بين التخلف الاقتصادي والثقافي والاجتماعي في الدول النامية

مجلة الوعي الباكستانية – العدد الأول – شباط 1967
الصادرة عن قسم الصحافة في سفارة باكستان ببيروت

بين التخلف الاقتصادي والثقافي والاجتماعي في البلدان السائرة بطريق النمو

بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم

ليس جديداً أن نقول أن قرننا هذا قرن التنمية، وأن هذه التنمية غدت الشغل الشاغل للإنسان في كل عصر. ولا نغلو إن وكدنا أن البحث عن أسرع وسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية وأجداها، هو المسؤول عن كثير من الثورات والتقلبات السياسية التي تتفجر هنا وهناك على وجه البسيطة.
وكلنا يعلم الجهود المختلفة التي تبذل من أجل هذه الغاية، سواء على صعيد كل بلد أو على الصعيد العالمي. وحسبنا أن نذكر تلك الجهود الشاملة التي أرادت أن تقوم بها هيئة الأمم المتحدة، خلال السنوات العشر الممتدة بين عام 1960 وعام 1970، والتي أطلق عليها اسم ثورات التنمية العشر للأمم المتحدة. وهدف هذه الجهود كما نعلم تحقيق تنمية سريعة في البلدان المتخلفة تهدف إلى ردم الهوة الهائلة القائمة بين هذه البلدان والبلدان المتقدمة، تحقق للأولى ما هي في أمس الحاجة إليه من شروط إنسانية لائقة ومستوى من العيش كريم.
وليس القصد في هذه الكلمة أن نبحث في هذه الفوارق القائمة بين البلدان المتقدمة والمتخلفة. ولعله يكفينا، في معرض التقديم لموضوعنا الأصلي، أن نذكر أن ثلثي سكان العالم يعيشون في أقل مناطقه تقدماً ولا يصيبهم من الدخل العالمي إلا سدسه، وإن متوسط دخل الفرد في هذه المناطق – كما يدل على ذلك إحصاء عام 1962 – لا يجاوز 135 دولاراً في السنة، بينما يبلغ دخل الفرد السنوي في بلدان أميركا الشمالية حوالي 2845 دولاراً. ويكفينا أن نذكر أن معدل الوفيات في البلدان المتخلفة ما يزال مرتفعاً وإن وفيات الأطفال خاصة واسعة الانتشار، وإننا نجد طبيباً لكل ستة آلاف شخص في مثل الهند وطبيباً لكل 32 ألف شخص في مثل أفغانستان، وطبيباً لكل 39 ألف شخص في مثل مالي وطبيباً لكل 96 ألف شخص في مثل الحبشة، بينما نجد طبيباً لكل ألف شخص في البلدان المتقدمة في أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية والاتحاد السوفياتي.
وليس المجال هنا مجال الحديث عن مظاهر التخلف المختلفة التي تعم معظم سكان الأرض، وعن عوامل هذا التخلف العديدة. والأمثلة القليلة التي أتينا بها طرف من أمثلة عديدة تشهد بأهمية التنمية السريعة لدى الكثرة الكاثرة من بلدان الأرض.
ومن هنا قامت الجهود تتري من أجل تحقيق هذه التنمية، وشمرت معظم الدول عن ساعد الجد في سبيل هذا الهدف الحيوي الكبير.
وليس يعنينا أن نبحث في أوجه هذه الجهود وجوانبها، بمقدار ما يعنينا أن نقف عند مسألة تبدت خلال المعركة، وأصبح لها شأنها الأكبر في سياسة التنمية أنى كانت، نعني أهمية الربط – خلال الرحلة الطويلة إلى التنمية – بين جوانبها الاقتصادية وجوانبها الاجتماعية والتربوية، وضرورة اعتبار التنمية كلاً لا يتجزأ ووحدة لا تنفصم لها قطبها الاقتصادي وقطبها الاجتماعي وقطبها التربوي.
أما الربط بين الجوانب الاقتصادية والجوانب التربوية فقد غدا موضوع دراسات متوالدة متكاثرة بينت بوضوح أن التنمية الاقتصادية لا يمكن أن تصل إلى كامل مداها ما لم تسر التنمية التربوية معها جنباً إلى جنب، وإن التخطيط الاقتصادي لا يبلغ منتهاه إلا إذا قام في صلبه تخطيط تربوي يعد الطاقة العاملة الخبيرة اللازمة لتسيير عجلة الاقتصاد ويكون الاتجاهات النفسية والعقلية اللازمة لتقبل النمو وتقبل التجديد والتغيير. وقد قامت لهذه الغاية دراسات عديدة – لا مجال إلى ذكرها – تحدثت فيما تحدثت عن اثر التربية في نمو الدخل القومي بل قاست هذا الأثر، وانتهت إلى تلك النتيجة التي غدت مكرورة: وهي أن الأموال التي تنفق في سبيل التربية ليست أموالاً تستهلك في سبيل خدمة الفرد فحسب، وإنما هي قبل هذا وأكثر من هذا استثمار Investment وتوظيف مثمر لرؤوس الأموال، يؤدي إلى ربح يفوق الربح الذي نجنيه من أي مشروع استثماري في الصناعة أو الزراعة أو التجارة..
هذه النتيجة التي خلصت إليها الدراسات الاقتصادية كانت من أهم الأسباب التي دفعت إلى العناية بالتخطيط التربوي ووضع الخطط التربوية في كثير من بلدان العالم.
وليس هدفنا ههنا أن نتحدث عن هذا التواصل الذي قام بين التنمية الاقتصادية والتنمية التربوية. والذي يعنينا في هذه الكلمة أن نتحدث عن الوجه الثاني للموضوع – لأنه المهمل غالباً – نعني ضرورة الربط بين التنمية الاقتصادية والتنمية الاجتماعية، بالإضافة إلى الربط بين الأولى وبين التنمية التربوية.
فعلى الرغم من قيام الكثير من الدراسات التي تشير إلى أهمية تحقيق التوازن بين التنمية التربوية والتنمية الاجتماعية، ما تزال العناية بالعامل الاجتماعي في التنمية مقصرة عما ينبغي لها. وهذه العناية في نظرنا جوهر الأمر وبيت القصيد في البلدان المتخلفة والسائرة في طريق النمو. وليس يكفي – فيما نرى – أن نتوقف طويلاً كما يفعل معظم الباحثين عند ارتباط التنمية الاقتصادية بإعداد الطاقة العاملة الخبيرة وبالتربية بالتالي، بل لا بد أن ننظر إلى البنية الاجتماعية كاملة، تلك البنية التي تلعب الدور الأكبر في تأخير عملية التنمية في البلد المتخلف. فالفروق الاجتماعية الطبقية، ووجود نظام معين من الطبقات ووجود طبقات اجتماعية مسيطرة، والجمود القائم في حياة المجتمع وتقاليده، وضعف العدالة الاجتماعية، وغياب العلاقات الإنسانية السليمة، وطغيان بعض النظم السياسية الأتوقراطية، وكثير من مظاهر التخلف الاجتماعي الأخرى، كلها أمور تلعب دوراً هاماً في تأخير عجلة التنمية الاقتصادية ولا بد أن توجه عناية خاصة بها.
فالمجتمعات المتخلفة تتصف أولاً وقبل كل شيء بأنها مجتمعات جامدة ساكنة، ويرجع هذا الجمود عندها إلى عوامل اجتماعية عديدة، ترتبط بدون شك بالعوامل الاقتصادية ولكنها تربو عليها وتزيد. ولا بد في التنمية الصحيحة والانطلاقة السليمة نحو التنمية في هذه البلدان من أن تتخذ التدابير اللازمة لإزالة عوامل الجمود هذه في البنية الاجتماعية الكلية، فضلاً عن التدابير الاقتصادية الخالصة والتدابير المتصلة بإعداد الطاقة العاملة وسواها. وهنالك صلة لا نستطيع أن ننكرها بين النتاج الاقتصادي في بلد من البلدان وبين جملة من العوامل الاجتماعية من مثل الصلة بين مقدار النتاج الاقتصادي وبين البنية السياسية (من ديمقراطية إلى دكتاتورية إلى أوتوقراطية إلى أوليغارشية إلى غيرها)، وبينه وبين بعض المواقف والاتجاهات النفسية الاجتماعية كالخوف والقلق واليأس (المنتشر في معظم البلدان المتخلفة) والإحجام عن التجديد وعن تغيير وسائل الإنتاج وأدواته، وبينه وبين طائفة واسعة من العوامل الاجتماعية البنيوية المتصلة بالسكان وببنيتهم الطبقية ووجود بعض الفئات الاجتماعية التي تمارس ضغطاً، ثم بينه وبين طائفة من العوامل الاجتماعية التي تمارس ضغطاً، ثم بينه وبين طائفة من العوامل الاجتماعية الثقافية كنظرة الناس إلى الحياة واتجاهاتهم ومواقفهم ومثلهم العليا ومنازعهم.
جملة القول في هذا أن المحرك الأول للتنمية يرتبط بالتغير الاجتماعي الذي نستطيع أن نحدثه في حياة شعب من الشعوب قبل أن يرتبط بالتغير الاقتصادي الخالص. والتغير الاقتصادي نفسه لا يمكن أن يجدي ما لم يصحبه تغير اجتماعي، بالإضافة إلى التغير الثقافي والتربوي. وقد حاول باحث حديث هو: آدم كورل، أن يدرس هذا الأمر دراسة مشخصة من خلال التجربة التي أصابها في بعض بلدان آسيا وإفريقيا، ولاسيما تجربته في باكستان حيث عمل مستشاراً اجتماعياً للجنة التخطيط فيها. وكان حصاد تجربته هذه كتاباً شهيراً ظهر عام 1963 يحمل عنوان «السياسة التربوية للمجتمعات النامية». وانتهى في دراسته هذه إلى توكيد الأسس الاجتماعية للتنمية وبيان دورها الأساسي، ووقف وقفات خاصة عند بعض المشكلات الخاصة ببعض الفئات الاجتماعية في «باكستان» مبيناً ما لهذه المشكلات من انعكاسات على التنمية الاقتصادية مظهراً دورها كمقومات لهذه التنمية. وقد ذكر في هذا المجال جماعة «شيترال» التي تسكن أقصى الشمال من باكستان، وقبائل «باثان» التي تعد حوالي أربعة ملايين شخص وجماعة «براهوي» في مقاطعة بلوجستان، وجماعة «شاكماس» في شرقي الباكستان. وبيَّن لدى هذه الجماعات كلها أثر البنية الاجتماعية المتخلفة في التخلف الاقتصادي.
على أن من الهام أن نذكر أن هذه العوامل الاجتماعية التي تلعب دوراً أساسياً في التنمية وثيقة الارتباط بدورها بالعوامل الثقافية التربوية. وكما أن التنمية الاقتصادية لا تكتمل بدون التنمية التربوية والتنمية الاجتماعية، كذلك لا تكتمل التنمية الاجتماعية بدون التنمية التربوية الثقافية. وهكذا نعود فنجد أنفسنا من جديد أمام عمل موحد في ميدان التنمية وأمام موقف كلي شامل له وجهه الاقتصادي ووجهه التربوي ووجهه الاجتماعي.
ذلك أن التنمية الاجتماعية لا تتم إلا بالقضاء على البنية التقليدية وعلى عوامل الجمود في هذه البنية. ولا يكون ذلك إلا عن طريق العناية بالإنسان وتثقيفه ورفع مستوى وعيه، بحيث يصبح راغباً في إحداث التغيير المنشود، قادراً عليه، وبحيث تتكون بفضل الثقافة تلك «الطبقة الجديدة» التي يهب لها مثل «آدم كورل» دوراً أساسياً في تحقيق التنمية الاجتماعية. وهذه الطبقة الجديدة هي الطبقة الوسطى المتحررة من ضغط البنية الاجتماعية التقليدية القادرة على إشاعة روح الابتكار والتجديد – بفضل ما أصابته من ثقافة ووعي.
ومجمل هذا كله أن التنمية الاقتصادية إذا جردناها من محتواها الإنساني – أي من محتواها الاجتماعي والتربوي – كانت عملاً باطلاً، وأن هذه التنمية لا تأخذ مجراها إلا إذا خلقنا ظروفاً جديدة يستطيع الناس أن يعملوا فيها، وإلا إذا أدركنا أن «الرجال أعظم شأناً من المال» وأن تغيير الإنسان وظروفه الاجتماعية هو القوة التي تخلق الثروة وتطلق شرارتها وهو الطاقة التي تفجر النمو وتجعله قادراً على الاستمرار. وتغيير الإنسان عمل قوامه تغيير أوضاعه الاجتماعية ورفع وعيه الثقافي في آن واحد. ولا يجدي فيه أن نُعنى بتربيته وحدها دون أن نشفع ذلك بالتغيير اللازم في أوضاعه الاجتماعية، كما لا يجدي أن نعني بتغيير أوضاعه الاجتماعية دون أن ندرك أن هذا التغيير يغدو ميسراً وممكناً عندما نحقق له المستوى الثقافي المرجو ونخلق لديه بفضل الثقافة الرغبة في التجديد والقدرة على التكيف مع الأوضاع الجديدة وروح الابتكار والإبداع.
لقد بحث الباحثون منذ أيام آدم سميث عن «أسباب ثروة الشعوب» وعن العوامل الأساسية التي تدفع إلى النمو الاقتصادي لبلد من البلدان. وقيلت في هذا نظريات عديدة وكتبت مجلدات وصفحات طويلة. فذكر «سميث» في كتابه الشهير عن «طبيعة ثروة الشعوب وأسبابها» أن هذه الثروة ترجع أول ما ترجع إلى تقسيم العمل. ثم قامت دراسات أمثال «بيتي» و«فيشر» و«كلارك» فبين أوّلهم أن العامل الأساسي في الثروة هو إعادة توزيع الطاقة العاملة على مختلف قطاعات النشاطات الاقتصادي توزيعاً سليماً. (ويعني بالقطاعات قطاع الزراعة وقطاع الصناعة وقطاع الخدمات) ويبين «فيشر» خاصة ومن بعده «كلارك» أن ازدهار شعب من الشعوب لا يرتبط بتقسيم العمل فحسب، كما لا يرتبط بمجرد توزيع الطاقة العاملة على قطاعات النشاط الثلاثة، وإنما يرتبط أولاً وقبل كل شيء بمدى قدرة شعب من الشعوب على تحقيق التكيف اللازم والسرعة اللازمة اللذين يقتضيهما الانتقال في الوقت المناسب، من الإنتاج المعتمد على القطاع الأول – قطاع الزراعة – إلى الإنتاج المعتمد على القطاع الثاني – قطاع الصناعة – والقطاع الثالث – قطاع الخدمات، دون أن يوقفه عن تحقيق هذا التحول خوف أو أنانية أو روتين.
ومثل هذه القدرة على التكيف والانتقال السريع في الوقت المناسب من شكل من أشكال الإنتاج إلى شكل آخر تستلزم أول ما تستلزم مستوى ثقافياً ييسر التكيف والتجديد وبنية اجتماعية استطاعت أن تتحرر من إرهاب الجمود وتنضو عنها عوائق التقدم. وإلى هذه القدرة على التكيف والتجديد يرد مؤرخو الاقتصاد النمو الاقتصادي الذي تم في الدانمارك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حين تم الانتقال من إنتاج يعتمد على زراعة القمح إلى إنتاج يعتمد على تربية الحيوانات وصناعة الألبان. وإليها أيضاً يردون تلك الثورة الاقتصادية الهائلة التي تأتت لليابان منذ أواخر القرن التاسع عشر، أيام وثبتها الشهيرة. وهم يرجعون السبب في الحالين إلى انتشار الثقافة منذ طور مبكر في الدانمارك (بفضل انتشار الجامعات الشعبية خاصة) وفي اليابان (بفضل تعميم التعليم الإلزامي).
ومعنى هذا في خاتمة المطاف أن أهم عامل في التنمية الاقتصادي وفي ثروة الشعوب هو العامل الاجتماعي – الثقافي وتغيير البنية الاجتماعية – الثقافية، ذلك التغيير الذي ترتبط به قدرة الإنسان على التجديد ورغبته في الخروج من إهاب الجمود.