوبات التي لقيتها في سني عمرها الأولى حاجتها الكبيرة إلى الفنيين والأخصائيين، رغم المساعدات السوفياتية التي قدمت لها عدداً كبيراً من الخبراء في بداية الثورة. ولم تستطيع أن تتغلب على الكثير من صعوباتها الاقتصادية وتنطلق في طريق التصنيع والتنمية السريعة، إلا عندما غيرت نظامها التربوي وقلبته رأساً على عقب، وأخذت بفكرة »تصنيع التعليم العالي«، ووضعت خطة علمية لاثني عشر عاماً (تنتهي هذا العام) هدفها تخريج 10500 عالم وحوالي مليوني فني. وهكذا استطاعت بفضل هذه السياسة التربوية المرسومة المدروسة أن تخرج عدداً من المهندسين يبلغ حوالي 75 بالمئة مما يخرجه بلد كالولايات المتحدة يعد من أكثر البلدان عطاء في هذا الميدان. لقد أدركت الصين أن من اللازم أن تكون التربية – في انطلاقتها الجديدة – أداة لسد حاجات البناء القومي والتنمية الوطنية. ولهذا أحدثت ذلك التغيير الجذري في معاهدها، وعنيت تلك العناية الكبرى بما دعته باسم »الاختصاصات«، نعني الإتقان الفني في كل ميدان من ميادين التخصص الضيقة. ومهما يؤخذ على مثل هذا النظام إفراطه في هذا المجال، يظل من الصحيح أن هذه السياسة التعليمية الجديدة هي التي استطاعت أن تخرج الصين من تخلف القرون لتنقلها إلى مستوى حياة القرن العشرين.
إن هذا كله يعني أن دور التربية هو الدور الحاسم في بناء أي بلد، وإن بناء الإنسان ينبغي أن يكون هدف معركتنا الجديدة، وإن إهمال هذا البناء هو أحد العوامل الأساسية في تخلفنا وفي نكساتنا.
غير أن هذا يعني في الوقت نفسه أن التربية المرجوة والقمينة بأن يكون لها مثل هذا الدور ليست أي نوع من التربية، بل لا بد أن تكون تلك التربية المرتبطة ارتباطاًً وثيقاً بحاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والعاملة على إعداد المثقفين إعداداً يلائم حاجات اليد العاملة في الاقتصاد المنشود. صحيح أن التربية كما قلنا منذ البداية أفضل استثمار لرؤوس الأموال. ولكن هذا القول لا يصدق إلا إذا وضعنا في التربية منذ البداية ما ينبغي أن نضعه فيها، أي إعداد الخبراء اللازمين للخطة الاقتصادية والاجتماعية التي نرجوها. فنحن لا نستخرج من الأشياء إلا ما نضعه فيها أولاً. والتربية ليست في حد ذاتها عصا سحرية تغير البلاد والعباد من تلقاء ذاتها، ولا هي المفتاح الذهبي للنمو في أي حال من الأحوال. إنها تكون كذلك إذا أردنا لها ذلك، أي إذا أردنا أن تكون أداة حقة من أدوات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، تخرج ما تحتاج إليه هذه التنمية ولا تعد مثقفين عاطلين أو عاجزين يغدون من أهم عوامل النقمة الاجتماعية والثورة الحاقدة وسائر أدواء البطالة.
من هنا كان لزاماً أن نبحث في أهم مقومات التربية المنشودة الجديرة بتحقيق أغراض التنمية والقمينة بشق طريقنا الجديد إلى النصر.
ونقول منذ البداية أن التربية التي نعنيها تشمل ميدانين أساسيين: ميدان التربية المدرسية التي تتم في مراحل التعليم المختلفة، والتربية الخارجة عن نطاق النظام المدرسي الرسمي والتي تتم عن طريق الثقافة الشعبية وسائر وسائل التربية التي نقدمها للكبار.
وبدهي أن تكون الأهداف في كلا الميدانين واحدة في الجملة. غير أن الوسائل لا بد أن تختلف. ورغم اختلاف هذه الوسائل سوف نتحدث عن الجانبين معاً، تيسيراً واقتضاباً.
أهداف التربية المنشودة:
إن الخوض في مثل هذه الأهداف قد يتطلب منا مجلدات برأسها. وما هذا هدفنا في مثل هذا المقام. فالذي نريد أن نقف عنده هو الأهداف التي تعنينا أكثر من سواها في معركتنا الجديدة والتي تحقق لنا قبل غيرها أن ننهض من كبوتنا وندرك الطريق الأتم الذي يوصلنا إلى أهدافنا القومية ويجنبنا محناً أخرى.
وقبل الانطلاق في الحديث عن هذه الأهداف لا بد من كلمة. فقد يقول قائل أن هذه الأهداف التي سنتحدث عنها تظل – على جلالها وشأنها – أهدافاً بعيدة المدى تستلزم زمناً غير قصير من أجل تحقيقها. في حين أن الوقت ليس وقت عمل بطيء وأن الأمور لا تنتظر وأن العمل السريع الدائب هو مطلبنا في ظروفنا القاهرة.
وعند مثل هذا الاعتراض نحب أن نقف وقفة خاصة. إنه – على الرغم مما يحمله من صدق النية وبراءة القصد – هو المسؤول دوماً وأبداً عن تنكبنا الطريق الصحيح وعن تخبطنا الطويل وعن نكساتنا المتكررة. فالطريق الصحيح ليس بالضرورة أقصر بعد بين نقطتين. والطريق الذي يبدو بطيئاً ليس بالضرورة طريقاً غير ناجع. بل العكس هو الصحيح إلى حد بعيد. فلا بد من البدء من البداية الصحيحة مهما تتطلب من جهود وعرق وزمن. ولابد من سلوك »الطريق ولو دارت« على حد قول العرب. ولا بد أن »نسلك الجدد« كي »نأمن العثار«. لقد تقضى ردح من الزمن نحاول فيه كل مرة أن نغذ السير وأن نتعجل الأمور وأن نحرق المراحل ظنا منا أن الأحداث لا تنتظر، فإذا بنا في كل مرة نقع – نتيجة لذلك – في نكسة جديدة أو نراوح في مكاننا على أحسن تقدير. ولقد آن لنا أن نغادر، إلى غير رجعة، العقل النزق، العقل الذي يريد أن يغير الأشياء بين عشية وضحاها، العقل الذي يريد أن يفعل كما تفعل العصا السحرية أو خاتم المارد. آن لنا أن ندرك الظروف الموضوعية والشروط الواقعية وأن ندرك أن الجرأة الحقة هي الجرأة الواعية التي تدرك هذه الأشياء إدراكاً موضوعياً، وتحاول تغييرها انطلاقاً من ذلك الإدراك.
فللواقع قوانينه، وللحوادث قوانينها، وهي لا تغير بجرة قلم أو بإرادة لفظية، بل تغير عن طريق معرفة تلك القوانين من أجل تشكيل الظروف تشكيلاً جديداً قادراً على مغالبة تلك القوانين وتوجيهها الوجهة الصحيحة. إن القوة الحقة هي »المعرفة«، كما قال »أوغست كونت« منذ القدم. وتغيير الطبيعة يكون بإطاعتها أي بمعرفة قوانينها كما قال »بيكون«.
لقد أساء أسلوب حرق المراحل إلى كثير من الدول السائرة في طريق النمو، الراغبة في تحقيق تغيير جذري في بنيتها الاجتماعية والاقتصادية. وكثيراً ما أدى هذا الأسلوب إلى النقيض مما يرجى منه.
والتربية قد تكون عملاً يتطلب زمناً، ولكنها عمل عميق راسخ. والأهداف التي نرسمها لها هي الأهداف الواقعية بل السريعة، لأنها هي القادرة حقاً على تغيير الواقع والوصول إلى شاطئ السلامة.
لقد طال الجدل بين أصحاب النظر وأصحاب العمل. وحسبنا أن نقول إن المسألة زائفة، وأن الأمر – كما ذكرنا منذ البداية – أمر دمج كامل بين النظر والعمل، بحيث يتوافر السير على قدمين لا قدم واحدة، وبحيث يحقق هذا الجمع العضوي بين المطلبين بلوغ أقصى سرعة مجدية وممكنة معاً. ووظيفة التربية لا تعدو ذلك. وهي إذ تحفر عميقاً في مجرى النفوس تحفر عميقاً في مجرى الأحداث. وهي حين تتقن إعداد الإنسان وتركض وراء هذا الهدف الأساسي تركض في الواقع وراء سائر الأهداف.
والآن بعد هذا الاستدراك، نستطيع أن ننطلق مطمئنين في الحديث عن الأهداف المرجوة للتربية المدرسية في معركتنا الراهنة.
(1) وواضح بعد كل الذي قلناه أن تربية العقل المبدع الماهر فنياً المتقن لروح العلم الحديث وأساليب التقنية الحديثة يظل هدفاً أولاً من أهداف التربية المرجوة.
إن العقل في البلدان التي تخلفت عن ركب الزمن وعن ركب العلم الحديث والصناعة الحديثة ما يزال عقلاً يعيش في عالم الألفاظ قبل أن يعيش في عالم الأشياء. والروح العقلية بسائر معانيها ما تزال بعيدة عن هذا العقل إلى حد بعيد. والتكنيك الحديث خاصة ما يزال غريباً عن فكرنا. إننا نعرفه كشيء مجلوب ونعجب به إعجابنا بالسحر أحياناً، ولكننا لا نحيا ضمنه ولا يكون جزءاً من بنياننا الفكري والنفسي. إن عالم التكنيك ما يزال – إلى حد كبير – أشبه عندنا بعالم الأشباح، نسمع عنه ولا نراه، أو نراه ولا نفهمه، أو نفهمه ولا نعانيه.
وإذا لم نوفق في خلق العقل المبدع التقني لم نوفق في شيء. فالآلة التي نستخدمها في المصنع ينبغي أن نألفها ونعرفها، لا أن تظل مجللة بالضباب كأنما تحركها أعمال الجان. والسلاح الحربي الذي نستخدمه في المعركة ينبغي أن تقوم صحبة وعشرة علمية وفنية بيننا وبينه بحيث نملكه ولا يملكنا، ونستخدمه حيث نريد وكيف نريد وبحيث نستخرج منه أقصى مداه، وبحيث نهب له المرونة فنعالجه في رشاقة وبراعة و »نؤنّسه« إلى حد بعيد، بدلاً من أن يظل وحشاً يخيفنا أكثر مما يخيف أعداءنا. ومثل هذا القول يصدق في سائر مجالات الحياة الزراعية والتجارية وغيرها. ففيها جميعها ينبغي أن تقوم بيننا وبين الآلة ألفة ومعرفة وصداقة مردها الفهم وحسن الاستخدام وسيطرة الفن على الآلة. إن الآلة عمل فني لا تسيطر عليه إلا دراية فنية.
وهذا يعني في لغة التربية أشياء كثيرة لا يتسع المجال للوقوف عندها، ونكتفي بالمرور السريع:
أنه يعني أولاً وقبل كل شيء العناية بالعمل اليدوي في المدارس منذ نعومة الأظفار وبالثقافة التكنيكية في سائر مراحل التعليم. إنه يعني أن نستبدل بالمناهج القائمة على الألفاظ مناهج قائمة على الأشياء، على معاناتها، على تجربتها. إنه يعني أن نضع خطة للتربية تجعل من أهم أهدافها تكوين الأيدي العاملة الفنية الخبيرة في شتى مجالات النشاط، ولا سيما في مجالات التكنيك والصناعة. إنه يعني أن نربط الإنسان العربي بالعمل والعمل اليدوي بشكل خاص، فربطه بالعمل هو الذي يعني ربطه حقاً بأخيه ووطنه وأمته. لقد ذكر «بن غوريون» فيما ذكر عند حديثه عما سماه بسنوات النضال في «إسرائيل» عن الدور الذي لعبه ربط المهاجرين الصهاينة بالعمل والأرض. وبين خاصة أن الرواد الأوائل للصهيونية الذين قدموا فلسطين منذ أيام الحكم العثماني – وكان واحداً منهم – مارسوا العمل اليدوي والفني، وأنه مارس بنفسه العمل في حقول الكرمة وفي صناعة الخمور، وساق المحراث في إحدى المستعمرات… وجميع الذين تحدثوا عن تجربة إسرائيل، تحدثوا خاصة عن التعاونيات المعروفة «بالكيبوتزم Kibboutzim». ذكروا دور العمل الزراعي والصناعي في ربط المهاجرين الجدد بعضهم ببعض وربطهم بالبلد الجديد الذي اغتصبوه. ومما لجأ إليه أعداؤنا في بناء أنفسهم وصهر مجموعاتهم الشتيتة وتكوين قوتهم العسكرية العناية بمنظمات الشبيبة التي عرفت باسم منظمات «ناحال» التي تعد الشبان بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة من العمر إعداداً عسكرياً بالإضافة إلى إعدادهم للزراعة والعمل الزراعي، وبهذا تخلق منهم «جنوداً مزارعين» و «مزارعين جنوداً».
هكذا يبدو العمل اليدوي والفني أداة مثلى من أدوات تربية جيلنا الجديد. إنه يخلق اليد الصناع، والعقل المبدع، وروح العصر الحديث. إنه يكون ذلك «العقل الذي في اليد» الذي يرى فيه زعيم الهند غاندي شيئاً «يفوق العقل الذي في الرأس». إنه يعلمنا «فضائل استعمال الأصابع الخمس» التي تمنى غاندي أيضاً أن ينظم قصيدة عصماء في مزاياها، لو كان شاعراً. إنه يعلم المواطن منذ الصغر أن يعمل مع العمال وأن تتسخ يداه وأن يحيا حياة العمال.
ورأس هذا كله، ووراء هذا كله، الاهتمام بخلق روح الإبداع، روح الإبداع التقني العلمي، وتعويد الشبيبة على الخلق والابتكار الفني منذ الصغر. أفلا يقرر كبار المربين وأحدث المربين أن الهدف الأساسي من التربية في عصرنا الحديث ينبغي أن يكون خلق القدرة على الإبداع Creativity؟ أفلا نجد في بعض المدارس الحديثة في العالم تعويداً للأطفال منذ المرحلة الابتدائية على القيام ببعض المشروعات الصناعية الفنية تحت إشراف مهندسين وأخصائيين كبار يتعاونون مع المدرسة؟
وما نرانا في حاجة إلى الأدلة الكثيرة للبرهان على أهمية تكوين روح الإبداع التقني لدى شبيبتنا، ولا سيما في عصر العلم والصناعة. وحسبنا أن نقول أن تطور العمل في عصرنا – كما تدل الإحصاءات في مختلف بلدان العالم – يظهر بشكل واضح تزايد الحاجة إلى الفنيين الذين يعملون بعقولهم وخبرتهم وإبداعهم، وتناقص الحاجة إلى العمال اليدويين الذين يعملون بقواهم الجسدية وحدها. فقد أدى دخول الآلة إلى الصناعة وإلى الزراعة وغيرهما، بل دخول »الأتوماتية« إلى الآلة، إلى تناقص ضخم في الحاجة إلى اليد العاملة الجاهلة وتزايد هائل إلى اليد العاملة الفنية.
(2) وإذا كانت هذه التربية القائمة على العمل والدراية الفنية وروح الإبداع شعار العصر وضرورة من ضروراته في كل مصر، فإنها في مثل بلادنا السائرة في طريق النمو أعظم شأناً وأجدر بالعناية.
ولا نقصد بذلك مجرد تخلفنا التقني الذي يلزمنا بمزيد من الاهتمام بالإعداد الفني والتكوين الصناعي والمهني وخلق الأطر الفنية الخبيرة اللازمة لتسيير عجلة التنمية، بل نقصد شيئاً آخر لعله لا يقل أهمية عما ذكرنا. نقصد تعريف المواطن العربي على حقيقة الكون وتغيير نظرته إلى الأشياء، عن طريق فهم هذا الكون وتلك الأشياء فهماً علمياً، بل عن طريق ملامستها ومعاناتها واللعب بها. نقصد – إذا شئت – إبعاد الروح السحرية والخرافية والأسطورية بشتى أشكالها وصورها، وإحلال العقل العلمي الصنَّاع محلها، عقل القرن العشرين.
فبلادنا – بسبب انتشار الأمية وسوء التربية وسيطرة التربية اللفظية على التربية العملية العلمية التقنية – ما تزال إلى حد بعيد تعيش في مرحلة شبه سحرية أو شبه أسطورية. إنها ما زالت كصاحب السحر والرقي يحاول التغلب على الأشياء بأساليب لا تمت إليها بصلة، لأنه يجهل تلك الأشياء. إنها ما تزال بعيدة في كثير من الأحيان عن أبسط قواعد العلم، نعني مبدأ السببية والقول بأن لكل نتيجة سبباً. وما تزال على العكس قريبة من روح »المشاركة« التي يحدثنا عنها عالم الاجتماع »ليفي برول« لدى الأقوام البدائية، والتي يرى فيها عالم النفس »بياجيه Piaget « بعض سمات نفسية الطفل.
ولا تتجلى رواسب هذه الروح الأسطورية الخرافية عندنا في بعض الميادين فحسب أو في ميدان فهم المبدعات والمكتشفات الحديثة، بل تتجلى في سائر الميادين. ومن هنا يأتي خطرها. ففي حياتنا السياسية مثلاً ما نزال نعيش إلى حد بعيد في مرحلة الإيمان بأسطورة البطل القادر على كل شيء، المالك لسيف عنترة، المعصوم عصمة أنصاف الآلهة. وما نزال نؤمن بضرب من الخيال الذي يجعلنا نعتقد أن روح البطل تحمينا وتطوف حولنا وتبعد عنا الشر كما كانت آلهة الأقوام البدائية و»تواتم Totems « الشعوب القديمة تحل في كل مكان وتدفع الأذى والشر وتطرد الأرواح الخبيثة. وهكذا نلقي بكل ثقلنا على البطل، ونجعل من إيماننا به العربون الوحيد على واجبنا حياله وجل مسؤوليتنا نحوه. ومن هنا نقيم بيننا وبين الواقع سداً، ونعجز عن تحليل هذا الواقع وعن إدراك الأخطاء التي ترتكب أو طرق الضلال التي تتبع.
ومثل هذا يصدق على تفكيرنا الأسطوري في ميدان آخر هو ميدان »الأيديولوجيات«. فنحن ههنا أيضاً ما نزال ننزع إلى أن نؤمن بها وإلى أن نجعل الناس يؤمنون بها إيماناً سحرياً، كمقدسات غير قابلة للنقد، وكمحرمات Tabous لا يجوز المساس بها. وهكذا يصل بنا الأمر إلى عبادة »الأيديولوجيات« من أجل ذاتها لا من أجل محتواها ونتائجها. وننكر التنكر لها ولو انحرفت عن مجراها وأفرغت من محتواها ومضمونها. وهكذا تغدو الأيديولوجية التي هي أساس الثورة وطريقها شيئاً فوق الثورة وأهم من الثورة ومجمداً للثورة قاتلاً لها. وبعبادتنا السحرية للأيديولوجية هذه كثيراً ما نجعل منها – على حد قول ماركس – تبريراً وتتويجاً رائعاً للوحشية والاضطهاد. وبهذا ما تلبث الأيديولوجيات أن تتقوقع على ذاتها أو أن تغدو في أحسن الأحوال راكدة غافية »كالأميرة النائمة«، في عصر التحرك والتفجر والسرعة.
إن تنصيب الأيديولوجيات كمطلق لا يقبل التحويل والنقد، ضرب من الفكر الأسطوري الذي يحلو له أن يلجأ إلى هذا التبسيط العجيب »المزدكي« و »المانوي« فيقسم الكون قسمة ثنائية سطحية إلى خير وشر لا لقاء بينهما.
ولقد بين الكاتب الماركسي الفرنسي الشهير »روجيه غارودي Roger garaudy « في كتابه الجديد عن »ماركسية القرن العشرين« كيف وقعت الستالينية في هذا التجميد للعقيدة وفي هذه النزعة الاثباتية »الدوغماتية« التي أفسدت على الشيوعية ما أفسدت. وبين خاصة كيف أن هذه النزعة المؤمنة المطلقة هي التي أدت إلى الاضطهاد وإلى الحكم البوليسي القاسي أيام ستالين. ذلك أن الطرق الدكتاتورية والتسلطية والدموية لا بد أن تولد منذ أن يغادر المرء الموقف العالمي والإنساني معاً (كعنصرين لا ينفصلان)، وينطلق نحو أسطورة الإيمان بحقيقة مطلقة تعلو على الإنسان الذي يخلقها وتجعل نفسها فوق الناس الذين يعيشونها ويبدعونها في كل يوم.
ومن هنا رأينا المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي يبدأ بنقد هذا الأسلوب وينكره. ومن كبريات فضائل هذا المؤتمر أنه وضع أمام أعين العالم نقداً جريئاً للمفهوم وللأساليب التي جعلت نظاماً اشتراكياً كنظام ستالين محروماً من كل تلك الثروة الفريدة التي تنتج عن مشاركة الملايين من المواطنين والمناضلين، والتي أدت إلى سفك دماء الملايين منهم، منتهكاً بذلك ديمقراطية الحزب والدولة، بل إلى استخدام النظرية »الدوغماتية « الإيمانية المطلقة بمثابة عقيدة أيديولوجية تبرر ارتكاب الجرائم في حق الاشتراكية نفسها(1).
إن تربية الفكر النقدي والعقل العلمي البعيد عن الأساطير أياً كان نوعها، المؤمن بدور كل إنسان في بناء مجتمعه، مهمة كبرى من مهمات التربية في بلادنا العربية، جديرة بأن تبعد عن هذه البلاد كثيراً من الشرور وتضعها على الطريق الصحيح.
»من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت«.
إن الحقيقة، ولا سيما في عصرنا، متغيرة متطورة، تحيا عن طريق التغير والتطور. وهي ليست »كالجوزة القابعة في قشرتها«، على حد تعبير »وليم جيمس«.
وعصرنا عصر »التفجر« السريع في كل شيء، وهو يستلزم قبل أي شيء آخر تربية من أجل التغير، من أجل التجديد، من أجل الحركة. وهذه التربية على التجديد تنال العلوم والفنون كما تنال السياسة والأيديولوجيات.
(3) ومحاربة الروح الأسطورية وتكوين العقل العلمي الذي يزاوج بين الفكر والواقع، تعني بلغة أخرى هدفاً هاماً آخر، هو تكوين العقل المستقل الحر.
فالتربية تضل طريقها وتناقض جوهرها وطبيعتها إذا لم تصل بالكائن إلى تكون شخصيته هو لا شخصية غيره. وهدف التربية – كما يقول كثيرون – »أن يكون الإنسان من هو«، أي أن نستخرج منه – ضمن حدود طبيعته الأصلية – أقصى ما يمكن أن يصل إليه. والمربي الناجح ليس المربي الذي يخلق الطفل على صورته هو، بل هو الذي يكون الطفل من خلال اتجاهات هذا الطفل الذاتية ومقومات وجوده الأصيل ونداءات مصيره وموهبته.
وليس هدفنا ههنا أن نتحدث عن أهمية تكوين العقل المستقل في حد ذاته، بل هدفنا أن نبين صدى ذلك في معركتنا الراهنة ومستقبلنا الذي نرجوه.
إن تربية العقل المستقل تعني أن يستطيع الكائن الذي نقوم بتربيته أن يكون سيد أفكاره وخالق نظرته إلى الكون والأشياء، وأن نأخذ بيده إلى المرحلة التي لا يحتاج بعدها إلا إلى جهده الشخصي وعمله الذاتي. إنها تعني أن نحول بينه وبين تعويده على الأطعمة الجاهزة، على الأفكار »المعلبة« المحفوظة، وأن نبعده عن الإتباع والانقياد ليكون مبدعاً رائداً. إنه يعني أن نحترم كيانه الذاتي وأن نرفض اغتيال فكره وروحه عن طريق صب ما نشاء فيهما وعن طريق ملئهما بما يحلو لنا من نظرات وأهواء. إنها تعني أن نجعل من كل مواطن فرداً نحترم فيه إنسانيته ونحترم في إنسانيته فكره الذاتي، فكرة الذي يبني نفسه بجهده الذاتي وينمي وجوده بقواه الذاتية التي أغنيناها وأطلقنا شرارتها.
ومعنى ذلك أن المجتمع المنشود، المجتمع الحي المرجو، لا بد أن يتكون من حوار العقول المستقلة التي تجد لغة التفاهم المشترك فيما بينها عن طريق نضجها الذاتي وهويتها الذاتية، والتي تصل إلى تحديد أهدافها المشتركة عن طريق تفاعل منتج بين كيانات نفسية وفكرية تعرف أن تلتقي وأن تجد أرضاً مشتركة لأنها عرفت أن تكون كيانات نفسية مستقلة في الأصل تملك ما في الاستقلال من قدرة على العطاء والاتصال والحوار.
فبدون النظرة المستقلة لا تكون النظرة المشتركة، أولا تكون مثل هذه النظرة خصيبا حافلة بالعطاء والقدرة على النمو. وبدون العقول التي وعت ذاتها وكونت نظرتها الشخصية إلى الكون والوجود لا يقوم لقاء حقيقي، لأن مثل هذا اللقاء لن يكون تفاعلاً ونتاجاً، بل سيكون التهاماً واغتيالاً وإفقاراً. أن الذات التي استطاعت أن تتفتح وأن تكون من هي، هي الذات التي تستطيع أن تفهم ذوات الآخرين وتتفاعل معهم وتجد وإياهم طريق الإنسان المشترك وأهداف المجتمع المشتركة. أما الذات التي حرمت من الفطرة المستقلة، وعودت الاتباع والخضوع، فهي عاجزة لا محالة عن أن تقدم للهدف المشترك شيئاً ينضاف إليه ويغنيه، أي أنها عاجزة عن أن تعمل بالتالي للهدف المشترك.
إن الإيمان بالهدف شرط أساسي في نجاح أي معركة، اجتماعية كانت أو سياسية أو عسكرية. والذين يتحدثون عن الرأي العام وتكوينه ووسائل تعبئته يشيرون أول ما يشيرون إلى الإيمان بالهدف كوسيلة أساسية من وسائل إعداد الروح المعنوية. غير أن من الواجب أن ندرك أن هذا الإيمان بالهدف ينبغي أن يكون إيماناً بالمعنى الحق لهذه الكلمة. وهو لا يكون كذلك إذا لم نحاول أن يكون لدى الأفراد إيماناً منبثقاً من اقتناعهم الذاتي ومن إدراكهم وفهمهم الشخصي للأمور. أما الإيمان – الاتباعي – الإيمان المحقون عن طريق انتهاك حرمة عقول الآخرين واغتيالهم وتقديم الأفكار المبيتة المفروضة عليها – فهو إيمان لا يرقى إلى أن يعبئ الأفراد تعبئة تجعل منهم جنوداً يستميتون في سبيل الهدف.
صحيح أن التوجيه أمر لازب، وأن الدعاوة عمل ضروري، لأن الناس ليسوا سواسية في حظوظهم من الفهم والإدراك. ولكن لابد من القول أن التوجيه شيء آخر غير الإرهاب الفكري، وأن الدعاوة الحقة توضيح وشرح وبيان وليست اغتيالاً للآراء بأي أسلوب من الأساليب. لقد يسر انتشار الوسائل التي تدعى شعبية وديمقراطية (من صحافة وإذاعة وسينما وغيرها). طرائق توجيه الناس وتفتيح أعينهم على الحقائق. ولكن ثمة خطراً يداخل هذه الوسائل الديمقراطية ويهددها أن تنقلب ضد الديمقراطية، وذلك حين تتخذ أساليب لاقتناص العقول والنفوس عن طريق الحرف المثير والعنوان الأحمر الخلاب والصوت المبحوح والصورة الخادعة الأخاذة. وأن من أهم واجبات التربية تحرير المواطن من إرهاب الألوان الصارخة والأصوات المسعورة وكل ما وضع من أجل الإيقاع به في الفخ الذي نريد، واصطياده للجعبة التي أعددناها.
إن التربية إذ تعود الأفراد على احترام عقول الآخرين وعلى احترام استقلال الآخرين تخلص البشرية وتخلص البلدان المتخلفة خاصة من هذه المحنة الكبرى. محنة اتخاذ النفوس والعقول إقطاعيات لأشخاص أو لجماعات أو لاتجاهات، تباع وتشرى في سوق الدعاية كما يباع العبيد في سوق النخاسة.
إن الإيمان الراسخ هو الإيمان الصادر عن صاحبه حقاً، والتربية لا تعدو أن تيسر له بزوغ هذا الإيمان. والتوجيه السليم لا يعدو أن يجعله قادراً على هذا الإيمان المؤمن بذاته المنبثق من جهده الخاص. أنه الإيمان الذي يعرف أين السبيل ويتبين المصير ويدرك الخطوات وتتضح عنده نهايتها وغايتها. فلا إيمان بهدف لا يتبينه المرء، ولا إيمان بهدف لم تحدد خطواته، ولا إيمان بهدف لم تستبن إمكانيات تحقيق خطواته.
إن المتحدتين عن »القيادة« في شتى صورها ومجالاتها (في مصنع أو مدرسة أو مجتمع أو حرب) يبينون أكثر ما يبينون أن القيادة الناجحة هي التي تعرف أن تبين الأهداف وأن ترسم طريق الوصول إليها وأن تدل على الخطوات المختلفة التي قطعت في سبيلها. كما يبينون أن القيادة السليمة هي التي تحرص على رفع الروح المعنوية لدى الأفراد، عن طريق وسائل عديدة، على رأسها اشتراكهم في رسم الهدف وتبنيهم له، وشعور كل واحد منهم أن له دوراً في العمل المطلوب وأن دوره أساسي. وقيام حوار حقيقي يجعل المجموعة تشعر أنها تبني أهدافها بنفسها. أما القيادة الفاشلة فهي التي توصف بالتفرد في اتخاذ القرارات والآراء، والتي تكتفي بأن تضع الخطط وتطلب إلى المجموعة إنفاذها دون مناقشة بل دون فهم.
إن قوام التربية السديدة احترام الإنسان كإنسان، واحترام قيمه وشخصه وأفكاره، والابتعاد عن روح القطيع، عن روح السادة والمسودين. إنها تنطلق من منطلق أساسي: وهو أن لا شيء يعلو على الإنسان. فالنظم من أجله والأيديولوجيات في سبيل سعادته، والتغيير الاقتصادي والاجتماعي من أجل تحريره وإغنائه. واستعباد الإنسان – استعباده لأي شيء – حتى للمثل العليا – مرفوض من أساسه. فالمثل العليا التي تفرض فرضاً ليست مثلاً عليا. والمثل العليا هي التي تخرج من الذات وتمتلئ بها الذات وتغتني وتعطي. وكثيراً ما ننسى ونحن نصنع العقائد المؤدية إلى سعادة الإنسان ونرسم التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي تحرر الإنسان، إن من غير الجائز أن نغفل عبر الطريق أن الوسيلة لا يجوز أن تنقلب إلى غاية، وأن السبيل التي أردناها سعادة للإنسان وتحريراً قد تغدو شقاء واضطهاداً. كثيراً ما ننسى مثلاً أن التنمية الاقتصادية ليست إلا جانباً من الجوانب التي تطرح في البلدان المتخلفة خاصة من أجل تقدمها، وأنها بالتالي لا تملأ سائر الجوانب، وأن إلى جوارها أهدافاً أخرى ينبغي أن تظل لاصقة بها مندمجة معها. نعني التنمية الاجتماعية والتنمية الثقافية وكل ما من شأنه خلق الإنسان بالمعنى الكامل الشامل، لا الإنسان الاقتصادي Homo economicus فحسب. ومرد ذلك كله أن إيماننا بالإنسان وباحترامه يقف في معظم الأحيان على شفا هاوية. وأنه في كثير من الأحيان معرض للسقوط والانهيار، حتى بأيدي أولئك الذين يظنون أنهم يعملون من أجل الإنسان، بل بأيديهم خاصة أكثر من سواهم. أن بداية الوهن في العمل لحضارة الإنسان، أن ينصب أي إنسان نفسه حكماً وحاكماً واحداً ووحيداً على الإنسان. أنها البدء بإنكار معنى الحضارة كحوار بين عقول مستقلة وكلقاء بين نفوس تملك سيادتها ونظرتها وحريتها.
قد يقول قائل أن مثل هذه النظرة تنطلق من منزع يغلب الأغراض الفردية على الأغراض الاجتماعية في التربية. ولن ندخل ههنا في مناقشة هذه المسألة الأبدية، مسألة الاتجاه الفردي والاتجاه الاجتماعي للتربية. وجل ما نريد أن نقوله أن الاتجاهين في نظرنا متكاملان وينبغي أن يتكاملا ويتحدا، وإلا لم تكن التربية تربية حقة. فالاندماج بالمجتمع والاتحاد مع أهدافه ومطالبه شرط أساسي من شروط نمو الإنسان وتفتح فرديته ووجوده الشخصي المستقل. وعن طريق تراث المجتمع وقيم المجتمع يزداد الفرد ارتفاعاً وارتقاء في مراتب الإنسانية. غير أن التربية التي تقف عند حدود دمج الفرد بمجتمعه وخضوعه له وانقياده لاتجاهاته، تقصر عن مداها وتضر بالفرد والمجتمع معاً. إذ لا بد أن يندمج الفرد بالمجتمع وأن يجاوزه في آن واحد. لا بد أن تكون التربية الاجتماعية في النهاية وسيلة لربطه بالمجتمع ولتحريره منه في الوقت نفسه، ولا بد أن تؤدي إلى أن تكوّن لديه نظرته الشخصية وحكمه المستقل وأفكاره النقدية القادرة على تطوير المجتمع نفسه من جديد. وبدون ذلك لا نرجو للفرد تطوراً كما لا نرجو للمجتمع تطوراً. أن المجتمع السليم يخلق الأداة التي تعمل على تجاوزه من أجل تطويره وتنميته. والقول الفصل في هذا كله – بوجيز العبارة – إن التربية لا تكون تربية إذا لم تكن اجتماعية وإذا لم يكن الاندماج بالمجتمع أداتها، كما أن التربية لا تكون تربية إذا كانت اجتماعية لا غير وإذا لم تجاوز المجتمع.
من خلال هذه النظرة نتخلص من أخطاء النظريات المجموعية (الفاشية أو النازية أو الستالينية أو سواها) التي تؤله المجتمع وتعتبر أن الدولة قبل الفرد وأنها كيان شامل له حياته وروحه التي تسيطر على الأفراد، وأنها غاية في ذاتها تجدد نشاط الفرد وعلاقاته وما عليه إلا أن يبقى في خدمتها وطوع إرادتها.
ومن خلال هذه النظرة نتخلص أيضاً من أخطاء النظرة الفردية الخالصة التي تفرط في حرية الفرد على حساب المجموع. ولا بد في هذا كله – في نظرنا – من الجمع الوثيق بين عمل الفرد وعمل المجموع، بين التباين والوحدة، بين الحرية والأهداف المشتركة العامة. وتلك هي المهمة الشاقة، ولكنها مهمة جديرة بأن تقتحم، لأن فيها المصير الحقيقي للإنسان. أن الأخذ بنظرة مجموعية تخضع كل شيء للمجموع وللدولة أمر سهل لا يحتاج إلى عناء وجهد، وأن يكن منتهاه قتل المجتمع والفرد في نهاية الأمر. وأن الأخذ بنظرة فردية مطلقة تقدس الفرد لذاته ولا تدرك ارتباطه العميق بالمجتمع وقيمه ولا تعي أن قيم المجتمع جزء من قيم الفرد، أمر يسير أيضاً في ظاهره، ولكنه يقود إلى مجتمع الفوضى إن لم نقل إلى مجتمع الغابة. والمهمة الجديرة بالجهد والعرق هي الموقف الأصيل الذي يحقق هذا الارتباط العضوي الطبيعي بين الفرد والمجتمع. ومثل هذه المهمة قمينة بأن تنصب عليها جهود الإنسانية، وأن يتجه مصير الإنسان شطرها.
(4) وكنتيجة منطقية للمبدأ السابق لا بد أن نجعل من أهداف التربية تكوين الروح الجماعية وخلق روح العمل المشترك. لا بد أن نربي الفرد على التعاون مع أقرانه وعلى تنظيم المشاركة معهم. ومثل هذا المطلب يفرض جهداً تربوياً نقوم به منذ الصغر في المدرسة وخارجها. ولا يتسع المجال للحديث عن الوسائل العديدة التي تؤدي إلى تكوين روح العمل الجماعي. وحسبنا أن نقول موجزين أن الأمر يحتاج إلى تغيير جذري في الطرائق المتبعة في مدارسنا. فكل ما فيها يدور نحو تنمية »الأنا« بالمعنى الضيق للكلمة أي بمعنى الأنانية والدوران حول الذات. ومهمتنا أن نقلب المدرسة من بيئة تعنى بتربية»الأنا« بهذا المعنى الضيق إلى بيئة تعنى بتربية »النحن«. ووسائل ذلك عديدة منها تنظيم العمل التعاوني وإقامة تعاونيات صغيرة ضمن المدرسة. ومنها تدريب الناشئة على الحكم الذاتي، على أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم ويجعلوا من المدارس جمهوريات ديمقراطية صغيرة. ومنها العناية بالنوادي، وبالإنتاج المشترك كالمجلات المدرسية أو المعارض أو غيرها. ومنها تبديل وسائل الثواب والعقاب بحيث تغدو جماعية لا فردية، وبحيث نقارن الطالب بذاته قبل أن نقرنه بلداته.
وغاية هذا كله أن نعد مواطنين قادرين على العمل المشترك وعلى تحقيق أهداف مشتركة. وليس جديداً أن نقول أن آفة الآفات في مجتمعنا العربي وفي كثير من المجتمعات العجز عن تصريف العمل المشترك وطغيان روح الفردية والأنانية وعدم التمرس بإنجاز المشروعات الجماعية التي يسهم فيها كل فرد بمقدار. ومن هنا يسود انغلاق الأفراد بعضهم على بعض وينقطع الاتصال الحي بين قوى أفراد المجتمع وطاقاتهم ونفوسهم. ومن هنا أيضاً ضروب من الصراع تؤدي في النهاية إلى تحطيم المجتمع، وإبعاده عن الاستقرار وانعدام كيانه المتماسك.
وهل نغلو إذا قلنا بأننا ما نزال نعيش – في كثير من ميادين حياتنا – عيشة الشعراء من أجدادنا الذين كانوا يتخذون الفخر فضيلة والتغني بالنفس والتأمل المراوي لها غاية الغايات. أفلا نشهد في تضاعيف حياتنا السياسية والاجتماعية روح عمر بن كلثوم يردد:

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
أفلا ترن في عقولنا أصداء قول الشاعر:
وإنا أناس لا توسط بينا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
أفلا نلمس تلك الروح التي جعلت شاعرنا العربي يقاتل أخاه إذا لم يجد من يقاتله:
وأحيانا على بكر أخينا
إذا ما لم نجد إلا أخانا
أولسنا بعيدين إلى حد كبير عن معاني »المواطنية« التي تقضي بخضوع الفرد لمصلحة المجموع واتباعه للنظام الذي تقره الجماعة؟ أفلا نجد حتى الآن من يعتبر الخضوع للنظام من شيم الضعفاء، ومخالفة المبادئ العامة شيمة الأقوياء. أفلا تضج في مسامعنا أقوال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلِعلةٍ لا يظلم
إننا أحوج ما نكون إلى التربية على روح العمل المشترك والبناء المشترك والتعاون، وإتقان الخطة المشتركة، وحسن إنجاز المهمات التي تتطلب مشاركة جماعية. إن »الأنا« البغيض الذي حدثنا عنه »مونتيني Montaigne « ينبغي أن يصبح بغيضا حقا لدينا. فالأنانية تعني الموت، والغيرية هي العطاء وهي الحياة.
(5) ومن الأهداف التي ينبغي أن تهدينا في معركتنا، العمل على تربية روح النضال بشتى صورها ومعانيها. فالمجتمع العربي مجتمع يستيقظ من غفوة طويلة نسي فيها بلاءه وتمرسه بالشدائد، وكاد يركن إلى حياة الدعة. والمجتمع العربي مطوق بالأعداء في الداخل والخارج، وعلى رأسهم العدو الصهيوني. ولا بد للتربية أن تخلق لدى هذا المجتمع روح المقاومة والعراك والتحدي. لا بد أن يدرك أن تحقيق الأماني لا يأتي سهواً رهواً، وإن بناء مجتمع متقدم لا يكون بدون النصب والشدائد. لا بد أن يعي أن تاريخ الإنسانية هو في النهاية تاريخ تغلب الإنسان على مصاعب الطبيعة، تاريخ تحدي الطبيعة وجعلها طيعة أمام إرادة الإنسان وعزمه.
إن النضال بشتى صوره – في مجالات الاقتصاد والسياسة والثقافة والعلم والفن الحديث – ينبغي أن يكون ضالة هذا الجيل الذي خلق في هواء المعركة وسيظل يحيا طويلا ضمن أجوائها. والمجتمع المتخلف لا ينمو إلا بنضال أبنائه في سبيل القضاء على تخلفه في شتى المجالات.
أما وسائل تكوين روح النضال هذه فعديدة، لا مجال للحديث عنها. وحسبنا أن نذكر جانبا منها، هو الذي يتصل بمعركتنا الكبرى ضد العدو، تعني التدرب المستمر المتصل على القتال لدى فتياتنا وفتياننا، وإعداد جيل يفهم الحرب ويدرك أبعادها ولا يرى فيها شبحاً أو سحراً لا يفقه منه شيئا ويلوذ منه بالفرار. وواضح أن هذا الهدف متصل بالأهداف السابقة. فنحن لا نستطيع أن ننجح في إعداد جيل متمرس بالنضال مقبل عليه، إلا إذا خلفنا الإيمان بالهدف. ولا نستطيع أن نخلق الإيمان بالهدف إلا إذا كونا الإنسان المستقل واحترمنا إنسانيته وأقمنا حواراً معه حول الأهداف المشتركة. ولا نصل إلى ذلك كله ما لم تتقن في الوقت نفسه أساليب العمل الجماعي المشترك ونعمل جميعا بروح الرجل الواحد، وننسى رواسب الغرور والادعاء والفخار الأجوف، ونجعل من نضالنا نضالاً من أجل هدف واضح المعالم بيّن الخطة علمي التخطيط. وهكذا تشتبك الأهداف وتتداخل ويخدم أحدها الآخر. ومن غير الجائز أن نأخذها فرادى، فنفقدها معناها وجدواها.
(6) وبعد، أي أهداف نذكر وأي أهداف نغفل؟ لقد رغبنا منذ البداية في الاقتصار على الأهداف ذات الصلة الوثيقة بالمعركة. غير أن هذه الأهداف نفسها عديدة شتيتة تزدحم في صدر المرء فلا يدري أيها يختار.
ولكن إذا كان لا بد أن نذكر شيئا بين أشياء كثيرة متبقية فلنقل كلمة عابرة عن مكافحة الأمية وتعليم الكبار. ولقد كتب الشيء الكثير عن هذا الموضوع ولكنه في نظرنا ما يزال بكراً، كما أن إيماننا بأهميته ما يزال دون المستوى اللازم.
إن مكافحة الأمية الواسعة الانتشار في بلادنا شرط لازم لعملية التنمية، وعلى رأسها التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ولا يتسع المجال للحديث عن الدراسات العديدة التي بينت بالرقم والإحصاء الفرق الهائل بين نتاج العامل الأمي ونتاج العامل المتعلم في أي مجال من المجالات. ولا حاجة إلى التذكير بما كشفت عنه الدراسات في جميع البلدان السائرة في طريق النمو حيث بينت أن العقبة الأساسية في طريق التطوير، تطوير وسائل الزراعة مثلاً أو سواها، هو الإنسان، الإنسان الجاهل الذي يتأبى على التغيير والتجديد والتكيف مع المواقف الجديدة، والذي يؤثر دوما عاداته البالية القديمة.
وحسبنا أن نقول أن التعليم يخلق أولاً وقبل كل شيء المرونة والقدرة على التجديد والقابلية للتكيف، وهذه كلها شروط أساسية في سبيل نجاح التقدم والتحويل الاقتصادي والاجتماعي. أولم يبين مؤرخو الاقتصاد أن زوال الأمية في الدانمارك في أواخر القرن التاسع عشر منذ طور مبكر أكثر من سواها من البلدان الأوروبية (وذلك بفضل انتشار الجامعات الشعبية) هو الذي جعل الفلاح الدانماركي – من دون سواه – يتغلب على أزمة القمح التي عمت أوروبا بعد اكتشاف أميركا، وهو الذي جعله يهجر زراعة القمح إلى عمل آخر هو تربية الحيوانات وصناعة الألبان التي أصبحت أكبر مصدر للثروة في الدانمارك؟ لقد تم للفلاح الدانماركي ذلك بفضل القدرة على التغيير والتجديد التي تخلفها الثقافة وبفضل القدرة على الانتقال السريع من شكل من أشكال الإنتاج إلى سواه بسبب المرونة التي يولدها التعليم.
ألم يذكر كذلك مؤرخو الاقتصاد أن التقدم الكبير الذي تم في اليابان من دون سائر بلدان آسيا منذ نهاية القرن التاسع عشر يرجع إلى القضاء على الأمية قضاء شبه كامل؟
وفوق هذا وقبل هذا، ألم يبين بعض المربين أن الصلة وثيقة بين تعليم الكبار وتعليم الصغار، وإن الصغار الذين يتلقون تعليماً ابتدائياً أو قريباً منه كثيراً ما يعودون إلى الأمية من جديد إذا كانت البيئة التي يحيون فيها جاهلة. وبذلك يقع هدر كبير في الجهود التي نقوم بها لتعليم الصغار حين يعود قسم كبير منهم أميين بعد أن أنفقت الدولة على تعليمهم ما أنفقت.
وهل من جديد القول أن نذكر أن الأمية أنواع، وأن الجهل بالقراءة والكتابة ليس أخطرها وأن يكن من أهمها. فهنالك الأمية الصحية والأمية المهنية والأمية الاجتماعية، وكلها أعباء ثقيلة تجعل قدرة المجتمع على التقدم وعلى النضال وعلى التغيير محدودة ضعيفة.
غير أنه لا بد من كلمة تقال في هذا الصدد: لئن كانت مكافحة الأمية والثقافة الشعبية أموراً ضرورية، فهي لا تؤتي ثمراتها وقد تنقلب إلى جهود ضائعة إذا لم نضع خطة كاملة لذلك، نتميز عن طريقها الفئة الأجدر بأن نكافح أميتها، ونضع منهاجاً طويل المدى واسع النطاق، ونصطفي الأساليب الصالحة لتعليم الكبار. وأن لم نفعل فشلت جهودنا وذهب الكثير منها أدراج الرياح.
إن تنمية العنصر البشري، تنمية الكثرة الكاثرة من أبناء بلادنا، والجماهير الغفيرة المحرومة من النور والتي تكون حوالي ثلاثة أرباع سكان هذه البلاد، مطلب أساسي بدونه لا تتحقق أي تنمية حقة، وتظل عجلة البناء والتصنيع والتقدم والتقنية عجلة معطلة إلى حد بعيد. وخطأ أن نزعم أن تربية الكبار هذه ينبغي أن نبدأ بها بعد الانتهاء من تعليم الصغار، أي بعد إتاحة فرصة التعليم الإلزامي لجميع من هم في سن التعليم، وبالتالي بعد الانتهاء من القضاء على المنبع الأصلي للأمية، نعني المتخلفين عن التعليم من الصغار. فالغرضان في الواقع، نعني تعليم الصغار وتعليم الكبار، ينبغي أن يسيرا جنبا إلى جنب، وكل منهما يخدم الآخر كما بينا، كما أن أغراض كل منهما مباينة لأغراض الآخر.
(7) ومن بدهيات الأمور في النهاية أن نتحدث عن أهمية التخطيط من أجل هذا كله. فالتخطيط اليوم هو الترجمة العملية للعمل المبني على العلم. وأحوج ما نحتاج إليه أن نتقن العمل البعيد المدى وأن نجيد التخطيط لغدنا ونترك العمل كفافاً يوماً بيوم. إن معرفة المنطلق والمسير والمصير سبيلنا الأساسية إلى سائر أهدافنا. وأن الارتجال والأخذ بأسلوب النفس القصير داء الأدواء في نهجنا.
ولا بد أن نجاري في هذا الميدان روح العصر الحديث التي تفرض أن نعد لكل أمر عدته قبل حين. وأن نرسم أهدافنا ونرسم وسائل الوصول إليها قبل أمد. ولا بد أن نقول هذه الحقيقة المرة وهي أن التخطيط لخلق دولة إسرائيل منذ أكثر من نصف قرن (منذ أيام هرتزل وبيانه الشهير عام 1896) هو الذي يسر في النهاية خلق هذه الدولة الغاصبة.
والتخطيط الذي نرجوه لا يقتصر في الواقع على ميدان دون آخر، بل قوامه بالذات أن يكون تخطيطاً مترابطاً متكاملاً، نعني اقتصادياً واجتماعياً وتربوياً. فالخطة الاقتصادية ينبغي أن تكون متكاملة مع الخطة التربوية والاجتماعية، والعكس بالعكس. والتخطيط لا يبلغ مداه إلا إذا كان شاملاً. وما دمنا في ميدان التربية لا بد من القول أن الخطة التربوية ينبغي أن تقوم معظم أهدافها على أساس تلبية حاجات السوق الاقتصادية والاجتماعية من الخبراء والفنيين والاختصاصيين في شتى المجالات، وعلى أساس خدمة أغراض التنمية عن طريق إعداد الكفاءات الضرورية لها. وقد سبق أن أشرنا إلى ذلك.
إن التخطيط هو المساعد الحقيقي لكل هدف ولكل أيديولوجية. إنه هو الذي ينقل الهدف من مرحلة الشعار إلى مرحلة التطبيق، وهو الذي يجنب الأيديولوجية مخاطر اللفظية والمزاودة والتهور أو مخاطر التصلب والتجمد على حد سواء.
إنه هو الذي يرسم خارطة الواقع والممكن والمستحيل ويضع الأساليب الكفيلة بتحقيق ما يمكن تحقيقه. إنه هو الجدير بتحقيق أمنية شوقي:
لا تتركوا مستحيلا في استحالته
حتى يبين لكم عن وجه إمكان
والتخطيط التربوي خاصة – ونقول هذا مرة أخرى – خير عون لسواه، بوصفه يخطط من أجل إعداد أثمن عامل في أي تقدم وأي هدف، نعني العامل الإنساني.
ولكن هذا التخطيط بدوره ليس مجرد كلمة تقال أو لفظ مستحدث يجري على الألسن. إنه خبرة وفن ودراية. إنه بدوره في حاجة إلى تخطيط. وكثيراً ما نكتفي من التخطيط بالاسم، وكثيراً ما ينقلب التخطيط إلى نقيض الغاية المرجوة منه، عندما يكون تخطيطاً جاهلاً بالوسائل الفنية الحديثة، غير مدرك لمبادئ العمل في هذا المجال، وللتواصل بين التخطيط الاقتصادي والاجتماعي والتربوي بوجه خاص.
فقد يؤدي طغيان النظرة الاقتصادية الخالصة في التخطيط إلى مخاطر كبيرة، على رأسها أن ننسى – كما سبق أن قلنا – أن الاقتصاد مجعول من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل الاقتصاد، وأن الحرص على التنمية الاقتصادية لا يجوز أن يؤدي إلى استعباد الإنسان وإلى عبودية جديدة باسم الاقتصاد.
والعكس صحيح. فالخطة التربوية التي لا تضع على رأس أهدافها تلبية حاجات الاقتصاد تؤدي إلى شلل الثقافة وعجزها وتكوين مثقفين عاطلين و »إفساد« طبيعة الإنسان وتشويهها حين نفصله عن وظيفته الإنسانية الأصيلة، نعني كونه عاملاً وكونه إنساناً يشغل عملاً مفيداً في مجتمعه.
وفوق هذا وذاك لا يجوز أن ننسى أن هنالك أهدافاً اجتماعية للتخطيط، بدونها لا يفلح التخطيط الاقتصادي التربوي، فهنالك مفهوم العدالة وتحقيقها، وهنالك الطبقات الاجتماعية وضرورة القضاء عليها، وهنالك الرفاهية والصحة والسعادة إلخ… ولو صح أن نهمل الأهداف الاجتماعية لحق لنا أن نقول أن الوباء أو الأمراض قد تكون مفيدة من الوجهة الاقتصادية لأنها تخلصنا من عدد من الأفواه الجائعة. إن التقدم ليس مسألة اقتصادية وفنية فحسب، بل هو مسألة تطرح قضية الحضارة كلها، قضية الإنسان واحترامه وتوفير العدالة له وضمان رزقه وصحته وحمايته من الفئات الاجتماعية التي تهدد نموه بل وجوده أحياناً.
وقد بين باحث هو »آدم كورل Adam Curle « – نتيجة لتجربته كخبير اجتماعي في بعض بلدان أفريقيا وآسيا ولا سيما باكستان – أهمية العنصر الاجتماعي في تنمية هذه البلدان وضرورة تغيير البنية الاجتماعية كلها، تلك البنية التي تعرقل التطور. وأشار خاصة إلى الدور الذي تلعبه سيطرة مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية في التنمية الاقتصادية لتلك البلدان. كما وقف عند الصلة الوثيقة القائمة بين البنية الاجتماعية السياسية وبين الإنتاج. وانتهى من وراء ذلك كله إلى أهمية تربية الكبار وأهمية استخدام وسائل »تنمية المجتمع« وأهمية الديمقراطية في رفع مستوى تلك البلدان المتخلفة وفي تحقيق النمو الاقتصادي.
وهكذا فالمسألة »مسألة التخطيط« ليست اقتصادية ولا هي تربوية خالصة ولا هي اجتماعية، وإنما هي اقتصادية وتربوية واجتماعية معاً.
وما دمنا بصدد التخطيط في البلدان العربية خاصة، هذه البلدان التي تعتمد على الزراعة اعتماداً أساسياً والتي لا بد أن تنطلق من التنمية الزراعية من أجل الانطلاق نحو التصنيع، لا بد أن نولي اهتماماً خاصاً للتخطيط في ميدان الزراعة والإصلاح الزراعي. فالثروة التي تنجم عن رفع مستوى الزراعة ثروة لا بد منها للقفز نحو التصنيع ونحو المجتمع المصنع. وهذا ما حدث في البلدان المتقدمة نفسها، إذ كان نمو الثروة الزراعية منطلقاً أساسياً ساعد على انتهاج طريق التصنيع.
والمجال ليس مجال الحديث عن معالم الخطة الزراعية المنشودة، وحسبنا أن نذكر من قبيل المثال ما كان لتخطيط الزراعة في إسرائيل من دور كبير في التغلب على مشكلاتها الاقتصادية. وما أولته من عناية خاصة لمشكلة »التخطيط الزراعي المحلي« تبعاً للمناطق المختلفة.

خاتمة:
ولا شك أن خاتمة المطاف لهذه الأهداف كلها أن نقوى على تكوين الروح العربية الجديرة بخلق المجتمع العربي الموحد. فالهدف العربي هدف شامل من أهداف التربية يلم سائر الأهداف ويوحد بينها ويبرر وجودها.
ولا بد من الانطلاق دوماً وأبداً من هذه الحقيقة التي يؤكدها الواقع الحي ويجأر بها: وهي أن المصير العربي واحد وأن العمل له لابد أن يكون واحداً. قد تختلف سبل الوصول إلى هذا المصير العربي المشترك، وقد تكون هنالك صيغ عديدة لتكوين المجتمع العربي الموحد، وقد تتباين الأنظمة السياسية التي من شأنها تحقيق مثل هذه الوحدة. والذي يحكم على هذه الصيغة وعلى سبيل الوصول وطريق المصير الواحد هو الواقع العربي بمقوماته وإمكانياته والتطور الذي يمكن أن يحققه والخطوات التي يتقبلها كيانه. ولكن أصل الأصول يظل على أية حال أن سلاحنا الأكبر في معركتنا من أجل البناء الداخلي ومن أجل التغلب على العدو المشترك يظل دوماً وأبداً تكوين الجيل العربي انطلاقاً من ورح تربوية موحدة هي الجديرة بأن تطلق الروح العربية الموحدة والكيان العربي الموحد. فعلى الرغم من أن مقومات الوحدة وأصولها التاريخية والراهنة قائمة في البلاد العربية وأن الشعور المشترك بالوجود المشترك هو شعور الجماهير الغفيرة في البلاد العربية، يظل من الصحيح أن هذه المقومات وهذا الشعور لا تبني من تلقاء ذاتها الكيان العربي المنشود ولا تؤدي بضرب من الجبرية إلى بلوغ هذا المستقر. وهنالك دون شك فرق أساسي دوماً بين الأمة كوجود عفوي يملك بذور الوحدة ومقوماتها وبين الحركة القومية التي تعبئ قوى الوحدة الكامنة في الأمة وتغنيها وتهب لها مضمونها كي تنقلب إلى كيان واقعي سياسي. وليس المجال مجال الحديث عن وسائل تكوين الروح العربية الموحدة لدى جيلنا العربي، وهو موضوع طالما جاسه الرواد وطرقته الأقلام. غير أن الذي يعنينا أن نقف عنده ونؤكد عليه – ما دمنا في ميدان التربية – هو أن الوسائل المجدية للوصول إلى هذا الهدف العربي المنشود لا بد أن تنبع من الأهداف التربوية التي أشرنا إليها عبر هذه الكلمة. فالعمل العربي القادر حقا على خلق روح عربية موحدة راسخة لا بد أن ينطلق من الأساس العلمي، ولا بد أن يكون قوامه الإيمان بالعقل، وبالعقل المستقل، وبروح الحوار، وبالتخطيط وبسائر الأهداف التي أشرنا إليها. لا بد في عملنا لبناء الروح العربية الموحدة أن نغادر الأسلوب السحري العاطفي في العمل، وأن ننأى عن جعل هذا العمل تغنيا بالماضي والأجداد أوإيمانا بالقدرة الخارقة للأفراد والأفراد القلائل على تكوين المجتمع العربي المنشود. لا بد أن ندرك أن العمل العربي هو عمل كل فرد من أبناء الأمة العربية وأنه عمل يومي ومحسوس له قوامه وله عناصره وله خطته وما هو مجرد عبير نتنسمه في الهواء أو قدرة سحرية نعتقد أنها تنطلق انطلاق المارد الجبار. لا بد أن نحارب أسطورة البطل القادر وحده على أن يصنع كل شيء والمتحمل وحده أعباء المعركة، كما نغادر أسطورة الأيديولوجية الفارغة المتجمدة التي تكتفي من العقيدة بالشعار وتقيم انفصاماً بين هذه العقيدة وبين الواقع، وتحسب أن مجرد تقرير العقيدة يعني تطبيقها. وننسى الفرق الهائل بين رسم الأيديولوجية وبين رسم خطوات تنفيذها.
إن الجيل العربي الجديد القادر على بناء المجتمع العربي الموحد – أيا كانت صيغة هذه الوحدة – هو الجيل الذي يؤمن بالعلم لا بالمعجزات وبالعمل الدائب المخطط لا بالأمنيات.هو الجيل التقدمي الذي يدرك أن التقدمية بشتى عناصرها العلمية والفكرية والتقنية هي أداة تكوين المجتمع العربي المنشود. هو الجيل الذي يدرك أن التراث العربي لا بد أن يرتبط ويتصل بتراث القرن العشرين. هو الجيل الذي يعي هذه الحقيقة: وهي أن الحضارة العربية في أوج نهضتها كانت أولا وقبل كل شيء حضارة تعنى بالعلوم وبالعقل التجريبي وأنها هي التي أطلقت للعالم قبل »روجيه بيكون« و »فرنسيس بيكون« وغيرهما روح الاستقراء والتجربة العلمية والاستلقاء في أحضان الطبيعة للتنقيب فيها ومعرفتها ومعرفة قوانينها واستخدامها. وهذه الروح العلمية التجريبية التي أطلقتها الحضارة العربية – من دون حضارة اليونان وفارس وغيرهما – هي القمينة بأن تغذي الروح العربية من جديد بعد طول غفوة ورقاد وبأن تصل المجتمع العربي بمجتمع التقنية والآلة والصناعة، بمجتمع الإبداع الذي يستخرج أكثر فأكثر طاقات الإنسان ويسلطها على الكون ويتحدى بها الواقع.
إن الجيل الذي ينبغي أن ينبثق من قلب هذه النكسة المؤلمة ليصنع المستقبل المنشود هو جيل الإدراك العلمي لمضمون التغيير الاجتماعي والسياسي وأساليبه، لا جيل الشعارات الخاوية أو التصفيق المطمئن أو الإتكالية الكسولة. هو جيل الثورة على الديماغوجية وعلى سياسة المزاودة وعلى روح القطيع. جيل احترام الإنسان كإنسان، جيل الحوار والتفاعل بين الأفكار والقيم. هو الجيل المؤمن بالديمقراطية كأساس لكل نهضة، على أن يتحد فيها معنياها المرتبطان ارتباطاً عضوياً، نعني معنى الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية السياسية.
وعندما تضع التربية لنفسها هدفاً تكوين مثل هذا الجيل فإنها بذلك وحده تستطيع أن تطمئن إلى المستقبل لأن عملها يعني بالذات أنها أطلقت البذرة المنتجة لمجتمع قادر على أن ينمي نفسه بنفسه. بعد أن أطلقنا مارده الأكبر مارد الفخر الحر التقدمي القادر دوماً على مزيد من التفتح. إنها بذلك تشعل شرارة النمو القادرة على الاستمرار، وتغزل نسيج التنمية الذي يملك قدرة التحرك الذاتي والتراكم. فالمهم المهم ليس أن نخلق واحات من العمل التقدمي ومن مشروعات التنمية منثورة هنا وهناك وسط صحراء ترمقها شزراً بل خلق الوقود المحرك للمجتمع كله، القادر على أن يجعل هذا المجتمع مالكاً لمقومات الانطلاق المستمر والتقدم المتراكم. ولا يغفل مثل ذلك سوى الإنسان، سوى بناء العنصر الإنساني الذي أطلقنا لديه روح التفتح والعقل المبدع واليد الصَّناع والخبرة الفنية الذكية وروح الحوار والتفاعل وعقلية العمل الجماعي المشترك والتمرس بالنضال ومغالبة الواقع مغالبة علمية.
وبوجيز العبارة إن معركتنا هي قبل كل شيء معركة ضد التخلف بكل معانيه. ولئن كانت سمات التخلف معروفة أطال في وصفها الاقتصاديون وسواهم، فإن المهم أمران: أولهما تبين سمات التخلف وطبيعتها وأسبابها في بلادنا العربية، وثانيهما معرفة وسائل التغلب على سمات التخلف هذه، معرفة نقاط البداية من أجل كسر حلقة التخلف، معرفة الخطوات اللازمة وترتيبها ورسم الأولويات وإدراك ما هو أولى بأن يقدم وما هو قابل للتأخير والتأجيل. وإذا كنا نشير إلى الأمر الأول وهو معرفة أسباب التخلف في بلادنا لا في أي بلد فذلك لأن رأس عملنا في سبيل مجتمعنا المنشود لا بد أن ينطلق من الإيمان بكيانه الذاتي المستقل. وطريقنا الخاص إلى التغيير الاجتماعي والاقتصادي، ذلك الطريق الذي لا بد أن ينبثق من بنية واقعنا ومن حرصنا على الانبعاث بقوانا الذاتية قبل كل شيء، وإنكارنا لأي معركة سلاحها الأول لا يستمد من طاقات العرب أنفسهم، وتنكرنا بالتالي لأي معنى من معاني التبعية أياً كان نوعها ولإلقاء أعباء تقدمنا على سوانا. إن اللقاء بين التجارب العالمية والتعاون بينها من سمات العصر ما في ذلك ريب. ولكن اللقاء والتعاون لا يتخذان معناهما الحقيقي إلا إذا قام بين دول لكل منها كيانها الذاتي المميز واستقلالها الكريم. والكيان القادر على أن يقتدي بتجربة الآخرين هو الذي يملك أولا مقومات الكيان وأعصابه وشرايينه التي تستطيع أن تمتص أطعمة الآخرين ورفدهم. والكيان ينبغي أن يكون شيئاً كي يستطيع أن يتفاعل ويقتدي بتجربة سواه. وإذا كنا بعد ذلك نقف عند الأمر الثاني وهو رسم الأساليب ووضع الخطط والخطوات الكفيلة بالتغلب على تخلفنا، فذلك لأن من بدهي القول أن نذكر كرة أخرى أن الفكر والعمل ينبغي أن يتكاملا وأن الخطة العلمية الصحيحة هي بالتعريف وضع مجموعة من الأهداف ورسم السبل والتدابير اللازمة للوصول إلى تلك الأهداف.
هل يقول القارئ من جديد أن هذه الأهداف التربوية التي نجد فيها طريق خلاصنا أهداف تحتاج إلى نفس طويل ووقت مديد وجهد قد تنوء تحته الأكتاف؟ إن هذا ما نريده وما نقصد إليه. إننا نريد أن نؤكد مرة أخرى الإيمان بالعمل العميق وإن يبد طويلاً، وأن نؤكد ضرورة البدء من البداية الصحيحة. وهذا هو جوهر الانقلاب الجذري الذي ينبغي أن نحدثه في عقليتنا وأسلوبنا. إن المتعجل هو كالمنبت (لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى). وإن أجشع القوم أعجلهم. ولا بد أن نطلق طلاقا بائنا مبدأ » كل شيء أو لا شيء«، فهو المبدأ السحري بعينه… أن صاحب هذا المبدأ يريد أن يصل إلى كل شيء غدا وبين عشية وضحاها، كالطفل الذي لا يصبر على شراء دميته المحببة. وهو إذ لا يستطيع بلوغ ما ينشد وكل ما ينشد غداً أو بعد غد يكتفي بالنقمة والتبرم واليأس والضياع بدلاً من أن يحاول الوصول إلى هدفه من خلال عمل يومي متصل ونضال دائب طويل النفس يعد للأمر عدته بروح مطمئنة واثقة لأنها تدرك الطريق وترى العقبات وتناضل في سبيل قطع المسافات وتكسير الصعوبات.
ولعل خير شعار نتخذه شعار »لا فونتين« في قصته الشهيرة، نعني الأرنب والسلحفاة، حين قال: »تعجلوا ولكن بتؤدة وبشجاعة لا تعرف الكلل«. وهذا كله يفترض قيادة للمعركة تؤمن بهذه الأهداف ويترابط لديها الفكر الواعي بالعمل السياسي ويتفاعلان، بل يقود لديها الفكر السياسة وتغدو السياسة عندها جزءاً لا يتجزأ من الفكر في حال تحركه ونضجه واتضاح أهدافه. وإذا كان خير المفكرين ليس بالضرورة خير السياسيين فمن الحق أن السياسي لا بد أن يكون من المفكرين ولا بد أن يتحد لديه الفكر مع السياسة..
هذه صوى شتيتة حاولنا أن نزرعها هنا وهناك عبر طريق الخلاص. ولا سيما أن حديث النكسة حديث معقد لا بد أن تسهم في توضيحه عقول كثيرة وأفلام عديدة.
غير أن الذي لا مناص منه أن تبدأ الأقلام في أن تجوس أرض المعركة وتدرك أبعادها وتعمل شيئاً بعد شيء على توضيح معالم الطريق. الشيء الذي لا مناص منه خاصة بعد هذه النكسة الأليمة أن يقوم نقد جريء وإيجابي لأسباب النكسة يكون نقطة الانطلاق لتوضيح المعالم المحسوسة والتفصيلية للطريق الجديد. المهم أن لا يبقى الفكر بعد النكسة كما كان قبلها محجوب الضياء معطل القوى تابعاً لا مبدعاً مثقلا بإرهاب التيارات الديماغوجية التي تستغل الفساد الموجود وتتخذ منه سندها وقوتها، بدلاً من أن تقف بجرأة أمام هذا الفساد لتعالجه وتداويه شيئا بعد شيء، ولتجعل من التأييد اللاواعي تأييداً يندس فيه بالتدريج نور الوعي والفهم وتصلحه روح النقد والحوار والاستقلال والموضوعية التي علينا أن نبدأ ببثها بين الجماهير ولدى الأجيال الناشئة على أوسع نطاق ممكن. إن الجرأة الصادقة في تحليل تجاربنا مهمة مقدسة ينبغي أن يضطلع بها المفكرون في هذه المرحلة. وكل احتماء بالأساليب التقليدية القديمة وإصرار على معالجة الأمور بروح التعمية والغموض والدعاوة السطحية معناها أن يخون المفكرون فكرهم وقضيتهم وأن يؤثروا السلام على خوض المعركة، معركة المصير الذي يستصرخنا من الأعماق ويطلق صيحات الإغاثة المدوية.