تأويل الأحلام عند ابن سيرين

مجلة العربي الكويتية – العدد 95 – تشرين الأول/أكتوبر 1966
من التراث العربي النفساني
تأويل الأحلامِ عنْدَ ابن سْيرين
(1)
من هو ابن سيرين؟
وهل كتب حقاً كتابه؟
وإذن فمن صاحب الكتاب الأصيل؟
ومن أين استقى علمه؟
بقلم: الدكتور عبد الله عبد الدائم
حينما نقول إن الثقافة العربية الصحيحة التي ينبغي أن تقدم لجيلنا، لابد أن تكون ثقافة أصيلة تحقق المزج العضوي بين التراث العربي القديم وتراث الإنسانية المحدث، ينهض في رأس هذا المطلب أن نُلْقيَ على تراثنا القديم نور العلم الحديث، وأن نسلط على جوانب ثقافتنا التليدة كل مستحدث وطريف مما انتهت إليه الثقافة الإنسانية.
ولا شك أن مثل هذه المهمة الملقاة على دارسي تراثنا العربي ما تزال مقصرة عن مداها، رغم الجهود العديدة التي بذلت في هذا السبيل. ونستطيع أن نقول – دون ما غلو – أن أبناء البلاد العربية لا يجدون بعد صورة واضحة كاملة تقدم لهم التراث العربي بلغة عصرهم، وتعرِّفهم به على هدى مما يقبسون من ثقافة الغرب.
ولهذا نجد الحكم على تراث العرب – لدى أبناء جيلنا – يذهب زُمَراً وفرائق ومنازع. وكثيراً ما يغلب على هذا الحكم طابع الإنكار لشأن التراث والتنكُّر لما فيه. فالتراث لم يذلل لأبنائنا ولم ييسر لهم، ولم يوطَّأ ليكون جزءاً متكاملاً من جملة ثقافتهم. ولم تمتد الأواصر اللازمة بينه وبين ما يعرفون من جوانب العلم الحديث والدراسات الحديثة.
مثل من الدراسات النفسية:
وما نريد أن نمضي بعيداً في هذا السبيل، فهو في حاجة إلى صفحات. وحسبنا أن نضرب مثلاً على ما نقول، نسوقه من ميدان علم النفس.
إن دراسات علم النفس الحديث التي تقدم لطلابنا في المدارس والجامعات كثيراً ما تبدو لهم فاقدة الأواصر مع جملة تراثهم وثقافتهم العربية. والراجح أن يقدَّم له هذا العلم على أنه علم حديث لا جذور تربطه بماضي التراث العربي. وإذا جرب مدرسو هذا العلم ربطاً، كفاهم في معظم الأحيان أن يضربوا الأمثلة على بعض حقائق علم النفس عن طريق الاستشهاد بما حواه الأدب العربي والشعر العربي من أقوال وأشعار فيها تعريض ببعض تلك الحقائق.
أما الدراسات التي تحاول أن تكشف عن مدى إسهام التراث العربي الماضي في الكشف عن حقائق علم النفس، فما تزال نادرة وقليلة. وإذا هي وجدت، لم تَعرف في معظم الأحيان أن تسلِّط على دراسات العرب نورَ العلم الحديث، بحيث تجلوها جلاء جديداً، وتلْبسها ثوب الدراسات المحدثة وتترجمها إلى لغة علم النفس الحديث.
الجوانب المهملة في تراث العرب النفسي:
وقد عُنينا منذ سنوات بالبحث في هذه الجوانب المهملة من تراث العرب في ميدان علم النفس، وحاولنا أن نقيم الجسور بين ذلك التراث وبين حقائق الدراسات الحديثة في هذا الباب. وتبدَّت لنا في هذا المجال ميادين ثلاثة جديرة بأن تستبين فيها الصلة بين علم النفس الحديث وبين ما قدمته الحضارة العربية. ونعني بهذه الميادين: ميدان الطب النفساني، وميدان التوجيه المهني، وميدان تأويل الأحلام.
أما ميدان الطب النفساني عند العرب فقد كان له حظ أكبر من دراسات الباحثين(1) رغم أنه يحتاج إلى فضل من بحث وتقويم على ضوء الدراسات المُستحدثَة. وأما ميدان التوجيه المهني عند العرب فهو ميدان يجلله الغموض والجهل إلى حد كبير، ولا نَقَع فيه إلا على نُتَف من دراسات لا تجزئ ولا تغنى. وأما ميدان تأويل الأحلام عند العرب فقد عَرَف بعض الدراسات، غير أنها ظلت – رغم جودة بعضها(2) – بعيدة عن تحقيق الربط الوثيق بين ما وصلت إليه الدراسات النفسية الحديثة في ميدان تأويل الأحلام – وعلى رأسها دراسات
فرويد – وبين ما يختبئ في قلب كتب تأويل الأحلام القديمة من حقائق وأساليب في البحث تقترب إلى حد كبير مما نجده في حصاد الدراسات اليوم.

تأويل الأحلام عند العرب:
ولعل ميدان تأويل الأحلام عند العرب ميدان يبدو للباحثين أبعد الميادين قرباً من الدراسات الحديثة، ولعلهم يظنون به الظنون، فيرون فيه مرتعاً للعامة وحدهم، يشتمل على حظٍّ من التخرُّص والنبوءة والخرافة أكبر بكثير مما يشتمل عليه من مجالات التأويل الصحيح لتلك الظاهرة النفسية.
وقد يكون في هذا القول جانب من الصحة: وظاهر كتب تأويل الأحلام عند العرب هو هذا الظاهر الملئ بالتخريف والتأويل العجيب الذي لا يبدو له أي سند. غير أن مهمة العين المزودة بنور العلم الحديث هي أن تمضي إلى ما وراء هذا الظاهر، كما يمضي مؤوِّل الأحلام تماماً من محتوى العلم الظاهر إلى محتواه الباطن، وأن تنبش وراء هذه التفسيرات عن الأسس التي استندت إليها وعن الأساليب التي اتبعت في صياغتها وعن الفنون التي تلجأ إليها.
وقد حاولنا أن نضطلع بجانب من هذه المهمة في دراسة لنا لتأويل الأحلام عند ابن سيرين (نشرت بالفرنسية).
وفيها أردنا أن نكشف عن الأسس التي يستند إليها تأويل الأحلام عند العرب (بعد أن اتخذنا ابن سيرين نموذجاً ورمزاً)، والقواعد التي يرونها في تأويل الأحلام والصفات التي ينبغي أن تتوافر في مفسر الأحلام والحقائق التي ينبغي أن يستند إليها في فنه. وبينا وراء ذلك كله كيف تلتقي هذه الدراسات العربية للأحلام بالدراسات المُحدثة، وعلى رأسها دراسات «فرويد». بل بينَّا في بعض المواضع كيف يقدم ابن سيرين أحياناً تأويلات أسلم وأصلح من تأويلات فرويد. وانتهينا وراء هذا كله إلى القول بوجود لغة إنسانية مشتركة في ميدان الرموز التي يراها الرائي في الحلم وهي التي تتيح اللقاء بين المفسرين حول هذه الناحية أياً كانت ثقافتهم، وهي الأساس الذي يمكن أن يُعتمد في دراسة الأحلام. ولن نتحدث في هذه الكلمة عن هذه الجوانب، ونرجو أن تكون موضوع مقال خاص.
ونود هنا أن نمهد لمثل ذلك البحث، عن طريق دراسة تاريخية موجزة نضع بها تأويل الأحلام عند العرب وعند ابن سيرين في إطاره التاريخي، ونكشف الستار خاصة عن حقيقة شخصية ابن سيرين.

الإطار التاريخي لتأويل الأحلام عند العرب:
من العسير في هذه العجالة أن نشير إلى أصحاب تفاسير الأحلام العرب جميعهم، وإلى أمهات المؤلفات في هذا المجال وتواريخها. والبحث يطول إن نحن أردنا أن نذكر مثلاً تاريخ بعض المؤلفات ومحتواها من مثل: كتب أبي معشر الفلكي، وكتاب محمد بن زكريا الرازي، وكتاب الكرماني، وكتاب القادري، وكتاب ابن قتيبة، وأخيراً كتاب النابلسي، وغيرهم.
غير أن ما ييسر علينا هذه المهمة أمران: أولهما التشابه الكبير بين كتب تأويل الأحلام عند العرب – لأنها جميعها تسقى من مصدر واحد تقريباً – وثانيهما الارتباط الوثيق الذي انعقد بين تأويل الأحلام عند العرب وبين اسم محمد بن سيرين. حتى ليصح أن نقول أن الآثار التي تذكر لابن سيرين تكاد تلخص آثار التراث العربي كله في هذا المجال. وأكثرها يستشهد بابن سيرين كحجة في تفسير الأحلام، فيقول: قال ابن سيرين.
من هو ابن سيرين؟
فمن هو ابن سيرين هذا؟ وما حقيقة قصته مع تأويل الأحلام؟ وهل كان له فيها هذا الباع الطويل الذي يذكره مؤلفو كتب التفسير؟
لقد بَيَّنتْ لنا الدراسة أن ابن سيرين – كمفسر للأحلام – رمز أكثر من كونه حقيقة:
فمحمد أبو بكر ابن سيرين – كما تدل كتب الطبقات، وعلى رأسها طبقات ابن سعد – توفي في عام 110 للهجرة، وولد، فيما يقول بعض المؤرخين، قبل ولاية الخليفة عثمان بسنتين. وكل ما تشير إليه كتب الطبقات هذه أنه كان قاضياً وانه كان فقيهاً تقياً محدِّثاً شهيراً (راوية للحديث) وذا علم غزير وفير في شتى فنون المعرفة، ولا نقع في هذه الكتب على أي شئ يشير إلى كونه مؤوِّلاً للأحلام، ولا نجد مثل هذا خاصة في أقدم كتب الطبقات، نعني طبقات ابن سعد (توفي ابن سعد عام 252 للهجرة) وكل ما نقع عليه في هذا الكتاب إشارتان في موضعين يذكر فيهما ابن سعد أن شخصاً طلب من ابن سيرين أن يؤول له حلمه.
غير أن نسبة تفسير الأحلام إلى ابن سيرين ما تلبث حتى تمتد ويذر قرنها في النصف الثاني من القرن الرابع للهجرة حيث يغدو ابن سيرين مؤولاً شهيراً يذكر في سائر كتب تفسير الأحلام.
وهكذا يفقد ابن سيرين مع الزمن وجهه الحقيقي، وجه العالم المحقق والمحدث الشهير والقاضي العادل، ويلبس وجهاً ثانياً، هو وجه مفسر الأحلام بل شيخ المفسرين.
لماذا نسب المفسرون علمهم لابن سيرين؟
ولنا أن نسأل لماذا نسب المفسرون إلى ابن سيرين تأويل الأحلام هذا؟
والجواب على هذا السؤال واضح بسيط. فلقد كانوا في حاجة إلى أن يؤيدوا علمهم بحجة دينية، دفعاً لما يمكن أن يلقاه من مقاومة. فوجدوا في ابن سيرين – التقى الذي أثر عنه بعض التفسيرات العابرة للأحلام – ضالتهم المنشودة، وألقوا بكل علمهم على كاهله، ونسبوا إليه تأويلات أخذوا معظمها في الواقع من «أرطميدورس» اليوناني، وعلماً موضوعاً منقولاً أرادوا أن يثبتوا أركانه ويظهروا أصله الديني في القرآن والسنة بل لدى الصحابة. وهكذا نجحوا في جعل التفسيرات الغريبة التي استقوها من مصادر أجنبية تفسيرات يؤيدها الدين.
يضاف إلى هذا أن مفسري الأحلام أردوا أن يسيطروا على الخلفاء المسلمين بفنهم – كما سيطر مفسرو الأحلام اليونان على كثير من حكامهم. ولهذا لجأوا إلى تدعيم هذا الفن بنسبته إلى حجة دينية مشهود لها بالورع والتقى، تتجلى في ابن سيرين.
وهكذا استخدموا هذا العلم لأغراض سياسية، وكثيراً ما أولوا الأحلام تأويلاً يستهدف التبشير بمجيء بعض الخلفاء أو بولادة بعض الفاتحين. حتى أن بعض أمراء المسلمين ضموا لبلاطهم مؤولاً للأحلام، على نحو ما فعل البابليون من قبل وقدماء المصريين إلى حد ما (هكذا يستقدم المهدي مفسر الأحلام الكرماني ويستشيره في حلم من أحلامه. ويستشير هارون الرشيد أحد المفسرين. ويبدو أن مخاوف ابنه الأمين من منافسة أسرة «بني طاهر» له، ترجع إلى حلم رآه. بل إن ترجمة كتب أرسطو إلى العربية – كما تذكر كثير من المؤلفات – أوحاها إلى المأمون حلم رآه).
هل كتب محمد بن سيرين كتابه في تفسير الأحلام؟
على هذا النحو غدا محمد بن سيرين عنواناً ورمزاً مفيداً استخدمه كتاب التفاسير ومؤولو الأحلام لتدعيم أركان علمهم المجلوب الغريب. ولا نقع في واقع الأمر على أي كتاب حقيقي خطته يد ابن سيرين.
«ومنتخب الكلام في تفسير الأحلام» الذي ينسب إليه كتبه في الواقع – كما دلت الأبحاث التي قمنا بها – كاتب متأخر اسمه «الداري» (عاش بعد القرن الرابع للهجرة، وإن كنا لم نقع على ترجمة صحيحة لحياته) وفي المكتبة الوطنية بباريس مخطوط يحمل اسمه وهو تماماً عين الكتاب الذي يحمل اسم ابن سيرين والذي أشرنا إليه منذ حين.
وهنالك أكثر من دليل يشهد على عدم صحة نسبة الكتاب إلى ابن سيرين، أبرزها ان في الكتاب أخباراً تشير إلى حوادث جرت في عهود متأخرة أيام المهدي والرشيد وغيرهما.
وهكذا جمع المؤلف، نعني الداري، كثيراً من كتب تفسير الأحلام التي كانت موجودة قبله، ووضعها في كتاب جامع نُسب إلى ابن سيرين، كما نسب إلى هذا المحدث الورع غيره من الكتب والأقوال فيما بعد.
ابن سيرين خارج العالم العربي:
وقد وقع هذا اللبس نفسه عندما انتقل اسم ابن سيرين إلى الغرب، وترجمت كتب تفسير الأحلام عند العرب إلى اليونانية واللاتينية. وهكذا نجد أن أشهر كتب الأحلام القديمة التي نقع عليها في اليونانية واللاتينية هي الكتب التي تحمل اسم «اشميتوس فيليوس سيريمي» «Achmetis Filius Sereimi» وهذا الاسم، كما هو واضح، تصحيف وتحريف لاسم محمد بن سيرين (اللبس بين محمد وأحمد Achmetis شائع كما نعلم). ويبدو لنا أن مؤلف هذا الكتاب هو المترجم الشهير حنين بن إسحاق لأسباب لا مجال للتفصيل فيها هنا. والراجح أنه ترجمة قام بها لكتاب «أرطميدورس اليوناني» مع تعديلها (يذكر صاحب الفهرست أن حنين بن إسحاق ترجم كتاب «أرطميدورس» في تأويل الأحلام) ثم نقل هذا الكتاب بعد ذلك إلى الغرب باسم محمد بن سيرين جرياً على السنة التي كانت شائعة والتي أشرنا إليها، نعني سنة نسبة أكثر كتب الأحلام إلى ابن سيرين.
ابن سيرين و«أرطميدورس»:
ومن الهام أن نذكر أخيراً أن الكتاب المنسوب إلى ابن سيرين وكثيراً من كتب تفسير الأحلام عند العرب تسقى في الواقع من مصدر واحد، هو كتاب «تفسير الأحلام» للكاتب اليوناني «أرطميدورس» تُضاف إليه بعض النصوص المنقولة عن أرسطو وأفلاطون.
العرب دمجوا تراثهم بتراث أخذوه من اليونان:
ولا مجال للتدليل على هذه الحقيقة هنا. غير أن علينا أن نذكر أن الكتَّاب العرب، لم يكتفوا في هذا المجال – وفي أي مجال آخر – بمجرد النقل، بل أضافوا وغيروا ودمجوا ما أخذوه دمجاً عضوياً بجملة تراثهم، حتى أصبح ما اقتبسوه جزءاً لا يتجزأ من ثقافتهم. وهذا ما نجده في مجال تأويل الأحلام خاصة. فهم قد استندوا إلى «أرطميدورس» دون شك غير انهم أضافوا إليه إضافات ذكية أساسية، وربطوا ربطاً مذهلاً بين ما أخذوه من هذا الكاتب وبين الدين الإسلامي، وأوثقوا الصلة بين تأويلاتهم وبين القرآن والسنة وأمثلة العرب وأشعارهم، وجعلوا هذه المصادر كلها أصولاً يعتمدونها في تفسيراتهم. حتى ليخيل للقارئ للوهلة الأولى أنه أمام علم مبتكر، لا أصول له إلا في تراث العرب وكتابهم المقدس وسنة نبيهم وأمثالهم وأشعارهم. أو لم يجعلوا أساس علم تفسير الأحلام الحديث الشريف:
«الرؤيا الصادقة جزء من واحد وأربعين جزءاً من النبوة؟» وسنرى عند الحديث عن المبادئ التي استند إليها مفسرو العرب كيف استطاعوا فعلاً أن يربطوا هذا العلم المجلوب بثقافتهم ويخلقوا منه في نهاية الأمر علماً أصيلاً يحق للباحث أن يقول أنه من وضعهم، رغم تأثرهم الكبير بأبحاث يونان.
وفي هذا نجد مثالاً واضحاً على براعة العرب في تمثُّل يونان وفارس والهند ونقله نقلاً أصيلاً ومزجه مزجاً عضوياً بثقافتهم. بحيث يحق أن نقول أن التراث العربي – رغم تأثره بهذه الأصول كلها – ظل تراثاً أصيلاً ذاتياً مبتكراً. ولعل في هذا النهج الذي سار عليه قدماء العرب في نقل تراث الآخرين درساً لمحدثيهم يهديهم إلى أصول النقل الأصيل للتراث الحديث ويبين لهم معنى تمازج الثقافات تمازجاً مبدعاً لا متبعاً.
عبد الله عبد الدائم