حضارة الغد

مقال نشر في مجلة الآداب البيروتية في عدد أيلول 1965

حضارة الغد
الدكتور عبد الله عبد الدائم

السؤال عن حضارة الإنسان ومستقبل الإنسان قديم قدم الإنسان. ولا نغلو إذا قلنا إن التطلع إلى المستقبل وسؤال المستقبل كانا وما يزالان شغل الإنسان الأول، ومصدر قلقه وسعيه.
وقد بدا سؤال المستقبل أحياناً ضرباً من الرجم بالغيب وشكلاً من أشكال النبوءة لجأ إليه الإنسان الأول يوم كان أعزل من سلاح العلم، ويلجأ إليه الفكر العامي العادي حتى اليوم، ويبهره ويجد فيه شفاء لصبوته إلى استكناه المجهول من أمر حياته. غير أن هذا التساؤل عن الغد عرف في كثير من الأحيان أشكالاً أدنى إلى العلم والبحث العلمي، وخاض في أمره مفكرون أفذاذ وفلاسفة بارزون وعلماء مجلّون في شتى عصور التاريخ، وليس من جديد القول أن نقرر أن البحث العلمي لا يعدو في معظم الأحيان أن يترجِم إلى لغم الوقائع الثابتة والقوانين المجربة صبوات راودت أذهان الناس غامضةً ملحّة، وشطحات عاشت في عقول البشر مجلَّلة بالغيب مطليّة بالتخرّص والعرافة.
ولا يتسع المجال للتذكير بعديد العديد من الدراسات الفلسفية والعلمية التي أرادت أن تنضو صفحة المستقبل وأن تقتفي أثر الإنسانية لاهثةً وراء خط سير هذا المستقبل، متطلعةً إلى معرفة بعض ملامحه وقسماته.
وما غرضنا أن نقف عند هذه الدراسات المختلفة، من أيام أفلاطون بل فيثاغورس بل فلاسفة بابل والهند ومصر، حتى أيام «دوهاميل» Georges Duhamel و«شينغلر» Spengler و«ديوران» Diurant وتوينبي Toynbee، ولا همنا أن نرى آثار هذه الإطلالات على المستقبل في الديانات الكبرى وفي الفلسفات الكبرى. فشاغلنا في هذه العجالة أمران: أولهما أن هذا التساؤل عن مستقبل الإنسان وحضارته بالإضافة إلى كونه تساؤلاً طبيعياً يروي نزعة عميقة لدى البشر ضروري للإنسان في كل عصر ومصر، وأداة أساسية مساعدة لفهم حاضر الإنسان ورسم خطة عمله وحياته. إن فهم الحاضر والمستقبل القريب الذي يطوّف حول حياة الإنسان، لا يمكن أن يتم إلا عن طريق فهم المستقبل البعيد والتطلع إلى اتجاه خط التطور. ومعرفة الغد ليست ضرباً من الطمأنينة تلذّ الإنسان ولا نوعاً من التسلي برؤية الأفق البعيد والاستمتاع بمفاجآت المستقبل ومعجزاته وفنونه، ولا هي قرار يصطنعه الإنسان هرباً من مصيره، من فنائه، من عمره القصير على وجه البسيطة، حين يُسقط أفكاره وتصوراته وعواطفه على مستقبل بعيد كأنه يعيشه، وكأنه يجعل من توهمه أداة لخلوده وامتداداً لزواله. فمثل هذه الأهداف في رؤى المستقبل قد ترضي منازع الفرد العادي غير أنها ليست جوهر الأمر في نظر الباحث والعالم. فالأصل عند مثل هذا البحث أن تساعد معرفة المستقبل – والمستقبل البعيد – على تطوير الحاضر وعلى تغييره، وأن تقدم معياراً ومستنداً يهدي إلى التغيير الواجب والتطوير اللازم.
والنقطة التي ينطلق منها معظم الباحثين اليوم عندما يومئون إلى خط المستقبل ويركضون وراء معالمه، هي أن هذا الخط المقبل جزء من الحاضر يملي عليه صورته ويطبعه بطابعه. وكما أن الحاضرة يرسم المستقبل ويشير إلى اتجاهه، فاتجاه المستقبل ومعرفة حقيقة هذا الاتجاه وفهم عناصره أمور تملي رأيها على الحاضر وتحدد سيره. وجلاء المستقبل انطلاقاً من اتجاهات الحاضر ليس بالأمر اليسير الذي يستبين من تلقاء ذاته ويأتي عفو الخاطر. ومعرفة الاتجاهات الحقّة لهذا المستقبل عمل شاقّ جاهد، يحتاج إلى دراسة وخبرة ووسائل فنّية. إن في الزمن أجزاء ثلاثة متداخلة يغوص بعضها في بعض، هي الأمس واليوم والغد. فالأمس لازم لمعرفة اليوم، وتاريخ الأمس أساس لفهم الحاضر واستكناه روحه وذاكرته ونشأته. والغد حيٌّ في الحاضر باتجاهاته وخطوطه، يملي على هذا الحاضر لونه وطابعه، وتاريخ الغد يوجه اليوم ويهديه كتاريخ الأمس.
من هنا يُلْحف باحثو اليوم في ضرورة التعرف على حقيقة المستقبل وعلى منازعه وبيناته ومقوماته، سواء في جوانبه الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية. وهم يرون بحق أن الجهل بهذا المستقبل هو المسؤول عن كثير من المآسي والصعوبات والحيرة والقلق التي تراود إنسان عصرنا.
ولندع هذا الشاغل الأول الذي ننطلق منه في بحثنا هذا، فالشرح فيه يطول ولننتقلْ إلى الشاغل الثاني الذي دفعنا إلى إمكانية الحديث عن حضارة الغد:
تحدث المتحدثون عن مأساة الإنسان في عصر العولمة، وارتفعت أصوات كثيرة واهتزت أقلام عديدة، متشائمة كلها عن مصير الإنسان كإنسان أمام طغيان الآلة وتحكمها. وغدا الخوض في المعضلات الإنسانية الناشئة عن الصناعة والآلة، ديون رجال الدين والفلاسفة والساسة وعلماء النفس وعلماء الاجتماع وكثير غيرهم. وما نريد ههنا أن نضم إلى هذه الأصوات صوتاً جديداً، فنسائل مع من تساءل: إلى أين تذهب حضارة الآلة بالإنسان وإنسانيته، وهل خُلقت الآلة للإنسان أم سُخّر الإنسان للآلة؟ ولا نريد أن تصل بنا هذه النظرة المتشائمة المتصلة بالإنسان وتردّيه في عصر التقدم الآلي، إلى حد القول مع من قال بالعود إلى حياة الطبيعة وحسن الطبيعة. فمثل هذه الأقوال – رغم كل ما جند لها من حجج وذكاء – تظل بدائية في تفكيرها، غارقة في أحلام «الوضع الأول» و«الماضي» و«الأيام الغابرة»، بعيدة عن أن تدرك أن الركب قد سار وأن السفينة أبحرت وأن علاج أدواء الحضارة لا يكون ولا يمكن أن يكون بالنكوص عنها والارتداد على الأعقاب، بل يكون أولاً وآخراً بالحضارة نفسها، بمزيد منها، بتطويرها وإغنائها.
إن ما نريده هو أن تطرح المشكلة طرحاً جديداً بعض الشيء مبايناً للمألوف، لنقول مع طائفة من العلماء المحدثين: أفلا تؤدي حضارة الآلة نفسها إلى تحرير الإنسان من الآلة؟ أفلا يؤدي الإمعان في الصناعة إلى التحرر من الصناعة وإلى خلق حضارة هي أبعد ما تكون عن الصناعة؟ أفلا يحق لنا أن نعقد الآمال على حضارة الآلة نفسها لنجد فيها المخلّص والمحرر، ولنرى في فرط تقدمها إرهاصاً بمستقبل إنساني تسوده قيم الإنسان الفكرية والنفسية والخلقية.
ولنفصح عما نقول:
الظاهرة الكبرى التي تميز العصر الحديث هي دون شك ظاهرة التقدم الفني، والمقصود بالتقدم الفني أو التقني استخدام نتائج التقدم العلمي في مجال الصناعة وغيرها من أجل زيادة الإنتاج. وإذا أردنا تعريفاً قلنا إن التقدم التقني يعني زيادة حجم الإنتاج الذي يحصل عليه عن طريق كمية ثابتة من المواد الأولية أو من العمل البشري. فإذا قلنا إن آراً من القمح كان يحتاج حصاده إلى ساعة عمل بالمنجل عام 1800، بينما يحتاج عام 1945 إلى 35 ثانية فقط عن طريق الحاصدة الحديثة، كان الفرق ناجماً عن التقدم الفني.
ونستطيع أن نقول إن العناصر الأساسية في عملية الإنتاج اليوم هي الطبيعة وثرواتها، ثم العمل الذي يقوم به الإنسان، ثم التقدم التقني. ولا شك أن هذا العنصر الأخير هو أفعلها وأعظمها شأناً. ولهذا فهو الذي يحدّد في النهاية تحديداً جذرياً شكل الإنتاج ومقداره، وشكل الاستهلاك ومقداره. ومعنى هذا أنه يكاد يحدد التطور الاقتصادي المعاصر وألفه إلى بائه. والذي يخلق الحضارة الحديثة إذن ما هو الرأسمال الطبيعي – هو ذلك التقدم الفني الرائع والمريع. ونستطيع أن نقول إن عاملاًُ جديداً راجحاً غزا الحياة الحديثة منذ القرن الثالث عشر وازداد شأنه في القرون التالية، هو عامل التقدم الفني.
وقد نتجتْ عن هذا التقدم نتائج كثيرة متباينة لا يتسع المجال للحديث عنها. غير أن من المفيد أن نذكّر بالنتائج الطيبة التي أحدثها هذا التقدم بالنسبة إلى الإنسان كإنسان وبالنسبة إلى تحسين مصيره. فلقد أدّلا – فيما أدى إليه – إلى ارتفع في مستوى المعيشة والدخل، وإلى مد سنوات الدراسة وإطالة فتراتها (بسبب الاستغناء عن الأيدي العاملة الفتية نتيجة لحلو الآلة محلّ الإنسان إلى حد كبير)، وإلى تطوير الخدمات الصحية والانخفاض في معدل الوفيات جملةً وفي معدل وفيات الأطفال خاصة، وإلى زيادة الأجر الحقيقي الذي يتناوله العامل (أي أجره تقدّراً بما يقابله من خيرات معاشية يستطيع أن يحصل عليها)، وإلى تطوير نوع المعيشة وطراز الحياة وانتشار وسائل الراحة وأدوات الرفاهية.
ويضع المتشائمون عادة في مقابل هذه المكاسب التي جناها الإنسان من التقدم الفني، مآسي إنسانية خلقها هذا التقدم ليست الحرب أقلّها. وجوهر هذه المآسي خضوع الإنسان لهذا التقدم الفني، وعبوديته له، فالعامل مستعبد للآلة، بل هو جزء من الآلة وعجلة من عجلات الإنتاج، والإنسانية كلها تتلقى خاضعةً خانعة ما يقذف به هذا التقدم الآلي وما يمليه، وإن يكن ما يقذف به حمّى الحرب وتمزّق الكون وتزايد مطالب الإنسان الاستهلاكية وخضوعه لما يفرضه إنتاج الآلة من استهلاك متجدد متجاوزٍ لذاته دوماً، لا يرتوي أبداً.
ولا جدال في أن التقدم الفني خلق مرحلةً من خضوع الإنسان للآلة – رغم كل ما قدمته الآلة من خدمات. ول يماري إنسانٌ في أن المراحل الأولى من إشراق الثورة الصناعية عرفت تسخيراً للعامل ولإنسانيته، وعرفت تغليباً لمصلحة الإنتاج والآلة عن مصلحة العامل والإنسان، وعرفت نظاماً كنظام «تايلور» يجند فيه الإنسان ليكون آلة تقدم أكبر نتاج ممكن بأقل النفقات الممكنة. ولا شك في أن حياة العامل الجسدية والنفسية والاجتماعية أصابها إهمال كبير وحيف خطير في بداية القفزة الصناعية الكبرى في العالم. غير أن السؤال الكبير الذي يطرح: هل يدل اتجاه التطور التقني في السنوات الأخيرة على استرسال في هذا المذع – مذع إهمال الإنسان وتسخيره للآلة – أم أن نوراً جديداً يلمع وسط ضجيج المصانع وصخب الآلة، يبشر بمستقبل آخر، يحقق للإنسان تحرراً أكبر وسعادة أكبر.
لقد ذهب هذا المذهب الأخير طائفة من علماء الاقتصاد نذكر على رأسهم «كلاراك Clarck» في كتابه الشهير «التقدم الاقتصادي» ومن قبله «فيشر Fisher» الإنكليزي و«بيتي Petty» الإنكليزي، ومن بعدهم جميعاً الأستاذ الفرنسي «فوراستييه Fourastié» الذي انطلق من آرائهم وزاد عليها وكاد ينتهي إلى فلسفة اقتصادية هي نسيج وحدها. ولا يتسع المجال للحديث عن أفكار هؤلاء وعن تطورها، وتفصيل القول خاصة في آراء آخرهم «فوراستييه» تلك الآراء التي شاعت وذاعت في كتبه القديمة. وإن نذكر طرفاً من هذه الكتب نذكره كتابه الذي ترجم إلى العربية(1) «حضارة عام 1975»، وكتابه الذي ظهر مؤخراً عام 1963 وعنوانه «الأمل الكبير في القرن العشرين» وكتابه عن الآلة والرفاهية.
وحسبنا أن نقول إن منطلق هؤلاء جميعاً، حقيقة تكشف عنها الدراسات الاقتصادي والإحصاءات المتعلقة بالطاقة العاملة خاصة، وهي أن عصرنا الحديث يشهد – بفضل التقدم التقني – انتقالاً من سيطرة القطاع الاقتصادي المعتمد على الزراعة والصيد وما شابههما (وهو ما يعرف بالقطاع الأولي) إلى سيطرة القطاع الاقتصادي المعتمد على الصناعة (وهو ما يعرف بالقطاع الثاني)، ثم إلى سيطرة القطاع الاقتصادي المعتمد على الخدمات والإدارة والتجارة (وهو ما يعرف بالقطاع الثالث). وبتعبير آخر إذا تابعنا تطور الأشخاص العاملين في كل مجال من هذه المجالات الثلاثة لوجدنا أن العاملين في الزراعة وما شاكلها يتناقص عددهم، وأن العاملين في الصناعة يزداد عددهم بالقياس إلى العاملين في الزراعة بينما يتناقص إذا قيس بالعاملين في القطاع الثالث، قطاع الإدارة والخدمات، ذلك القطاع الذي يزداد عدد العاملين فيه زيادة كبيرة. ويرجع هذا التغير في هذه المجالات جميعها إلى ظاهرة التقدم الفني. فدخول الآلة الحديثة إلى الزراعة يقلل من عدد العاملين فيها. ودخول الآلة إلى الصناعة وازدياد الآلة يوماً بعد يوم يجعل عدد الأشخاص الذين تحتاج لهم الصناعة يتناقص. وهذا كله يؤدي إلى تزايد عدد الذين يعملون في القطاع الثالث، وهو القطاع الذي لا يتأثر بالتقدم التقني تأثراً كبيراً.
هكذا نجد في الولايات المتحدة مثلاً أن النسبة المئوية للعاملين في هذه القطاعات الثلاثة عام 1820 كانت كما يلي: 73% في الزراعة وما شابهها 12% في الصناعة وما شاكلها 15% في القطاع الثالث. أما عام 1960 فقد غدت هذه النسبة على النحو التالي: 9% في الزراعة، 32% في الصناع، 59% في الخدمات والتجارة (في القطاع الثالث).
وما نريد أن ندخل في الحديث عن المنطق الداخلي لهذه الظاهرة، وعن عواملها البنيوية ويكفي أن نقول إنها تومئ إلى تطور أساسي في حياة الإنسان، بفضل الآلة والتقدم الآلي، هو أن الآلة تؤدي إلى تناقص عدد العاملين في الصناعة نفسها، وإلى زيادة عدد الذين يعملون في غير الصناعة، في الخدمات التعليمية والفنية والاجتماعية، في الإدارة والأعمال، في التجارة وغيرها.
وقد بدأت هذه الحقيقة تظهر للعيان في مختلف المجتمعات المتقدمة، إذ تتبدى الحاجة يوماً بعد يوم إلى الذين يعملون في القطاع الثالث وتزداد حاجة الاقتصاد الحديث إلى الإداريين والمشرفين والقائمين بالخدمات، حتى غدا العور على مثل هؤلاء مطلباً عسيراً في الولايات المتحدة أو فرنسا أو غيرهما من الدول المتقدمة. بل إن أحد الباحثين وهو برنهام Branham أطلق على الثورة الحديثة اسم الثورة الإدارية The managerial revolution.
ومعنى هذا كله في لغة التطور ومستقبل الحضارة، أن ازدياد آلية الآلة يؤدي إلى تقليل عدد الذين يعملون لها. فالآلة كلّما غدت آلة أكثر قلّت الحاجة إلى من يشغلها وأصبحت تعمل بنفسها لنفسها، وهذا ما تدل عليه الإحصاءات المختلفة.
من هنا ينطلق أمثال «فوراستييه» ليقولوا إن الآلة – بفضل تزايد التقدم التقني وبفضل تزايد آليتها – تؤدي إلى تحرير الإنسان، إلى هبوط الحاجة إلى من يعملون في الآلة، وإلى إفساح المجال أمام الإنسان ليعمل في القطاع الثالث، وأهم ما في هذا القطاع الثالث، قطاع الخدمات التي تقدم للإنسان، من خدمات تعليمية ثقافية، ومن خدمات فنية وترويحية وترفيهية، ومن خدمات طبية واجتماعية وغيرها.
وهكذا تحرر الآلة الإنسان بعد أن استعبدته بعض الشيء، وهكذا تولد من الحضارة الحديثة التي قامت على الصناعة حضارة هي أبعد ما تكون عن الصناعة، حضارة صناعية ممعنة في الآلية، تفسح المجال بسبب غلو طابعها الصناعي الآلي لأوقات فراغ تتسع للتأمل الفكري والإبداع الفني وسائر أنواع الخدمات التي تمس جوهر الإنسان وقوام إنسانيته.
إن التقدم التقني في عرف هؤلاء هو الذي يحرّر الإنسان من العمل الاستعبادي، ويجبره نتيجة لذلك على عمل الفكر. و«الفئة العاملة» التي تعمل بيدها وتسخَّر في سبيل الآلة، بدأت تذبل بعد طول ازدهار. والحال البروليتارية ستزول مع الفترة الانتقالية التي ولدتها.
والفكرة التي غلبت وسيطرت على عقول المتحدثين عن الحضارة الحديثة، فكرة الإنسان الميكانيكي، فكرة الإنسان الذي هو سجين الآلة، سوف تصبح خبراً بعد عَيْن وتغدو في مستقبل التطور الفني فكرة بالية. وسوف يشهد المستقبل القريب اجتماع الظروف الملائمة لنمو الثقافة والحضارة الإنسانية الحقة، وسيسترد الإنسان العهد الذي كان ينعم به في الأجيال الماضية والذي أضاعه في الفترة الانتقالية الحالية، عهد البحث في ما يهم الإنسان كإنسان.
إن اتجاهات المستقبل – على نحو ما يكشف عنها تقرّي الحاضر ودراساته، وعلى نحو ما تبديها الدراسات الاقتصادية المتصلة بتطور الإنتاج وتطور الطاقة العاملة – تشير إلى تغيرات بنيوية أصيلة في الحضارة الحديثة تميزها الخصائص التالية:
انتقال الناس من العمل في القطاع الأول إلى العمل في القطاع الثاني، إحياء القيم الإنسانية وانتشار اللجوء إلى الفكر في العمل المهني نفسه؛ تناقص الدخل الناجم عن القطاع الأول والثاني وتزايد الدخل الناجم عن القطاع الثالث، انتشار الخدمات التعليمية ولاسيما في نطاق التعليم العالي؛ عَودٌ إلى شروط السكن القديمة (من حيث الاتساع والبحبوحة) مع وسائل راحة أكبر دون شك؛ ارتفاع مستوى المعيشة إلى حد يجعل في المقام الثاني أمر البحث عن إرضاء حاجات الطعام التقليدية ويرفَع إلى المقام الأول إرواء الحاجات الترفيهية والثقافية والفنية.
وفي الجملة ستؤدي حضارة الآلة إلى أن يختصّ الإنسان في ما هو إنساني. وهي إذ تعمل على تحرير الإنسان من العمل الاستبدادي، تجده أقبل لضروب النشاط الفكري والفني والخلقي. وهكذا تعود الآلة – بواسطة الآلة – لتبعد الإنسان عن الآلة، ويعود العلم الحديث فيكتشف ما هو إنساني – في قلب ما هو مادّي آلي. وبهذا تقودنا قوانين الآلة – بضرب من الخُلْف والتناقض يبدو عجيباً – إلى أن نكتشف قوانين الحياة.
هذه نظرة عجلى خاطفة إلى أمهات الأفكار التي تراود بعض الباحثين اليوم – ومعظمهم من علماء الاقتصاد – حول مستقبل الإنسانية. ولقد اجتزأنا الكثير منها وأهملنا تفصيلات فنية وعلمية عديدة وتجاوزنا إحصاءات كثيرة وهامّة، طمعاً منا في أن نطرح جوهر الأمر، نعني ما يراه هؤلاء الباحثون من آمال في حضارة الغد، حضارة الآلة المتحررة من الآلة، حضارة الصناعة الفاعلة التي تهيئ الظروف لحضارة الإنسان، حضارة الفكر والفن والخلق.
فهل تصْدق النبوءة الحلوة؟ سؤال ضخم يحتاج إلى صفحات طوال، وحسبنا أن نقول بإيجاز، إن جملة الوثائق والدراسات التي يقدّمها أصحاب هذا الرأي، تشير إلى أن الأمل ممكن، إن توافرت له بشروط الرعاية. وما نريد أن نقوله خاصة هو أن خطّ التطور رهينٌ دوماً بإدراك الإنسان له وبإرادته وعزمه على تحقيقه. والخطر الذي تومئ به الحضارة الآلية الحديثة لا يتحقق تحققاً آلياً، ولا يأتي – شأن أي مطلب من مطالب الإنسان – من تلقاء ذاته. والذي يحدّد أخيراً خط التطور – بالإضافة إلى عوامل التقدم التقني والاقتصادي التي يجعلها الباحثون الذين تحدثنا عنهم عوامل حاسمة في حضارة الإنسان – موقفُ الإنسان من هذا كله واستجابته وردود فعله. ومهما يكن حظّ العوامل الخارجة عن الإنسان – ومن بينها عوامل الاقتصاد والتطور التقني – كبيراً في تحديد مصير الإنسان، فمن الصحيح أن مصير الإنسان لا يحدّده أخيراً إلا هذا الإنسان نفسه، إلا موقفه من العوامل التي تفعل فيه، وتأثيره فيها إلى جانب تأثره بها.
إن تاريخ الحضارة – تاريخ الأمس والغد – تفاعل بين العوامل الخارجة عن الإنسان إلى حد ما، وبين العوامل الإنسانية الذاتية. وتظلّ العوامل الاقتصادية والتقنية وغيرها – وإن كانت من نتاج الإنسان – شيئاً خارجاً عن الإنسان، ويظل تطورها رهين موقفه منها ونشاطه تجاهها. وحضارة الآلة ليست قادرة على خلق حضارة الإنسان، إلا من خلال وعي الإنسان وتصميمه وبنائه. وحضارة الصناعة لن تولد الفكر والفن والخلق إلا بمقدار ما يضع فيها الإنسان من قيم الفكر والفن والخلق.
إن النظرة الاقتصادية الضيقة التي يقع فيها الباحثون الذين تحدثنا عنهم، نظرة مرفوضة، لاسيما عندما يكون البحث بحثاً في مستقبل الإنسان وقيمه الإنسانية. ومهما يكن شأن قوانين الآلة وقوانين الصناعة وقوانين الإنتاج والاستهلاك، فإنها جميعها لا تسمح بالنتيجة التي يريدها مثل «فوراستييه» حين يقرر إن التطور الاجتماعي ليس سبب التطور الاقتصادي وإنما هو نتيجة له. ولقد زال الوقت الذي كانت تفسر فيه ظواهر الحضارة بعامل وحيد غالب؛ هو العامل الاقتصادي أو العامل الاجتماعي أو العامل الثقافي. والتفسير الصحيح هو الذي يلجأ إلى تداخل العوامل وتشابكها وسيرها في خط رأسي لا في خط أفقي: فما هو اقتصادي يعمل فيما هو اجتماعي وبالعكس. وما هو ثقافي يعمل فيها هو اجتماعي واقتصادي والعكس.
إن حضارة الآلة قد تؤدي إلى تحرير الإنسان من الآلة. وقد تكون المرحلة التي اجتازتها الحضارة الصناعية في بدايتها في أوائل هذا القرن مرحلة انتقالية لمهد لحضارة الإنسان الحقة. وقد تكون حضارة الآلة لا العكس دافعاً إلى التزيّد من تحكم الآلة في الإنسان، واستعباد الآلة للبشر. والذي يرجح الكفة هنا أو هناك الجهد الذي يقوم به الإنسان في قلب هذه الحضارة، والسعي الذي يبذله من أجل تعميق قيم الإنسان وأهدافه، من أجل الحفاظ على إنسانيته.
على أن إيماننا بالإنسان وبقيمه، إيماننا بأن مصيره مزيدٌ من الوعي للقيم المثلى ومزيد من الاتصال باسم المبادئ، يجعلنا رغم كل شيء نؤمن بأن هذا الإنسان قادر في النهاية على تغليب حضارة الإنسان على حضارة الآلة، وعلى تشقيق حضارة الإنسان من قلب الآلة والعبودية والصراع.
عبد الله عبد الدائم
أيلول 1965