بين الأدب والفلسفة

الآداب – العدد الثالث – آذار /مارس/ 1962
بين الأدب والفلسفة
بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم

قد لا يكون في طوق الصفحات، أن تلم بجانب من تلك الصلة المترعة التي تقوم بين ما يثوي في الوجود من معان هي قوام الفلسفة، وبين أداة التعبير عن هذه المعاني، نعني اللفظ.
ولا أدل على غنى هذه الصلة وتنوع ألوانها وجوانبها مما نجده من لحمة تكاد لا تنفصم، بين هاتين الحقيقتين الساجيتين في جوهر الحياة، الفكرة والكلمة. لقد كانت الكلمة في البدء، لأن الوجود لا يكون وجوداً ما لم يجله التعبير. وكانت الفكرة في البدء لأن كل وجود وجود محمل بمعنى ودلالة، حتى ليكاد يهم بالتعبير ويومئ بالكلمة. إن الشجرة والقمر والإنسان تحمل فلسفة الكون في ثناياها، ويحل لغز الحياة في طياتها، غير أن تلك الفلسفة وذلك اللغز يخلقان دوماً وأبداً خلقاً جديداً، عندما يغزوهما اللفظ ويستنطقهما الحديث، إن ما فيهما من أسرار الوجود، بل ما في الوجود كله من أسرار، متجدد أبداً، يتفتق تفتق عيون النور المخضلة بالندى، عندما يلامسه سحر التعبير، وينسكب فوقه لؤلؤ اللفظ. إن الطبيعة فيلسوفة على شاكلتها، وإن المجتمع بنظمه وعلائقه، فيلسوف على شاكلته. والحياة في نغمها المشعشع، بين الطبيعة والإنسان، فيلسوفة الفلاسفة، غير أن فلسفتها هي الحياة لا تبوح بها دفعة، ولا تنثها طائعة ميسرة. إنها كالأفق، تدنو منه ولا يدنو، ويطمعك ولا يبلغك. والتعبير في سباق دائم مع هذا الأفق، يلمح فيه الرؤى ويطوي لها الأيام والسنين، والأفق دوماً وراء الرؤى، والرؤى أبداً فوق الأفق.
هذا اللحاق السرمدي بين سر الحياة وبين التعبير عنه، هو في نظرنا جوهر الصلة بين الفلسفة والأدب، إنها هنالك، في النبع، في مآقي الوجود، في الحياة التي حملت المعنى، وفي الكلمة التي قالت للمعنى كن، في الفكرة السادرة تتمطى وتتثنى في أعماق الكون، وفي اللفظة تهب لترويها وتمنحها الدفء وتفتق أكمامها في جنح من الليل. إنها هنالك دوماً وأبداً، في المعنى الخصيب الفقير معاً، يحمل الرؤى غزيرة ولا يمرع إلا إذا بله القول، وفي القول القوي العاجز معاً، يضرب بالعصا السحرية فيفجر المعنى ويشقق السر ويهتك الحجب، غير أنه يظل مع ذلك في صبوة أكبر إلى سر جديد، يطول به الطريق كلما أوغل فيه ويعجز عن معنى الكون كلما سرى إليه، ويرتد صاغراً في كل مرة إلى الفكرة الثاوية في الكون بعد أن خلقها في زعمه يستمد منها قدرة جديدة على الخلق. أجل هنالك، في معنى الكون الصامت الجبار، وفي كلمة الإنسان القادرة أبداً العاجزة أبداً، يكمن العناق الأصيل بين الفلسفة والأدب.
لقد قال الكون كلمته، قالها مليئة بالرؤى والأحلام، عامرة بالآفاق اللامتناهية، مسجاة بالشفوف تشف عن آفاق لا محدودة تُرى ولا تَرى.
وجاءت كلمة الإنسان، تبحث عن الرؤى، تصطاد اللؤلؤ، واللؤلؤ في قاع تنزلق فيه القيعان. جاءت الكلمة لتكون عين الخلق الذي بها يرى ذاته، غير أن الخلق يؤثر أبداً ألا يتعرى، ويروق له أن تتجدد اللعبة إلى الأبد: ينسدل منه ستار ليرتفع ستار، ويغمز بجانب من أسراره في مثل طرفة العين، ثم ما يلبث حتى ينام على مسر مكين.
والصائد الأكبر في هذا الصيد الجاحد الممطال، هو الأديب. إنه الإنسان ذو الرؤى، إنه أولاً وقبل كل شيء، حالم رأى رؤيا في أفق الكون، وأدرك برقاً من أثر اللغز العريض، فطوف لحاقاً بالأفق وطفق قبضاً على البرق. لقد لمح في سراب الحياة جرعة وهب لبلوغها حياته. إنه يهم ويعزم، فقد أوشك أن يطأ الأرض المقدسة، وعتم يمسك بالنور وينثر قطراته وسط الديجور.
ولا يعنينا أن يكون هذا الأديب ناثراً أو شاعراً، خدين القصة أو أليف المقالة، إنه في نظرنا الإنسان الميتافيزيقي من الطراز الأول، وإذا صح تعريف بعض الفلاسفة للإنسان بأنه حيوان ميتافيزيقي، فالأديب في الذروة من هذا التعريف. إنه أبداً غارق في جوهر الوجود وماهية الكون، سواء أدرك ذلك أو لم يدرك. إنه أبداً ذلك الساعي إلى تعرية الوجود آملاً في فهمه، وطمعاً في الإمساك بسره، فالتعبير دوماً كشف وتعرية، وتعبير الأديب ومضة من النور رأى من خلالها طرفاً من جسد الحياة، فجرب أن يكشفه لنفسه ولغيره.

وقد يكفيه من الومضة أن يستلقي في ضيائها ويطعم من نورها سعيداً لا يطمع من الرؤى بأكثر من الرؤى، ولا يسائل عما وراء التهاويل، وإذ ذاك نلفيه شاعراً أو ناثراً يشفق على المعاني التي تراءت له أن تخرج من إطارها الطبيعي الذي تبدت فيه إطار الضباب المنعش، والأسرار القريبة البعيدة، والأحاسيس اللامتعينة. وفي مثل هذه الحال نلفي الأدب الإيحائي، الذي يجهد أن ينقل الرؤية نقلاً أميناً، بلبابها المتشابك المعقد، وبأحاسيسها المبهمة المختلطة، وبأصواتها المبحوحة الحائرة.
وقد لا يقنع الأديب بالتلميح من دون التصريح، وقد لا يقوى على الاستلقاء في أحضان الرؤيا، ويأبى إلا أن يعمل فيها عقله، فإذا به يحاول جاهداً فك جنباتها وتشذيب هوامشها، وتقضيب فروعها، ليخرجها بعد ذلك كله في جلباب مفصل على قد الإنسان، يدركه عقله، وتعيه تجربته وعند ذلك نلتقي بالأدب الذي يفصح عن فلسفة واضحة ويتبنى وجهة نظر محددة.
ويأتي في منزلة ثالثة، رجل لا يقنعه تلميح الأديب المغطى بالضباب، ولا ترضيه محاولة من أراد أن يجعل الرؤيا معقولة منقولة، بل يطمح في أن يدرك الحقائق كاملة دون أن يطفئ ظمأه جانب منها، ويطمع وراء ذلك أن يمسك بسر الكون كله ويقبض على مفتاح الوجود. إنه لا يريد رؤيا ولا ينقل رؤيا، وإنما يود أن يمضي وراء عالم الرؤى إلى عالم الحقائق، وراء الأشباح والظلال إلى الأشياء في ذاتها، ووراء الشعور والإحساس الخالصين إلى الوعي المجرد العاقل. وعند ذلك نلفي الفيلسوف، نلفيه جاهداً في البحث عن جوهر الأشياء، لا لينقل هذا الجوهر إحساساً وشعوراً، ولا ليبعثه نغماً منساباً ولحناً دافقاً، ولكن ليحلله ويجزئه ويقبض على ماهيته.
إن محاولته أضخم دون شك من محاولة الأديب، ولكنها تفقد في الاتساع والألوان ما تربحه في العمق والدقة. إنها لا ترقى إلى أحاسيس الأديب العريضة الغنية، التي تضم جانباً كاملاً من الكون في رقراق من الشعور. غير أنها معتزة مع ذلك بنفسها، لا ترى الحق في المعاناة وحدها، وإنما تراه في تحليل عناصر هذه المعاناة والنفاذ إلى جوهرها، إنها تنكر أن يكون الفيلسوف، كما وصفه بعضهم، شاعراً أخطأ موهبته، وترى على العكس أن الشاعر ميتافيزيقي لم يحاول وعي تجربته وكفاه منها أنه فيها.

ومع ذلك، فالمد والجزر قائمان بين هذه النماذج الثلاثة في فهم الكون، فالأديب الملهم، صاحب الوحي الغائم لابد أن يكون في أخذ وعطاء مع الأديب الذي يحاول أن يحلل تجربته ضمن حدود الزاوية التي يرى منها الأشياء، ومع الفيلسوف الذي يأبى إلا أن يرقى إلى أصول الأمور ومبادئها الأولى. ومثله الأديب المحلل والفيلسوف الباحث. إن شيئاً من كل واحد منهم لابد أن يغمر الآخر، ولكن بمقدار، وباختلاف نصيب كل واحد من هذه المقادير الثلاثة تتكون طوائف الأدباء والفلاسفة. على أن الذي يجمع بينها جميعها، هو أنها برمتها، جهد دائب يقوم به التعبير لجلاء معنى الحياة، ويحاول فيه الإنسان الميتافيزيقي أن يدرك سره وسر الكون معه.
أوعجب بعد هذا كله أن نرى الترافد قائماً بين الأدب والفلسفة، في شتى العصور؟ وهل نغلو إذا قلنا إن الأدب كله ومعه ما يدعى بالفلسفة «بمعنى المذاهب والنظريات الفلسفية»، يسقيان من نبع واحد هو نبع الفلسفة البديئة القائمة في ثنايا الكون، المومئة إلى الكلمة، المتعطشة إلى التعبير، العصية على كل تعبير مع ذلك؟ أو نجانب الحق إن قلنا أن كلاً من الأدب والفلسفة ليسا إلا محاولتين، من جانبين مختلفين، لكشف الستار وهتك الحجاب؟ إن الأدب يدور ليلتقي بفلسفة الحياة، وإن الفلسفة المعقدة تلوب لتدرك فلسفة الحياة.
أما أن يكون وراء هذا كله تأثر مباشر بين المذاهب الأدبية والمذاهب الفلسفية، وتواصل وعطاء بين الأدباء والفلاسفة على مر العصور، فذلك نتيجة بدهية لكل ما قررناه، ذلك أن معنى الحياة في تجدد ونماء، وهذا التجدد ينعقد بفضل ما يكشفه التعبير من مجالي الوجود وأسراره، سواء كان هذا التعبير نث أديب أو بث فيلسوف. إن كل حادثة جديدة في جبين الحياة تضيف إلى ما فيها معنى جديداً، وإن كل تعبير جديد عما في الحياة يمنحها هامشاً أكبر من المعنى. ومن هنا كان الأديب الذي يخط كلمته في معبد الوجود، يضمخ الوجود بمعان يرتشفها، وكثيراً ما يتلقفها صائد جديد، أديباً كان أو فيلسوفاً. ومن هنا أيضاً كان الفيلسوف الذي يحج إلى عالم الماهيات والجواهر، يفتق في الكون مشكلات جديدة ويضع فيه مجاهيل مستحدثة، ومحاولات حلول خجلة، وما يلبث حتى يؤتي ذلك كله بعض ثمراته في صائد جديد من فيلسوف أو أديب.
ولكن هل يعني هذا أن الحدود غير قائمة بين الأديب والفيلسوف، بين الأدب والفلسفة؟ الجواب بنعم ولا. أما أنها غير قائمة، فلأن التدرج بين الأديب والفيلسوف تدرج متتابع، لا انقطاع فيه، تلتقي فيه إن صح التعبير نهاية الأدب ببداية الفلسفة. ففي كل أديب حظ من أسلوب البحث الفلسفي، بالمعنى العلمي لهذه الكلمة، وفي كل فيلسوف حظ من أسلوب الأداء الأدبي، وحظوظ الأدباء المختلفين من أنصبة الفلسفة متباينة متدرجة، وحظوظ الفلاسفة المختلفين من أنصبة الأسلوب الأدبي متباينة متدرجة، ولا يكاد يقع على الأديب المحض أو على الفيلسوف المحض إلا في نهايتي السلم، وهما نهايتان خياليتان نظريتان في الواقع، وهكذا ننتقل انتقالاً لا ينقطع من الأدب إلى الفلسفة.
وأما أن الحدود قائمة مع ذلك بين الأدب والفلسفة فلأننا نستطيع في نهاية الأمر أن نستخرج من الواقع الذي يتحد فيه الأدب بالفلسفة اتحاداً متفاوتاً وعلى درجات، جوهراً مقوماً للأدب وآخر مقوماً للفلسفة، ومثل هذا الاستخراج استخراج نظري يجرد من الواقع الممتزج المتحد بعض عناصره ومقوماته ويفردها ويجعل منها نماذج.
فما هو النموذج الذي ننتهي إليه إن نحن جردنا الأدب؟ وما هو النموذج الذي ننتهي إليه إن نحن جردنا الفلسفة؟
إن الأدب، إذا أخذناه في قوامه المجرد المصفى، ونظرنا إليه كأدب خالص، قلنا عنه إنه الاندماج في الحياة، أو المشاكة الوجدانية لها Einfûhlung بالمعنى الذي يفهمه أمثال «شيلر» من هذه الكلمة. وفي مثل هذا الاندماج يغدو المشاهِد والمشاهَد شيئاً واحداً، ولا يعدو المرء أن يصبح نغماً من أنغام الحياة وقصة ترويها الحياة. والأديب إذ ذاك تشخيص للحياة نفسها وتجسيد لها. إنه إياها، لا يستطيع أن ينفصل عنها ليراها، ولا تعدو أن تنطلق أنغامها فيه. إنه ينتقل إلى عالم من البهجة، لم يقصد إليه هو، ولكنه انفتح له، ولا يصفه ولكنه يشف من خلاله.
ولا حاجة إلى أن نقول إن مثل هذه الحال في الأدب حال نموذجية، وتجريد لما نقع عليه في الواقع، أما ما نقع عليه في الواقع فاقتراب من هذه الحال بمقادير متفاوتة، ومن هنا كنا نقع على الشعراء الذين يكادون يمثلون هذا الاندماج مع روح الكون والحياة، بحيث تتجلى الحياة فيهم وتنطق في تعابيرهم. كما نقع على الأدباء الذين نكاد نلفي لديهم هذا الاتحاد الكبير بين الذات والكون. غير أن وراء أولئك وهؤلاء شعراء وكتاباً لا يحملون من هذا الاندماج الشعوري إلا الذماء القليل.
أما الفلسفة، إذا أخذناها أيضاً في جوهرها المجرد المصفى، فهي النقد الفكري. إنها لا تستطيع الوقوف مكتوفة الأيدي لتكون ترجماناً للطبيعة والحياة. بل تريد وراء ذلك أن تتصدى للحياة فتمللها بالتفكير المجرد وتعمل فيها المنطق وسائر أدوات البحث لدى الإنسان، لتجلوها وتعرف كنهها. وبدهي ههنا أيضاً أن ما نجده في الواقع ليس هذه الصورة المجردة عن الفلسفة، وإنما هي فلسفات تقترب قليلاً أو كثيراً من هذه الصورة.
وإذا نحن تأملنا بعد هذا في هذين التعريفين لجوهر كل من الأدب والفلسفة، استبان لنا الفراق بينهما في الأصل رغم ما بينهما من وشائج في عالم الواقع. وعند ذلك ندرك ما يقرره كثير من النقاد حين يبينون التناقض بين الأدب والفلسفة، وحين يصرحون قائلين إن الفلسفة تقتل الشعر، فالأدب في ذروته وفي جوهره المجرد يعني، على حد تعبير برغسون، «تنويم القوى العاملة أو المقاومة في شخصيتنا وقيادتنا إلى حال استسلام نتصل فيها بالفكرة ونشارك في العاطفة». إنه ضرب من الحلم، ولكنه حلم في قلب الوجود. أما الفلسفة فتعني في جوهرها أيضاً إيقاظ القوى النقدية وشحذها وتسليطها على الأشياء.
أرأيت إلى ذلك القصاص الماهر، حين يصف الإنسان ونفسه ومصيره؟ إنه يتبدى لنا بحاراً عائماً على نهر الحياة، تريه الحياة فيقول، ويغرف منها فيصف. أرأيت إلى مثل دوستويفسكي، كيف ينهل من النبع مباشرة، فلا يصف ما يجمعه عقله وما يصل إليه النقد المجزيء، بل يرى ويقبض يقبض على دفقة من نبع الحياة تنساب بين يديه. ثم أرأيت بعد ذلك إلى عالم النفس، أو الفيلسوف، كيف يمضي أحدهما في تحليل المشاعر والعواطف الإنسانية، تحليل من جزأ ونقد وعجم، دون أن يتصل بالنبع تواً؟ إلى مثل هذا يرجع تفوق الأديب على الفيلسوف في كثير من الأحيان وإن تلك المقايسة بين التجربتين خاطئة. ومن خلال هذا نفهم تصريحات كتصريحات أمثال «فرويد» حين يقول عن دوستويفسكي إنه الوحيد الذي علمه شيئاً عن النفس الإنسانية، إن الأديب ينقل قطعة حية من الحياة، ينقل المادة الخام بكل ما فيها، بكل غناها وفقرها، بكل وضوحها وغموضها، ثم يأتي الفيلسوف أو العالم فيحلل القطعة ويدخلها في مخبره، ويعرضها على محك النقد والتجريح، فيدرك منها أشياء جديدة لم تتضح للأديب إلا همساً، وتفوته أشياء أخرى أدركها الأديب بنظرته الشاملة، ومشاركته المباشرة.
ومن خلال هذين التعريفين لجوهر الأدب والفلسفة، ندرك أيضاً معنى كثير من المناقشات التي تثور حول بعض الأدباء والشعراء. إن المنتصرين لمثل أبي تمام ينتصرون في الواقع للفلسفة التي تداخل جوهر الشعر فتحيله شيئاً جديداً، وإن المنتصرين لمثل البحتري ينتصرون للاقتراب من جوهر الشعر والأدب، ولهذا يقول صاحب البحتري في الموازنة متحدثاً عن أبي تمام: «فإن شئت دعوناك حكيماً أو سميناك فيلسوفاً ولكن لا نسميك شاعراً». ولهذا أيضاً سمعنا تلك القولة الشهيرة: «أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري» فدبيب الوجود وقشعريرته هما ما ينقله الأدب في جوهره، وحكمة الوجود وقوامه هو ما تحاول الفلسفة أن تنقله، أفلم يعبر البحتري عن مثل هذا حين قال:
كلفتمونا حدود منقطكم في الشعر يغني عن صدقه كذبه
ولم يكن ذو الروح يلهج (م) بالمنطق ما أصله وما سببه
والشعر لمح تكفي إشارته وليس بالهذر طولت خطبه
وبعد قد يوهم ما نقول إننا نجعل الشعر هو النموذج الأمثل في الأدب، ونحيل جوهر الأدب كله إلى جوهر الشعر، موحدين على هذا النحو بين الشعر والنثر. والذي قصدنا إليه غير ذلك: فجوهر الأدب على نحو ما عرفناه، في صميم كل أثر أدبي شعراً كان أو نثراً، وهو يصدق على الشاعر كما يصدق على الروائي وعلى كاتب المقال، وليس عندنا فارق، عندما ننظر إلى الجوهر المصفى كما قلنا، بين ألوان الأدب المختلفة، ولسنا نذهب مذاهب كثير من النقاد الذين أرادوا أن يقيموا حدوداً فاصلة بين النثر والشعر، ناظرين إلى الشعر أحياناً على أنه نقيض النثر، فالتجربة الأدبية في أعماقها واحدة: إنها تعني هذا الاندماج مع نغم الحياة اندماجاً يجعلنا نسير في موكبها وننقل رؤاها. أما أن نقع على شعر يقترب من الحكمة والفلسفة، وأن نقع على نثر مبرد يقترب من الكلام العادي، فذلك نتيجة طبيعية لما قلناه من أن الأدب الصافي جوهر مجرد يقترب منه الأدباء أو يبتعدون، ويقترب منه الأديب الواحد أو يبتعد عنه في أطوار مختلفة من حياته.
سوى أن الصحيح دوماً أن معيار الأدب الحق هو هذا الاقتراب من جوهر الأدب، نعني الاندماج مع الحياة، والرؤية الحقة، رؤية السيل الدافق في عنفوانه واختلاطه. أما ما سوى ذلك فصناعة ودربة أو بهلوانية لفظية، أو إشعال حرائق في هشيم اللغة، على حد تعبير سارتر.
وبعد، لم نحاول في هذه الكلمة العابرة أن ننبش التاريخ، متحدثين عبر أيامه عما كان من الآثار الأدبية من منازع واتجاهات فلسفية، وما كان في الآثار الفلسفية من شطحات ولمعات أدبية. فمثل هذا المطلب مركب صعب، يجرنا إلى دراسة تحليلية لا يتسع لها المجال. ولهذا آثرنا وراء ذلك أن نبحث في جوهر الصلة بين الأدب والفلسفة، فوجدناها قائمة وشيجة في النبع المشترك الذي منه يسقيان، نعني نبع الحياة ومعانيها، وما يحاوله كل منهما من جلاء لتلك المعاني واكتشاف لذلك النبع. فكلا الأدب والفلسفة محاولة للكشف عن معاني الحياة، بكل ما فيها: سرها وطبيعتها وإنسانها ومجتمعها. إنهما كليهما تجربة تحاول أن تستنطق الفلسفة الثاوية في صميم الوجود.

حتى إذا أردنا أن نرى الوشائج بين الأسلوب الذي يلجأ إليه الأدب من أجل جلاء تلك الفلسفة والأسلوب الذي تلجأ إليه الفلسفة في سبيل الغاية نفسها رأينا الأسلوب الأديب أسلوباً مباشراً يحاول أن يعبر عن تجربة قوامها الاتصال الوجداني الحي بمعاني الحياة، في حين أن الأسلوب الفلسفي أسلوب غير مباشر، يحاول أن يصل إلى كنه الحياة عن طريق الإمعان في نقدها وتحليلها. فالأديب يعبر عن معاناة شعورية مباشرة ينتقل عن طريقها تواً إلى مجال من مجالات الحياة، فينغمس فيه ويعب من قلبه، ويغدو وإياه ناطقاً بلسانه، متحدثاً عن فورته في كامل غناها.. أما الفيلسوف فيعبر عن تأمل لتجربة الإنسان مع الكون، قوامه نقد هذه التجربة وتحليلها وتسليط المنطق والعقل عليها. غير أن مثل هذا الوصف للأديب وصف نموذجي، لا يعبر عما نجده في الواقع، وإنما هو نهاية مثالية يقترب منها الأدب. ومثله وصف الفيلسوف، فهو أيضاً وصف نموذجي لا يعبر إلا عن نهاية تجريدية. والذي نجده في الواقع بين هذا وذاك، صور مختلطة تقترب من صورة الأديب المثالية أو تبتعد عنها، وتدنو من صورة الفيلسوف النموذجية أو تنأى، ويتحد فيها في معظم الحالات جوهر الأديب بجوهر الفيلسوف اتحاداً يختلف من إنسان إلى إنسان. ومن هنا كنا نرى فلسفة تعتمد على التجربة الأدبية إلى حد بعيد، كما نرى أدباً تمازجه التجربة الفلسفية بمقدار ضخم.
وهكذا نعود من جديد لنرى الوشائج قوية بين الأدب والفلسفة في أسلوب البحث الذي يلجأ إليه كل منهما، كما وجدناها قوية بينهما في الغاية التي يرجوانها، نعني جلاء الفلسفة الثاوية في موكب الحياة.
وعن طريق مثل هذا المنهج في البحث، نتجنب كثيراً من الصعوبات التي تقوم في وجه الباحث عن هوية كل من الأدب والفلسفة. ذلك أننا وجدنا الهويتين ممتزجتين في الواقع امتزاجاً يختلف دون شك من شخص إلى آخر. ولا سبيل عندنا بالتالي إلى وضع حدود فاصلة بين الطرفين إلا في مجال البحث عن الجوهر النهائي المقوم لكل منهما. أما في واقع الحياة، فنحن أمام أناس ثوى فيهم جوهر الأسلوب الأدبي إلى جانب جوهر الأسلوب الفلسفي، سوى أن نسبة الواحد إلى الآخر هي التي تختلف من إنسان إلى إنسان، وهي التي تجنح ببعض الكتاب شطر الأدب وتجنح ببعضهم الآخر شطر الفلسفة. وليس هنالك تضاد بين هذين الأسلوبين في التعبير عن فلسفة الحياة، أسلوب الأديب وأسلوب الفيلسوف، إلا عندما ننظر إليهما في نهايتهما المجردة كما قلنا.
فالأديب من حيث الجوهر، يبحث عن معاني الحياة وهي في حال السلوك والعمل. إنه ينقلها بأمانة وبراعة، حين ينتقل إليها ويتعاطف معها. والفيلسوف، من حيث الجوهر أيضاً يبحث في معاني الحياة محللاً عناصرها مستخرجاً مبادئها. ولزام على الأول، في واقع الأمر، أن يضع في وصفه الحياة وصفاً حياً جانباً كبيراً من التحليل وحظاً من استخراج المبادئ. وحق على الثاني، في الواقع أيضاً، أن يتوسل إلى تحليل العناصر واستخراج المبادئ بالاتصال بالحياة في جريانها وانطلاقها الحي. وهكذا يداخل أسلوب البحث الأدبي حظ من أسلوب البحث الفلسفي كما يداخل أسلوب البحث الفلسفي حظ من أسلوب البحث الأدبي ويتوسل أحدهما بالآخر.
ولا أدل على هذه العلاقة العميقة بين الأدب والفلسفة من قيام اتجاهات في الشعر والنثر تحاول أن تصدر عن أساس ميتافيزيقي. ففي الشعر مثلاً نقع على ذلك الضرب من القريض الذي يسمونه باسم الشعر الخالص، أو الشعر الميتافيزيقي، والذي يحاول أن يكون صدى بعض المعاني الميتافيزيقية الأساسية التي يراها الشاعر خلال تجربته في الكون. هكذا نجد مثل وردزورت وشلي يتأثران بالتجربة الأفلاطونية فيصفان لنا الطبيعة في سكونها وثباتها. وهكذا نجد شاعراً ميتافيزيقياً من الطراز الأول، هو «هولدرلن» يحاول أن يتعمق مشكلة الزمن في شعره. ومثله يفعل الشاعر الرومانتيقي الألماني الشهير، نوفالس Novalis (صاحب الشعر السحري) عندما ينقل إلينا مشاعره نحو الزمن، الزمن الجديد القديم أبداً في نظره، وعندما ينقلنا إلى لحظة هي الخلود في الوقت نفسه. ونظير هذا المعنى الميتافيزيقي نجده شائعاً في شعر «بليك Blake» حيث يحاول الشاعر أن يطلعنا على حضور الأبدية في كل لحظة من لحظات حياتنا. أفلا نلفي أيضاً عند الشاعرين الفرنسيين «مالارمي Mallarmé» و«فاليري Valéry» ضرباً من التأمل في الوجود والعدم يذكرنا في كثير من جنباته بما نقع عليه في كتاب أفلاطون الشهير «بارمنيدس Parménides» ويطول بنا الحديث لو أردنا استعراض العديد من الشعراء الذين قام شعرهم على معنى فلسفي رائد فحدثونا عن وحدة الكون، كما فعل أمثال «نيرفال Nerval» و«بودلير»، أو عن الشبيه والضد أو عن الحركة والسكون كما فعل «رودزورت» و«شيلي» أيضاً.. ويطول بنا الموقف أكثر لو أردنا أن ندرس تلك الصلة الطريفة التي تقوم بين شاعر مثل «هولدرن» وبين فيلسوف مثل «هيجل Hegel» وجل ما نريد أن نصل إليه من وراء هذا كله أن من الخطأ أن نردد الشنشنة القائلة أن الشاعر ميتافيزيقي لم يفلح، أو أن الميتافيزيقي شاعر لم يفلح.
والحق في هذا كله أن المعاني الفلسفية حظ مشترك في كثير من الأحيان بين الفيلسوف والشاعر، وكثيراً ما يوغل الشاعر في أسلوب يقترب من أسلوب الفيلسوف، ومع ذلك يظل الفارق قائماً دوماً وأبداً. فالشكل الذي يجسد به الشاعر فكرته مباين أبداً لما ندعوه بالمذهب الفلسفي. ويظل من صحيح الصحيح أن نقول مع الشاعر على لسان الميتافيزيقي:
ربة الشعر، ربة القلب الكبير

لتنطلق أناشيدك

إنني أصغي إليك، وأنا الذي أتكلم

فالفارق قائم رغم كل شيء بين هذين الحظين من نقل معاني الحياة. وإذا كان جوهر الشعر دوماً جوهراً ميتافيزيقياً، وكان جوهر الميتافيزيقي في كثير من الأحيان جوهراً شعرياً، فمن الحق بعد هذا أن الشعر ينقل معانيه حية مختلطة بعيدة عن التحليل العقلي، بينما لا تقوم الميتافيزيقي إلا على أساس البحث العقلي المحلل، بل على أساس البحث العلمي، كما يريد ميتافيزيقيو اليوم.
أما إذا مضينا إلى ميدان النثر، فإننا واجدون أيضاً مثل هذا اللقاء ومثل هذا الفراق بين الأدب والفلسفة. والشاهد عليهما أيضاً ما نجده في القصة الحديثة وفي الأدب المسرحي الحديث من منازع فلسفية صريحة تتصدى لطرح مشكلات الكون والوجود. وكثير من المؤلفات القصصية والمسرحية الحديثة يسودها فكرة فلسفية موجهة رائدة. هكذا نجد فكرتي «الأنا» و«الحرية» تسودان روايات «ستندال Stendhal» ونجد الإشارة إلى سر التاريخ وتفسيره على أنه انبثاق للمعنى والفكرة ضمن الحوادث الصارخة هي الفكرة الرائدة عند قصاص مثل بالزاك Balzac ونجد القول باشتمال الحاضر على الماضي وبحضور الزمن الماضي الضائع هو الموجه لأقاصيص «بروست Proust» هذا إذا لم نوغل لنلتقي بالرواية المعاصرة حيث نجد أمثال «سارتر» و«غابرييل مارسيل» و«كافكا» و«مورغان» و«سيمون دي بوفوار» وكثير غيرهم ممن تسود التقليدية، حين تأبى أن تكون مهمتها تفسير العالم واكتشاف أدبهم فكرة فلسفية رائدة. بل إن ظهور الفلسفة الوجودية إلى جانب الأدب الوجودي في عصرنا، ليكاد يومئ بقران مبتكر بين الفلسفة والأدب، بعد أن تغير كلا مفهوميهما في عرف هذا المذهب، فالفلسفة الوجودية تباين الفلسفات «شروط إمكانه»، وحين تجعل مهمتها صياغة تجربة حية مع العالم، وإقامة تماس مباشر معه سابق لكل فكرة عنه. وبذلك تقترب الشقة بين الأدب والفلسفة اقتراباً كبيراً، عندما يصبح غرض كليهما استنطاق تجربة الإنسان مع العالم. ففي مثل هذه الفلسفة الوجودية، يتم الانطلاق من فكرة أساسية وهي أن العالم مخلوق بحيث لا يمكن التعبير عنه إلا عن طريق «أقاصيص». وما دام الأمر كذلك فالقصة والمسرح لابد أن يكونا مشبعين بالميتافيزياء، ولو لم يستخدما أي لفظ فلسفي.
غير أن هذا الاقتراب الكبير بين جوهر الفلسفة وجوهر القصة لا ينفي في نظرنا أن تظل الفروق قائمة بينهما في الأسلوب، كما رأيناها قائمة بين الفلسفة والشعر. ويظل من الصحيح دوماً أن نقرر أن الأدب، ولا سيما القصة والمسرح، هو التجسيد المشخص الحي للمعاني الفلسفية الثاوية في الوجود بينما الفلسفة تحليل ودراسة عقلية لمثل هذه التجربة المشخصة الحية. ونستطيع أن نقول بتعبير آخر، إن الأدب سابق على الفلسفة، بمعنى أن ما يعرضه من المعاني مادة حية ينقلها من الحياة نفسها، في تعقدها وتشابكها، ثم يأتي الفكر المجرد، الفكر الفلسفي فيضعها موضع التحليل والبحث. إن ما يعرضه لنا الأدب مثلاً من ضروب الصراع القائمة في الحياة أشياء موجودة قبل أن نعبر عنها وقبل أن نحللها منطقياً، على حد تعبير «غابرييل مارسيل». فما يعرضه هو الحياة، هو سر الحياة. إن الفلسفة والأدب، على حد قول «مارسيل» أيضاً «منحدران مفترقان من ارتفاع واحد». ومع ذلك نعود فنقول أن هذا التمييز يصدق على الفلسفة في جوهرها الخالص وعلى الأدب في جوهره الخالص في حين أن بين هذا وذاك مراتب متداخلة وصوراً تبتعد أو تقترب من هذين الجوهرين، كما سبق أن بينا.
وتستبين لنا هذه العلاقة بين الأدب والفلسفة من زاوية أخرى، إذا نحن نظرنا في العوامل المكونة للتجربة الأدبية. ولن نعاود ههنا مثل هذا البحث المكرور في بواعث الأدب ومكونات الأديب. ولن ننتصر لمذهب دون آخر في تفسير الإبداع الأدبي. والذي نريد أن نقرره من وراء هذا أن العوامل التي تخلق الأدب وتبدع التجربة الأدبية، سواء وضعنا الإلهام على رأسها، أو وضعنا تجربة الحياة وظروف العصر في أسس مقوماتها، أو رجعنا فوق هذا وذاك إلى العوامل اللاشعورية وإلى العقد النفسية خاصة، تنتمي دوماً وأبداً إلى أرومة واحدة قوامها الاتحاد مع تيار الحياة والانغماس في ما تنضح به من فلسفة. وسواء ذهبنا مع الفلاسفة في القول بأن التجربة الأدبية اتحاد بين الطبيعة والذات بين الواقع والمطلق، أو مضينا مع علماء النفس في رد الإبداع الأدبي والفني جملة إلى الرغبات المكبوتة والدوافع اللاشعورية، أو وافقنا أصحاب المنزع الاجتماعي فيما للحوادث الاجتماعية وظروف البيئة من دور كبير في هذا المجال، يظل بين هذه العوامل جميعها إطار مشترك يضمها، هو إطار التعاطف مع ما تشف عنه الطبيعة والحياة من معان وما توسوس به من أفكار.
الحق أن التجربة الانفعالية أسمى أنواع التجارب الإنسانية. وهي في أعماقها تشمل ما قبلها وتعلو عليه. إنها تشمل ما هو اجتماعي وما هو نفسي لتعلو فوقهما وتلفهما. والتركيب الكلي، نعني النظرة الشاملة للكون والأشياء، لا يكون إلا في مستوى الانفعال البديعي. فالانفعال البديعي هو الذي ينقلنا إلى مستوى المشاركة في عالم القيم العليا، قيم الحب والخير والحق والجمال. ومن هنا كانت التجربة الأدبية باعتبارها تجربة انفعالية من الطراز الأول، وباعتبار قوامها المشاركة الروحية الحقة في آفاق الحياة العليا والغامضة. إنه هو الذي ينقلنا إلى المشاركة الوجدانية الانفعالية كما ذكرنا. تجربة مترعة بكل مراتب الوجود الدنيا السابقة عليها، من مراتب نفسية أو اجتماعية أو طبيعية أو غيرها. وهكذا نلفي من جديد التجربة الأدبية مرتبة عليا في فهم الكون والأشياء، وشكلاً أمثل في تمثل فلسفة الحياة.
إن التجربة الأدبية، وسائر ألوان التجربة البديعية، تجربة فردية مثلى، وهي بسبب ذلك في الذروة بين تجارب الوجود. إنها تربط بتجربة الوجود التي يقوم بها كل فرد، وهي في أعماقها ما يكونه كل فرد لنفسه من نظرة كاملة إلى الوجود. وبدهي أن أسمى أشكال الوجود الروحي هو هذا الوجود الذي يرقى فيه الفرد إلى تكوين نظرته المتفردة الخاصة. غير أن هذا لا يعني، كما قد يظن أن بلوغ التجربة الفردية الفذة يكون باستبعاد التجربة الاجتماعية ومناقضتها. والأمر على عكس هذا تماماً. فالتجربة الاجتماعية شرط لازم لكل تجربة فردية حرة، وهي وسيلة الارتقاء إلى مثل هذه التجربة. غير أن نمو التجربة الإنسانية عندما يربو ويستمر، لابد أن يقود إلى ما هو فوق المجتمع وإن لم يكن نقيضه، نعني الإدراك الذاتي ما هو فوق المجتمع وإن لم يكن نقيضه، نعني الإدراك الذاتي الخاص واللحن المتفرد والرنين الشخصي. ومثل هذا اللحن الذاتي هو في أعماقه التجربة الانفعالية التي هي أساس الإحساس البديعي وأساس الخلق الأدبي.
ومن خلال هذا الأفق نفهم معنى الرابطة التي تربط الأديب بمجتمعه. فالأديب ابن المجتمع، منه اغتذى وبه عرف تراث الإنسان بل عرف ذاته ومعنى وجوده. غير أنه يعرف أن يرقى فوق المجتمع ليكون تجربته الشخصية وإطاره الفريد. ومن هنا كان الأديب في آن واحد ملتزماً حراً، وكان الالتزام هو الحرية، وكانت الحرية تعني الالتزام في نهاية الأمر. فالأديب الحق لابد أن يكون ابن مجتمعه ولابد أن يتكون خلاله وأن يمتص روحه. ولكنه لا يظل حبيس هذا المجتمع وحبيس قيمه، بل يملك من الأصالة والنظرة الشخصية ما يجعله يرقى فوق المجتمع مصححاً مقوماً للأشياء. إنه أبداً ربيب المجتمع وسيده. والالتزام في الأدب يأخذ معناه من خلال هذا الأفق وحده. إنه يعني امتصاص الأديب للتجربة الاجتماعية امتصاصاً يجعله قادراً على التحرر منها وتوجيهها. فهو في المجتمع ومنه لا محالة. غير أنه لا يكون أديباً حقاً إذا لم يملك من النظرة الشخصية ما يمكنه من الإطلال على المجتمع إطلالة نقد وتمحيص وتوجيه.
ولهذا وجدنا الالتزام يحمل معنيين متناقضين، هما في نظرنا سبب الخلاف الوهمي حول هذه المسألة. فالالتزام كثيراً ما يكون بتبني قيم وأهداف سائدة في المجتمع غالية عليه. غير أنه كثيراً ما يكون أيضاً بالخروج على قيم وأهداف اجتماعية غدت بالية، وأصبحت نظرة الأديب البديعية العليا تنكرها وتتنكر لها. أولم يشعر كاتب كبير مثل «بوشكين» أن الالتزام الحق يدعوه، في عصر نقولا الأول، إلى المناداة بتحرر الفنان من الدعوة إلى أهداف المجتمع؟ ذلك أن مثل هذه الدعوة في العهد كانت تعني تأييد الظلم والفساد. ولهذا آوى مثل بوشكين إلى محراب الفن للفن، ووجد فيه قيمة إنسانية أعلى.
ومثل هذا المذهب ذهب إليه «غوتييه» والرومانتيكيون الفرنسيون من بعده، إذ كان وضع الأدب في خدمة المجتمع إذ ذاك لا يعني سوى خدمة البورجوازية والتنكر للجماهير الشعبية. ومن هنا حق لمثل الكاتب الروسي «بليخانوف» أن يقرر أن نزعة «الفن للفن» تولد وتشتد حينما يقوم بين الفنان وبين الوسط الاجتماعي خلاف مستعص.
ومعنى هذا أن الالتزام لا يعني دوماً أن يكون الأدب في خدمة المجتمع، وإنما يعني أن يكون في خدمة المبادئ المثالية التي يؤمن بها الأديب حين علا على المجتمع وكون تجربته الشخصية وقيمه الروحية الذاتية، ولا يزول اللبس في مسألة الالتزام ولا يزول كثير من الصراع حولها إلا إذا أدركنا هذه الحقيقة، وهي أن الالتزام قد يكون التزاماً بأهداف المجتمع ومثله وقد يكون خروجاً على هذه الأهداف وتلك المثل. والمعيار الحق للالتزام هو تجاوب الأديب مع نظرته الفردية الحرة، التي تتضمن في ثناياها حتماً تجربة مجتمعه ولا يمكن أن تكون بدونها. فعن طريق تمثل تجربة المجتمع وثقافته وتراثه رقى الأديب إلى تجربته الشخصية الفذة. غير أن هذه التجربة الشخصية وضعت تجربة المجتمع ضمن إطار جديد، هو إطار القيم الإنسانية المثلى التي بلغها الأديب بجهده ومعاناته. والتزام هذا الإطار الجديد هو الالتزام الحق لدى الأديب.
إن نابليون حين كان يدعو إلى جعل الأدب في خدمة المجتمع، وحين كان يحمل على نظرية «الفن للفن» ويعدها أسوأ مخترعات الأيديولوجيين المعنيين، لم يكن يصدر في ذلك عن نزعة التزام كالتي يريدها الأديب، بل كان يدعو إلى ما يناقض الالتزام الحق تماماً.
وبتعبير آخر، إن الدعوة إلى فن يخدم المجتمع دعوة يمكن أن تساير الالتزام الحق ويمكن أن تكون ضده، وهي نزعة كثيراً ما تتلاءم مع الروح المحافظة أكثر من تلاؤمها مع الروح الثورية. والتعبير الصحيح في هذا المجال هو أن ننادي بالتزام الأديب لتجربته الشخصية، تلك التجربة التي تتضمن القيم المثلى التي رقى إليها والتي ينظر من خلالها إلى حياة مجتمعه.
وهكذا ندرك أعمق الإدراك كيف تلتقي التجربة الفردية الحرة بالتجربة الاجتماعية الخصيب لدى الأديب الحق. ونفهم معنى قولنا أن التجربة الأدبية تجربة فردية من الطراز الأول، دون أن يحمل هذا القول معنى إنكار المجتمع أو التنكر له.
وأخيراً، إذا كان الأدب هذه التجربة الانفعالية المثلى التي تنقل الفرد على أفق جمالي يجعله يتعاطف مع أسمى القيم الروحية في الحياة ويدرك أجمل معانيها، فهل نظل في حاجة إلى تقرير ما هو بدهي وإلى أن نعود فنقول أن الأدب تعبير سام عن تيار الحياة واتصال بمعانيها وامتياح من فلسفتها المستسرة؟
إن الأديب الحق ربيب الحياة الفيلسوفة. إنه جزء من تيارها، قبس من نورها، مفصح عن سرها الذي لا ينضب.
دمشق
عبد الله عبد الدائم