مكانة الإنسان في عصر الفضاء

مجلة العلوم الصادرة عن دار العلم للملايين (بيروت) – السنة السابعة
العدد الأول – كانون الثاني / يناير 1962

مكانة الإنسان في عصر الفضاء
بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم

الصراع بين الإنسان والعالم صراع قديم، ولا نغلو إذا قلنا أنه صراع ينبئ عن مشكلة أزلية أبدية. ولعل تاريخ الإنسان منذ بداء الخليقة حتى الآن هو تاريخ هذا النضال الدائب بين الكائن الفذ الفريد الذي يتبدّى لنا فيه، وبين الكون الكبير الذي يغمره، بين العالم الأصغر والعالم الأكبر كما يقال. وهذا الجرم الصغير الذي انطوى فيه العالم الأكبر، على حد قول شاعرنا المحدث، يظل دوماً وأبداً تجاه العالم في مد وجزر قوامهما هذا الشعور المزدوج: الإنسان
لا يكاد يكون شيئاً إذا ما قيس باللانهاية، بالكون العظيم الكبير، غير أنه في الوقت نفسه الوعي الذي يتم به إدراك هذا الكون، والبؤرة المضيئة التي تتسع لكل شيء ولا يوجد بدونها شيء.
إن من أهم عوامل التمزق لدى هذا الكائن الواعي الذي ندعوه إنساناً، هو هذا الشعور المتواقت المتحد بالضدين مؤتلفين: شعور بالانسحاق والضعف أمام الكون وقواه، يلازمه ويداخله في اللحظة نفسها شعور بالعظمة والتفرد والسمو على سائر الكائنات. وهذا الشعور المزدوج المتمزق يقفز إلينا في أكثر لحظات حياتنا ويطالعنا في كثير من المواقف. والسؤال الأكبر الذي يطرح نفسه علينا دوماً هو حقيقة مكاننا في العالم ومبلغ شأننا فيه: هل نشغل فيه هذا الحيز المادي الصغير الذي يتراءى لبصرنا، أم نشغل فيه تلك الحدود اللامحدودة التي نرقى إليها بوعينا وبصيرتنا. وهل نحن فيه ذرة من غبار وراءها عوالم من فوقها عوالم، حتى ليثير الضحك أن نذكر وسط أفلاك وأجرام لا تكاد توازي نسبتنا إليها نسبة الصفر إلى اللانهاية؟ أم نحن، رغم هذا كله، روح هذه العوالم كلها وجوهرها وقلب وجودها؟ أيصح فينا القول أننا مقذوفون بلا عون وسند وسط عالم ضخم هائل لا نستطيع أن نطل عليه بله أن نضاهيه وندعي التفوق عليه؟ أم يصدق فينا على العكس أن نقول أن هذه الكتلة الضخمة الكبيرة التي تتجاوزنا لا تتخذ معناها إلا من خلالنا ولا توجد إلا بنا، وتظل وجوداً أصم أبكم ما دام وعي الإنسان لم ينفذ إليها وما دام نور الإدراك لم يتسلل إلى ذراتها؟

والجواب على مثل هذه التساؤلات، رغم قدمه، ما يزال قائماً وما يزال يلبس حللاً جديدة تساير تقدم العلم. وبدهي أننا لا نعثر على جواب واحد على هذا التساؤل سواء في العصور التاريخية المختلفة أو في عصر تاريخي واحد لدى الأناس المختلفين وأصحاب المذاهب المختلفة، على أننا نستطيع في شيء من التصميم أن نجد أجوبة نموذجية تتفق مع الصور التاريخية الكبرى، ويفرق بينها ما حدث في هذه العصور من اكتشافات علمية ضخمة غيرت نظرة الإنسان إلى الكون والأشياء.
فمن البيّن أن شعور الإنسان بالتضاؤل والانسحاق أمام الكون كان طاغياً في العصور التاريخية الأولى يوم كان الإنسان شبه أعزل أمام مظاهر الكون، ويوم كان يعيش في عالم طبيعي يخيفه إذ لا يفهم سره ولا يدرك معنى ظواهره. فلا عجب أن نرى مثل هذا الإنسان يخشى الكون وأنواءه وأجواءه وشموسه، حتى ليأخذ بعبادتها اتقاء شرها. وما عبادة مظاهر الطبيعة في القديم، من شمس وقمر ورياح وأمطار وزوابع وبحار ونار، إلا تعبير عن شعور الإنسان القديم بعجزه أمام الكون وذوبانه فيه. لقد كان إذ ذاك ذرة مادية حقيقية لا تتطاول إلى الكتل الهائلة الضخمة التي تتراءى له في العالم الكبير.
ويزداد الوعي الإنساني تفتحاً، ويبدأ النور بالتسلل رويداً رويداً من هذه الكتلة البشرية، فيحل فيها القوة والثقة، إذ يحل فيها بوادر الإدراك لظواهر الطبيعة وحوادثها. ويخطو الإنسان خطوة جديدة حين يبدأ بفهم الطبيعة وظواهرها، وحين يبدأ بالفصل بين وجوده ووجود الأشياء المادية، فلا يرى الكون محملاً بالأرواح، ولا يرى الروح حالة في كل شيء، ولا ينسب إلى ظواهر الطبيعة وعياً لا تعرفه، ويستبين له رويداً رويداً بعد عصور من البحث والتنقيب أن ثمة انفصاماً بين الذات والموضوع، وأنه وحده بين جملة الكائنات، الكائن الواعي الذي يستطيع أن يشمل بوعيه ما في الكون وما وراء الكون.
وتنتهي دراساته في ميدان الأفلاك خاصة إلى التفريق بين عالمنا الأرضي وبين سائر الأجرام السماوية. وتحتل الأرض مكانة خاصة في نظرته، فإذا بها تغدو مركز الكون والأشياء، وإذا بالنظام البطليموسي يجعل منها مركزاً للعالم تدور حوله الشمس وسائر الأفلاك.
ويثبت نظام بطليموس أركانه، رغم قيام من عارضه منذ أيام فيثاغورس، ويقر الاعتقاد عميقاً لا يتزعزع بأن الأرض ثابتة ساكنة لا تتحرك، وأن الشمس والأفلاك تدور حولها، كأنها تفعل ذلك من أجلها ومن أجل الإنسان الذي يعلوها. ويشعر الإنسان بالكبرياء ويراوده الاعتقاد بأنه مركز الخليقة والأكوان، وأن ما في العالم مسخر له، وأن الشمس والقمر والنجوم تجري لأجله. ويداعبه الغرور، ويروي حاجة في نفسه، فيمعن في تقدير مقامه في الكون، ويصطنع فلسفة تؤيد هذا الشعور وتمكِّن له. فإذا هو يأخذ بمذهب غائيِّ في تفسير الأشياء، يستقيم له عن طريقه القول بأن الأكوان خلقت من أجله، وأن غايتها غايته، وأنها تسير وفق خطة مبيَّتة موضوعة، تجعل منه مركز المخلوقات وغاية وجودها.
وهكذا يأخذ مذهب بطليموس السكندري طابع القدسية ويعز على الإنسان أن يخرج عليه ويغادره إلى غيره. أفلا يجلب له الثقة بوجوده وبمعنى هذا الوجود؟ أفلا يحرره من التضاؤل أمام قوى الكون، فيغدو سيدها وهدفها؟ ومن هنا تتبناه السلطات الكنسية في أوروبا، وتضفي عليه طابعاً دينياً لا يغالب. وتأبى أن يقوم في خاطر إنسان أن تكون غير الأرض مركزاً للكون وأن يكون «الفداء» قد تم بالتالي في غير هذا المركز السامي.
ثم يمضي العصر الوسيط، وتطل بواكير العصر الحديث، وتقع الواقعة، ويخضع شعور الإنسان بمكانته في الكون لهزة عنيفة. ويكون ذلك حين يظهر العالم الفلكي «كوبرنيكس» ويقرر أن نظام بطليموس نظام مقصر يعجز عن تفسير حركة الأفلاك وظواهر الطبيعة، ويجنح إلى تعليل جديد ينتزع الأرض من سلطانها ويقتلع الإنسان من مقامه الفذ، حين يعلن على الملأ أن الأرض وسائر السيارات تدور حول الشمس، وأن الشمس هي الثابتة. وتمضي سنوات طوال يحتدم الجدل فيها بين أنصار مذهب بطليموس، وعلى رأسهم رجال الدين، وبين كوبرنيكس والقوى الجديدة، وينقضي أكثر من نصف قرن والجدل على أشده. وهل يسير على الإنسان أن يقبل طائعاً مثل هذا العزل من منصبه الفريد ومثل هذا الضياع، ضياع الأرض وسط العوالم، وضياع الإنسان فوق فلك يدور حول الشمس، وتدور معه ملايين الأفلاك؟ وهل يطيب له أن يمضي في هذا الدوار المخيف الذي يخلقه تصور الإنسان جزءاً صغيراً ملقى على أرض ضئيلة الحجم تدور جاهدة حول الشمس في فراغ تملؤه ملايين الأفلاك؟
غير أن «غاليلي» يأتي ليشد أزر كوبرنيكس، وليقدم الدليل الساطع على صحة أقواله. لقد صنع مرقباً بيديه ووضعه فوق البرج الشهير في مدينة البندقية، ودعا من دعا ليشهدوا به ما لا ترقى إليه العين. واتجه بمرقبه شطر «المجرة» ورصد المشتري، وشهد أربعة أجسام صغيرة تدور حوله كفراشات تدور حول شمعة، ورأى في هذا المشهد توكيداً للنظام الشمسي الذي يقول به كوبرنيكوس. وتوالت البحوث تترى، تثبت يوماً بعد يوم صحة التفسير الكوبرنيكي للكون. وتداعى العرش الذي أقامه الإنسان لنفسه، بعد أن أصبح هذا العرش، نعني الأرض، كوكباً سياراً صغيراً يدور حول الشمس بين ملايين الشموس المنثورة في أرجاء الكون. وعصف الشك في قلب الإنسان عميقاً عنيفاً، وانقلبت نظرته إلى مقامه ومركزه، وعاد الصراع في داخله كأعنف ما يكون الصراع: أحقُّ إذن أنه ذرة لا تذكر في بال الكون، شأنه باطل، وباطل ما كان يتوهم ويحسب؟ وهل يكون هذا الوعي المستقر في أعماقه، الذي يشعره بأنه قلب الوجود ومحوره، والذي يبلغ به الأسباب ويعرِّي الأكوان، وهماً ذاتياً لا قوام له، وعزاء يصطنعه هرباً من الحقيقة المرة القاسية؟
وتأتي الأبحاث الفلكية من جديد، فتزيد يوماً بعد يوم في عمق هذا التساؤل وفي عنف هذا الشك. فهيهات أن يقف الأمر عند هذا الحد، حد عزل الأرض من مركزها في الكون، والقول بأنها سيارة تدور حول الشمس! إن الأبحاث التالية أخذت تكشف ما هو أدعى إلى شعور الإنسان بالضياع والانسحاق حين بينت أولاً أن الأرض جرم عادي ضمن المجموعة الشمسية المؤلفة من الشمس ومن تسعة سيارات تدور حولها، وحين جاوزت ذلك إلى تقرير حقيقة جديدة وهي أن السيارات ليست كل ما نجده في النظام الشمسي، وأن وراءها الأقمار التي تدور حول السيارات، وحين وكدت خاصةً أن هذا النظام البطليموسي ليس كل شيء في عالم الأجرام، بل وراءه مجموعة النجوم القائمة في مجرتنا، والتي يقدرها بعضهم بمائة ألف مليون نجم والتي يبعد أقربها إلينا مقدار أربع سنوات ضوئية. على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، فوراء مجرتنا مجرات خارجها يبعد أقربها إلينا 850 ألف سنة ضوئية(1).
فأين الأرض من هذا كله وأين الإنسان من عالم يفوق عدد نجومه عدد من على الأرض من بني الإنسان أضعافاً مضاعفة؟ بل أين شمسنا، إن صح أنها شمسنا وحدنا، بين الشموس العديدة الكثيرة التي يقوم بينها ما يفوقها لمعاناً عشرات آلاف المرات؟ وهل يستطيع الإنسان بعد هذا أن يزعم لنفسه الصدارة دون غيره، وأن يتهم الطبيعة بمثل هذا السرف في قدره بين الأقدار؟ ويقوى شعور الإنسان بالتضاؤل ويأخذ بقياس الأمور بمقاييس جديدة. ولكنه لا يفر من المعركة، ولا يتراجع عن شعور بذاته ما يزال قوياً رغم كل شيء، وإن وعيه الروحي يحدثه حقاً أو باطلاً، بأنه شيء كبير، وبأن حدوده تتجاوز على أية حال حدود الحيِّز المادي الذي يشغله، وأن عالمه الصغير ليس عاجزاً عن أن يطوي العالم الكبير.
ويهيجه التحدي، وما يلبث بعد فترة من الخيبة واليأس حتى يواجه المشكلة بعزم أشد، فيستمد منها الرغبة في معرفة الأكوان معرفة أعمق، ليأتي بالدليل الوحيد على تفوقه وشأنه، حين يحقق معنى قولة بيكون الشهيرة فيخضع الطبيعة بالخضوع لها، أي بالكشف عن قوانينها وتسخيرها بعد ذلك له. إنه يعود ليقف موقفاً خصيباً جديداً يتفق مع ما أصابه من تقدم علمي: فهو لن يقبل أن يدعي أنه مركز الكون، فعلة الإنسان في العصر الوسيط، كما أنه لن يرضى بمقام الإنسان البدائي، حين كان يشعر بأنه عاجز أمام الطبيعة والأشياء. إنه يريد لنفسه موقفاً محدثاً سليماً، فيثبت شأنه ومكانته في الواقع والحقيقة بدلاً من الدعوى والخيال، ويشمِّر لغزو الكون فعلاً ليعرف قدره فيه بل ليعرِّف الكون على قدره. إنه يرفض موقفين كلاهما متطرف مغال: أحدهما القائل بأن وجوده في الكون وجود شيء تافه عارض، وثانيهما الزعم بأنه غاية الغايات وجوهر الوجود ومحط الرحال في تطور العالم. وبين هذا الموقف وذاك يحاول عن طريق البينة العملية أن يتعرف على حقيقة مركزه في الوجود.
وهكذا ينتقل إلى مرحلة هامة جديدة في تاريخ صلاته بالكون. فبعد أن أخذ في اكتشاف العالم من بعد، عن طريق المرقب والأجهزة التي أخذت تزداد جودة وقدرة على الإحاطة يوماً بعد يوم، أقدم على الاتصال بهذه العوالم اتصالاً مباشراً، بدلاً من مشاهدتها بالمرقب، وأخذ يغزوها ليدخل في عقر دارها. وبعد أن كان اكتشافه لهذه العوالم يزيده شعوراً بضعفه أمام الكون الفسيح، أخذ يهاجم هذا الكون ويملي عليه إرادته. وبعد أن كان مكرهاً على الإقامة في كوكب لم يعد مركز الكواكب، غدا قادراً على أن يجعل منه مركزاً لغزو سائر الكواكب وأن يعيد له مكانته قوية فعالة وأن يقفز منه إلى حيث يشاء في هذا الفضاء اللامتناهي.
وهكذا يسجل غزو الفضاء مرحلة هامة جديدة في حياة الإنسان وفي نظرته إلى نفسه، وهو بحق أخطر انقلاب أصاب نظرتنا إلى الكون وإلى مكان الإنسان في هذا الكون. إنه تصحيح خصيب للنظرة التي انتهى إليها النظام الكوبرنيكي وعود ضمن إطار علمي جديد إلى ذلك الموقف السائد في العصر الوسيط، موقف الاعتزاز بمقام الإنسان ومكانه في الوجود. بل هو توكيد، بلغة العلم والعمل، لشعور الإنسان الذي لا يغالب بوعيه ومدى هذا الوعي وقدرة هذا الوعي على الامتداد والشمول. إنه يحدثه حديث البينة العلمية الواضحة أن عالم الإنسان الروحي هو حقاً أعظم العوالم، وأن ما في وعيه من قدرة على التحليق والإحاطة ما هو وهم ذاتي ولكنه قوة تنبئ عن إمكانيات حقة لا بد أن تتبدى غنية قوية يوماً بعد يوم. إنه يكاد يهمس في أذن الإنسان أن ما يراه وعيه، حتى في العصور الماضية العزلاء من سلاح العلم، من رؤى تحدثه عن المضي صعداً في أجواء الكون والتحليق في العالم على بساط الريح، قد يكون في حقيقته إرهاصاً بإمكانيات حقيقية لا بد أن يبلغها.
إن غزو الفضاء الكوني شهادة يقدمها العلم على قوة الوعي الإنساني وصدق تطلعاته ونبوءته. إنه يعيد من جديد إلى الوعي الإنساني مكانته العظمى ويبين أنه حقاً معنى الوجود ومركزه. والحديث الذي يبثه مثل هذا الاكتشاف الضخم هو أن الإنسان يظل دوماً وأبداً مركز الأشياء، عن طريق وعيه للوجود لا عن طريق مكانته المادية في الوجود. وهو قرر كرة بعد كرة أن سيطرة الإنسان على الطبيعة هي مقياس مكانته فيها.
لقد جهدت الفلسفة المنبثقة عن ديكارت في الحديث عن جوهرين لا صلة بينهما، جوهر مادي ذي امتداد وجوهر فكري غير ذي امتداد. وحاولت عبثاً التقريب بينهما. غير أن تطور الأبحاث ما لبث أن وكد حقيقة هامة وهي أن الطبيعة، وإن كانت تبدو خارج متناولنا، فهي في الواقع، جزء من وعينا وأننا نبلغها عن طريق الوعي الفكري لها. ويأتي الاكتشاف الهائل، اكتشاف الفضاء الكوني، فيؤكد هذه الحقيقة، ويجعل من سيطرة الوعي على الطبيعة سيطرة أكثر وضوحاً وقوة. وهكذا يزول ذلك الموقف الذي كان يقيم الحواجز والحدود بين ميادين الدراسة وحين كان يفصل في معظم الأحيان عالم الطبيعة عن عالم الفكر والوعي. ويشتد ذلك المنزع الذي كان ينادي به عدد من الباحثين في فلسفة العلوم، حين كانوا يطالبون بمعرفة قوانين الفكر والوعي عن طريق دراسة آثاره، وحين كانوا يبينون أن لا سبيل إلى معرفة حقيقة هذا الوعي وقانونه إلا عن طريق إدراك أفعاله وآثاره فيما عداه، نعني في الطبيعة.
ومن هنا تعود الصلة قوية بين الفكر والكون، فلا يعود الكون شيئاً تفسره مبادئ من وعينا وحده، ولا يعود الوعي شيئاً تابعاً للكون متضائلاً أمامه، بل يغدو الإنسان ومعه الوعي جزءاً من الطبيعة، ينحل فيها لا ليزول ويضمحل ولكن ليزداد سلطانه فيها وتشتد سيطرته عليها ويغدو أقدر على فهم شأنه معها.
إن النظرة الإحيائية القديمة التي كانت ترى الحياة في كل شيء، زالت منذ أمد بعيد. والنظرة التي تقيس الكون بمقاييس الإنسان وحده، وتشهده من خلال الإنسان زالت أيضاً منذ بدء تكوُّن العلم الحديث. ولم يعد الإنسان، منذ فترة ليست قريبة، مقياس كل شيء في الكون، وزالت منذ أمد بقاياً النظرة الغائية إلى الطبيعة، وغدت الطبيعة بحق موضوع دراسة موضوعية لا تضع فيها ما ليس منها ولا تحمِّلها معاني ليست لها. غير أن تقدم العلم الكبير في السنوات الأخيرة، ودخول الإنسان في عصر الذرة والهيدروجين، ثم في عصر الفضاء الكوني، ما لبث حتى ألقى ضوءاً جديداً على هذه الصلة القائمة بين الإنسان والطبيعة. ولا يعني هذا انه أعاد الإنسان إلى ما يقترب من النظرة القديمة، نظرة الخلط بين وجود الأرواح، ووجود المادة، بين وجود الهزات ووجود الموضوع، وإنما يعني شيئاً أعمق من هذا، وهو أن الانفصام غير قائم بين هذين الطرفين إلى الحد الذي كان يتخيل، وأن ثمة ضرباً من الوحدة بين الإنسان والكون، قوامها قدرة الوعي الإنساني على السيطرة على الكون وتذليله. إن إنسان العصر الحاضر الذي يقوى على تفجير الذرة، وهي العنصر المقوم للمادة، بحيث يخلق منها طاقة بين يديه، إنسان مداخل لحياة المادة، غارق في حياة الكون، غير بعيد عنه ولا خاضع. وإن إنسان العصر الحاضر الذي بدأ يغزو الفضاء الكوني والذي تجاوز حدود الكوكب الذي يعيش فوقه، وهي
– فيما كان يتبدى – حدود مفروضة على الإنسان لا يتجاوزها، إنسان مغمور حقاً في روح الكون كله، محطم للحدود التي يمكن أن تفصل الوعي عن الطبيعة، والمادة عن الروح والذات عن الموضوع.
ولا غلو بعد هذا إن قلنا أن المادة تغدو بعد مثل هذا الغزو الواعي لها، وعياً هي ذاتها، ما دامت قد غدت جزءاً من عمل الوعي، وما دام سلوكها قد اخذ يغزو جزءاً من سلوك الإنسان معها. وليس من مجاز الكلم أن نقول أن المادة، بعد هذه الاكتشافات الكبرى، غدت تعايش الإنسان، وأن الكون يحيا مع الكائنات، وأن المادة تؤاخي الروح. وواضح ما في مثل هذا الانقلاب من آثار ضخمة تتصل بإدراك الإنسان لمكانه ورسالته ومصيره في الوجود. وواضح خاصة أن مثل هذا الانقلاب الكبير يحمل الإنسان مسؤوليات ضخمة جداً. فلقد غدا أمراً حاداً أن نسائل ماذا سيفعل الإنسان بهذه القوة الجديدة التي امتلكها بل ماذا سيفعل بهذا الكون الذي بدأ يغدو ملك يمينه؟ فسلوك إنسان اليوم، إنسان عصر الذرة وعصر الفضاء، لم يعد يلزم عنه جانب من حياة الكون وجانب من مصير الإنسان، بل غدا ملزماً لحياة الكون كلها ومصير الإنسان كله. والتفريط بحياة إنسان اليوم لم يعد تفريطاً بجانب مما أصابه من التقدم على وجه البسيطة، بل غدا تفريطاً بالكون كله، ذلك الكون الذي بدأ غزوه له، وتفريطاً برسالة الإنسان كلها، تلك الرسالة التي بدأت تتخذ أبعاداً واسعة جديدة من شأنها أن تمنح الحياة كلها معاني جديدة. إن إنسان عصر الفضاء في قفزة من قفزات التاريخ الكبرى، ليست بالقفزة الكمية ولكنها قفزة في الكيف، وليس الفرق بينها وبين سابقاتها فرقاً في الدرجة ولكنه فرق في الطبيعة والنوع. إنه على الحافة من إدراك مباين للكون ومن خلق لرسالة مغايرة للإنسان. والأمل بتطور الإنسان تطوراً لا بد أن يزيد في تحقيقه لرسالته، يجعلنا نرجو أن يجاوز إنسان اليوم هذه الحافة إلى دروب بعيدة جديدة، فيها سمو بالإنسان ورسالته. غير أن أحداث التاريخ ليست دوماً واعية، وكثيراً ما تكون أحداثاً عمياء. والوعي الإنساني الذي اتسعت حدقته لما وراء الكون الأرضي وشملت أكواناً جديدة، هو الوعي الذي قد يحرق نفسه ويطفئ نوره بنوره، ويحوم حول الضياء فإذا به ينطفئ به.
دمشق عبد الله عبد الدائم
الأستاذ بكلية التربية بجامعة دمشق