حول تصريح بن غوريون اليهود.. والعود إلى إسرائيل

مجلة الجندي السورية – العدد 488 – 21 تشرين الأول 1961
الدكتور عبد الله عبد الدائم يكتب لك
حول تصريح بن غوريون
اليهود.. والعود إلى إسرائيل

عرف العديد من القراء الكاتب اليهودي الإنكليزي اليهودي “آرثر كوسلر” من خلال تلك الصفحات التي نقد فيها نظام الحكم في الاتحاد السوفياتي يوم كتب قصته الشهيرة “الصفر واللانهاية”.
ترجمت القصة إلى اللغة العربية ترجمة منقوصة منذ أكثر من عام تحت عنوان “ثورة في الظلام”.
وكلنا يعلم الضجة العارمة التي أحدثها نشر هذه القصة في بلدان كثيرة وما كان لها من أصداء لدى طائفة من المفكرين والنقاد. وحسبنا أن نتخير من بين تلك الأصداء العريضة، تلك المقالات التي خطها الفيلسوف الفرنسي “ميرلوبونتي” والتي جمعها فيما بعد، عام 1947، في كتابه الشهير “الإنسانية والإرهاب”.
ولسنا في معرض الحديث عن قصة “كوسلر” هذه وما حوته من نقد للشيوعية ووصف لدعاوي موسكو، ولمحاكمة “بوخارين” بوجه خاص، الذي نقع عليه في هذه القصة باسم “روباخوف” والذي نريد أن نقوله هو أن كاتب هذه القصة الشهيرة، وكاتب العديد من الأقاصيص والدراسات، يهودي، له باع طويل في الدعاوة للحركة الصهيونية وفي العناية بمصير ملته.
لقد سمعنا جميعاً في الأيام الأخيرة أنباء تلك الصيحة التي أرسلها “بن غوريون” في المؤتمر الصهيوني الذي عقد في القدس المحتلة، حين أهاب باليهود المقيمين للهجرة إليها وحين اتهم كل يهودي يتأبى على الهجرة ويمكث خارج إسرائيل بالإثم ومخالفة التعاليم اليهودية.
هذه الصيحة التي أرسلها “بن غوريون” والتي لقيت من إنكار العديد من مفكري اليهود في العالم ما لقيت، ليست بالصيحة المستحدثة كما قد يظن، ولا هي بدعة ابتدعها بن غوريون وحده. إنها في حقيقتها وأعماقها تعبير عن مذهب عميق الجذور لدى الكثير من اليهود، له أنصاره وله المبشرون به.
إنها خطة جديدة من خطط الصهيونية، لها أهدافها السياسية الواضحة ولها أخطارها البينة على البلدان العربية.
ولهذا رأينا أن نقف عند أصول هذه الصيحة، وأن نردها إلى المذهب الثاوي في قلبها، وأن نكشف ما يختبئ وراءها من مرام خطيرة.
وها هنا نلتقي بكاتبنا “كوسلر” لنجد عنده خير تأويل لهذه الصيحة التي نادي بها “بن غوريون” حديثاً ونادى بها هو منذ قيام دولة إسرائيل، وبشر بها المرة تلو المرة، وكان له فيها خصومه وأنصاره من اليهود أنفسهم.
ونقع على أوضح عرض لفكرة “كوسلر” هذه في كتابه المسمى “ظل دينوزور” الذي يشتمل على طائفة من المقالات والمحاضرات والأحاديث الإذاعية ترجع إلى الفترة الواقعة بين عام 1946 وعام 1955، وتكمل كتابه السابق الشهير باسم “اليوجي والضابط”.
في هذا الكتاب، نقرأ فصلاً بعنوان “يهوذا على مفترق الطرق” وتطالعنا في هذا الفصل جرأة ضخمة في الإفصاح عن أفكار يضمرها الكثير من يهود العالم ولا يظهرونها. وفيه يريد الكاتب أن يصل إلى نتيجة حاسمة صارخة هي أن على يهود العالم بعد قيام دولة إسرائيل، أن يختاروا بين أمرين: العودة إلى إسرائيل، وطنهم المزعوم، أو التخلي عن اليهودية.
وللتدليل على هذه النتيجة يفصح “كوسلر” عن أشياء وأشياء، تفضح على لسان اليهودي ما تتصف به اليهودية من نظرة متعصبة ضيقة.
فالذي يميز اليهودي، فيما يكتب “كوسلر”، ما هو عرقه ولا لغته ولا ثقافته، وإنما دينه. والديانة اليهودية فيما يبين، مرتبطة أوثق الارتباط بفكرة “الوطن القومي”. إن في وسع الإنسان على حد تعبيره، أن يكون كاثوليكياً أو بروتستانياً أو مسلماً أو بوذياً، دون ما نظر إلى قومية أو عرق. أما الديانة اليهودية فلابد فيها من انتساب إلى وطن تاريخي له أرضه وتربته.
واليهودي المؤمن يؤكد الانتساب إلى عرق مختار، من سلالة إبراهيم واسحق ويعقوب، اختاره الله ووعده ببقعة جغرافية طيبة. وهو يرتل دوماً تلك الصلاة “تبارك الله الذي خلّص آباءنا من الأسر في مصر إلى أرض الميعاد”.
والعهد القديم هو قبل كل شيء كتاب يؤرخ لأمة ووطن. وفي خاتمة طعام الفصح، يرفع اليهود في العالم كله كؤوسهم منذ ألفي سنة، ليشربوا النخب المقدس، نخب “العودة في العام المقبل إلى القدس”.
وبقول موجز إن الدين اليهودي، فيما يرى الكاتب، دين انفصالي من الوجهة القومية والعرقية. وهو لا يشيد فقط بماضٍ قومي، بل يبشر أيضاً بمستقبل قومي. واليهود يطلقون على الألفين الأخيرين من تاريخهم اسم “الدياسبورا” أو التشرد، ويسمون جميع البلاد التي خارج فلسطين باسم “الجالوت” أي “المنفى”. ومعتقد اليهودي يلزمه أن يعد نفسه فرداً يختلف ماضيه ومستقبله القومي عن الكفار الذين يعيش بينهم في البلاد المختلفة. ومن الخلف، في نظره، أن نتحدث عن “إنكليزي يهودي”، أو عن “افرنسي يهودي”.. ومن اللازب لليهودي، حسب تعاليم ديانته، أن يكون إنساناً على حدة، مبايناً لغيره.
وهكذا يدحض “كوسلر” تلك الفكرة التي أشاعها بعض اليهود، والتي نافح عنها بعض الكتاب من غير اليهود، بل صدقها كاتب فرنسي مثل “جان بول سارتر” في كتابه عن “المسألة اليهودية”؟ نعني بها الاعتقاد بأن كره اليهود في العالم لا يرجع إلى موقف اليهود أنفسهم، وإنما يرجع إلى إصرار الشعوب التي يعيشون بينها على النظر إليهم نظرة خاصة ومعاملتهم كيهود.
ويقر “كوسلر” على العكس أن النزعة الانفصالية أصيلة لدى اليهود، وأن قوام اليهودي أن يكون كائناً على حدة، منفصلاً عن غيره، وإن كره اليهود بالتالي يرجع إلى سلوكهم ومنازعهم الانفصالية، لا إلى موقف الآخرين منهم. إنه يردد عبارة قالها “حاييم وايزمن” نفسه، وهي أن السبب الرئيسي لكره اليهود يرجع إلى وجود اليهود أنفسهم. ذلك أن الدين اليهودي، كما قال كوسلر وكما يقول كرة بعد كرة، دين يدعو في جوهره إلى التمييز العنصري وإلى الانفصال القومي، ومن شأنه أن يخلق التوتر والنزاع الاجتماعي. وهذه الحقيقة تثبتها المجلدات الخمسة من العهد القديم، ومئات المجلدات من الشروح عليه.
وما دام الأمر كذلك، فخلاصة ما يراه الكاتب أن النتيجة الطبيعية لمعتقدات اليهودي، بعد أن قامت دولة إسرائيل في الرابع عشر من مايس عام 1948 أن يعود إلى وطنه، فيما يزعم. فلقد استجيب دعاؤه الطويل، ولم يبق من حاجة لتكراره، والتخلي عن العودة معناه التخلي عن جوهر الدين وقوامه. وقد فقد الجزء الأكبر من صلوات اليهودية وطقوسها معناه منذ قيام دولة إسرائيل، ولم يعد ثمة مجال أمام اليهودي للحديث عن “المنفى” إلا إذا أراد هذا المنفى بملء حريته. ولم يبق سوى موقف واحد لديه هو العودة إلى إسرائيل. فإذا تأبى وتنكر للعودة إلى أرض آبائه، فيما يزعم، أخرج نفسه حكماً من الرباط المقدس، وكان خارجاً على اليهودية، وإن لم يعترف بذلك.

تلك هي إذن حقيقة دعوة “بن غوريون” الجديدة. إننا نجدها صريحة واضحة في هذه المحاكمة التي ساقها “كوسلر” منذ سنوات. إنها تعبر عن موقف يقفه عدد من الصهاينة في العالم، من أجل مد إسرائيل بمهاجرين جدد، وإغنائها بمزيد من القوى البشرية التي تقصدها من مختلف ديار العالم تحمل إليها ثرواتها وثقافاتها وكفاءاتها الفنية.
إن مثل هذه الدعوة تعني شيئاً واحداً لا ثاني له، وهو أن ينتقل اليهود في العالم – وعدتهم أحد عشر مليوناً ونصف – إلى أرض إسرائيل. وعبئاً يحاول أن يطمس أمثال كوسلر هذه الدعوة بأغراض أخرى، حين يبين أن من أهدافها أن يندمج اليهود العازفون عن الهجرة، مع الشعوب التي يعيشون بينها اندماجاً تاماً نهائياً. فهو نفسه يقر أن مثل هذا الاندماج تناقض فاضح بالنسبة إلى اليهودي، وأن اليهودي لا يمكن أن يكون يهودياً وإنكليزياً في وقت واحد، أو يهودياً وفرنسياً معاً أو يهودياً وأي شيء آخر.
إن هذا الدعوة تحمل في ثناياها كل معاني التعصب الضيق، وهي في الواقع قنبلة جديدة من قنابل الصهيونية تريد عن طريقها أن تستغل الشعور اليهودي والتعصب اليهودي من أجل مصلحة إسرائيل وبقاء إسرائيل.
لقد لقيت دعوة “كوسلر” هذه ردود فعل عنيفة من اليهود أنفسهم، وكتبت مقالات طويلة ضدها في الصحيفة التي تنطق باسم يهود بريطانيا، نعني “الجويش كرونيكل”. ومع ذلك ظل لها أنصارها، وظلت الصهيونية تؤكدها، إلى أن انطلقت رسمياً على لسان “بن غوريون” في الآونة الأخيرة، فقالها صريحة لا لبس فيها.
وهكذا يدرك العالم من جديد معنى الصهيونية الضيقة، ويتبين ما في الصهيونية من تعصب ذميم وكراهية لمن عدا اليهود. ويدرك العرب خاصة مدى المطامع التي يحملها الصهاينة، وكيف أنهم يريدون أن يمكِّنوا لإسرائيل خطوة بعد خطوة، معتمدين دوماً على المشاعر اليهودية، وعلى العقائد الدينية لدى العديد من اليهود. لقد عمل الصهاينة على خلق دولة إسرائيل المزعومة عن طريق إذكاء هذه المشاعر الدينية والضرب على وترها، وهم اليوم يعاودون الأسلوب نفسه، فيحاولون أن يمدوا إسرائيل بالطاقات البشرية الجديدة عن طريق القذف بهذا التهديد الكبير، تهديد كل يهودي بالأثم والخروج على الديانة اليهودية إن هو لم يهاجر إلى أرض الميعاد.

وواجب العرب في كل مكان أن يفضحوا هذه الدعاوى الصهيونية أمام الرأي العالمي، وأن يبينوا ضيق النظرة الصهيونية وتعصبها ونزعاتها العدوانية. وواجبهم فوق هذا وقبل هذا، أن يعدوا العدة المتزايدة لهذا الخطر الإسرائيلي، وأن يعبئوا القوى في عنف وإصرار من أجل القضاء عليه، وأن يدركوا أن المعركة مع إسرائيل هي معركة الأمة العربية المؤمنة بحقها مع شرذمة من اليهود يمعنون في نظرتهم التعصبية الضيقة، ويجعلون من هذه النظرة سلاحاً حاداً ضد الأمم الأخرى.
إن الإيمان الأسطوري الذي تريد أن تخلقه الصهيونية في نفوس اليهود من أجل تدعيم إسرائيل، لابد أن ينفضح، ولا يمكن أن يحيا في عصر الوعي والعلم. ومن واجب الأحرار كلهم في العالم أن يفضحوا ما في محاولة الصهيونية هذه من محاولات معادية للإنسانية، وما تحمله من معاني التعصب الضيق، ومن الرغبة في ابتداع أساطير مختلقة، من أجل العدوان والسطو على حقوق الآخرين.
لقد آن الأوان ليدرك العالم كله أن مأساة اليهود في ألمانيا النازية، التي قضت على خمسة ملايين منهم، لم تكن وليدة النزعة التعصبية للنازية فحسب، بل كانت أولاً وقبل هذا وليدة النزعة التعصبية لليهود أنفسهم، وليدة ميولهم الانفصالية والعدوانية وعدائهم لأي شعب عداهم. إن من الواجب أن تذهب من أذهان العالم إلى غير رجعة قصة اليهود المعذبين في الأرض، وأن يدرك الجميع في مختلف بقاع العالم أن اليهودية هي التي جلبت إلى نفسها المآسي مادامت تنظر إلى اليهودي هذه النظرة التي تجعله إنساناً مبايناً لغيره، عدواً لمن سواه، وما دام جوهرها، فيما يزعم اليهود أنفسهم، كراهية الكفار والحقد عليهم والكيد لهم.
إن العرب يسيرون اليوم في معركتهم مع إسرائيل، يحملون الحق والحقيقة في يد، ويحملون السلاح في يد أخرى، ولن يمكِّنون للأسطورة أن تتغلب على الحق، ولن يمكنوا للعدوان أن ينتصر. إن رسالتهم دوماً رسالة الحفاظ على قوميتهم والإسهام في توكيد المنازع الإنسانية عن طريق محاربة كل معنى عدواني يمكن أن تحمله قومية أخرى.