ابن سيرين وعلم النفس الحديث

العربي – العدد /103/ – حزيران 1967

ابنُ سِيرين
وعِلْمُ النَّفْسِ الحَديث
بقلم: الدكتور عبد الله عبد الدائم

ما أشبه الليلة بالبارحة،
وما أشبه الذي كان عند فرويد،
بالذي كان قبله عند ابن سيرين

تحدثنا في مقالين سابقين(1) عن الإطار التاريخي لتأويل الأحلام عند العرب، وعن حقيقة ابن سيرين، وبيَّنا أنه لم يكتب في الواقع أي كتاب في تفسير الأحلام، بل نسب إليه المفسرون علمهم الجديد تقيَّةً وتوكيداً لشرعيته الدينية. وتحدثنا في مقال تلاه عن مبادئ تأويل الأحلام كما يراها ابن سيرين، وكما يراها المفسرون العرب جملة، وبيَّنا كيف ينهج هؤلاء المفسرون نهجاً يبعد تفسير الأحلام عن أن يكون مجرد ترجمة حرفية وقراءة حرفية لصور الحلم، ويجعل منه فناً قائماً بذاته يأخذ بعين الاعتبار ظروف الحالم وشخصيته ووضعه الاجتماعي وعمره وجنسه، كما يأخذ بعين الاعتبار جملة الظروف التي يجري فيها الحُلُم، ومن بينها الوقت الذي يجري فيه، ثم جملة الثقافة التي ينتسب إليها الحالم وما تتضمنه هذه الثقافة من أدب وشعر وأمثال سائرة وغير ذلك.
ونود في هذه الكلمة حول تفسير الأحلام عند العرب أن نعقد مقارنة أوضح بين نهج ابن سيرين والمفسرين العرب، وبين نهج المُحدَثين من علماء النفس وعلى رأسهم «فرويد Freud». ولا نريد في هذا أن نحمِّل الأمور فوق طباعها وأن نفسر الأشياء قسراً ونعتصر الأدلة اعتصاراً لنثبت بأي ثمن أن ابن سيرين ومن صحبه من المفسرين العرب كانوا السابقين في هذا الميدان والمرهصين الأوائل بالحقائق التي كشف عنها علم النفس الحديث. فمثل هذا الأسلوب من البحث لا يعنينا ولا نقره. والطريقة العلمية في دراسة التراث العربي وأي تراث لابد أن تكون موضوعية هادئة.
ونستطيع أن نقول منذ البداية أن بعض الأفكار الحديثة التي نجدها لدى علماء النفس المُحدَثين ولدى فرويد حول الأحلام نجدها مبثوثة هنا وهناك في كتاب ابن سيرين وكتب المفسرين العرب، دون أن تكون من الوضوح بحيث تكون نظرية مُبيَّتة. وهي في معظم الأحيان نُتَف أو أقوال عابرة، غير أنها تفصح في الجملة عن نظرة صحيحة إلى الحلم ومعناه ومنهج تفسيره.
ونورد فيما يلي بكثير من الإيجاز أهم الجوانب العلمية التي نجدها عند ابن سيرين وصحبه والتي يلتقي فيها مع حقائق علم النفس الحديث وأبحاث فرويد:
1 – طرق عديدة في تفسير الأحلام ولجوء إلى الحالم نفسه:
رأينا في المقال السابق كيف يلجأ ابن سيرين إلى جمع عدة طرق في تأويل الحلُم ولا يكتفي بطريقة واحدة. ورأينا خاصة أنه يقيم كبير وزن لتأويل الحالم نفسه لحلمه. وفي هذا يلتقي مع أسلوب علم النفس الحديث الذي يود أن يبتعد عن مجرد الترجمة الحرفية لصور الحلم، ليأخذ الحلم في كامل إطاره وكامل معناه، وليجعل الحالم هو الذي يقوم بتفسير حلمه إلى حد كبير. وقد جعل فرويد من اعتماده على تأويل الحالم نفسه لحلمه طابعاً مميزاً له عن تأويلات الأحلام القديمة. وفي هذا يقول: «إن الأسلوب الفني الذي سوف أعرضه في الصفحات التالية يختلف اختلافاً جوهرياً عن أسلوب القُدامَى في كونه يُوكل إلى الحالم نفسه أمر تفسير حلمه. إنه يُعنَى بما يوحيه عنصرٌ من عناصر الحلم إلى الحالم نفسه لا إلى المفسر». وقد رأينا أن ما يدعوه فرويد هنا بالأسلوب الجديد الذي يميزه عن القدامى هو بعينه أحد الأساليب التي وقف عندها ابن سيرين والمفسرون العرب حين ألحفوا في أهمية إدراك الحالم لحلمه وأهمية «ضمير» الحالم وما يشعر به أثناء الحلم، وأهمية الحال الانفعالية التي يكون عليها أثناء الحلم، وحين بينوا أهمية الكشف عن شخصية الحالم وأوضاعه، بل حين لجأوا أحياناً – كما سبق أن ذكرنا – إلى أن يطلبوا من الحالم نفسه تفسير حلمه كاملاً. وقد انتبه «فرويد» إلى هذه الحقيقة عابراً حين روى على لسان أحد المبشرين أنه ذكر له أن مفسري الأحلام المُحدَثين في الشرق يلجأون إلى حد كبير إلى إشراك الحالم في تفسير الحلم.
2 – أثر الإحساسات الداخلية والخارجية في نشأة الحلم:
يبين ابن سيرين والمفسرون العرب، كما يبيّن فرويد ومن قبله مورى Maury وسائر علماء النفس المحدثين أثر الإحساسات الداخلية والخارجية التي يتلقاها الحالم في تكوين صور الحلم. فحواس الحالم تظل مستيقظة تتلقى المؤثرات الخارجية، وأعضاؤه الداخلية تعاني إحساسات معينة، وهذه الإحساسات جميعها تكون منطلقاً لبعض صور الحلم. وقد وقف ابن سيرين وصحبه عند هذا الوجه من أوجه تفسير الحلم – نعني تفسيره بالإحساسات الداخلية والخارجية – عند حديثهم عن أصناف الأحلام. فهم يقسمونها إلى أحلام باطلة وأحلام صادقة. ويضعون بين الأحلام الباطلة والأحلام الراجعة إلى وضع الجسد أو إلى حال المعدة والهضم وسائر الأعضاء. ونجد عند معظم المفسرين العرب أمثلة كثيرة عن أحلام سببتها الإحساسات الجسدية، تذكرنا في كثير من الأحيان بأحلام مورى Maury الشهيرة.
3 – الطبع والمزاج وأثرهما في الأحلام:
وفي تصنيفهم للأحلام يتحدث المفسرون العرب عن الأحلام الراجعة إلى المزاج، ويفصلون القول في ذلك مبينين أثر المزاج والطبع في الحلم، ملتقين في ذلك مع الأبحاث الحديثة. هكذا يحدثنا هؤلاء المفسرون العرب عن الأحلام الراجعة إلى الأمزجة والطباع عندما تفسد. فذو المزاج الرطب تكثر رؤيته في المنام للألوان الحمراء والأفراح والأعراس والأطعمة الحلوة. وذو المِرَّة الصفراء يحلم غالباً بالنار والصواعق والحروب والأشياء الصفراء. والذي يغلب عليه المزاج البارد يحلم كثيراً بالثلج والطقس البارد وبما يتمنى. وصاحب المزاج السوداوي يرى في الغالب الظلمة والمخاوف وكل ما هو مرعب وصاحب المزاج الحار يرى السموم والشمس والحمامات. وصاحب المزاج الجاف يحلم بالطيران وبتمزيق الثياب وبنتف الشعر. وذو المزاج المعتدل يحلم غالباً بالترف والأطعمة اللذيذة والألبسة الفاخرة.
وما نود الحديث ههنا عن تصنيف العرب للأمزجة – ذلك التصنيف الذي استندوا فيه إلى تصنيف «أبُقراط» خاصة – وحسبنا أن نبين كيف جعلوا الأمزجة والطباع من بين العناصر التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار عند تفسير الأحلام. وفي هذا يلتقون مع الدراسات النفسية الحديثة التي تظهر أهمية الطباع ونماذج الطبع في رؤى الحلم.
ويضيف ابن سيرين وصحبه إلى هذا الجانب جانباً ملحقاً به وهو أثر المرض في رؤية الأحلام، كما يفعل المحدثون من علماء النفس أيضاً، لا سيما حين يبينون الصلة بين الأحلام وبين بعض الأمراض النفسية فضلاً عن الأمراض الجسدية.
ويمكن أن نربط بهذا كله ما يراه ابن سيرين والمفسرون العرب من أثر الوقت وفصول السنة على الحلم. فهم يفسرون الأحلام – كما سبق أن رأينا – تفسيراً مختلفاً باختلاف الوقت الذي يرى فيها. ويرجع ذلك فيما يرجع إلى اختلاف الأزمنة والفصول، وإلى اختلاف الأحلام بالتالي باختلاف الهواء والتربة والماء، كما يبين أحد مفسري العرب خاصة (صاحب كتاب الذخيرة وكشف التوقيع لأهل البصيرة).
4- الرغبة اللاشعورية المكبوتة والحلم:
ولا شك أن أهم فكرة أتى بها المحدثون من علماء النفس – ولا سيما فرويد – هي صدور الحلم عن رغبة لاشعورية مكبوتة وتعبيره المقنع بالتالي عن هذه الرغبة. ومثل هذه النظرية المعلِّلة الكاملة التي نجدها عند فرويد خاصة لا نجد ما يشبهها دون شك عند مثل ابن سيرين. غير أن المفسرين العرب لم يهملوها تماماً، وأشاروا إليها لماماً وعرضوا لها عابرين:
ففي تصنيفهم للأحلام الباطلة يتحدثون عن الأحلام التي ترجع إلى «التمني» وإلى هموم الحالم ومشاغله ورغباته، والتي هي «حديث النفس» كما يقولون. بل هم يضعون بين الوصايا التي ينبغي أن يراعيها الحالم قبل ذهابه إلى الفراش – كي يحصل على أحلام صادقة – ألا ينام وفي ذهنه أفكار تشغله أو رغبة في شيء من الأشياء. ومما نجده في كتاب ابن سيرين المنسوب إليه أن على المفسر أن يسأل الحالم عن أهم شيء شغله الليلة، وعما يرغب ويخاف.
ويشير فرويد نفسه إلى عناية القُدامى برد الحلم إلى الرغبة، حين يبين في كتابه الشهير عن تأويل الأحلام أنه لا يزعم لنفسه أنه أول من رأى في الرغبة أصل الحلم. ذلك أن أصولاً قديمة لهذه النظرة، كما يقول، نقع عليها لدى أمثال، هيروفيل Herophile طبيب بطليموس الأول. وهذه الأصول – كما يبين – هي ما نجده من تصنيف للأحلام لدى هذا الطبيب القديم. فهو يقسم الأحلام أقساماً ثلاثة: «الأحلام التي تأتي من الآلهة، والأحلام التي تولد عندما تكوِّن النفس فكرة عما سيحدث لها من خير وعما سيجري، والأحلام المختلطة التي تولد من نفسها عن طريق تراصف الصور، وذلك حينما نرى ما نرغب فيه». وهذا التصنيف الذي يشير إليه فرويد عند هيروفيل نجده بعينه مع مزيد من التفصيل عند المفسرين العرب.
ولا يتسع المجال للإتيان بأمثلة عديدة من الكتاب المنسوب إلى ابن سيرين، تشهد جميعها على ما أعطاه المفسرون العرب من دور للرغبة في تفسيرهم لبعض الأحلام.
بل إنهم ذهبوا أبعد من هذا، فربطوا في معظم الأحيان بين الرغبة وبين الدوافع الجنسية، ولهذا نجد القسم الأكبر من تفسيراتهم الجنسية منزلة كبرى، كما نجد العديد من الرموز تفسر تفسيراً جنسياً (صعود أعلى الشجرة، سقي البستان، حرث الأرض، السقوط من مئذنة، الخ..) وهذا ما يلجأ إليه فرويد خاصة، حيث يكشف في معظم الأحيان عن الرغبات الجنسية اللاشعورية الثاوية وراء بعض الأحلام وعن المعاني الجنسية لكثير من الرموز.

5- الرغبات الملتبسة والأحلام:
بل إننا نجد بعض أوجه الشبه بين بعض الأفكار المُحدَثة جداً حول الحلم – لدى فرويد وغيره – وبين تفسيرات ابن سيرين وصحبه. ونقصد بتلك الأفكار، تفسير بعض الأحلام بالرغبات الملتبسة والمشاعر المختلطة المزدوجة. فكثيراً ما يكون السبب في رؤية بعض الأحلام الشعور الملتبس المزدوج ذو الوجهين الذي يحمله الحالم لموضوع الرؤيا، لصديق أو أخ أو ميت. فهو يحبه ويكرهه في آن واحد، أو هو يضمر كرهاً لا يستطيع أن يبوح به لأنه يتنافى مع التقاليد الاجتماعية.
ومثل هذا التفسير عن طريق المشاعر الملتبسة المزدوجة نجد نظائر له عند ابن سيرين وصحبه. هكذا نجدهم يحدثوننا عن السارق في الحلم، فيرون أنه يعني الضيف. ومرد ذلك إلى شعورنا المزدوج تجاه الضيف، فنحن نكرمه، غير أننا في بعض الأحيان نضيق به ذرعاً دون أن نبوح بذلك حتى لأنفسنا. وهكذا يغتنم هذا الشعور الملتبس تجاه الضيف الفرصة ليظهر في الحلم، فيتبدى الضيف في صورة مقنعة، هي صورة السارق، الذي سرق صاحب البيت زاده وماله.
6- الرموز المشتركة في الأحلام:
وهنالك جوانب لقاء عديدة بين ابن سيرين وصحبه وبين فرويد والمُحدَثين نجدها مبعثرة هنا وهناك، ولا سبيل إلى الوقوف عندها في هذا المجال، وحسبنا أن نذكر أننا نجد أوجه شبه ولقاء بين الرموز التي يشير إليها «فرويد» حين يبين معاني بعض الصور في الحلم ويبين وجود نوع من اللغة الرمزية الشاملة للحلم، وبين الرموز التي يلجأ إليها ابن سيرين. فهنالك رموز جمعية مشتركة بين أبناء ثقافة معينة وهنالك رموز مشتركة بين بني الإنسانية جميعاً، يقف عندها فرويد كما يشير ابن سيرين إلى العديد منها. وهنالك أحلام يدعوها فرويد بالأحلام النموذجية نجدها لدى جميع الناس، أشار إليها ابن سيرين أيضاً. هكذا يجمع فرويد بعض الرموز الشاملة الشائعة لدى جميع الناس، فيبين مثلاً أن الملك والملكة يعنيان الأب والأم، وأن جميع الأشياء التي صنعت لتحتوي شيئاً أو تخبئ شيئاً ترمز إلى المرأة الخ.. وإذا قارنا هذه الرموز الشاملة التي يتحدث عنها فرويد بالرموز التي نجدها عند ابن سيرين وصحبه نجد شبهاً عجيباً. الأمر الذي يدل على شيئين: أولهما اكتشاف ابن سيرين لوجود رموز إنسانية مشتركة، والثاني وجود هذه الرموز العالمية فعلاً بسبب هذا اللقاء العجيب بين فرويد وابن سيرين حول تفسيرها.
وبعد، هذه نظرة سريعة جداً إلى أهم جوانب اللقاء بين المفسرين العرب وبين علماء النفس المحدثين وعلى رأسهم فرويد، وقد أغفلنا الكثير من التفصيلات والكثير من الشواهد والأمثلة لضيق الوقت. على أن ما أتينا يصلح – في رأينا – منطلقاً لدراسة أعمق وأدق لتأويل الأحلام عند العرب على ضوء علم النفس الحديث ولدراسة أوسع وأشمل لتراث العرب النفسي. وكل ما نرجوه أن تستطيع هذه الدراسة وسواها كشف التراث العربي كشفاً علمياً حديثاً، وترجمته إلى لغة العلم الحديث، وتحقيق بعض الخطوات في طريق الربط العميق بين ثقافة العرب الأصيلة وبين حصاد التجربة العالمية.
عبد الله عبد الدائم