سلسلة الوجود الكبرى

الآداب – العدد الأول – كانون الثاني /يناير/ 1967
«سِلسِلة الوجوُد الكبرى»
بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم
كثيراً ما يشعر القارئ لتاريخ الفكر الفلسفي والمنقب في مذاهب الفلاسفة، بأن ضرباً من الوحدة «الجبرية» يملي نفسه على ذلك التاريخ وتلك المذاهب، وأن مشكلات واحدة بل منطلقات واحدة لمعالجة هذه المشكلات تكاد تفرض نفسها على هؤلاء الفلاسفة، مهما تباينت منازعهم واختلفت في الظاهر أنظارهم.
وإذا أردنا التعبير عن هذا الشعور تعبيراً أوضح قلنا إن ثمة تراثاً فلسفياً – يرجع إلى التراث اليوناني خاصة – فرض نفسه سلباً وإيجاباً على الفلاسفة في كل عصر ومصر، وألزمهم بمعالجة الأمور بدءاً من إطار معين وجعلهم يدورون في حلقته وينطلقون من موضوعاته وبديهياته ومقولاته، سواء قادتهم دراساتهم إلى تأييدها أو إلى دحضها.
فكأن تاريخ الفلسفة أمام «لازمة» لابد منها، وأمام «دور» كدور الغناء وأمام لحن واحد أصيل كاللحن الموجه للسيمفونية، تصحبه ألحان هي منه وله.
قد يقال أن هذه الظاهرة أعمق شاهد على عراقة الفلسفة وأصالتها وطرحها دوماً وأبداً مشكلات واحدة تنبئ عن أزمة الإنسان الأزلية ومصيره الأبدي.
وهذا قول يشتمل على جانب من الصحة. غير أن من الصحيح كذلك أن نقول أن الفلسفة الأولى – فلسفة يونان وأفلاطون وأرسطو – منحت الفلسفة في شتى العصور سماتها وقسماتها، وحفرت لها أقنيتها وشقت أمامها سبلها، بل أرغمتها على دروب لم تستطع أن تغادرها، وضمخت إناء الفلسفة منذ القديم بعطر أبدي خالد.
وبقول موجز من الصحيح أن نردد مع هوايتهد أن تاريخ الفلسفة ما هو إلا سلسلة من «الحواشي الطويلة على أفلاطون».
تاريخ الأفكار:
والكتاب الذي بين يدينا(1) خير تجسيد لهذه الحقيقة. ومؤلفه ينزع منزعاً خاصاً يجعل من دراسة الأصول الكبرى للمذاهب الفلسفية فلسفة له ومنهجاً. وهو فيما يقول لابد أن يؤرخ للفلسفة بمقدار ما يريد أن يؤرخ للأفكار الكبرى أو للوحدات الفكرية الأساسية التي فرضت نفسها على تاريخ الفلسفة. فهنالك عدد محدود – ومحدود أكثر مما نتصور – من الفكر الفلسفية الأصيلة هي التي تظهر على المسرح في شتى العصور، وحولها تدور المذاهب ومن التأليف بينها تأليفات متباينة تكون المدارس والنظريات.
ولهذا ينادي «لفجوي» بضرورة دراسة هذه الأفكار الأصيلة إذا أردنا أن نفهم تطور الأفكار في مختلف العصور. ويحلو له أن يشبه نهجه هذا في تاريخ الأفكار بنهج الكيمياء التحليلية. فكما أن هذه الكيمياء تلجأ إلى رد الأجسام المركبة إلى عناصرها، يلجأ هذا التاريخ الفكري إلى رد المذاهب الفلسفية إلى العناصر التي تتركب منها، أي إلى تلك الوحدات الفكرية الأصيلة التي فرضت نفسها منذ أيام أفلاطون، وظلت موئل الفلاسفة والباحثين. وما مذهب الفيلسوف – في رأيه – إلا مركب غير متجانس من هذه الأفكار الأمهات، بل ما هو إلا مركب غير مستقر. والخلاف بين المذاهب الفلسفية يرجع أخيراً إلى الخلاف بين أنماط التركيب التي يقوم بها كل فيلسوف حين يضم هذه الأفكار الأمهات وينظمها في عقد فلسفته. فالجديد إذن في فلسفة الفيلسوف ما هو عدد الفكر الفلسفية الجديدة والبواعث الجدلية الجديدة التي يأتي بها. فهذا العدد دون ما نتخيل. بل الجديد شكل طراز تأليفه بين أفكار رائدة طرحت منذ القدم وفي شكل تركيبه للعناصر القديمة. فالجدة في التنظيم هنا أيضاً، كما يقول باسكال.
الوحدات الفكرية:
وليست هذه الوحدات الفكرية أو تلك العناصر الأصيلة التي ترتد إليها المذاهب، هي تلك الأفكار التي درج تاريخ الفلسفة على الحديث عنها واصطلح على تسميتها بالمفاهيم التاريخية الكبرى. وهي لا تنطبق – كما يخيل إلينا – على تلك المذاهب الكبرى التي يتحدث عنها المتحدثون في تاريخ الفكر الإنساني كالمثالية والواقعية والرومانطيقية والعقلية والذرائعية ومذهب التعالي. فهذه المذاهب ليست العناصر التي يتكون منها تاريخ الفكر، بل هي مركبات قابلة بدورها إلى أن ترد إلى عناصر أبسط منها، هي التي يتوجب علينا البحث عنها وهي التي تكون تاريخ الفكر الذي يقصد إليه «لفجوي».
فما هي إذن تلك العناصر «أو الوحدات الفاعلة الأولية الثابتة» التي نجدها في تاريخ الفكر والتي توجه ما نعرف من مذاهب ونظريات؟ إنها مختلفة الأشكال والأجناس، ومن الصعب ردها إلى جنس واحد. ويورد المؤلف بعض الأنواع الرئيسية لها، نوجز بعضها فيما يلي:
1- الافتراضات الضمنية أو الصريحة بعض الشيء والعادات الذهنية غير الواعية إلى حد ما – التي تفعل في فكر فرد أو جيل من الأجيال. فهنالك مثلاً النزوع إلى التفكير من خلال بعض الأطر العقلية أو الأشكال الخيالية الخاصة. فثمة عقول ساذجة مبسطة للأمور تميل إلى البحث عن الحلول السهلة للمشكلات! وثمة عقول تنزع – على العكس – إلى المعقد المشتبه المشتبك. ومثل هذه الأنماط من التفكير قد تسم عصراً بكامله. فممثلو عصر النهضة في القرنين السابع عشر والثامن عشر كانوا نزاعين إلى تكلف البساطة، وفلسفة ذلك العصر كانت نزاعة إلى التواضع العقلي، وكانت ترى في البساطة «أروع زينة للحقيقة». أما أصحاب النزعة الرومانطيقية فيشككون في البسيط بل يحقرونه، ويجمع بينهم ذلك التقعر الرومانطيقي الذي تحدث عنه شليغل.
2- الإحساس بأجناس متنوعة من الحماس الميتافيزيقي: فهذا الإحساس الذي يختلف من إنسان إلى إنسان ومن جيل إلى جيل، يلعب دوراً هاماً في «تعيين الأزياء الفلسفية والنزعات التأملية». وهذا الحماس الميتافيزيقي مزاج فلسفي إن صح التعبير يتجلى في الاهتزازات العاطفية الضخمة التي تحدث لدى المرء عند قراءة كتاب فلسفي أو قصيدة معينة أو مقطوعة نثرية أو غير ذلك من أشكال تصوير العالم. ومرد ذلك إلى تجاوب هذه الصور مع النمط الميتافيزيقي الذي ينتسب إليه ومع الطبع الفلسفي الذي هو طبعه. فهنالك مثلاً أناس ينزعون إلى التحمس للغموض الصرف أو لروعة ما لا يدرك. ومثل هذا الغموض هو الذي يرفع شأو بعض الفلاسفة في نظرهم. حتى ليصح أن نقول أن الشهرة الكبيرة التي حظيت بها بعض الفلسفات ترجع إلى حد كبير إلى ما فيها من مثل هذا الغموض ومثل هذا «المجهول المعجب». فقارئ مثل هذه الفلسفات قد لا يفهم ماذا تعني بالضبط «غير أنها تتسم من جراء ذلك بالمزيد من سمة الشموخ»، حين تشيع شعوراً لذيذاً من التهيب والرفعة. وهذا ما ينطبق على مثل فلسفة «شلنغ» و«برغسون».
ومن أشكال هذا الحماس الميتافيزيقي الذي يلعب دوره في تكوين الأفكار وفي قبولها، التحمس لما هو أزلي، أي «اللذة الجمالية التي تبعثها فينا فكرة عدم التغير المجردة المحض». والشعراء المتفلسفون يعرفون كيف يثيرونها. ومن أشكاله كذلك الحماس التوحيدي أو الحلولي. فرد كل شيء إلى الوحدة مصدر حبور كبير لدى عدد كبير من الناس، كما لاحظ جيمس.
وهكذا تقوم أنواع مختلفة من الحماس الميتافيزيقي يملك الناس لها حساسيات خاصة، وتلعب دوراً عظيماً في تكوين النظم الفلسفية عن طريق التحكم بمنطق الكثيرين من الفلاسفة خفية وعن طريق ترويج شهرة الفلسفات المختلفة وتأثيرها على الجماعات أو الأجيال التي كان لها عليها أثر ما. ومن مهمات تاريخ الأفكار كما يريده «لفجوي» اكتشاف هذه الحساسيات المختلفة المتصلة بضروب الحماس الميتافيزيقي «وتبيان الدور الذي تلعبه في تكييف نظام ما أو إضفاء طابع الوجاهة والرواج على فكرة ما».
3- ومن أبرز ما تتجلى به هذه الوحدات الأولية الفاعلة في تاريخ الفلسفة والفكر بعض القضايا أو المبادئ الخاصة التي يجهر بها فيلسوف بعيد الأثر، من مثل أفلاطون، جواباً على سؤال فلسفي كان من الطبيعي أن يسأله الإنسان.
وههنا ندخل في صلب موضوع الكتاب الذي بين يدينا. فهو يهدف إلى جلاء واحدة من هذه القضايا التي لعبت دوراً كبيراً في حياة الفلسفة والفكر عبر العصور. ولا تتبدى هذه القضية – والحق يقال – في فكرة بسيطة واحدة بل هي جماع ثلاث فكر كانت «في غضون القسم الأعظم من تاريخ الغرب مرتبطة ارتباطاً وثيقاً»، وكان من نتائجها أن ولَّدت مجتمعة مفهوماً من أعظم المفاهيم في الفكر الغربي، أطلقت عليه خلال فترة طويلة تلك العبارة التي هي عنوان الكتاب الذي بين يدينا، نعني «سلسلة الوجود الكبرى».
والكتاب من أوله إلى آخره محاولة لتقصي أثر هذه المجموعة أو الوحدة من الأفكار التي لعبت دوراً كبيراً في تاريخ الفلسفة، وجهداً دائباً للرجوع إلى مصادرها التاريخية الأولى عند مثل أفلاطون واستكناه تأثيراتها المتشعبة وصورها الشتيتة عبر العصور وفي شتى الميادين.
مفهوم سلسلة الوجود:
فما هي هذه الوحدة من الأفكار التي يلحق بها المؤلف والتي حملت وأتأمت عبر العصور، وكانت كثير من الفلسفات والأبحاث ترجيعاً لأصدائها وهوامش على متنها؟
إنها مجموعة من الأفكار تبدو أول ما تبدو عند أفلاطون، ويتلقفها الفلاسفة من بعده ويقلبونها على وجوهها، مؤيدين من جديد قولة «هوايتهد» التي سبقت الإشارة إليها: «إن أسلم تصوير عام للتراث الفلسفي الأوروبي هو أنه يتألف من سلسلة من الحواشي على أفلاطون». وقد عرض هذه الأفكار أفلاطون في الجمهورية وفي طيماوس خاصة ثم بسطها ونسَّقها الأفلاطونيون المحدثون. وقوام هذه المجموعة من الأفكار أو هذا المركَّب الفكري، مبدأ يمكن أن يطلق عليه اسم مبدأ «التمام»، وهو مبدأ أكمله وانبثق منه مبدأ آخر هو مبدأ الاتصال، ثم ولد من ذلك كله مفهوم الكون كسلسلة عظمى للوجود.
ولن ندخل في تعاريج هذه المبادئ وفي تخاريمها على نحو ما يعرض لها لفجوي في كتابه. وحسبنا أن نقول – في إطار ما نتحدث عنه من تأثير لبعض الفكر في تاريخ الفلسفة ومن تأثير لأفكار أفلاطون هذه خاصة – إن ثمة اتجاهين متضاربين عند أفلاطون وفي الميراث الأفلاطوني، خلَّفا تضاداً وتناقضاً في أفكار الكثير من الفلاسفة وتركا كثيراً من الفجوات في تراث الفلسفة الأوروبية وتاريخ الفكر الغربي. هذان الاتجاهان المتضادان هما النظرة الاخروية والنظرة الدنيوية إلى الخير المطلق أو إلى الإله بالمعنى الأفلاطوني. أما النظرة الاخروية فهي تلك التي ترى في المطلق أو في الخير الأسمى وجوداً مكتفياً بذاته خارجاً عن الزمان وعن مقولات الفكر والتجربة البشرية «غير مفتقر إلى عالم من الموجودات الدنيا من شأنها أن تضيف شيئاً إلى كماله الأزلي المشتمل على ذاته أو أن تفيض فيه». أما النظرة الدنيوية فهي تلك التي ترى في المطلق أو الخير الأسمى (أو الإله بالمعنى الأفلاطوني) وجوداً غير مكتف بذاته، تستلزم طبيعته الجوهرية وجود كائنات أخرى، بل وجود جميع الأجناس التي كان بوسعها أن تجد مكاناً لها في سلم إمكانيات الوجود، أي أنها ترى فيه «إلهاً كانت صفته الأولى الإبداع وكان تجليه إنما يتمثل في تنوع المخلوقات وبالتالي في السباق الزمني وفي مشهد الأفاعيل الطبيعية المتعددة».
وفي ضوء هذا التضاد الأولي بين النظرة الاخروية والنظرة الدنيوية يمكن إدراك دور أفلاطون المزدوج في الفكر الغربي على خير وجه. ومن هذا التضاد انبثق ما لا حصر له من الشروح ومحاولات التوفيق، خلال العصور الوسطى وأيام عصر النهضة وفي العصر الحديث. وهكذا لم يقف أثر أفلاطون في تاريخ الفكر عند حدود إشاعته للنظرة الاخروية وبثه لشكلها وعبارتها ومنطقها الخاص، بل تجاوز ذلك إلى ما هو أدهى وأمر، وهو أنه أشاع الشكل والعبارة والمنطق الخاص على النزعة المضادة ذاتها، نعني النزعة الدنيوية. فكلتا النزعتين في تاريخ الفكر اصطبغتا باللون الذي منحه لهما منذ البداية. وبهذا ساد عبر العصور وعند مختلف الفلاسفة والمفكرين مفهومان للإله كما قلنا: مفهوم الإله المكتفي بذاته (وهو نظير مفهوم مثال المثل عند أفلاطون ككمال محض) ومفهوم الإله الذي ينبغي أن يكون فوق هذا مصدراً للمخلوقات التي تصبو إليه والذي يكوِّن جوده جزءاً من وجوده. فمن صفات صانع العالم – كما يرى أفلاطون – أنه كان خيِّراً، ومن خصال الخيِّر ألا تساوره غيرة من أي شيء آخر قط، أي ألا يمتنع عن إبداع شيء آخر عداه، نعني عالم الكون والصيرورة. وهكذا نرى مفهوم الكمال المكتفي بذاته، يتحول عند أفلاطون بفضل قلب منطقي جريء، إلى مفهوم خصب متعال على ذاته، ويصبح الواحد الأزلي غير المادي هو الأساس المنطقي والمصدر الحسي لوجود عالم زماني في منتهى التعدد والتنوع.
من هذه الفكرة الولود التي تحمل التناقض في داخلها ولد ما ولد من مذاهب وأنظار وداخَل الفلسفة واللاهوت الأوروبيين ذلك المركِّب من الفكر التي أدت طوال أجيال إلى ضروب من النزاع والتيارات المتضاربة منطقياً وعاطفياً، أو قل إلى مفهوم إلهين في إله واحد. وقد أضاف أرسطو إلى هذه الفكرة المتناقضة ذاتياً فكرة أخرى دمجت مع مذهب التمام الأفلاطوني وغدت من متضمناته المنطقية ولقيت رواجاً بعد ذلك، هي فكرة الاتصال. فكل شيء في الطبيعة – في عرف هذا المبدأ – آخذ بعضه برقاب بعض، وليس هنالك انفصال بل اتصال بين عالم الجماد وعالم النبات أو عالم النبات وعالم الحيوان، والطبيعة ترفض الانصياع لشغفنا بخيوط القسمة الواضحة وتحب مناطق الشفق. ويقترح أرسطو في كتابه «النفس» ترتيباً تصاعدياً لجميع الحيوانات، كتب له أن يؤثر تأثيراً عظيماً في الفلسفة وفي عالم الحيوان اللاحقين.
وحصاد هذا كله ذلك المفهوم لتصميم العالم وتركيبه الذي قدِّر لعدد من الفلاسفة ولمعظم العلماء، بل ولسواد المثقفين من الناس، طوال العصور الوسطى وحتى آخر القرن الثامن عشر أن يأخذوا به دون تردد، ونعني به «مفهوم الكون» كسلسلة عظمى للوجود مؤلفة من عدد لا يحصى أو عدد غير متناه من الحلقات المرتبة ترتيباً تصاعدياً، من أخس أجناس الموجودات التي تكاد لا تتعدى العدم، مروراً بكل مرتبة ممكنة حتى الكائن الأكمل.
مبدأ التمام وسلسلة الوجود في العصور التالية لأفلاطون:
تلك هي إذن طائفة الفكر التي كونت وحدة والتي تسربت من مبدأ التمام عند أفلاطون والأفلاطونية المحدثة واقترنت بجملة الأفكار التي انبثقت عنها، من مثل فكرة الاتصال الأرسططالية وفكرة سلسلة الوجود، واندست في شتى عصور الفكر فولدت تلك المجموعة من المفاهيم الأولية التي كونت لاهوت العالم المسيحي في القرون الوسطى وفلسفته الكونية، ثم تجلت في النظم الفلسفية الكبرى في القرن السابع عشر وعلى رأسها فلسفة إسبينوزا وفلسفة ليبنتز خاصة، بل بلغت ذروة الانتشار والرواج في القرن الثامن عشر، ولم يكن فيلسوف مثل كنت غريباً عنها، وعرفت شأناً خاصاً لدى أصحاب فلسفة التفاؤل في ذلك القرن. ولا يقف
أثر هذه الوحدة الفكرية المكونة من مفهوم سلسلة الوجود وما يلحق به عند هذه الحدود بل يجاوزها إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ كان لها أثرها في الفلسفات المتصلة بموقع الإنسان من الطبيعة ومركزه في الكون، وفي بعض جوانب علم الحياة في القرن الثامن عشر. بل داخل هذا المفهوم – بعد أن أصاب تطوراً وأضيفت عليه صفة زمنية – مفاهيم الفن والأدب والجمال، وكانت له جولات في الحركة الرومانطيقية.
وهكذا تكوِّن المجموعة الفكرية المكونة من مبدأ التمام الذي ولد من أفلاطون والأفلاطونية ومن مبدأ الاتصال الأرسططالي ومن مبدأ سلسلة الوجود، الخيط الرائد الذي يتحلق حوله تاريخ الفكر والفلسفة. والتناقض الأصيل الثاوي في هذه المجموعة وفي مبدأ التمام خاصة، ينتقل عبر العصور، فيشغل المفكرين ويفتق القضايا ويطرح المنازعات، وتتكون منذ سداة الأنظار الفلسفية خلال التاريخ.
ومن العسير في هذا المقام أن نأتي على تفصيل أصداء هذا المركَّب من الفكَر لدى مثل القديس أغسطينوس والقديس توماس الأكويني والقديس إبيلار في العصور الوسطى، أو على تبين آثاره في التمهيد للانتقال من مفهوم القرون الوسطى لحجم العالم المادي وموقع الإنسان فيه إلى المفهوم الحديث الذي لم تلعب الفرضية الكوبرنيكية – كما يبين لفجوي – دوراً كبيراً فيه بل لعب فيه مفهوم التمام هذا دوراً أكبر. ومن العسير كذلك أن نلاحق هذا المركَّب لدى مثل ليبنتز واسبينوزا وأن نطلع على صياغة أولهما لمبدأ التعليل الكافي. وتطول بنا الجولة إن نحن أردنا أن نقتفي آثاره لدى «بيكون» و«أديسون» و«بولينبروك» و«كنت» و«بوني» و«جنينز» وكثير غيرهم في القرن الثامن عشر. وهيهات أن نستطيع الإحاطة بما كان له من دور في تاريخ العلوم البيولوجية في ذلك القرن، وما تركه من أصداء لدى أمثال «لوك» و«بوفون» و«غولدثميث» وأما آثاره من أبحاث حول الحلقة المفقودة بين النبات والحيوان وبين القردة والإنسان وما كان له من دور في نظرية التطور بعد ذلك. هذا فضلاً عن بيان آثاره في الأدب والفن والشعر والحركة الرومانطيقية وفي فلسفة شيلر و«روح العاصفة والاجتياح»، وفلسفة شلاير ماخر ودعوته إلى التنوع وحملته على وحدة الشكل في الفكر والخلق.
وحسبنا أن نقول عابرين أن عنصري التناقض الثاويين في قلب هذا المركب الرائد من الفكر، ظلا سمة مميزة لمعظم هذه الحركات والأفكار والفلسفات التي ولدت منه عبر العصور. فالتوتر الداخلي بين تينك النظرتين إلى المطلق، النظرة الاخروية والنظرة الدنيوية، يتجلى واضحاً منذ أيام القديس أوغسطينوس ويأخذ طابعاً حاداً لدى القديس «ابيلار» في القرن الثاني عشر حين يحاول أن يتقصى منطقياً النتائج اللازمة عن مبدأي التعليل الكافي والتمام على نحو ما يتجليان في المعنى المتعارف لمذهب الجود الإلهي، وحين ينتهي إلى تلك النتيجة التي شاعت وذاعت فيما بعد ولا سيما في القرنين السابع عشر والثامن عشر، نعني القول بأن «جودة هذا العالم – أفضل سائر العوالم – لا تتوقف على انعدام الشرور بل على وجودها» وحين يقرر أن «الشرور لا توجد ما لم يكن من الخير أن توجد الشرور». أما القديس توما الأكويني فيبدو أنه يثبت مبدأ التمام أول الأمر دون التباس أو تقييد ولا يتردد في أن يقول بأن عالماً ليس فيه شر ليس بمنزلة العالم الحقيقي من الخير. غير أنه ما يلبث حتى يتردى في تناقض صريح حين يتهرب من نتائج مقدماته، فيما يبين لفجوي.
ومثل هذا يصدق على اسبينوزا وليبنتز خاصة. فلدى اسبينوزا دليلان متباينان على وجود الله أولهما دليل الوجود الحق القائم على تحديد سبب ذاته بقولنا باختصار «أنه ذلك الذي تنطوي ماهيته على الوجود»، وثانيهما الدليل المبني على ضرورة وجود أي شيء يحول دون وجوده ضرب من الاستحالة المنطقية. ومثل ذلك يصدق على لبينتز وإن كان قد غير بعض التغيير مفهوم «ضرورة الوجود» الذي قال به اسبينوزا وأضاف إليه «مفهوم الإمكان المؤتلف». وهو يقع في تناقض واضح عند محاولة الرد على التساؤل الأصلي: ما الذي أوجب (إذا كان ثمة موجب) اختيار العالم الموجود فعلاً من بين سائر العوالم الممكنة؟
نظرة نقدية:
وبعد، هذه نظرة عجلى إلى أثر هذا المركَّب الفكري، الذي بدأ بأفلاطون والأفلاطونية، وكوَّن مفهوم سلسلة الوجود. وهي كما نرى شاهد واضح على ما يريده «لفجوي» حين يدعو إلى تاريخ الفكر وحين يجعل من دراسة مثل هذه المركَّبات الفكرية الرائدة أساساً لتاريخه، يقابل التاريخ التقليدي للفلسفة الذي لا ينفذ إلى ما وراء المذاهب من عناصر موجهة، وإلى ما بينها من وحدة ترجع إلى وحدة عناصرها وإن اختلفت مركباتها.
ولا شك أن هذا النهج في دراسة تاريخ الفكر والفلسفة من شأنه أن يعري هذا التاريخ وأن ينبش وراء ظواهره عن العوامل الأساسية المكونة له، وأن يكتشف محتواه الباطن خلف محتواه الظاهر. ومن مزاياه أنه يطلعنا خاصة على الدور الأساسي الذي لعبته بعض الأفكار الرائدة، ويكشف عن تلك الحقيقة التي أشرنا إليها منذ البداية وهي تحلق المذاهب الفلسفية حول بعض البؤر الفكرية المشعة، تسقي منها دوماً رفدها، وتنطلق أبداً منها، ولا تعدو أن تكون شروحاً وحواشي عليها.
وفي هذا دون ريب رد للفلسفة إلى الأصول، وعود بالمذاهب الشتيتة إلى ينابيعها الواحدة، وبيان لوحدة المذاهب الفلسفية في أصولها – وإن تباينت أشكالها – وفضح لحقيقة قد لا تروق للمفكرين والفلاسفة، وهي كما يقول «لفجوي» إن عدد الفكر الفلسفية والبواعث الجدلية المتباينة تبايناً جوهرياً محدود دون ريب (كما أن عدد الفكاهات المتباينة محدود أيضاً) و«الجدة الظاهرة لكثير من النظم ناجمة عن الجدة في تطبيق العناصر القديمة التي تدخل في تركيبها أو عن ترتيبها وحسب». غير أن لهذا النهج في الدراسة مزالقه التي أشار إليها «لفجوي» نفسه. فالنزعة إلى تحليل المذاهب والأفكار وردها إلى عناصرها، قد توقع في ضرب من الكيمياء الفلسفية لا تختلف عن الكيمياء الذهنية التي أراد أن يلجأ إليها بعض دارسي الحياة النفسية خلال القرن التاسع عشر. وإذا أردنا أن نتحدث بلغة شبيهة بلغة «لفجوي» خلال حديثه عن ضروب الحماس الميتافيزيقي قلنا إن من بين نزعات الفكر الإنساني هذه النزعة إلى رد المركب إلى البسيط والبحث وراء الكل عن العناصر المكونة له ورد الأمور الشتيتة أخيراً إلى الوحدة. ومثل هذه النزعة كثيراً ما تستهوي الباحث فيغلو فيها وينسج من بنات خياله ويرتمي في التفكير المتحزب المتمذهب الذي يفرض على الواقع قوالبه المبيتة ويجعل من محاكمته تبريراً لنتيجة يأبى إلا أن يصل إليها.
والحق أن واقع الفكر وواقع الفلسفة – شأنه في ذلك شأن كل ما في الحياة – أغنى وأكثر تعقيداً من أن يرتد إلى عامل وحيد أو عوامل محدودة. والحياة تظل عصية على أن تدخل في إطار نزوعنا الفكري إلى التبسيط والوحدة. وتفسير ظواهر الفكر وظواهر الحياة عامة بالعوامل الواحدية – على حد تعبير ديوي – مركب خطر. والتفسير السليم في نظرنا هو دوماً وأبداً التفسير بالعوامل المتعددة المتشابكة وبتداخل العوامل وتشابكها. فليس بين ظواهر الفكر صلة علة ومعلول يسيران على خط مستقيم، بل الصلة الحقة صلة دائرية، صلة تأثر وتأثير متبادلين بين جملة من العوامل والمؤثرات. والتركيب المحدث لجملة بين جملة من العناصر – إن صح أنها واحدة – هو خلق جديد لهذه العناصر. ولفجوي نفسه يشير إلى شيء من هذا حين يبين أن عناصر المذاهب الفلسفية، حين تدخل في تراكيب منطقية مختلفة، يغدو شأنها شأن المركبات الكيميائية التي تختلف في خواصها المحسوسة عن العناصر التي تتركب منها.
ومن هنا كان من الواجب عند الإقدام على مثل هذه المحاولة في تاريخ الفكر، اجتناب هذا المزلق، مزلق التبسيط ورد الأمور إلى الوحدة واستخراج العناصر البسيطة من الكل العضوي المبتكر الذي تنتسب إليه. ودراسة تاريخ الفكر – كما يقول لفجوي نفسه – حافلة بالمخاطر والمهاوي، ولها جانب من الغلو يميزها. وقد تنحط – كما يقول لفجوي أيضاً – إلى درك ضرب من التعميم التاريخي الخيالي، لأنها تستهدف أولاً وبالذات هذا التأويل والتوحيد وتعمل على ربط الأشياء التي ليست في الظاهر مرتبطة.
أما مضمون المركب الفكري الذي يتحدث عنه لفجوي في كتابه، نعني مبدأ التمام وما لحق به من مبدأ الاتصال ومن مفهوم سلسلة الوجود، فليس المجال مجال مناقشته، كما أن المجال لا يتسع للخوض في المناقشات العديدة التي يثيرها الكتاب حول هاتين الصفتين المتناقضتين من صفات الخير المطلق، صفة الكمال والاكتفاء، وصفة الجود والخلق والعطاء. وحسبنا أن نقول أن هذه المناقشات تعيد إلى الأذهان تاريخ العصر الوسيط كله والمذاهب الفلسفية واللاهوتية التي قامت على قدم وساق منذ أيام القديس أوغسطينوس حتى جان سكوت ايريجين والقديس ابيلار وأخيراً القديس توماس الأكويني و«دونس سكوت» و«غيوم دوكام» وتباشير عناصر النهضة. بل إن هذه المناقشات تعوج بنا إلى العصر الوسيط الإسلامي، وإلى جدل المتكلمين من معتزلة وأشعرية، وإلى النزاع الذي احتدم حول صفات الخالق وحول التنزيه والتشبيه وحول قدم العالم وحدوثه. إنها تذكر خاصة بأبحاث المعتزلة حول العلاقة بين الله تعالى والطبيعة وتعليل بعضهم لوجود الشر بأنه من آثار الحكمة الإلهية وقول فرق آخر أن الله تعالى لا يقدر على فعل شيء يدل على نقص ويناقض كماله. بل هي تذكير بأبحاث بعض المتأخرن من المعتزلة – أمثال معمر وأبي هاشم – ممن ينزهون الله تعالى عن جميع صور التركيب ويرون أنه لا يعلم ذاته ولا يعلم غيره لأن هذا يؤدي إلى التعدد في ذاته، وممن ينكرون (من مثل معمر) أن يكون الله تعالى موصوفاً بالقدم.
ولا حاجة إلى القول أن ثمة قاسماً مشتركاً واضحاً في هذا المجال بين أنظار لاهوتيي القرون الوسطى المسيحية وبين أفكار متكلمي المسلمين، وهذا القاسم المشترك يرجع كما نعلم إلى حظ من الوحدة في المشكلات اللاهوتية التي طرحها العقل الإنساني عبر العصور، كما يرجع إلى صلات مباشرة وتأثر وتأثير متبادلين قاما بين مفكري المسيحية ومتكلمي الإسلام، على نحو ما نجد ذلك بيناً بوجه خاص في أثر الرشدية اللاتينية في الغرب، وفي أثر العقائد المسيحية (المتجلية في مذاهب الملكانية واليعاقبة والنسطورية والغنوسطية) في مذاهب المتكلمين المسلمين. ولا حاجة إلى القول كذلك أن كلاً من لاهوتيي المسيحية وفلاسفة الإسلام ومتكلميهم نقلوا فلسفة أفلاطون وأرسطو وتأثروا أفكارهم وإلهياتهم. أما فلاسفة المسيحية فنرى من خلال كتاب لفجوي هذا مبلغ تأثرهم بأفكار أفلاطون حول فكرة الخير الأسمى. وأما فلاسفة المسلمين فنعلم تأثرهم خاصة بأفلاطون والأفلاطونية المحدثة في باب الإلهيات، ونعرف بوجه أخص أثر كتاب الربوبية (أوتولوجيا أرسططاليس) المنسوب إلى أرسطو والمستقى في حقيقة الأمر من تاسوعات أفلوطين.
إن هذا التشابه بين المشكلات التي أثارها العصر الوسيط المسيحي والعصر الوسيط الإسلامي، وهذه الأصول المشتركة التي سقى كل منهما رفده وامتاح أفكاره، تنهض دليلاً جديداً على صحة ما يذهب إليه «لفجوي» في تأريخه للأفكار حيث يبحث عن تلك الوحدات الفكرية الأصيلة التي تثوي وراء طائفة كبرى من المذاهب. غير أنها في الوقت نفسه تنهض دليلاً على حدود مثل هذه الدراسة. فعلى الرغم من وجود كثير من الأصول المشتركة بين الأفكار اللاهوتية في العصر الوسيط المسيحي وبين أفكار الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفين في الإسلام، يظل من الصحيح أن هذه الأصول المشتركة تلبس في كل منهما لبوساً خاصاً وتتلون بلون الثقافة الخاصة بكل من الغرب والشرق، وتتفاعل مع جملة التراث الخاص بكل منهما تفاعلاً يكاد يفقدها هويتها لدى مفكري الإسلام خاصة.
خاتمة:
ويطول بنا الحديث إن نحن أردنا أن نقف عند الجوانب العديدة لكتاب «لفجوي» وأن ننظر إليها نظرة الناقد المحلل. ولعل ذلك يتطلب منا سفراً بل أسفاراً.
وحسبنا في هذه العجالة أن أومأنا إلى ما يحفل به هذا الكتاب من زاد ثري وما يثيره من مشكلات خصيب وما يطرحه على الذهن من تساؤلات عريضة تغري القارئ بتفحصه وتقريه كرة بعد كرة. والكتاب – فضلاً عن الموضوعات الفنية التي يثيرها – ذو نظرة محيطة بثقافات متعددة متنوعة، تتجاوز الفلسفة والفكر إلى الأدب والشعر والفن.
وتزيد في روعته الترجمة البارعة الدقيقة التي قام بها الدكتور ماجد فخري، تلك الترجمة التي كانت جديرة حقاً بجائزة أصدقاء الكتاب والتي تكشف عن جهد فذ وكفاءة فريدة، والتي استطاعت – بفضل أصالة ديباجتها ودقة نقلها – أن تمد المكتبة العربية بزاد تفخر به، لابد أن يشمخ بين أمهات الكتب التي تضمها.
بيروت عبد الله عبد الدائم