“الصلة بين المدرسة والبيت”

تحية المحاضر:
أيها السادة:
الحديث الذي سنتداول الرأي فيه حديث هام ويحتاج إلى بعض الوقفات العلمية وبعض الشيء ولا نستطيع أن نوفيه حقه من البحث. وهذا الموضوع عصبه الأساسي ومحوره يرجع إلى فهم المعلم لعمله التربوي.
الموضوع:
ونقطة الانطلاق في الأهمية التي نعطيها لهذا الموضوع فكرة مكرورة طالما تحدث فيها المربون. وهذا جزء لا يتجزأ من كل. ولا نستطيع أن ننظر إلى عمل المدرسة على أنه عمل مستقل منفصل عن البيت والمجتمع. فهي مؤثرات مترابطة متداخلة وقد ذهب ذلك العصر الذي كان ينظر فيه إلى عمل المدرسة على أنه شيء مفارق للحياة والمجتمع. زالت تلك الفكرة. وزال ذلك (الفصام) بين المدرسة وبين الحياة لم نر من يتفكه بالحديث عن الفرق بين النجاح في المدرسة والنجاح في الحياة بين أن يكون الإنسان ناجحاً في حياته المدرسية وبين أن يكون ناجحاً في حياته الاجتماعية والعامة. لم نعد نرى تلك الاتجاهات التي تبين نسبة عكسية بين النجاح في المدرسة والنجاح في الحياة. لم نعد نرى تلك الأبحاث المتهكمة عن الطالب الذي فشل في المدرسة ثم أصبح رمزاً للنجاح في الحياة العملية لم نعد نسمع مثل هذه التفاهات التي كانت تطبق إلى حد ما على التربية التقليدية التي كانت تتم بين جدران أربعة في معزل عن الحياة في معزل عن المجتمع وأصبح الأمر كما تعلمون أمر وحدة متكاملة بين المدرسة والمجتمع وبين البيئة فهي تستمد من البيئة حياتها ونشاطها وموضوعاتها ومناهجها بحما أنها تقدم للبيئة وتعنى بنتاجها لإرضاء حاجات البيئة وبمطالبها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وغيرها: فالتأثير والتأثر أمران متبادلان بين البيئة وبين المدرسة.
هذه الفكرة التي بدت مكرورة. والتي تعتبر ذات أهمية خاصة في التربية الحديثة هي في الواقع نقطة الانطلاق عندما نتحدث عن الصلة بين المدرسة والبيت فالبيت – هو في الواقع – جزء من هذا المحيط الذي نسميه المجتمع والتربية المدرسية كما قلنا جزء من الحياة، جزء من السوق، جزء من الشارع وجزء من البيت.
الصلة بين المنهج والتربية المنزلية:
ولاشك أن البيت هو الذي يحتل المكانة الهامة بين هذه الأجزاء جميعها ووراء هذا المنطلق الفكرة التي تعرفونها. أعني بها النظر إلى المناهج الحديثة اليوم على أنها خبرات مجتمعة تكون بوسائل عديدة وفي مجالات عديدة ولا تتكون فقط عن طريق ما يقدم من مواد ودروس: فالمنهج الحديث لم يعد كما تعلمون يعني مجموعة من المواد المتصلة أو المنفصلة بعض الشيء أو كله والتي تلقى في المحاضرات أو الدروس. لم يعد المنهج هذه المواد. بل أصبح المنهج كل ما يتعرض له الطالب في حياته من خبرات مع معلميه وإخوانه الطلاب وكل ما يتعرض له الطالب في الشارع من خبرات.
فالمنهج أصبح اليوم يعني مواد المدرسة وطرائقها ومجموع الخبرات يجدها في الحياة ويتأثر بها الطالب. وبهذا يكون المنزل أو التربية المنزلية جزءاً من منهاج المدرسة. ولا يمكن أن نفصل هذا الجزء أبداً عن سائر الأجزاء.
إذن التربية المنزلية. بمعنى التأثرات التي يتلقاها الطالب في البيت هي في الواقع جزء أساسي من منهاجه ولا يستطيع الجو المدرسي أن يهمل هذا الجزء الهام.
ويجب أن نعرف منذ البداية أننا عندما نتحدث عن الصلة بين المنزل والبيت لا نتحدث عن شيئين منفصلين كما قد يبدو. ونحاول أن نتلمس العلاقات بينهما وإنما نتحدث عن عملية واحدة لها أقطابها ومحاورها المتعددة. قطباها الكبيرات المنزل والبيت.
أثر الجو المنزلي في التربية:
علينا أن نحاول أن نعرف – بشكل مفصل – آثار الجو المنزلي بالنسبة لتربية الطالب ثم ولماذا نعطي هذا الدور الكبير للخبرات التي يستقيها الطالب في الجو المنزلي الحديث؟ ولعلنا ندرك أهمية المنزل في تربية الطالب إذا ذكرنا أمراً له شأن كبير في نجاح العملية التربوية وهو ضرورة وجوبه (وحدة الجو التربوي) أهم شيء في الجو التربوي أن يكون (جو موحداً) لا يقوم تناقض بين أجزائه وفي مفاهيمه: فيتلقى الطالب نوعاً من (التوجيه الفكري) في ميدان، ويتلقى الطالب نفسه نوعاً آخر من التوجيه الفكري يكون مناقضاً له في ميدان آخر.
ويعامل في موقف بالقسوة ويعامل في موقف مماثل بالكثير من التهاون والتخاذل. ويتعرض في جو لانفعالات معينة. ويتعرض في نفس الوقت لانفعالات أخرى مغايرة في جو آخر وهكذا. فمثل هذا (التباين) والتشتت في المؤثرات التي يتعرض لها الطالب هي أقتل ما يكون في العمل التربوي الذي ينبغي أن يكون موحداً في المدرسة نفسها من حيث توحيد معاملة الأساتذة للطالب.
وأن تكون: موحدة في البيت نفسه: فلا يكون الوالد في واد والوالدة في واد آخر. وإذا كنا نعتقد بضرورة وأهمية (الوحدة في الجو التربوي) بصفة عامة. فهو دوماً هام في بلادنا العربية بصفة ألزم.
ازدواج الشخصية ومكوناته:
أيها السادة:
لا أدري إذا كنتم توافقونني على أننا نشكو – إلى حد كبير – من (الازدواج) في تكوين الشخصية. وبهذه المناسبة يمكننا أن نقرر: أن وحدة التربية تكون وحدة الشخصية. وبالتالي نقول: إن المسؤول الأول عن ازدواج الشخصية يرجع إلى تعدد الأجواء التربوية وكثرتها.
فإذا تأملنا كثيراً من المشكلات الفكرية والاجتماعية التي نشكو منها في بلادنا العربية لوجدنا أن جزءاً كبيراً منها يرجع إلى تكوين في الشخصية لا يتصف بالانسجام الكامل: فهناك مستويات في التفكير عند الناس لا مستوى واحد: قد لا يفكر شخص ما تفكيراً علمياً في ميدان. ولكنه يفكر تفكيراً بعيداً عن الروح العلمية في ميدان آخر حسب وجود بعض المؤثرات في موقف وعدم توافرها في موقف آخر وقد يشعر ببعض الأحاسيس السليمة النامية في ميدان ولكنا نجده في ميدان آخر فظاً غليظ القلب. وقد نجده يتفهم بعض الاتجاهات تفهماً سليماً فيما يقف منها موقفاً مناقضاً في موقف آخر. كل هذه الظواهر تعبر عن حقيقة واحدة. هذه الحقيقة هي افتقاد (الوحدة التربوية). ولما كان البيت ما يزال متخلفاً عن المدرسة كان لزاماً علينا أن نهتم اهتماماً كبيراً بالتربية المنزلية.
المبررات التربوية والنفسية التي تعطي للبيت أهمية كبيرة:
لا نقول جديداً إذا قلنا إن المنزل يلعب دوراً كبيراً في تكوين الطفل النفسي. ولا نريد أن نذهب بعيداً في هذا المجال فنقول مع أصحاب (مدرسة التحليل النفسي) بأن السنوات الأولى في حياة الطفل هي السنوات الحاسمة في حياته. نعني بذلك السنوات الخمس أو الست.
إلا أننا لا نستطيع – كذلك – إلا أن نقرر: بأن المرحلة الأولى – المرحلة السابقة لمرحلة المراهقة – مرحلة هامة في حياة الإنسان. وفي هذه المرحلة بالذات تتكون اتجاهات الطالب وأفكاره ومشاعره تكوناً نهائياً إلى حد بعيد. ولا نغالي إذا قلنا مع أصحاب (التحليل النفسي): بأن المراهقة صورة ثانية عن الطفولة تقرر وتثبت فيها العواطف والعادات والمواقف التي ألفها الإنسان في مرحلة الطفولة.
إذن. فمرحلة الطفولة مرحلة حاسمة. وهذه السنوات الأولى كما نعرف هي التي يتعهدها المنزل بالدرجة الأولى. ونحن نعرف أن دراسة الأمراض النفسية كشفت عن أن كثيراً من الانحرافات وأنواع الشذوذ ترجع إلى سن الطفولة: شكل العلاقة التي يعقدها الإنسان مع أقرانه. شكل علاقة الإنسان برؤسائه. شكل علاقة الإنسان بزملائه في المجتمع يتحدد إلى حد كبير. بشكل العلاقات التي ألقها الصغير في بيئته المنزلية وبصورة خاصة بالعلاقات التي عرفها مع أبيه ومع أمه ومع إخوته كل ذلك يتأثر إلى حد كبير بتلك المراحل التي عرفها في طور الطفولة.
هذا الثالوث الذي عرفه: (الأب – الابن – الأم) يظل يلاحقه في طور المراهقة وكذلك الشباب وطور الرشد. حتى أن (أدلر) – كما تعلمون. حاول أن يتحدث عن تأثير (ترتيب الطفل) في الأسرة – وعن أثر هذا الترتيب في تكوين الإنسان وعلاقته بالآخرين وطباعه وأخلاقه: فالطفل الوحيد يمتاز بصفات معينة نتيجة كونه طفلاً وحيداً. والطفل الثاني في الأسرة له صفاته المباينة والطفل الأخير له صفاته المباينة التي تميزه عن غيره.
فالطفل الأول لم يعرف حياة الأخوة والحدود التي يفرضها الأخوة على رغباته وعلى ما يريده ومن هنا عاش حياة الأمراء. لأن محبة الآباء – كما قال عالم سويسري – تكوّن الأمراء. بينما محبة الأخوة تكون مواطنين. هذه أمور كلها تبين بشكل سريع وعابر كيف أن هناك مؤثرات وانطباعات أساسية في مرحلة الطفولة تلعب دوراً كبيراً في تكوين طبع الإنسان.
وطبع الإنسان في مرحلة المراهقة والشباب نستطيع أن نقول إلى حد بعيد بأنه إعادة وتطوير وتنمية لاتجاهات تكونت بشكل شبه حاسم في مرحلة الطفولة.
تأثير الوراثة في التربية:
نريد أن نذكر كم أيضاً بالدراسة المتصلة بالوراثة والبيئة فنقول: إن الدراسات النفسية أثبتت أن للوراثة أثراً كبيراً في تكوين الإنسان وميوله وطباعه ولكن يجب أن نعترف أيضاً بأن للبيئة دوراً فعالاً في تكوين كثير من القابليات الخاصة والمواهب لا ترجع فقط إلى عوامل وراثية وإنما ترجع إلى عوامل منزلية.
والباحثون في أمر الوراثة والبيئة عندما يشيرون إلى بعض الأسر التي عرفت جميعها من أولاد وأحفاد ببعض مواهب معينة لا يكتفون بالقول بأن سبب ذلك الوراثة وحدها ولكنهم يضيفون إلى ذلك بأن من أهم أسباب تلك المعاملة المنزلية التي يلقاها أولئك الموهوبون والتي تتسم بعناية خاصة تكفل لمواهبهم النضج والصقل والتفتح.
وهذا بين لنا الدور الكبير الذي تلعبه الأسرة في تكوين الإنسان من الناحية النفسية ولست في حاجة أيضاً إلى أن أذكركم بشيء آخر يحتاج إلى وقت طويل. وهو أثر البيت وانسجامه أو تفككه. الأمر الذي ينجم عنه سلامة الأطفال نفسياً أو انهيارهم ومن مظاهر ذلك علاقة الوالدين مثلاً.
ولقد أثبتت الأبحاث التي أجريت على الشواذ من الأطفال توضح أن نسبة 70% من الشواذ يعود شذوذهم إلى عوامل منزلية وبصورة خاصة إلى عوامل تتصل بالأوضاع الاجتماعية التي تسود المنزل.
أثر المنزل في التربية الفكرية:
إن البيت يلعب دوراً كبيراً في متابعة التربية الفكرية التي يتلقاها الطالب. ونحن نعلم أن من المشكلات التربوية الكبرى (مشكلة الارتداد إلى الأمية) في كثير من الأحيان لدى الذين ينقطعون عن الدراسة بعد مرحلة التعليم الابتدائي فمرحلة التعليم الابتدائي – بل كل مراحل التعليم – ليست مقصودة لذاتها وليست مكتفية بذاتها ولا تستطيع أن تكون إنساناً كامل التعليم وإنما تكون إنساناً قابلاً لأن يتعلم. ولكي يستطيع فعلاً أن يتعلم ويتابع دراسته يحتاج بشكل خاص إلى جو منزلي مساعد على متابعة هذه الدراسة.
وكثير من الباحثين يؤكدون أن أشكالاً من الارتداد إلى الأمية لدى أولئك الطلاب الذين تابعوا بعض سنوات التعلم الابتدائي أو تابعوا مرحلة التعليم الابتدائي كلها ثم ارتدوا بعد ذلك إلى الأمية الحقيقية أو الأمية الثقافية أو الاجتماعية على أقل تقدير كل ذلك يرجع إلى عدم توافر الشروط المنزلية التي تمكن الطالب من متابعة التعليم بطريقة ناجحة.
أهمية هذا الموضوع وأسباب هذه الأهمية:
وهذا الموضوع هام لاتصاله المباشر باقتصاديات البلاد. لأننا ننفق الأموال الطائلة التي ننفقها في التربية والتعليم الابتدائي خاصة والتي تذهب هدراً إذا لم تتوفر لهذه التربية شروط المتابعة. وشروط متابعة هذه التربية تحتاج بالدرجة الأولى إلى جانب الوسائل الأخرى التي يقدمها المجتمع – يحتاج إلى جو منزلي مساعد على هذه المتابعة من هنا تأتى أهمية التعليم الإلزامي الكبيرة بالنسبة إلى الجيل الذي يقع عليه الإلزام. لكنها أهم وأكبر بالنسبة للجيل الذي يتكون منه هؤلاء الذين سيقع عليهم الإلزام. هذا الجيل الذي يقع عليه الإلزام هو الذي ستتكون منه أسر الغد. وهو الذي يستطيع أن يوفر جواً تربوياً منزلياً سليماً وكاملاً.
أهداف التعليم الإلزامي:
ومن أهم العوامل التي تساعد على تحقيق التعليم الإلزامي إصلاح (الجو المنزلي) ويمكّن هذا الجو بصفة عامة الدارس من متابعة دروسه. ومراقبة هذه الثقافة طبعاً. لا حاجة إلى أن أذكر شيئاً آخر بدهياً وهو أن الأسرة هي التي تهيئ الشروط المادية والاجتماعية اللازمة للعمل الفكري الخالد.
هذا أمر بدهي غير أنني أفضل أن أقف وقفة قصيرة جداً عند جانب أعتقده هاماً جداً يتصل بأثر البيت في التربية الفكرية: وهو أن البيت كثيراً ما يكون مسؤولاً عن بعض أنواع (الإحجام الفكري) أو (الكفّ الفكري) كما يقول علماء النفس. وبعض أنواع التخلف المدرسي وبعض أنواع كُرْه المواد الدراسية.
هذا جانب قد لا يكون مطروقاً ولكنه هام جداً. وهو:
أثر المنزل في الاهتمامات الفكرية لدى الطالب:
ولبيان ذلك نقول: يقف كثير من علماء النفس عند ظاهرة هامة وهي ظاهرة (الكفّ الفكري) عند بعض الأطفال في بعض الفترات.
فالطالب يتأبى عن التفكير. لا يريد أن يفكر إطلاقاً. كأن بينه وبين التفكير سداً منيعاً. رغم أن الطفل بطبيعة طُلَقه توّاق إلى المعرفة بطبعه. والدراسات النفسية بدورها لا تقف مكتوفة الأيدي بل ترجع أسباب هذه الظاهرة إلى عوامل عاطفية وانفعالية يعاني الطالب منها في البيت: فالبيت هو المسؤول عن هذه الظاهرة.
وإذا أردتم الإيضاح نقول: إن علماء النفس يقولون إن الطالب في مرحلة التعليم الابتدائي يبدأ بالتساؤل عن سبب مجيء الأولاد وخاصة إذا كان مسبوقاً بأخوة له ينافسونه في حب أبويه وعطفهم كأن يتساءل عن الفرق بين الذكورة والأنوثة. هذه التساؤلات حيوية للطفل وكثيراً ما لا يجد لها جواباً مقنعاً لدى الآباء. أو يجد لها أجوبة يعتقد الآباء والأمهات أنها أقنعت الطالب ولكنها في الحقيقة لا تقنعه.
ونحن نعرف أن الكثير من الآباء يتهربون من الإجابة عن مثل هذه الأسئلة فكل مجتمع يقترح إجابات للتهرب من مواجهة حقيقة الموقف فيقول بعضهم في تعليل مجيء الأولاد. إن الولد يأتي به طائر ليلقي به ثم يختفي في الجو.. وهكذا.
ويعتقد الآباء – وهم واهمون في ذلك – بأن الولد قد اقتنع. فعلاً.
التعليل النفسي لظاهرة (الكف الفكري):
ويعتقد الكثير من علماء النفس أن هؤلاء الذين يشكون من (ظاهرة الكف الفكري) هذه بأن إضرابهم عن التفكير يرجع بالدرجة أولى إلى أنهم لم يلقوا الجواب الصحيح عن هذه الأسئلة الحيوية التي تعلقهم وتبلبل أفكارهم.
فما داموا قد فشلوا عن الإجابة عن الأسئلة الحيوية بالنسبة لهم ولم يجدوا حلاً للمشكلات الفكرية التي تؤرقهم فلينصرفوا – إذن – عن كل تفكير مطلقاً وكأنهم بذلك يعبرون عن يأسهم من التفكير في هذه المرحلة. وهناك دراسات عديدة تكشف عن وجود هذا العامل وراء ظاهرة (الكف الفكري) وبهذه المناسبة نجد – مادمنا قد وصلنا إلى هذا الحد – أن نتحدث عن مسألة لها صلة بهذا الموضوع وهي:
التخلف المدرسي وأسبابه:
إن ظاهرة تخلف الطلاب في المدرسة لا ترجع دائماً إلى أسباب تتصل بذكائهم أو أسباب تتصل بجدهم ونشاطهم. وإنما ترجع في بعض الأحيان أيضاً إلى عوامل عاطفية منزلية هي مسؤولة – في كثير من الأحيان – عن التخلف المدرسي. ولابد هنا من تبادل الرأي حول السبب الحقيقي للتخلف.
كثيراً ما تعجز المدرسة وحدها عن إيجاد الأسباب الحقيقية عند دراسة مثل هذه المشكلة وعن إيجاد الحل الملائم. ولابد من التشاور مع الأسرة وقتذاك.
ومشكلتنا أننا نحاول أن نحل هذه المشكلة منفصلة بذاتها دون الرجوع إلى مسبباتها وملابساتها بينما الحقيقة أن هناك صلة كبيرة جداً بين المشكلات الفكرية والعاطفية.
ولا نغلو إذا قلنا إن قدراً كبيراً من الفكر ومن المعرفة والإبداع ينطوي على جزء كبير من العاطفة. والمراحل العاطفية تتفجر في الأعماق فتمد العبقرية بطاقة كبيرة تمكن من الخلق والإنتاج. والعوامل العاطفية هي الموقد وهي المحرك. وهي المهاد للفكر وللتجربة الفكرية. وهذه المواقد العاطفية يستقيها الإنسان بالدرجة الأولى من علاقاته الأولى مع أهله: من علاقاته بوالديه. من درجة الحنان التي تبذله. من تعرضه لأزمات يشعر فيها أحياناً بانفصام الحب العائلي. أو بفطام مبكر عن عواطف الآباء.. الخ.
تأثير الجو المنزلي في الإقبال على بعض المواد أو العزوف عن البعض الآخر:
وإن أبحاثنا كثيرة أثبتت أن وراء إقبال الطالب على بعض المواد المدرسية وانصرافه عن البعض الآخر. وراء ذلك كله بعض العقد العاطفية التي يشكو منها الطفل والتي ترجع إلى العلاقات الأسرية.
ووراء الميل لبعض المواد المدرسية أيضاً العقد والانفعالات. وكثيراً ما يكون الميل الذي يبديه بعض الطلاب في مرحلة من مراحل الدراسة إلى بعض المواد المعنية يكون ميلاً كاذباً. وهذه مسألة يجب أن تكون موضع اعتبار فيما يتصل بتوجيه الطلاب نحو الدراسات التي هم لها أهيأ. إذ ليس من الصحيح أن كل ميل هو تعبير حقيقي عن الرغبة الحقيقية. أو تعبير عن استعداد حقيقي: فقد يكون الميل إلى بعض المهن نتيجة انحرافات نفسية (كالسادية) مثلاً. أو (الماسوجية) أو عقدة (القرض) أو الميول الاستعراضية فميل مثلاً أو انحراف كالسادية (عقدة النزعة إلى تعذيب الآخرين) يمكن أن تجعل بعض الأشخاص ميالين إلى اختيار مهنة كمهنة الجزار. أو مهنة الطبيب الجراح. أقول يحدث هذا في بعض حالات (الميل الكاذب). وانحراف نفسي سببه (الماسوجية) أعني تعذيب الذات أيضاً قد يؤدي أيضاً إلى تخير بعض المهن التي يتحقق فيها قدر كبير من المشقة وتعذيب الجسد. ونزعته (كعقدة العرض) أعني محبته أن يستعرض الإنسان نفسه يمكن أن تجعل بعض الناس يختارون مهنة كمهنة المغني أو الممثل مثلاً أو غير ذلك من المهن. ولكن ينبغي أن نؤكد أن هذا ليس شيئاً عاماً بحيث ينطبق بالضرورة عل كل الأفراد. هذا شيء نادر. ولكن ينبغي أن نتنبه في التربية إلى مثل هذه الحالة. لذا كان هذا الجو (الجو الانفعالي) الذي يحياه الطالب في المدرسة له أثر فوق ما يتصور على تكوينه وعلى اتجاهاته الدراسية وعلى محبته للدروس وعلى تخلف المدرس وعلى إقدامه على التفكير أو إحجامه عنه. وحتى على ميل اختيار بعض مواد الدراسة دون مواد أخرى. الأمر الذي يدعونا إلى النظر بكثير من الجد والاهتمام إلى موضوع (الجو المنزلي) وإقامة العلاقات القوية والوثيقة بين خبرة المعلمين في المدرسة وبين خبرة أولياء الأمور في البيت.
أثر المنزل في التربية الخلقية:
أيها السادة:
من الواضح أن التربية الخلقية يلعب فيه المنزل دوراً كبيراً. وإذا كان هناك تربية تحتاج إلى (وحدة الموقف) في الاتجاهات التي تحدث فيها البداية أكثر من غيرها.
فالتربية الخلقية بالدرجة الأولى تحتاج إلى هذا الموقف الموحد بين المدرسة وبين المنزل. بل إن كثيراً من الصعوبات التي تلقاها المدرسة في معاملة الطلاب في المدرسة في الثواب والعقاب يكون مردها إلى اختلاف الجو بين المدرسة وبين المنزل. ترجع إلى عادات ألفها الطلاب في منازلهم بينما تحاول المدرسة إحلال عادات أخرى سواها لديهم. كذلك لا ننسى أن التربية الخلقية لم تعد تعني ترديد عبارات ومواعظ في الأخلاق.
بل لم تعد تعني حتى (القدوة والمثل). وإنما أصبحت تعني في الدرجة الأولى (ممارسة) العمل الخلقي ومعاناة الطالب للعمل الخلي نفسه: بأن يتعود عن طريق سلوكه على القيام ببعض أنواع السلوك. بأن يحسن إلى الفقراء مثلاً. أو يقدم خدماته للحي. أو يقوم بحملة لتشجيع بعض الأغراض الإنسانية. هذه الأعمال التي يمارسها هي التي تكون السلوك الخلقي السليم. وهذه الممارسة يتم جزء كبير منها عن طريق البيت لا عن طريق المدرسة فحسب. ومن هنا يلعب البيت دوراً كبيراً في التكوين الخلقي.
(الأنا الأعلى) ودورها في تكوين السلوك الخلقي:
يذكرها بعض علماء النفس لبيان دورها في تكوين السلوك الخلقي (الأنا الأعلى) الذي يتكون جانبه في (الأب) وفي (الأم) هو العامل الأساسي من تكوين الخلق. ومن الثابت أن الطفل من بعض مراحل عمره يتقمص شخصية الوالدين ووالده بشكل خاص، بمعنى أنه يحاول أن يجد في نفسه المثل والأفكار والاتجاهات التي يجدها في والديه.
ويظل هذا (الأنا الأعلى) هو الرادع الأساسي لحياته الخلقية في جميع مراحل نموه.
أثر المنزل في التربية المهنية وتلوين النظرة إليها:
إذا أردت أن آخذ جانباً آخر من أثر البيت في حياة الطالب النفسية ذكرت أيضاً بشكل عابر أثر البيت في التربية المهنية. وهذه ناحية أعتقد بأنها هامة.
إن اختبار الطلاب لمهنتهم في المستقبل يلعب فيه المنزل دوراً كبيراً ولاشك.
وكثيراً ما يقوم تعارض بين رغبة الأهل في أن يختار ابنهم مهنة معينة وبين رغبة المدرسة المستندة حقيقة إلى القابليات الحقيقية لهذا الطالب. قد لا يكون هذا الطالب مؤهلاً بحكم قابلياته لأن يعمل طبيباً مثلاً. ولكن أهله مع ذلك يريدونه طبيباً مهما يكن الأمر. هذه مشكلة ضخمة تقوم في مجال التربية المهنية. وتكون خسائر إصرار الآباء على بعض المهن بالنسبة لأبنائهم دون أن يأبهوا بالقابليات الحقيقية لدى الأبناء. وهي تكون خسائر فردية واجتماعية:
خسارة للفرد إذ ليس أشق على الإنسان من أن يختار مهنة هو غير راغب فيها أو مائل إليها.
فكل ميسر لما خلق له كما أن السعادة الحقيقية في عكس ذلك. لأنه لن يعطى في هذا الميدان شيئاً كبيراً.
أي أنه لن يقدم لمجتمعه شيئاً قليلاً أو كثيراً. وبذلك يكون الضرر مزدوجاً.
وبذا تكون الخسارة فردية واجتماعية معاً في آن واحد. كذلك هناك ناحية أخرى أعتقد أنها تحتل مكانة خاصة في وطننا العربي وهي دور المنزل في تحبيب أو تبغيض العمل اليدوي والعمل المهني بالنسبة للأولاد.
فنحن نعلم أن المجتمعات القديمة ومجتمعاتنا العربية القديمة كانت تحتقر العمل اليدوي وتعتبره عملاً مرذولاً دون العمل الفكري الذي يحتاج إلى التأمل دون البحث المجرد.
أما المجتمعات الحديثة – بعد ذلك – بدأت شيئاً بعد شيء تقضي على هذا التفكير البالي القديم وبدأت تبين أن القيمة الحقيقية للإنسان بعمله أياً كان هذا العمل. بل إننا الآن في (عصر العمل اليدوي) المهني – الصناعي – التكني.
وإن أي بلد لا يستطيع أن يتقدم إلا عن طريق المهارات الفنية واليدوية لأن ذلك كله جزء أساسي من حضارته وثقافته. ولكن مجتمعاتنا العربية لا تزال في هذا الميدان في منزلية بين المنزلتين:
فنحن نريد أن نأخذ بأسباب الحضارة الغربية. ونريد أن نعطي العمل اليدوي دوره لكن الرأي العام المنزلي مازال يشدنا إلى الوراء إلى حد بعيد، فما يزال أيضاً كثرة الآباء يؤمنون بأن الأعمال اليدوية هي آخر ما يمكن أن يختاره أبناؤهم. وإن المهن التي لا تتسخ بها اليدان هي المهن المفضلة. هذه النظرة تصحيحها بوساطة المدرسة فنفهم الطالب أن العمل. والعمل فقط – في حد ذاته أياً كان هذا العم الذي يشعر صاحبه بالسعادة والاستعداد له هو العمل العظيم سواء أكان فكرياً أم يدوياً. لأن المجتمع العربي سيظل في حالة من التأخر إذا ظل عند هذا الاعتقاد.
الصلة بين العمل اليدوي (المهني) والفكر:
لا يمكن أن نتصور أن هناك فكراً بلا يد تنفذ هذه الأفكار: فالصلة بين العقل واليد صلة حقيقية وثيقة. وكما يقول غاندي: لو كنت شاعراً لما توانيت عن أن أنظم قصيدة من فضائل استعمال أصابع اليدين، والإبداع الفني لا يمكن أن يتأتى إلا عن طريق (التفكير باليد) وأستعمل هذه العبارة (التفكير باليد) عن قصد. فهناك تفكير فعلاً باليد أهم من التفكير عن طريق دوران العقل حول ذاته وما أحوجنا إلى تغيير النظرة القديمة إلى العمل اليدوي. وعلى البيت تقع مسؤولية كبيرة وعلى المدرسة مسؤولية أكبر.
إذن. واجبها أن تطور مفاهيم الأهل وتصححها.
دور المنزل في التربية الجمالية: والقومية:
للمنزل دور كبير كذلك في تنمية الذوق والإحساس وتربية المواطن الصالح أو تربية الأطفال على الشعور بالمواطنة والإحساس بالمواطنة وعلى اعتزاز بأمتهم.
ويمكن أن نقول في هذا الصدد: إن البيت العربي مقصر تقصيراً كبيراً تجاه وطننا في مرحلته التي يجتازها الآن.
فهناك بون شاسع بين مواقف أمهاتنا العربيات الخالدات وأمهاتنا المحدثات: شتان بين موقف الخنساء وأسماء بنت أبي بكر من أبنها عبد الله بن الزبير وبين موقف بعض الأمهات في مجتمعنا العربي اللائي يربين الأبناء على التدلل ويغمرنهم بنوع من المحبة القتالة لأن الحنان الزائد يقتل. شأن القسوة تماماً. لا أريد التحدث عن أثر البيت في أعداد الأبناء لعصر قَُلَّب وزمان غدور ولكن يكفي أن أقول: ينبغي أن يدرك الآباء أن أولادهم كما قال علي بن أبي طالب – خلقوا لزمان غير زمانهم. هذا أمر هام ينبغي أن يحرص عليه الآباء في تربية أبنائهم من أجل المستقبل وخلاصة القول في هذا الصدد:
إن أهم وسيلة دون شك هي تثقيف الأهل وتنمية المستوى الثقافي بالتعليم الإلزامي. ومن هنا تأتي أهمية التعليم الإلزامي.
التعاون بين البيت والمدرسة ووسائل ذلك:
هناك وسائل كثيرة تتخذها المدرسة كي يتم الاتصال بينها وبين المنزل ومن الممكن أن يكون ذلك عن طريق الاتصال الفردي الشخصي. أو عن طريق الاتصال المشترك بين أهالي الصف الواحد، أو عن طريق إشراك الآباء في نشاطات المدرسة. أو عن طريق إشراك الآباء في حل مشكلات بعض الأطفال.
طبعاً كل ما قلته يشير إلى أن التواصل ينبغي أن يكون دوماً قائماً بشتى الوسائل بين المدرسة وبين البيت.
وأهم وسيلة في نظري عدا هذه الوسائل المفضلة هي الصلة الفكرية بمعنى تعهد المدرسة لثقافة الآباء، بتوفير مناسبات لندوات ومحاضرات يحضرها الآباء يتناقشون فيها ويتعرفون فيها على أسلوب المدرسة التربوي. إذ أن من الهام جداً – بالنسبة للعملية التربوية الناجحة – أن يعرف الآباء كيف تفكر المدرسة ولهذا تعمل شيئاً أو تترك شيئاً آخر. وهكذا… ولهذا تسلك هذا المسلك في التعليم بدل هذا المسلك الآخر.
إن هناك استفسارات كثيرة توجه من الأبناء إلى الآباء ويجيبون عنها إجابات مغلوطة تجعلهم لا يساعدون المدرسة في عملها بل بالعكس. وتعرّف الآباء عن طريق الندوات والمناقشات والمحاضرات ليتعرفوا على اتجاهات المدرسة وفلسفتها التربوية كل هذا يقدم عوناً كبيراً للمدرسة ويزيل الكثير من الأوهام الخاطئة التي قد تعلق بأذهان الأهل كذلك هناك وسيلة تلجأ إليها المدرسة الحديثة وهي (إنشاء مجالس للآباء) والمعلمين. يلتقي فيها هؤلاء وأولئك للإدلاء بآرائهم حول الأمور التي يجب اتخاذها لمصلحة الأبناء.
أيها السادة:
لعلي أكون قد أثرت في أذهانكم بعض الأفكار والتساؤلات التي أود أن أستمع إليها وإلى ملاحظاتكم التي قد تكون منطلقاً لدراسات أشمل وأعمق وأرحب.
والسلام عليكم ورحمة الله