عود إلى بلاغة العرب

مجلة الثقافة الدمشقية – العدد الأول – حزيران / يونيو 1961
عود إلى بلاغة العرب
بقلم الدكتور: عبد الله عبد الدائم
ليس بالجديد أن نقول أن ما يسر للعرب القدامى من العناية بالبلاغة ومقاييسها لم ييسر لكثير غيرهم. وما نغلو إن زعمنا أن نظرة العرب في شتى عصورهم إلى اللفظ الشريف والمعنى الكريم، لم تكن تقل في حال من الأحوال عن نظرتهم إلى الخلق الرفيع والعقل السديد. وما كانوا ليفصلوا في الواقع بين ما أوتيه المرء من براعة المقال وما أوتيه من رجاحة العقل وحميد الخصال. وكان بيان الرجل عندهم هو المرآة التي ينعكس عليها طبعه وترتسم فيها سجيته.
ومن العسير أن نحيط بالجوانب الواسعة العريضة لنظرة العرب هذه إلى البلاغة والمنطق. وحسبنا أن نقول أن العرب، ومن قبلهم اليونان وعلى رأسهم أرسطو، كانوا يدركون عمق الصلة بين التعبير والتفكير، بين اللغة والفكر كما يقول علماء النفس اليوم. حتى أن كلمة «منطق» عندهم تدل في آن واحد على الكلام وعلى الفكر، كما تدل كلمة «لوغوس» اليونانية على المعنيين سواء بسواء. والهوة التي تلنيها عندنا اليوم واسعة بين الفكر واللغة، بين الإشارة والعبارة، كانت لدى العرب في تلك العصور المفطورة من تاريخهم، ضيقة لا تكاد تستبين.
ولما كانت نظرتهم إلى الفكر نظرة توحد بينه وبين السلوك والخلق إلى حد كبير، ولما كانوا يرون في عقل المرء حماية لخلقه ودرعاً لتصرفه، رأينا المنطق في نهاية الأمر هو المفصح عندهم عن جماع الشخصية، ما دام أداة الكشف عن الفكر وما دام الفكر هو الخلق. ومن هنا كانت عناية العرب بالبلاغة عناية تتجاوز في الواقع مجرد الاهتمام بالشكل والمبنى، كما يظن غالباً. وما انحدرت إليه البلاغة في عصور التأخر العربي، يوم أصبحت صناعة تجتنى بالشكل دون الجوهر، ظاهرة دخيلة على اللسان العربي، تنبئ عن مرض خطير أصاب الإنسان العربي، يوم انفصل لديه المعنى عن اللفظ، ويوم اتسعت الهوة بينهما، بحيث مضى كل منهما في طريقه.
والحق أن هذه الهوة التي أخذت تقوم في تاريخ العرب المتأخر بين اللفظ والمعنى، بل بين الكلام والشخصية جملة، أمارة كبرى من أمائر التأخر الحضاري الذي أصابهم. ففي عصور الإبداع والخلق الحضاري لا يقصر الفكر عن أداته كما لا تتجاوز الأداة محركها. أما في عصور التأخر فنجد الفكر أجدب من أن يولد عبارة ونجد العبارة تلهث دون الإفصاح عن فكرة. ومن الصحيح أن نعيد دوماً في هذا المجال قولة «بوالو» الشهيرة: «إن ما نجيد التفكير عنه نجيد التعبير فيه، وتأتينا الألفاظ المفصحة عنه طائعة مختارة».
وما نود ههنا أن نخوض في هذا البحث الذي يقوى على أن يملأ الصفحات الطوال. وهو بحق قمين بألا يجتزأ ويبتر في مثل هذه العجالة.
وكل ما قصدنا إليه مقدمة صغيرة نضعها بين يدي طائفة من التعريفات التي قدمها العرب للبلاغة، والتي نقع عليها دوماً في كتب الأدب دون أن نقف عندها طويلاً. وهي في الواقع تمتاح قوتها واتجاهها كله من نظرة واحدة توحد بين اللفظ والمعنى توحيداً عميقاً، وتأبى كل بون بينهما. وهي بالتالي جديرة بأن تقرأ وتفحص على ضوء هذه النظرة الموحدة، التي جرى عليها العرب أيام كانت حضارتهم الزاهرة تقيهم عي المقال كما تقيهم عي الفعال، وأيام كانت وثبتهم الروحية قادرة على صهر الكلم والفكر والعمل في بوتقة واحدة وفي كيان متآخذ متعانق.
إن الكثير من العبارات المبعثرة التي نقع عليها في كتب الأدب ونمر بها مرور الكرام، يربط بينها في الواقع هذا الخيط الرائد الذي يوكد على الصلة بين حركة الفكر وأداة التعبير عنها، تلك الصلة التي كانت عفوية طبيعية أيام ازدهار الحضارة العربية، ثم أخذت بالانفصام شيئاً فشيئاً مع انفصام الحضارة نفسها وانطفائها.
ومن هنا وجدنا الإلحاف في أهمية البلاغة يراود الكتب العربية في العصور التي بدأ الضعف ينتاب فيها الحضارة العربية، وفي الفترات التي غدت فيها تلك الحضارة مهددة بهجمات أعدائها. هكذا نرى البيان والتبيين مثلاً من أوائل طلقات الإنذار التي أطلقها الأدباء العرب، رداً على بداية الوهن، نعني بداية الانهيار في الصلة بين الفكر واللغة. وكلنا يعلم كيف كان هذا الكتاب رداً مباشراً على هجمات الشعوبية ومطاعنها. ومثله يقال في «عيون الأخبار» وفي «المعارف» وفي جميع تلك المؤلفات التي أخذت تعنى بجمع تراث العرب البلاغي، مذكرة به منذرة بأخطاء الابتعاد عنه، معيدة الحضارة العربية إلى سابق عهدها.
ومن خلال هذا الإطار ينبغي أن نفهم تلك الوقفات الطوال التي نجدها في مثل هذه المؤلفات عند البلاغة وتعريفها ومعناها، وعند أقوال الأعراب فيها، وعندما أثر عن النبي والصحابة وغيرهم من آراء حولها. أفلا نجد مثلاً في البيان والتبيين للجاحظ إشارة إلى حديث «لم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك»؟ أفلا نلفي فيه قولاً كقول عبد الله بن وهب الراسبي: «إن الرأي ليس بنهبى، وخمير الرأي خير من فطيره، ورب شيء غابه خير من طريه، وتأخيره خير من تقدمه؟» وفي العمدة لابن رشيق، أفلا تطالعنا مثل هذه الأقوال، ويطالعنا وراءها الحرص عينه على الزواج بين المعنى واللفظ؟ أفلا نتبين ذلك خاصة في ذلك الحرص على الإيجاز حيث ينبغي الإنجاز وفي ركوب الإكثار إن كان الإيجاز مقصراً؟:
«إن البلاغة إجاعة اللفظ وإشباع المعنى». «إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيراً وإذا كان الإيجاز كافياً كان الإكثار عيباً». «البلاغة أن يكون أول كلامك يدل على آخره وآخره يرتبط بأوله». «لا يكون الكلام يستوجب اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه ولفظه معناه». «البلاغة إصابة المعنى والقصد إلى الحجة». «البلاغة بلوغ المعنى ولما يطل سفر الكلام». «البلاغة إهداء المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ». «قيم الكلام العقل وزينته الصواب وحيلته الإعراب ورائضه اللسان وجسمه القريحة وروحه المعاني».
ذلك طرف من أقوال لا حصر لها، يحسبها القارئ للوهلة الأولى آراء متناثرة لا يجمع بينها جامع، قيلت بدافع من تشدق، وهي في واقع الأمر توكيد لنظرة طالما حرص عليها العرب، وأراد هؤلاء الكتاب أن يقفوا عندها عندما غدت عرضة للتصدع. وقد يبدو من بدهي الأمر أن تذكر هذه الصلة بين اللفظ والمعنى، وقد يظن أن هذا القول قول مكرور ليس فيه جديد. والواقع أن وقفة المتقدمين من الكتاب العرب عنده وقفة ذات معنى ودلالة، فهي تومئ إلى روح الفكر العربي، وإلى ضرورة الحفاظ على ذلك الجوهر المقوم لطبع العربي، نعني ذلك الجمع المتين بين قيمة الفكر وقيمة الأداء، بين شرف التعبير وشرف الأداء، ثم بين الإعراب في القول والإعراب في العمل. فقد امتاز العرب أيام أصالتهم بهذه الوحدة العضوية العميقة التي أقاموها بين حدود اللفظ وحدود المعنى، ثم بين حدود المعنى وحدود العمل والسلوك. وكان مثال البلاغة الحقة عندهم الكلام المسؤول، المسؤول عن مطابقته لمعناه في دقة ورشاقة، والمسؤول عن مطابقته لما ينجم عنه من سلوك. وما كان شيء أبغض إليهم من البيان البهلواني، البيان الذي ينمّ عن نفاق، إذ يجعل الباطل حقاً والحق باطلاً. ووكد الإسلام هذا المنزع لديهم، فرأينا الرسول ينهى عن التشدق والتفيقه والبيان الكاذب.
وإذا كانت طباع الأمة وأخلاقها تعرف من لسانها، فكم يمدنا لسان العرب بأمثلة بينات على روحهم التي تأبى الفراق بين القول والفكر والعمل. وكم يجدر بنا أن نجلو هذا الجانب من روحهم بعد أن نالته يد الإفساد والتشويه، وبعد أن راود بعض الباحثين أن يتهموا الفكر العربي بما أصابه في عصوره المتأخرة من انفصام بين التعبير والتفكير، وبين التفكير والسلوك.
إن فهمنا لطبيعة اللسان العربي دب إليه التشويه والإفساد الذي دب إلى نظرتنا لسائر مظاهر حياتنا العربية. وكم حسبنا الدخيل في هذا المجال أصيلاً، والمتأخر متقدماً، والانحطاط عترة. وعلى هذه الشاكلة سرى إلينا ما شاع في عصور الانحطاط من عناية بلاغية يربو فيها الشكل على المعنى، وما ساد بعد ذلك من تمزق اللغة الفصحى إلى لغات عامية، فحسبنا هذا الفراق الطارئ بين التفكير والتعبير فراقاً أصيلاً بل علة مقيمة في الطبع العربي، وحسبنا غلبة اللفظ على الفكر. وغلبة القول على العمل من السمات الأصيلة التي ابتليت بها الروح العربية.
ونحن أحوج ما نكون اليوم إلى وضع الأمور في نصابها، لندرك حقيقة عبقرية اللسان العربي، وليستبين لنا من خلال ذلك كله أن البيان العربي كان دوماً بياناً امتزج فيه القول بالفكر وبالعمل، وكان لا يفصل بين عي المقال وعي الفعال، ولا يفرق بين شرف اللفظ وشرف الفكر المسؤول الثاوي وراءه. إن اللفظة التي لا يعرف رصيدها الفكري، شنشة دخيلة على العرب والكيان العربي، وهي في واقعهم رمز للابتعاد عن روح الحضارة العربية وأصالتها. والاقتراب من روح هذه الحضارة يجعلنا نعود إلى تلك البلاغة العميقة التي جمع فيها العرب بين جمال المعنى وجمال اللفظ وجمال قائله. إن مثل هذا الاقتراب يجعلنا ندرك أن اللفظ مسؤول وأن الأسماء تحمل صاحبها مسؤولية معناها. إنه يذكرنا بمثل قول الشاعر:
إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقاً
ولم أشتم الجبس اللئيم المذمما
فقيم عرفت الخير والشر باسمه
وشق لي الله المسامع والفما
إن محاولات الكتاب العرب الذين أشرنا إلى بعضهم، من مثل الجاحظ وابن رشيق وابن قتيبة والثعالبي وغيرهم كانت تهدف في أعماقها إلى العود إلى الطبيعة الحقة للبلاغة العربية وإلى التوكيد على مقوماتها الصحيحة والتعريفات التي كانوا يطيلون الحديث عنها كانت تعني في أعماقها رد الأشياء إلى الأصول والرجوع إلى الجادة.
ومثل هذه المحاولات ينبغي أن تمدنا اليوم، لنعود أيضاً إلى جادة البلاغة العربية، فنربط بأصولها، وتنعقد الصلة بيننا وبين روحها. وعند ذلك تصبح الكلمة قوة ويصبح الفكر سلوكاً، ونعاود ذلك الجانب الإنساني إلهام من تراثنا، جانب الارتباط بين حياة الألفاظ وحياة المعاني والأفعال.