الديمقراطية وسيلة لتحقيق أهداف القومية العربية

مجلة الآداب – العدد /10/ – تشرين الأول 1961
الديموقراطيّة وسيلَة لتحقِيق أهدَاف القوميّة العَربيّة
بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم
لا تتخذ أي فكرة قومية معناها السليم، إلا إذا انعقدت الصلة العميقة بينها وبين الفكرة الإنسانية. ويظل هدف الحياة القومية الأول الوصول إلى تفتيح الحياة الإنسانية لدى المواطن على أوسع مدى ممكن. وقوام النظرة القومية الإيمان بأن الإطار الأمثل لتفتح الإنسان كإنسان هو إطار تربته القومية وهوائه القومي. ففي هذا الإطار يستطيع الفرد أن يزكو ويستخرج كامل إمكانياته وطاقاته. وفي هوائه ييسر له أن يرقى إلى أسمى مراتب الازدهار النفسي.
والأفكار القومية السليمة عبر التاريخ كانت مخلصة دوماً لهذا المنزع. ونشأة الحركات القومية في العالم في بداية القرن التاسع عشر، تنبئ عن عمق هذه الصلة التي تقوم بين النزعة القومية والنزعة الإنسانية. إذ ظهرت الأفكار القومية كما نعلم لدى الشعوب المضطهدة والمجزأة المقطعة الأوصال، وكان هدفها تحرير الشعوب وإقرار حقها في تقرير مصيرها وخلق عالم متآخ متآزر لا تطغى فيه أمة على أمة، وتحقيق وجود الإنسان الكامل عن طريق تحريره من طغيان أخيه الإنسان. هكذا كان شأن الحركة القومية الإيطالية منذ بداية نشأتها في أوائل القرن التاسع عشر، وهكذا كان شأن الحركة القومية الألمانية بعد حروب الثلاثين، وشأن القومية السلافية لدى السلاف الغربيين والجنوبيين. لقد ثارت هذه الحركات جميعها لدى أمم مضطهدة مهددة خاضعة للسيطرة الأجنبية، وكان همها أن تناضل من أجل حق الإنسان وحريته.
ولم تجانب الحركات القومية هذا الطابع الإنساني. إلا عندما انحرفت عن أهدافها الأصيلة واستغلت من أجل العدوان والسيطرة على نحو ما حدث في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. لقد اتخذت القومية إذ ذاك شعاراً لتبرير العنف والعداء، ووسيلة لسيطرة أمة على غيرها من الأمم. وبهذا فقدت معناها الأصلي، وغدت أبعد ما تكون عن الأهداف الحقيقية للحياة القومية، نعني تحرير الإنسان وتفتيحه ضمن تربته القومية، والعمل على تحقيق التوازن بين القوميات المختلفة من أجل سعادة الإنسان والارتقاء بإنسانيته.
ولا نهدف هنا إلى الحديث عن عمق الصلة التي تصل الفكرة القومية بالفكرة الإنسانية. وجل ما نريد أن نؤكده أن النزعة القومية تفقد معناها إذا لم تكن الإطار الطبيعي لتحقيق تفتح الإنسان الكامل.
-2-
والتذكير بهذه الحقيقة يمهد أمامنا السبيل لبيان مدى الارتباط بين القومية العربية وبين الديمقراطية. فالقومية تهدف إلى تفتيح الوجود الإنساني للفرد وإفساح المجال أمام كامل طاقاته كيما تعطي وتزدهر وتنشر الخير والعطاء للأمة وللإنسانية. وهي إذ تضع نصب عينيها مثل هذا الهدف الإنساني الغني، تلتقي التقاء طبيعياً بالديمقراطية كوسيلة لتحقيق أهدافها. فالديمقراطية إن كانت تعني شيئاً، فهي تعني أنها الوسيلة المثلى لتحرير الإنسان وتيسير تكامله الدائم وتفتيق قيمه الإنسانية الأصيلة. ومهما تختلف التعريفات التي تقدم للديمقراطية يظل من الصحيح دوماً وأبداً أن جوهرها احترام الإنسان كغاية في ذاته، واتخاذه هدفاً لا وسيلة. وقد وكدت النزعات الحديثة في الديمقراطية اليوم أن العنصر الأساسي في الديمقراطية هو احترام الشخصية الإنسانية. وهذا الاحترام ليس احتراماً سلبياً فحسب، قوامه عدم النيل منها وعدم استغلالها واستثمارها، وإنما هو فوق هذا وقبل هذا احترام إيجابي قوامه تحقيق الظروف المثلى لتفتحها وازدهارها والوصول بها إلى كامل عطائها. ومثل هذه الظروف الميسرة لتفتح الشخصية الإنسانية هي بالتعريف ظروف الحياة القومية التي يعمل فيها المواطنون من أجل سعادتهم المشتركة، ومن أجل بناء مجتمع تسوده العدالة والمساواة والفرص المتكافئة، ولا يطغى فيه إنسان على إنسان، سواء ضمن حدود الدولة القومية أو خارجها.
وهذا الارتباط العميق بين القومية والديمقراطية، يبين لنا منذ البداية قدسية الديمقراطية، كما يبين لنا في الوقت نفسه حدود هذه الديمقراطية. فهو يشير منذ بدء الطريق إلى أن الديمقراطية لا تتخذ معناها إلا كوسيلة لتحقيق الوجود القومي، وإن تفتيح الإنسان عن طريقها مرتبط أعمق الارتباط بأهداف التعاون القومي والعمل لمصلحة الحياة القومية.
على أنه يبين لنا أيضاً حدود الفكرة القومية، إذ يجعل هذه الفكرة لصالح الإنسان كإنسان، وإذ يجنبنا الوقوع في خطأ الاستمساك بالشكل ونسيان الهدف، نعني خطأ اتخاذ القومية مبرراً للعدوان على الإنسان أو اضطهاده أو تقييد حريته وتفتحه، سواء ضمن الإطار القومي أو خارجه. ذلك أن الفكرة القومية، حين ترتبط بالأسلوب الديمقراطي تظل مخلصة لهدفها الأصلي، نعني الإنسان، ولا تنحرف لتتخذ حجة لتبرير العنف أو الاقتسار، وذريعة لاضطهاد الإنسان.
أن البدهية الأولى التي كثيراً ما تنسى، هي أن المبادئ التي يضعها الإنسان يضعها من أجل الإنسان وفي سبيل اكتمال رقيه وتقدمه وبلوغه المراتب الحقة من الوعي الروحي. ولهذا فمن غير الجائز، مهما تكن المبررات، أن تتخذ هذه المبادئ ذريعة لاضطهاد الإنسان، وحجة للتضييق عليه، وامتهان شخصيته الإنسانية. ولهذا كان الربط بين الفكرة القومية والفكرة الديمقراطية، حامياً لكلتيهما من الانحراف ومن مزالق طالما ألفناها في حياة البشر. إنه يحمي الفكرة القومية من أن تصطنع من أجل العدوان ومن أجل اضطهاد الإنسان، داخل الدولة القومية وخارجها. كما يحمي الفكرة الديمقراطية من أن تغدو إطاراً فارغاً ومبدأ عديم المحتوى. ومطلقاً تستباح من أجله حتى الفوضى، وحتى استغلال الإنسان كإنسان.
-3-
إن آفة المبادئ آفتان كبريان. آفة الإطلاق، وآفة النظرة الواحدية.
أما الإطلاق فهو الذي يقلب الوسيلة إلى غاية وهدف، هو الذي يجعل من المبدأ صورة فارغة عديمة المحتوى، وحجة وعزاء وتبريراً. إنه هو الذي يجعل من مبدأ القومية مثلاً مبدأ يستبيح الإنسان وحرياته وكرامته، حين يغدو مثل هذا المبدأ حذاء صينياً قاسياً، يصطنع من أجل تبرير كل شيء، لا من أجل غاياته القومية والإنسانية الأصيلة. وهو الذي يجعل من مبدأ الديمقراطية شعاراً فارغاً، يستخدم في سبيل الحق كما يستخدم في سبيل الباطل، ويجند حتى للقضاء على الديمقراطية باسم الديمقراطية.
إن المبادئ المتصلة بحياة الأمم لا تتخذ معناها إلا ضمن جملة البنية الاجتماعية والقومية. وتطبيق أي مبدأ ينبغي أن يكون في نهاية الأمر نتيجة التفاعل بين المبدأ كمثل أعلى وبين جملة الظروف الواقعية التي توجد فيها أمة من الأمم، ومن شرارة هذا اللقاء بين المبدأ كمثل أعلى وبين الواقع يولد السلوك السليم والتطبيق الخصيب.
وأما آفة النظرة الواحدية، فهي التي تؤدي إلى تفسير الأمور تفسيراً وحيد النظرة، يقيم وزناً للعوامل الكثيرة التي تتدخل في إحداثها. والنظرة الواحدية وليدة تفكير خاطئ عاش ردحاً من الزمن. ورافق ظهور العلم الحديث، ثم ما لبث تطور العلم حتى دحضه. وقوام هذا التفكير الخاطئ نظرة إلى العلية والسببية، تحاول أن تكشف بين جملة الأسباب التي تحدث ظاهرة معينة، سواء كانت مادية أو اجتماعية، عن سبب أول تعتبره هو السبب الأصيل وتعتبر الظواهر الأخرى نتيجة له وملحقاً له، وهذه النظرة الخاطئة اتخذت أسوأ نتائجها عندما طبقت على الظواهر الاجتماعية. فها هنا حاول عدد من الباحثين كما تعلم أن يكشفوا عن عامل أساسي حاسم، هو المسؤول عن سير الحياة الاجتماعية، وما سواه تابع وملحق، على نحو ما فعلت النظرية الماركسية مثلاً حين عزلت العامل الاقتصادي وعدّته السبب الأب لكل عناصر الحياة الاجتماعية وحين اعتبرت ما سواه من مظاهر الحياة بمثابة ذيل له أو مركب ثانوي من مركباته. ومثل ذلك فعلت النظريات التي حاولت أن ترد الظواهر الاجتماعية إلى عامل البيئة أو عامل العرق.
ولقد ولدت هذه النظرة مآسي كثيرة في فهم الحياة الإنسانية، بل في السلوك السياسي والمذاهب السياسية. وجاء العلم الحديث فأثبت خطأها في ميدان علوم المادة الجامدة. غير أن الأخذ بها في ميدان العلوم الاجتماعية ظل مستمراُ إلى حد بعيد. لقد أثبت العلم الحديث خطأ التفسيرات التي ترد الظواهر المادية إلى قانون وحيد أو سبب وحيد تتحلق حوله سائر الظواهر، وبيّن أن من الواجب أن يحدث انقلاب في فهمنا للأشياء، عن طريق التفكير بوساطة مبدأ التفاعل المشترك بين العناصر المكونة لها. فالحادثة المادية لا تحدث بنتيجة سبب وحيد، وإنما تحدث بنتيجة تفاعل جملة من الأسباب، لكل منها وزنه وشأنه، وليس بينها سبب أساسي وآخر ملحق. وهكذا غدا الاحتمال والتعدد ميزتي العلم في عصرنا، وحل محل التفسير الواحدي للأشياء، تفسير كلي ينظر إلى الأحداث على أنها مترابطة متآخذة، ويستبعد القول بوجود قوة مسببة فذة وشاملة، هي مفتاح كل شيء.
غير أن هذه النظرة التي أشاعها العلم بعد تطوره، في ميدان الظواهر المادية لم تنتقل بيسر إلى ميدان الظواهر الاجتماعية، وظل التفسير الواحدي، التفسير بالسبب الوحيد الفذ، هو التفسير الغالب، وكثيراً ما زعم مثل هذا التفسير لنفسه صفة العلمية، على نحو ما فعل ماركس.
ولا بد، لنقل الاتجاه العلمي إلى ميدان الظواهر الاجتماعية، من هجر ذلك التفسير الواحدي، من إهمال النظريات الواحدية الشاملة، والأخذ بالتفسيرات «التفاعلية» إن صح التعبير، نعني بالتفسيرات التي تعتبر الظواهر الاجتماعية نتيجة التفاعل بين جملة من العوامل المتعددة، ليس بينها ما يحتل مقام السبب المنشئ الخلاق.
وآفة الواحدية هذه، عندما تطبق على المبدأ القومي، أنها تجر إلى جملة من المزالق، أهمها شيء من التألية الخاطئ للمبدأ القومي، تأليها يجعله قوة صارمة، يستباح من أجلها كل شيء. كذلك من نتائج هذه الآفة عندما تطبق على المبدأ الديمقراطي أن تنظر إليه كعامل حاسم، كمبدأ ميتافيزيقي، كفكرة مجردة غير مكسوة بلحم ودم، وغير مصطبغة بصبغة الظروف الأخرى التي تصاحبها.
ومثل هذا الموقف الموحد، هو الذي ينتهي في نهاية الأمر إلى تعصب ضيق، حين يؤكد أن لا وجود إلا لحقيقة واحدة، وحين لا يدرك أن كل مبدأ قابل لأن يعدل بنتيجة تفاعله مع غيره من المبادئ والنزعات.
إن القومية حين تغدو غاية في ذاتها، وحين تنسى أهدافها الإنسانية، تقع في مثل هذا التفسير الواحدي، وتغدو مطلقاً رهيباً، يخنق الإنسان. والديمقراطية حين تأخذ بالتفسير الواحدي، تنتهي إلى تطرف معاد لجوهر الديموقراطية.
وما نريد أن نتابع هذا الحديث العام عن آفات النظرة المطلقة والنظرة الواحدية. والذي قادنا إليه ما قررنا من أن الصلة العميقة القائمة بين الديمقراطية والقومية من شأنها أن تحمي كلتيهما من مثل هذه التفسيرات المطلقة أو الواحدية، ومن شأنها بالتالي أن تجنب كلاً منهما آفات الوقوع في شكلية ليست بذات مضمون، وفي إطار لا يحفظ شيئاً ويبيح كل شيء.
ونتيجة هذا كله أن القومية إذا أرادت أن تظل محكومة بأهدافها الأصيلة، التي هي أهداف إنسانية تبتغي تفتيح الإنسان إلى أقصى مدى ممكن ضمن إطار العمل القومي المتآخي، لا بد لها أن تتخذ من الديمقراطية وسيلة مثلى لتحقيق تلك الأهداف ودرعاً ووقاية ضد الوقوع في صورية الإطلاق وقسوته. وبالمثل، لا تكون الديمقراطية مبدأ ذا دلالة، قابلاً لأن يطبق ويعطي ثمرات معينة، إلا عندما يرتبط بحياة قومية معينة، وحين يتكيف مع أهدافها، ويسير في المسارب التي من شأنها أن تعمق تلك الأهداف.
-4-
هذه الحقيقة الكبرى العامة، تسري على القومية العربية كما تسري على غيرها، وتجد في الحركة القومية العربية مجالاً خصيباً لها.
فالقومية العربية تهدف، ككل قومية سليمة، إلى تفتيح الإنسان العربي ضمن الإطار القومي، وترى في هذا الإطار الإناء الطبيعي لعطاء الفرد العربي وإبداعه. وتنظر إلى ارتباط المواطن العربي بحياته القومية، كسياج يمكنه من تحقيق طاقاته الإنسانية حتى مداها، ويطلق لديه قوى الإبداع حتى غايتها. وهي تنظر بعد هذا إلى هذا الإطار القومي كدرعٍ يقي الأمة أخطار العدوان الخارجي، ويمكنها بالتالي من الحفاظ على روحها الإنسانية، وعملها من أجل عالم متآخ متعاون. والأمة العربية بوصفها أمة ما تزال في بداية نهضتها الحديثة، تنظر إلى هذا الإطار القومي نظرتها إلى إطار مفصل على قدها، يقيها من أخطار تسلط الدول الكبرى. ويكون عملها له جزءاً من عملها الإنساني الشامل في سبيل حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، ضمن عالم تتنازعه قوى متخاصمة كبرى، وما يزال يسوده التحكم والطغيان. وكلا المطلبين من مطالب القومية العربية يحتاج إلى أن يتذرع بالديمقراطية من أجل تحقيق أهدافه. والمطلب الأول خاصة، نعني تفتيح طاقات الإنسان العربي وقوى الإبداع لديه لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الديمقراطية. ذلك أن المبدأ الأساسي من مبادئ الديمقراطية كما ذكرنا هو مبدأ احترام الإنسان واتخاذه غاية لا وسيلة، وإفساح المجال بالتالي أمام إمكانياته وطاقاته كيما تتفح وتزدهر. والجو الديمقراطي الذي يتجلى في الاعتراف للأفراد بحرياتهم الأساسية، هو السبيل الوحيد لتفتح الإنسان وتقدمه وتجاوزه ذاته باستمرار. وليست حرية التعبير والتفكير والمناقشة الحرة في نهاية الأمر سوى الأدوات اللازمة لتحقيق انفتاح الفرد على الإبداع والعطاء حتى نهايتهما.
وإذا أردنا أن نمضي في الموضوع إلى أعمق من هذا قلنا أن احترام الشخصية الإنسانية، الذي هو جوهر الديمقراطية، يستلزم أولاً وقبل كل شيء اللجوء في معاملة هذه الشخصية الإنسانية إلى الوسائل الإنسانية التي من شأنها أن تحترمها وتفتحها من داخلها، لا أن تنتهكها أو تقسرها على الأفكار والآراء قسراً. وتظل السمة الأساسية للأسلوب الديمقراطي الاعتماد على القناعة الداخلية العميقة للإنسان، وجعله سيد أفكاره، بدلاً من اغتصابه فكرياً ونفسياً وبدلاً من السطو عليه بأفكار مبيتة معدة سلفاً. ومن الآفات التي تتعرض لها الديمقراطية الحديثة – حتى في أكثر الدول أخذاً بالمبدأ الديمقراطي، اللجوء إلى تقديم الآراء والأفكار المبيتة الجاهزة، وعدم إفساح المجال أمام الجهد الذاتي المستقل في اقتناء الأفكار وهضمها. إن الأطعمة الفكرية الجاهزة التي يقسر عليها الناس دون أن يهضموها، تكاد تغدو صفة ملازمة لعصرنا الحديث،
لا سيما بعد انتشار الوسائل الديمقراطية الواسعة، نعني الصحافة والإذاعة والتلفزيون والطباعة. وتقديم أفكار غير مطبوخة، وعموميات غير واضحة، ومحاولة غرسها في أذهان الناس، عن طريق الوسائل الانفعالية، من أهم الآفات التي تتعرض لها الديمقراطية في عصرنا، والتي ينبغي أن تعمل على تجاوزها إن أرادت أن تحافظ على جوهرها وحقيقتها.
وهذه الناحية تقودنا إلى استطراد قصير يردنا إلى ما كنا نقرره منذ حين، وهو أن الديمقراطية، كأي مبدأ، لا يجوز أن تفهم على أنها مطلق لا يخضع لظروف الزمان والمكان. ذلك أن ظروف الحياة المعاصرة وانتشار أدوات النشر هذا الانتشار الهائل، يخلق شروطاً جديدة لعمل الديمقراطية، لم تكن قائمة من قبل، لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار وأن تفرض على الديمقراطية، مشكلات جديدة وحلولاً جديدة..
ولندع هذا ولنعد من جديد إلى ما يترتب على الأخذ بالمبدأ الديمقراطي من احترام للشخصية الإنسانية. ولنقل أن هذا الاحترام الذي هو أهم ما ينبغي أن تحرص عليه الديمقراطية، هو الذي نقع عليه في تاريخنا العربي وفي تاريخنا الإسلامي. ولعل فكرة الكرامة الإنسانية هي الفكرة التي استبقت لدى أجدادنا العرب مفهوم الديمقراطية الجديد. وكلنا يعلم أن على رأس القيم التي آمن بها العرب في جاهليتهم وإسلامهم الحفاظ على كرامة الإنسان. والذي يطالعنا في التاريخ العربي كله هو هذه الكرامة الإنسانية التي تشمخ دوماً وتشرئب. وفي معاملة العرب لرعاياهم وفي معاملتهم للدول التي فتحوها أكبر الدلائل على عمق إيمانهم بالشخصية الإنسانية وبالكرامة الإنسانية. وفي القرآن الكريم «ولقد كرمنا بني آدم». وما تزال قولة عمر بن الخطاب التي وجهها إلى عمرو بن العاص ترن في مسمع التاريخ: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً». ومن الجدير بالذكر أن عمر بن الخطاب قال هذه الكلمة احتجاجاً على معاملة «ابن الأكرمين» لرجل قبطي، مما يشهد على عمق معنى الكرامة الإنسانية لدى العرب ومما يبين أنها ليست وقفاً لديهم على رعاياهم، بل هي تجاوز هؤلاء الرعايا إلى كل إنسان.
هذا الاحترام لكرامة الإنسانية وللشخصية الإنسانية الذي حرص عليه العرب في عصور تاريخهم، يجعل من الديمقراطية أسلوباً خصيباً منتجاً، ويربطها مباشرة بفكرة التفتح القومي والإبداع القومي. فتقديس الشخصية الإنسانية، هو الوسيلة التي تفسح المجال أمام الإنسان كيما يعطي ويبدع ويتقدم ويتجاوز ذاته باستمرار. ولا سبيل إلى تطوير الإنسانية يوماً بعد يوم، ورفعها من مستوى الشرور إلى مستوى الخير، إلا عن طريق إفساح المجال أمام قوى الوعي الروحي كيما تتقدم وتتجاوز ذاتها وتعمل على خلق الإنسان الجديد دوماً.
إن امتلاك الفرد لآرائه وأفكاره وامتلاكه لذاته واستقلاله الشخصي يعنيان معنى عميقاً جداً بالقياس إلى مشكلة الإنسان جملة. فهما الوسيلتان الناجعتان اللتان تجعلان الوعي الإنساني يتقدم ويتطور ويجاوز ذاته باستمرار عاملاً على تجديد قيم المجتمع وعلى تجديد قيمه الإنسانية. وبدون هذا المجال المفتوح أمام الوعي الفكري، كيما يتقدم ويتجاوز ذاته، لا يمكن أن يقوم في المجتمع أي تقدم ولا يمكن أن تكون فيه أي حركة إلى أمام. والإنسانية تراوح في مكانها، إن هي فرضت على الناس قيوداً في الفكر والرأي، وإن هي حبست أفكارهم ضمن إطار لا يتجاوزونه.
إن جوهر الوجود الإنساني إنه يصبو إلى تجاوز ذاته باستمرار، ومن صلب بنية الوعي إنه ينزع إلى أن يتجدد ويناقش ذاته ويرقى إلى آفاق أسمى فأسمى. ومثل هذه الصبوات التي نجدها في الوجود الإنساني وفي الوعي الإنساني، هي أمل الإنسانية، ولا بد لها كيما تأخذ مداها من أن تحترم ويفسح المجال بينها وبين الانطلاق.
ومن هنا كانت الديمقراطية هي الوسيلة المثلى لتفتح الإنسان وتجاوزه لذاته وتطويره لمجتمعه وقيم هذا المجتمع. وبهذا ترتبط أعمق الارتباط بالقومية. فالقومية تفتيح للإنسان وتطوير للمجتمع ولقيم المجتمع. وليست القومية مفهوماً ساكناً جامداً، وإنما هي حركة دائبة متصلة من أجل تجديد بناء الموطّن ضمن الكيان القومي. وهذا التجديد هو والديمقراطية صنوان.
-5-
على أن احترام الشخصية الإنسانية الذي هو صلب الديمقراطية وعصبها المقوّم، لا يعني فقط هذا التمكين للوعي كيما يتفتح وينطلق ويجاوز ذاته ويتجه شطر القيم الروحية المثلى، قيم الحق والخير والجمال. وإنما يعني شيئاً آخر لا ينفصل عن المعنى الأول، هو إزالة العوائق الخارجية المادية التي تغل نشاط الفرد وتعطل فورة الإبداع والعطاء لديه. فمن البدهي أن تفتح الإنسان التفتح الكامل، لا يمكن أن يتم إذا كان مثقلاً بالقيود الاقتصادية التي تستعبده والتي تعطل قواه. وفي المجتمع العربي خاصة، تثوي القوة الحقيقية الخلاقة للأمة العربية، في تلك الكتلة الكبيرة من الجموع الشعبية الفقيرة المحرومة. وهذه القوى الخلاقة معطلة لدى هذه الجموع بسبب سوء أحوالها الاقتصادية. والعبودية المادية التي تخضع لها الجمهرة الكبرى من أبناء الوطن العربي تجعل إمكانيات الشعب العربي مهدورة وطاقاته مقتولة غير مستغلة. ولهذا فلا سبيل إلى تحقيق العطاء القومي والإبداع القومي إلا عن طريق أسلوب ديمقراطي يهب للديمقراطية معنى التحرر من أثقال القيود الاجتماعية والاقتصادية، كوسيلة لبلوغ المعنى الثاني للديمقراطية نعني تفتيح طاقات الفرد وإطلاق قوى الإبداع لديه ليعطي ويبدع في حرية وتجدد.
وإذا أردنا تعبيراً آخر، قلنا أن الشق الأول من الديمقراطية يتصل بما يدعى باسم الديمقراطية السياسية نعني تحقيق حرية الرأي والكلام والاعتقاد، وحكم الشعب بالشعب، عن طريق الوسائل الديمقراطية المعروفة. أما الشق الثاني من الديمقراطية فيعني الديمقراطية الاجتماعية، أي تحقيق الفرص المتكافئة أمام أفراد الشعب وتحريرهم من عبوديتهم لأوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية ليكونوا قادرين حقاً على امتلاك حريتهم السياسية وتصريفها.
وما نريد أن نعود ههنا إلى حديث الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية. وما نريد أن نعدد التهم التي يوجهها الآخذون بالديمقراطية الاجتماعية إلى المنتصرين للديمقراطية السياسية. ونكتفي بالقول أن هذا الصراع في أعماقه صراع زائف، يتجاوزه تطور الأحداث. فالديمقراطية السياسية لا معنى لها بدون الديمقراطية الاجتماعية ما في ذلك شك، والديمقراطية السياسية، كما يقول أعداؤها، تغدو وهماً وتضليلاً إذا لم يتحقق التحرر الاقتصادي والاجتماعي، وإذا كانت الوسائل التي يدعونها ديمقراطية، من صحافة وإذاعة ودعاوة وغيرها، ملكاً للذين يتصرفون في أموال الناس فيتصرفون بالتالي في أفكارهم ومعتقداتهم. غير أن هذا ينبغي ألا يوهمنا أن الديمقراطية الاجتماعية هي الديمقراطية الوحيدة. فمن الصحيح أيضاً أن الديمقراطية الاجتماعية تفقد معناها إن لم تهدف إلى تحقيق الديمقراطية السياسية. وتحقيق الديمقراطية السياسية، أي الحريات الفردية للمواطنين، ينبغي أن يظل الهدف النهائي من الديمقراطية الاجتماعية، وينبغي أن تظل هذه وسيلة من وسائل بلوغ الديمقراطية السياسية في شكلها الكامل السليم. وكما أن الديمقراطية السياسية تنقلب زيفاً وخداعاً إذا لم ترافقها الديمقراطية الاجتماعية، كذلك تنقلب الديمقراطية الاجتماعية إلى دكتاتورية ذميمة إذا نصبت نفسها كغاية تستباح في سبيلها الحريات السياسية والكرامة الشخصية، على نحو ما وقع في بعض البلدان الاشتراكية. والهام في هذا التلازم بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية، أن ندرك أنه ينبغي أن يكون تلازماً متواقتاً، يتم في وقت واحد. ومن تشويه الأمور أن نقسم الزمن إلى مراحل وأن نزعم أن العمل للديمقراطية الاجتماعية ينبغي أن يسبق العمل للديمقراطية السياسية، أو العكس.
فلا سبيل إلى تحقيق الديمقراطية السياسية إلا بالوسائل الديمقراطية. والاعتداء على الديمقراطية، ولو باسم مرحلة موقتة، كما تفعل النظم المجموعية، يعرض الديمقراطية في جوهرها للخطر والانحراف، ويجعل الوصول إليها مطلباً موهوماً. وفي هذا المجال يمكن أن نستعير تلك الكلمة التي قالها أحد الكتاب عن الحضارة الإنسانية فنطبقها على الديمقراطية نفسها فنقول «أن قوامها أن نعلم الناس أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم عن طريق السماح لهم بأن يفعلوا ذلك».
-6-
وإذا أردنا أن نلجأ إلى لغة أخرى، قلنا أن المشكلة الكبرى في الديمقراطية، هي مشكلة التوفيق بين مبدأين غاليين من مبادئ الديمقراطية، هما مبدأ الحرية من جهة ومبدأ المساواة من جهة ثانية. والتوفيق بين هذين المبدأين مسألة واجهت دوماً الحريصين على الديمقراطية. ولعل الحل الذي يعطي لهذه المسألة في بلد من البلدان هو الذي يحدد مبلغ قدرتها على تطبيق الديمقراطية تطبيقاً صحيحاً سليماً.
ذلك أن مبدأ الحرية وحده لا يمكن أن يكون هدف الديمقراطية، ولا بد لهذا المبدأ كيما يأخذ معناه، أن يسير جنباً إلى جنب مع المبدأ الثاني، نعني المساواة. ونستطيع أن نقول أن مبدأ الحرية هو قوام الديمقراطية السياسية بينما مبدأ المساواة قوام الديمقراطية الاجتماعية. ومعنى هذا أن كلا المبدأين في نظرنا لا يصح بدون الآخر. فالحرية ينبغي أن تهدف في نهاية الأمر إلى تحرير الفرد من قيوده ومن جميع أنواع العبودية التي يخضع لها، ومثل هذا لا يتم إلا إذا تحقق مبدأ المساواة، مبدأ تكافؤ الفرص. والمساواة تعني أن يتمتع جميع الأفراد بحظ واحد من الفرص المتاحة لهم، وألا يحال بين فرد من الأفراد وبين أن يستغل مواهبه كاملة وإمكانياته حتى غايتها، وألا يكون التفاوت في الأوضاع الاقتصادية والطبقية سبباً في تفاوت في الفرص. ومثل هذه المساواة تلتقي التقاء طبيعياً مع الحرية، وبدونها لا يمكن أن تتحقق. ذلك أن الفرص المتكافئة تعني شيئين: الأول وجود حرية للمطالبة بها وتحقيقها تحقيقاً صحيحاً وتقويم كل انحراف عنها. والثاني وجود الجو اللازم لتفتح الفرد، بحيث لا تغل إمكانياته بسبب سوء أوضاعه المادية. فالذي يغل الأفراد ويحول بينهم وبين كامل تفتحهم ما هو الأوضاع المادية فحسب، كما قد يخيل، وإنما هو أولاً وقبل ذلك، الأوضاع الروحية الفكرية في مجتمع من المجتمعات. والعبودية الفكرية لا تقل في نهاية الأمر عن العبودية الاقتصادية والمادية. بل إن التحرر من العبودية المادية، كما قلنا ونقول، لا يهدف في خاتمة المطاف إلا للتحرر الفكري والروحي الكامل، وما هو بالتالي غاية في ذاته. إنه وسيلة لتفتيح الإنسان، لبلوغ أعلى مراتب الوعي الإنساني. ومثل هذا الارتقاء إلى الحرية الفكرية والروحية لا يتوافر إلا بتوافر المبدأ الأول من مبادئ الديمقراطية، نعني مبدأ الحرية عامة.
على أن قولنا بقيام وحدة تامة بين الحرية والمساواة، يجعلنا ندرك أن لكل منهما حدوداً. فالحرية محدودة بمطالب المساواة، والمساواة محدودة بمطالب الحرية. والميزان الذي يحكم على سلامة تطبيق الديمقراطية هو مدى التوفيق بين المطلبين، ومدى الاتساق والانسجام بينهما.
وما دمنا أمام مؤتمر تربوي، يجدر بنا أن نأتي بمثال على أهمية هذا التوفيق ننتزعه من قصة التعليم في بريطانيا. فكلنا يعلم أن مشكلة التعليم في بريطانيا هي أولاً وقبل كل شيء مشكلة التوفيق بين هذين المطلبين الغاليين من مطالب الديمقراطية، نعني الحرية في التعليم ثم تكافؤ الفرص التعليمية، ذلك أن التعليم في بريطانيا قدم منذ القرون الوسطى على أكتاف عدد من المدارس الخاصة الشهيرة، من مثل مدرسة «إيتون» Eton أو «ونشستر» Winchester أو «هارو» Harrow أو غيرها. وتتسم هذه المدارس برقي مستواها التعليمي والخلقي. ولهذا كانت الموئل الذي يتخرج منه دوماً قادة الشعب الإنكليزي في مختلف المجالات. سوى أن ارتفاع تكاليف هذه المدارس جعلها وفقاً على الطبقة الغنية. أما الطبقة الفقيرة فما كانت تستطيع أن ترسل أولادها إليها، وكانت تلجأ إلى المدارس الحكومية التي ظلت دونها في المستوى. وقد كانت مهمة المصلحين الإنكليز إيجاد حل لهذه المعضلة. لقد كانوا حريصين على بقاء هذه المدارس الخاصة، أخذاً بمبدأ الحرية في التعليم، وحفاظاً على مستوى هذه المدارس الرفيع، كما كانوا في الوقت نفسه، ولا سيما بعد الثورات الصناعية الحديثة، حريصين على فتح مجال التعليم المتكافئ أمام الطبقة الفقيرة عامة وطبقة العمال خاصة. وبدت المشكلة حادة عنيفة قبيل الحرب العالمية الثانية وبعدها، فأخذنا نقرأ كتباً ككتاب «لوندس Londes» الذي يحمل عنوان «الثورة الاجتماعية الصامتة» وككتاب «فيكرز Vickers» الذي يحمل عنوان «التربية من أجل مجتمع حر». وفي مثل هذه الكتب أخذت تطالعنا الدعوة إلى تحقيق المساواة في الفرص التعليمية، والبحث في أثر المدارس الثانوية خاصة في تنظيم التوازن الطبقي في المجتمع الإنكليزي. وكانت قوانين التعليم التي صدرت بعد ذلك، عام 1944، بمثابة محاولة لإيجاد حل لهذه المشكلة. وجوهر هذا الحل الذي انتهى إليه المربون، من أجل التوفيق بين مطالب الحرية ومطلب المساواة في التعليم، الأخذ بتوسيع المدارس الحكومية وتحسينها بحيث تضاهي في نهاية الأمر المدارس الخاصة. وبذلك تتاح للطبقة الفقيرة فرصة الدراسة المجانية في مدارس لا تقل شأناً عن مدارس الخاصة، كما يفسح المجال أمام الخاصة لاختيار مدارس الخاصة عندما يفضلون ذلك. هذا بالإضافة إلى إلزام كل مدرسة خاصة أن تخصص عدداً من المقاعد المجانية للطلاب الفقراء المتفوقين الذين يفدون إليها من المدارس الحكومية العامة.
ولسنا ههنا في معرض الحديث المفصل عن هذه المشكلة التي واجهت التعليم في بريطانيا. وقد اكتفينا بهذا العرض الموجز رغبة في تقديم مثال بسيط على أهمية التوفيق بين مبدأي الحرية والمساواة في مجال التعليم وغيره.
وواضح أن هذا التوفيق الذي نعده جوهر العمل الديمقراطي، لا يجوز أن يكون على حساب أي واحد من المبدأين. وواضح أن التواقت في هذا التوفيق أمر ضروري، فلا يجوز أن يؤخذ بالمبدأ الأول إلى حين، ظنا أنه سيؤدي فيما بعد إلى المبدأ الثاني أو أن يؤخذ بالمبدأ الثاني إلى حين، اعتقاداً منا بأن تعطيل المبدأ الأول لا بد منه من أجل العود إليه عوداً سليماً فيما بعد.
وواضح أيضاً أن هذا التوفيق يرتبط بظروف المجتمع وأوضاعه العامة، وأنه يأخذ في كل مجتمع بالتالي الشكل الذي يتلاءم معه. وقد قلنا ونقول أن الديمقراطية لا يجوز أن تفهم كمطلق وأن الشكل الذي تتخذه يتحدد أخيراً ببنية المجتمع الذي تطبق فيه. غير أن هذا الارتباط بين تطبيق الديمقراطية (على أساس التوفيق بين مبدأي الحرية والمساواة)، وبين ظروف المجتمع، ينبغي أن يفهم أيضاً على حقيقته، ولا يجوز أن يتخذ حجة للتطويح بالديمقراطية، فنسبة الديمقراطية إلى الزمان والمكان لا يعني التلاعب بها والاحتيال عليها باسم ظروف الزمان والمكان، والأصل في هذا الارتباط بين الديمقراطية وبين ظروف تطبيقها أن يكون السعي قائماً للوصول إلى أكبر حد ممكن من الديمقراطية ضمن تلك الظروف. وما نعنيه بوجود ظروف خاصة ما هو وجود الظروف التي تحد من المبدأ، وإنما هو وجود ظروف يأخذ المبدأ ضمنها شكلاً جديداً. وبدهي أن الظروف التي كانت تطبق فيها الديمقراطية في مثل الولايات المتحدة في بداية استقلالها أيام جيفرسن، هي غير الظروف التي تواجه الديمقراطية اليوم بعد تعقد الحياة الحديثة وبعد انتشار الصناعة الكبرى وتطور النظم الاجتماعية. وأكبر محنة تتعرض لها الديمقراطية محاولة النظرة إليها في ظروفنا الحاضرة من خلال الأفق الذي كان سائداً في ظروف مباينة تماماً. وفيما يتصل بالحرية والمساواة مثلاً، كان الظن لدى كثير من المؤمنين بالديمقراطية في بداية الأمر أن ثمة انسجاماً ذاتياً بينهما. في حين أن تطور الحياة الحديثة قد بين أن هذا الانسجام لا يقوم من تلقاء ذاته، وعلينا أن نناضل في سبيله.
وأياً كانت الحال، فالمهم في عملية التوفيق بين مطالب الحرية والمساواة وبين ظروف المجتمع، أن ندرك أن هذا التوفيق ينبغي أن يكون دوماً في اتجاه الديمقراطية لا في اتجاه القضاء عليها باسم الظروف. المهم أن ندرك حقيقة كبرى لا يكون للديمقراطية بدونها معنى، وهي أن مشكلة الديمقراطية مشكلة خلقية، وأنها قضية إيمان خلقي. ولهذا فتطبيقها أيضاً ينبغي أن يكون تطبيقاً خلقياً، أي تطبيقاً مخلصاً صادقاً.
-7-
هذه الحقائق التي نقررها بالنسبة إلى الديمقراطية عامة. تصدق على الديمقراطية في بلادنا العربية. ومن خلالها ندرك من جديد الصلة بين القومية العربية وبين الديمقراطية. ذلك أن القومية العربية حين تضع أهدافها تجعل في رأسها هدفين كبيرين متلازمين ومتآخذين: الأول تحقيق الحضارة العربية المنشودة عن طريق تفتيح إمكانيات الإنسان العربي، والثاني تحقيق سعادة المواطن العربي عن طريق إفساح المجال أمام استخراج ثروات العرب المادية والبشرية، أي عن طريق الاشتراكية.
ومعنى هذا أن القومية العربية تهدف أولاً إلى تحرير الفرد روحياً وإطلاق قوى الإبداع لديه، وتهدف ثانياً إلى تحرير الفرد مادياً. أما التحرير الأول فيكون عن طريق الأخذ بمبدأ الحرية خاصة، وأما التحرير الثاني فيكون عن طريق الأخذ بمبدأ المساواة خاصة، مع التوكيد دوماً على أن المبدأين متآخذان لا ينفصل أحدهما عن الآخر.
وإذا شئنا تبسيطاً للأمور، أن نجمع المبدأين في واحد قلنا أن هدف القومية العربية الكبير بناء حضارة عربية إنسانية نامية، وهذا البناء يتوسل لبلوغ أهدافه بالاشتراكية. والاشتراكية تعني تحرير الجموع الغفيرة المحرومة من أبناء الوطن العربي من قيود أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية السيئة، تحريراً لا يهدف فقط إلى رفع مستواها المادي، بل يجعل هذا المستوى المادي وسيلة لرفع مستواها الإنساني والروحي. ومعنى هذا أن الاشتراكية التي هي وسيلة كبرى لتحقيق أهداف القومية العربية ترتبط في أعماقها بالديمقراطية وتشتمل على المعنيين الكبيرين من معانيها. أنها تشتمل على المساواة ما في ذلك شك، ولكنها تتخذ هذه المساواة أداة للتحرير الفكري والروحي، لإطلاق قوى الإبداع لدى الفرد، أي تجعلها وثيقة الارتباط بالحرية. وقد غدا من البدهي أن الاشتراكية في نظر القومية العربية ليست مقصودة لذاتها، وليست وسيلة لرفع مستوى المعيشة فحسب وليست قضية معدة كما يقولون، وإنما هي وسيلة لإطلاق قوى الإبداع العربية الثاوية في الجموع الغفيرة من أبناء الشعب العربي. وأساس فكرة المجتمع الاشتراكي، الاعتقاد أن قوى الإبداع الكبرى لدى الأمة العربية ثاوية لدى هذا الجمهور الكبير من الشعب المحروم. ولهذا فلا سبيل إلى بناء الحضارة العربية وتفتيق الإبداع العربي، إلا عن طريق إنقاذ هذه الجموع من أغلالها وإفساح المجال بينها وبين أن تعطي وتمنح لوطنها وللإنسانية. ومعنى هذا أن مطلب الاشتراكية في نظر القومية العربية مطلب إنساني بالدرجة الأولى، هدفه النهائي تحرير الإنسان وإطلاق قواه المبدعة، ومثل ذلك لا يتم إلا عن طريق الحرية.
-8-
وبعد، لئن جعلنا هدف القومية العربية الكبير بناء حضارة عربية إنسانية نامية، فلا ينسينا هذا أن مثل هذا البناء لا يتم عن طريق الاشتراكية وحدها، بل لا بد فيه من جوهره وأساسه، نعني الوحدة العربية. فالوحدة العربية بالبداهة هي جوهر القومية العربية: وأي بناء للحضارة العربية لا يكون إلا ضمنها ومن خلالها.
فالحضارة العربية حضارة متكاملة، والوثبة العربية المنشودة لا تكون كاملة إلا عندما ترجع الأوصال إلى الأوصال ويعود الوطن العربي إلى سابق وحدته ويلغي ذاته من جديد بعد سابق تمزق وشتات. والعرب لن يلفوا ذاتهم ولن يجدوا حضارتهم إلا ضمن جسدهم كاملاً، نعني الوطن العربي الأكبر.
وما دام الأمر كذلك. فالديمقراطية ههنا تلعب دورها الكبير. فكلنا يعلم أن العمل للوحدة العربية هو أمنية الجمهرة الكبرى من أبناء الأمة العربية، وهو إرادة الشعب في كتلته الكبيرة، غير أننا كلنا نعلم في الوقت نفسه أن هذه الأمنية تحول دونها جملة من العوائق، وتقوم في وجهها ضروب من العداء والاحتراب. وما يزال أعداء القومية في خارجها وداخلها، يكيدون لها ويحاولون الحيلولة دون بلوغها مداها. والكيد للقومية العربية لا يأخذ فقط شكل الكيد السياسي، وإنما يأخذ خاصة شكل الكيد الفكري. فعن طريق تشويه الأفكار وتسميمها، وعن طريق إثارة الشكوك في القومية العربية والوحدة العربية، يحاول أعداء الوحدة أن يضعفوا من وثبتها ويؤخروا يوم تحققها. ومعنى هذا أن معركة الوحدة العربية معركة فكرية بالدرجة الأولى، إلى جانب كونها معركة سياسية. ولا يأخذ العمل لهذه الوحدة شكله الحي الفعال إلا إذا نشطت الأفكار لتوكيده وتثبيته. ومثل هذا النشاط يستلزم الحرية الفكرية حتى أقصاها. وتقييد الحرية الفكرية في هذا المجال لا يفيد في نهاية الأمر سوى أعداء القومية العربية وخصومها. إن مؤامراتهم ودسائسهم وهمساتهم المخربة هي التي تعشش وتفرخ في جو لا يفسح المجال لتبادل الآراء في النور، ويدع الفرصة كبيرة للعمل في الظلام. والفكرة الصادقة المؤمنة، تدرك أن النصر لها في معركة تجري في وضح النهار، وتصطرع فيها الأفكار. لا سيما عندما تكون هذه الفكرة فكرة الجماهير الغفيرة، فكرة القوى الحية في المجتمع، التي تشتد حياة بمقدار ما يتاح لها من حرية.
إن القوة الكبرى التي تعتمد عليها فكرة الوحدة العربية، نعني قوة الشعب بجماهيره الغفيرة، تجعل من طبيعة الأمور أن يجري العمل للوحدة في جو ديمقراطي. فالوحدة العربية إرادة الكثرة الغالبة وإيمانها، وهذا الإيمان ينبغي أن ينطلق وينمو ويتوالد كي يتغلب في نهاية الأمر على البقية الباقية من الأفكار الضالة. ونمو هذا الإيمان وتوالده يكون في جو ديمقراطي بل يكون بفضل معارضة الخصوم على أن تكون هذه المعارضة في وضح النهار. إن الجو الديمقراطي هو الذي يقوى في نهاية الأمر على كسب المعركة ضد الاستعمار وأعوانه في كل بلد عربي. ولهذا نجد هذا الاستعمار وأعوانه حذرين من إطلاق الحرية، يتذرعون ضد أفكار الوحدة التي تعمر في القلوب بتقييد الحريات الديمقراطية.
إن أي فكرة مهما يكن حظها من القوة، تحتاج دوماً إلى مزيد من التنمية والإغناء. والفكرة التي تراوح في مكانها تتجمد وتفقد عناصر الحياة اللازمة لبقائها. واغتناء الفكرة يكون أولاً وأخيراً ضمن الجو الديمقراطي.
-9-
ولا حاجة بعد هذا كله إلى القول أن الديمقراطي اللازمة للقومية العربية الملازمة لأهدافها، ينبغي أن تنبثّ في جميع مظاهر الحياة العربية، وأن تكون النسغ المغذي لكل جانب من جوانبها. إن عليها أن تداخل الحياة السياسية كما تداخل الحياة الاجتماعية، وأن تسيطر على علائق الناس جميعها ضمن المجتمع العربي.
ذلك أن الديمقراطية في بلد من البلدان لا تقاس بمبادئها المكتوبة في واجهة الدساتير والقوانين، وإنما تقاس بالعلاقات الفعلية القائمة التي تربط بين الناس، وتعيّر بطراز السلوك اليومي الذي يذيع بينهم. والمسألة ليست مسألة القيم – الأصنام – المنقوشة في الأسفار والنصوص الدستورية، وإنما هي مسألة المعنى الذي تأخذه هذه القيم حين تعبر عن نفسها على شكل علائق إنسانية في داخل المجتمع وخارجه.
وما دام الأمر إذن في الديمقراطية أمر التطبيق الفعلي الذي يدخل جميع أنماط الحياة الاجتماعية والسلوك الاجتماعي، كان لزاماً علينا أن نشير إلى أهمية تغلغل الروح الديمقراطية في نظم التربية والتعليم. ولئن اخترنا الحديث عن مداخلة الديمقراطية لنظم التربية وقدمنا هذا الحديث على غيره، فما ذلك إلا لسببين أساسيين:
الأول أننا أمام مؤتمر يعنى ببيان الأسس الفلسفية للتربية العربية. والثاني أن نظم التربية والتعليم تظل السداة الكبرى التي تتقوم بها سائر مظاهر الحياة الاجتماعية وتتأثر بها جميع النظم في أمة من الأمم. ومن نقل القول أن نقطة الاستناد الأساسية في بناء المجتمع هي نظم التربية والتعليم، وأن تغيير ما في أنظمة الناس يكون أولاً وقبل كل شيء بتغيير طراز التربية التي تقدم لهم. فالتربية هي أداة تطوير المجتمع، وهي الوسيلة الأولى لتطبيق أهدافه التي يرسمها لنفسه. وما العمل التربوي في نهاية الأمر إلا تلك المحاولة لتحقيق مصير الإنسان وغاية الوجود الإنساني على نحو ما يتصورها مجتمع من المجتمعات. والمهمة الأولى والأخيرة للتربية هي أن تقود الإنسان إلى غايته وهدفه الحقيقي كإنسان أن تجره إلى ما يصبو إلى أن يكونه.
على أن إيثار التربية بهذا الحديث عن صلة الديمقراطية بها، يعني شيئاً أعمق من هذا. ينقلنا تواً إلى صلب الموضوع الذي كنا بصدده. نعني الصلة بين الديمقراطية والحياة القومية. ذلك أننا حددنا هدفاً للحياة القومية الوصول إلى بناء الحضارة العربية النامية عن طريق تفتيح الإنسان العربي تفتيحاً كاملاً. ومهمة التفتيح هذه هي مهمة التربية قبل أي شيء آخر. والاتفاق تام ههنا بين مهمة الحياة القومية وبين التربية. فالتربية الحقة هي التي تحقق الكائن في نهاية الأمر أسمى درجات التفتح الإنساني وأقصى مراتب الوعي الروحي. وغاية التربية ليست في تفتيح القوى الطبيعية لدى الكائن على نحو ما يرثها ويجدها معطاة له من قبل نوعه، ولا هي في دمج الكائن مع حياة مجتمعة وتراث مجتمعة. إن غايتها الحقة هي أن تعتمد على طبيعته النوعية البيولوجية وعلى أثر المجتمع وتراثه من أجل الرقي بالكائن في نهاية الأمر إلى شأو يجاوز الطبيعة ويجاوز المجتمع، هو شأو التفتح الروحي، التفتح على القيم المثلى، على الحق والخير والجمال. إن مهمتها أن تتكئ على الطبيعة والمجتمع، لترد الكائن بعد ذلك إلى ذاته، إلى ما يصبو إليه كإنسان. ومثل هذه الأوبة إلى الذات التي هي هدف التربية لا تتم إلا إذا ساعدت التربية الكائن على أن يملك موقفاً مستقلاً ونظرة مستقلة، عن طريقها يسيطر على الأشياء طبيعية كانت أو اجتماعية.
وهكذا يلتقي العمل التربوي بأعمق أعماق الديمقراطية. إنه وإياها يهدفان إلى خلق الوعي الذي يقوم به الكائن بنفسه. أنه بقول موجز، يؤمن بالوسيلة الكبرى لتكوين الإنسان، نعني الحرية. فالحرية ههنا تعني تحرير الكائن تحريراً حقيقياً، وذلك عن طريق امتلاكه لذاته وامتلاكه لأفكاره. إن كل وعي إنساني يصبو إلى أن يملك نفسه امتلاكاً كاملاً. والتربية تقدم العون للكائن كيما يصل إلى هذه الصبوة، كيما يكون فعلاً سيد أفكاره وما يؤمن به. إنها تأخذ بيده لا لتقدم له زاداً معطى، ومعرفة مبيتة، ولكن لتجعله قادراً على اقتناص المعرفة بنفسه واتخاذ المواقف بقوته الذاتية وتقويم الأشياء عن طريق النظرة الخاصة التي قرت لديه. أن التربية الحقة ليست طعماً نقدمه للآخرين وإنما هي عون نجعلهم عن طريقه يحققون صبوات وجودهم الحقيقية. إنها لا تطبع فيهم، إلا ما يملكون الرغبة في امتلاكه. وهدفها الأخير تحقيق استقلالهم وتفتيق ذواتهم، بحيث تكون هي الخالقة لقيمها وأفكارها ومواقفها.
وبيِّن أن مثل هذه الأهداف تلتقي بالأهداف الديمقراطية. فلقد رأينا كيف أن أهم عنصر في الديمقراطية عنصر احترام الشخصية الإنسانية بحيث تتخذ غاية لا وسيلة، وبحيث نبعدها عن كل قسر وعن كل رأي مفروض ونثير لديها القدرة على التفكير في الأشياء على عاتقها وبجهدها الذاتي.
وبدهي أن هذه الروح الديمقراطية ينبغي أن تداخل التربية في جميع مراحلها وفي شتى تفصيلاتها، إذا أرادت أن تكون تربية حقة. ونتائج مثل هذه الروح الديمقراطية في ميدان العمل التربوي أوسع من أن تحصى. إن صداها ينعكس على المناهج وطرائق التدريس وأساليب النشاط المدرسي. بل هو ينعكس على تنظيم التعليم جملة. ومن أهم النتائج التي تترتب عليها. العناية بالكشف عن قابليات المتعلمين وتوجيههم شطر الدراسات التي تلائم هذه القابليات.
وجدير بالتأمل أن هذه الصلة بين التربية والديمقراطية خير مثال يمكن أن يضرب ليبين أهمية العناية بالأساس الفلسفي للتربية. إن وجه الأمور في التربية والتعليم تخضع لانقلاب شامل حين نحدد لها هذا الهدف الديمقراطي وحين نربط بين هذا الهدف الديمقراطي وبين أهدافه القومية العربية. إن اتخاذ المتعلم غاية لا وسيلة، وجعل الهدف من التعليم تفتيح الإنسان على الحرية، على التفكير الذاتي، أمور تقلب التعليم رأساً على عقب، وتفرض طائفة من النتائج في طرائق التدريس والمناهج والكتب والامتحانات وغيرها. إن فلسفة التربية تأخذ كامل معناها ضمن هذا الجو. إنها تغدو بحق فلسفة الإنسان، البحث في مصيره وغايته. بغية تكييف كل شيء في التربية وفق ذلك المصير وتلك الغاية. وعندما نؤكد أن غاية التربية الوصول بالكائن إلى ذروة الوعي المستقل لذاته وجوهر وجوده، فنحن نطلق في الواقع مبدأ كبيراً من شأنه أن يحدث أضخم الآثار في عملية التربية. إننا بذلك ننأى عن تلك الأهداف الجزئية والضيقة التي تعين للتربية. حين يقال بأن هدفها تكوين المواطن الصالح أو تكوين الإنسان كما يريد المجتمع أن يكون. إننا نبين إذ ذاك أن الاندماج مع المجتمع أمر محتوم لا بد منه، وخطوة ضرورية في كل تربية ولكن شريطة ألا يكون هذا الاندماج مقصوداً لذاته، وأن يهدف في نهاية الأمر إلى تحرير الفرد حتى من قيود المجتمع. ليرقى به إلى وعي الأمور وعياً جيداً مستقلاً يأخذه على عاقته وعلى حسابه. إن المجتمع بالقياس إلى التربية الحقة مرحلة، ومرحلة لازمة. غير أنه ليس غاية المطاف. وقوى التجديد في المجتمع لا تخلق إلا يوم يصبح الفرد على خط من الوعي الروحي والاستقلال الفكري يمكنه من إعادة النظر في قيم مجتمعه، ليقبل منها ما يقبل حراً مستقلاً، ليغير منها ما يغير حراً مستقلاً.
إن المجتمع لا يتجدد إلا عن طريق هذه القوى الروحية الفكرية الجديدة التي تخلق لدى أفراده عن طريق التربية. وهذه القوى الروحية الجديدة هي ابنة الاستقلال ابنة الحرية.
من هنا نرى أن ربط التربية بالمبدأ الديمقراطي، يجعلها تربية خلاقة، ويؤدي إلى توفيق عميق بين مطالب الاندماج مع المجتمع ومطالب التجدد الاجتماعي والتقدم الإنساني. فالتربية الديمقراطية لا تكون إلا بدمج الكائن في حياة الزمرة الاجتماعية التي ينتسب إليها وفي تراث هذه الزمرة، ولكنها لا تكون في الوقت نفسه إلا برفع الفرد إلى مستوى يستطيع أن يطل منه على حياة الزمرة إطلالة من ملك وعياً مستقلاً، وتقويماً شخصياً للأشياء، قادراً على الحكم عليها حكماً حراً جديداً. إن الاندماج الحق مع مطالب المجتمع يكون بتجاوزه، بتجاوز الاتباع الجامد، إلى الإبداع المستقل والتفكير الحر.
-10-
وبعد إن مهمة القومية العربية مهمة مبدعة خلاقة. إن رسالتها الأولى خلق حضارة مبدعة. وتكوين هذه الحضارة المبدعة تفترض أولاً وقبل كل شيء، العناية بالعنصر الإنساني وتفتيحه وإفساح المجال له كيما يعطي كامل مداه ويطلق شامل طاقاته.
وهذه العناية بالعنصر الإنساني تتطلب أول ما تتطلب جواً ديمقراطياً ييسر له التفتح والازدهار. فالجو الديمقراطي هو الرئة التي تتنفس منها قوى الإبداع. وهذا الجو الديمقراطي يعني أمرين متلازمين. يعني إبعاد العوائق المادية التي تحول بين الفرد وبين عطائه، ويعني تحقيق إطار من الحرية في مجال التفكير والتعبير والاعتقاد، يمكن للتفتح ويفسح المجال الدائم للتقدم وتجاوز الذات. والتربية دون شك هي خير إطار ملائم لإشاعة هذا الجو. فهي المهاد الذي يتم فيه خلق الأساس المكين للديمقراطية، عن طريق تربية الكائن تربية مستقلة، فيها احترام لذاته، وفيها تفتيح له من داخل، لا قسر من خارج.
وهكذا نجد التربية أمامها أساسين متينين، يقوم التلازم بينهما، هما الأساس الديمقراطي والأساس القومي. إنها في نهاية الأمر تلفي نفسها عند نقطة الالتقاء بين ديمقراطية تهدف إلى خلق حياة قومية سليمة، وبين قومية تتخذ الديمقراطية وسيلة لبلوغ أهدافها الأساسية. نعني تفتيح الإنسان العربي وإطلاق طاقاته. إنها تضع لنفسها غاية كبرى هي تفتيح إنسانية الإنسان العربي ضمن إطاره القومي وعن طريق هذا الإطار. وعند ذلك لا تأخذها نظرة قومية ضيقة تجعلها تتخذ القومية مجرد شكل صارم قاس تستباح في سبيله حتى حقوق الإنسان وحرياته الأصيلة، كما لا تأخذها نظرة ديمقراطية عائمة ليست بذات حدود، تجعل من الحرية مطلقاً لا صلة له بشيء ولا شأن له بالظروف القومية التي تجتازها الأمة.
إنها تقف وقفة سليمة، حين تتخذ من تكوين الإنسان من أجل حياته القومية وسيلة لتفتيح إنسانيته ووعيه الإنساني، وسيلة لتحرره لا لعبوديته. وبذلك تلتقي التقاء خصيباً مع المعنى الأول والأخير للقومية العربية، نعني العمل على تفتيح الإنسان العربي ورفعه إلى أعلى مراتب الوعي الإنساني والإبداع الحضاري.
إن تأليه المجتمع، سواء كان مجتمعاً قومياً، أو غير قومي، آفة كبرى وقعت فيها النظريات المجموعية. وهو الذي قاد في نهاية الأمر إلى الأخذ بالأساليب التحكمية في حكم الأفراد. والفكرة التي أطلقها «هيجل» وتلقفها العديد من الحكام والمفكرين بعد ذلك وعلى رأسهم ماركس أتت أسوا الثمرات في تاريخ الإنسانية وجرت كثيراً من المآسي. أن قوامها جعل الفرد آلة ضمن الكيان الكبير، كيان المجتمع والدولة، وإنكار وجوده كذات مستقلة.
والنظر إلى المجتمع كحامل لفكرة التاريخ ممثل لها، والنظر إلى الفرد كذرة ما عليها إلا أن تنساق مع منطق التاريخ. لقد كانت رد فعل على النظرة الفردية، وكانت ككل رد فعل، فعالة مفرطة. والنظرة الديمقراطية السليمة هي النظرة التي تجعل الفرد جزءاً من المجموع. دون أن تنسى أهداف الفرد ومطالب وجوده الإنساني. إنها تجعل اندماج الفرد مع المجتمع كما قلنا ونقول مشروطاً بمقدار الحرية التي تمنح له كيما يتجاوز هذا المجتمع ويخلقه خلقاً جديداً.
إن الدرس الأكبر الذي تعلمنا إياه الديمقراطية هو أن العمل لها كفاح ونضال من أجل التوسع المتصل في تطبيق الوسائل الديمقراطية وطرقها الأساسية، نعني المشاورة والإقناع والمفاوضة والتواصل والتعاون الفكري والعنصر الخصيب الذي تستمده القومية العربية من الإيمان الديمقراطي، هو الاعتقاد الجازم بأن تفتح القومية العربية تفتحاً يؤدي إلى خلق الحضارة العربية المنشودة، رهين بمقدار قدرتها على إشاعة أكبر حظ ممكن من الروح الديمقراطية ضمن ظروف المجتمع العربي الراهنة، إن شد الواقع العربي شطر الديمقراطية وتطويره يوماً بعد يوم ليكون منفتحاً لجرعات جديدة منها، عن طريق اصطناع الوسائل الديمقراطية نفسها، هي المهمة الشاقة الصبور الملقاة على عاتقنا، من أجل بلوغ الأهداف الحقيقية لقوميتنا العربية، نعني بناء الحضارة العربية الموحدة المبدعة(*).
عبد الله عبد الدائم