“العوامل النفسية في الأمراض الجسدية”

منذ سنوات ليست ببعيدة ما تكاد تجاوز العقد الثالث من القرن الحالي، يشهد الطب الحديث مرحلة جديدة في حياته، يسير فيها نحو فهم أشمل للمرض والعلاج. وأوضح ما يمثل هذه المرحلة الجديدة، تلك النزعة المحدثة التي عرفت باسم نزعة الطب النفسي الجسدي.
وقبل أن نستبق الحديث عن هذه النزعة وسماتها، وقبل أن نبين الانقلاب العميق الذي أحدثته في النظرة إلى المرض، نود أن نؤكد منذ البداية أن ما حدث في ميدان الطب صنوٌ وقرين لما حدث من انقلابات أخرى في سائر ميادين الحضارة. فالحضارة كلٌ لا يتجزأ وما يطرأ من تغير في المفاهيم الثقافية العامة، وفي الأسس الفلسفية للنظرة إلى الكون والحياة، لابد أن يجد صداه في شتى مجالات البحث العلمي، ومن بينها البحث الطبي. فالطب، كسائر العلوم والفنون، لا يستطيع أن يحيا في معزل عن جملة الخط الحضاري الثقافي في عصره، وهو لا يملك استقلاله الذاتي وسط تطور الحضارة. ولزامٌ عليه أن يمتاح دفعات جديدة من الاتجاهات الفلسفية المبثوثة في عصر من العصور، ومن بعض المنازع الفكرية الغالبة.
ولن يتاح لنا أن نعرض لجملة التطور الفكري والفلسفي الذي غذى منزع الطب النفسي الجسدي. وحسبنا أن نذكر، في كثير من التعميم والإيجاز، أن مهنة الطب، لم تستطع أن تنجو في القرن الماضي، من آثار النزعة الفلسفية الغالبة المميزة لذلك العصر، نعني النزعة الوضعية. فكلنا يعلم كيف طغى العلم التجريبي على ميدان الطب، كما طغى على سائر أترابه من العلوم الأخرى، وكيف غدا ميدان الطب هذا مرتعاً تطبيقياً تطبق فيه نتائج جميع الأبحاث الفيزيولوجية والمخبرية. وهكذا رُبي الجيل الماضي من الأطباء، كما ربي الجيل الحالي منهم إلى حد كبير، على الأخذ بنزعة وضعية تجريبية مفرطة في ميدان الطب. وأدى نجاح الدراسات التجريبية في علم الحياة إلى سيطرة نزعة وحيدة في فهم جسد الإنسان، هي النزعة التي تنظر إلى هذا الجسد نظرتها إلى آلة، تسيرها الحوادث الفيزيائية والكيميائية الخالصة، وتنظر إلى الأطباء نظرتها إلى ميكانيكيين أو مهندسين يعالجون هذه الآلة البشرية.
وما هدفنا أن ننكر الفوائد الجلى التي أصابها الطب عن هذه الطريق. فلقد كان من شأن مثل هذه النزعة الوضعية الإحاطةُ بخصائص البنية الجسدية ومعرفةُ آليتها. غير أن الإغراق فيها أدى إلى نظرة خاطئة إلى المريض، ترى فيه تجمعاً من الأعضاء، أو قل جهازاً آلياً معطلاً، ما علينا إلا أن نصلح الجزء الفاسد فيه. وهكذا ينطلق العلاج في مثل هذه الحال شطر علاج نوعي خاص بالعضو المريض، بصرف النظر عن جملة الكيان العضوي، فعلة عامل يصلح قطعة فاسدة من محرك سيارة.
سوى أن هذه الفلسفة الوضعية التي عكست أشعتها على ميدان الطب، كما عكستها على سائر صويحباته من الدراسات العلمية الأخرى، ما لبثت أن لقيت رد فعل فلسفي عليها، لا مجال إلى الحديث عنه ههنا. وحسبنا أن نقول إن رد الفعل الفلسفي هذا حقق ضرباً من العود، ضمن إطار جديد، إلى المنازع المثالية في الفلسفة، وأدى إلى الابتعاد خاصة عن الفهم الميكانيكي الآلي لظواهر الحياة. وكان يوازي هذه الردة الفلسفية اتجاه طبي جديد، يقف عند عنصر طالما أهمل حتى ذلك الحين، هو العنصر النفسي، هو النفس الإنسانية التي هي أساس الكيان الشخصي والعامل الحاسم غالباً في الاستجابات المرضية. وقد أدرك هذا الاتجاه الطبي الجديد خاصة أن الإنسان ليس مجرد آلة، بل يشتمل على العديد من العوامل الشخصية – أياً كان اسم هذه العوامل – لها شأن حاسم في حياته وفي موته.
ولحق ذلك أن تطور علم الحياة تطوراً موازياً لهذه الفلسفة الجديدة. فقام، في مقابل المفهوم البيولوجي القديم، الذي هو مفهوم سببي عليّ خالص، يجزئ الكائن الإنساني إلى آلاف من الأجزاء ويجرب دراسة كل منها على حدة، مفهومُ وجودٍ بيولوجي متآخذ شامل، ينظر إليه كصيغة كلية، كبنية مرصوصة، كجشطالت gestalt، على حد تعبير أصحاب نظرية الصيغة، من كولر إلى كوفكا. وأهم ما يؤكده هذا المفهوم أن الحياة العضوية، وحدة متآخذة متعانقة، وأنها لا تُفهم حق الفهم إلا إذا أشرفنا عليها هذه الإشرافة الكلية الشاملة، وإلا إذا قرَّ في ذهننا دوماً أن ما نعنى به ما هو تجمع أجزاء مستقلة وإنما هو الكل الذي لا ينقسم.
هذا المنزع الطبي الجديد، أخذ في الذيوع قليلاً أو كثيراً في أوساط الأطباء، وهو منزع مارسه العديد من الأطباء، ويمارسه أكثرهم في عملهم اليومي. غير أنه ما اتخذ شكله الكامل إلا بفضل هذه الحركة الطبية المحدثة، حركة الطب النفسي الجسدي.
فههنا خاصة، غدا موضوع الاهتمام الأصيل للعلاج الطبي، المريض ككائن إنساني له همومه ومشاغله وله أمله ويأسه، بالإضافة إلى كونه حاملاً لأعضاء مريضة، لكبد مكبود أو معدة شاكية. وهذه الحركة المحدثة، هي التي استخلصت النتائج الكاملة التي تترتب على النظرة إلى الكيان العضوية نظرة كلية شاملة، حين وعت الترابط في هذا المجال بين الكيان الجسدي والكيان النفسي، وحين أكدت أن الكيان العضوي الموحد الكامل ما هو في نهاية الأمر سوى هذا الكائن الإنساني جملةً الذي نرده اصطلاحاً إلى نفس وجسد.
لقد أهمل طب القرن الماضي، ذو النزعة الوضعية كما ذكرنا، الجانب النفسي من حياة الإنسان، حين أراد أن يكون علماً طبيعياً بكل ما في هذه الكلمة من معنى، يطبق مبادئ الفيزياء والكيمياء على العضوية الحية، وحين جعل مبدأه الأساسي الإيمان بأن الجسد ووظائفه أمور يمكن أن يعبر عنها بلغة الظواهر الفيزيائية الكيميائية. بل بدا لهذا الطب إذ ذاك أن الاهتمام بالجانب النفسي ضرب من العود إلى جهل القرون الماضية، يوم كانت الأمراض تعد أثراً من آثار الشياطين ومساً من الجن أو الأرواح الشريرة، ويوم كان العلاج شعوذة أو سحراً هدفه طرد الخبائث من الجسد المرزوء.
ووقع الاتجاه الطبي العلمي الذي ساد ذلك القرن الماضي في آفات التمذهب وكان موقفه هو الموقف المغالي لكل طارق جديد. فلقد أراد أن ينسى أصوله الماضية، فجره ذلك إلى موقف فيه غلو ردود الفعل كلها. لقد تنكر لكل ما يذكّره بماضيه الروحي والصوفي، وقاده ذلك إلى الظن بأن مثل هذا الموقف ينبغي أن يتأدى به إلى إهمال العوامل النفسية، وإلى الإمعان في نظرة عضوية خالصة قوامها التجزيء والفصل.
وزاد في هذه النزعة المغالية ما أدت إليه دراسة الجراثيم وإدخال المجهر خاصة من توكيد لنظرية التخصص في مجال الأمراض. إذ غدت الأنسجة منذ ذلك الحين محل الأمراض وأعلن مثل «فيرشوف Virchow» أن لا وجود لأمراض عامة، وأن ثمة فقط أمراضاً للأعضاء والأنسجة. وقادت الاكتشافات الكبرى التي قام بها هذا العالم الكبير في ميدان الأمراض النفسية إلى الإيمان الجازم بالأصل النسيجي الخالص للأمراض، وظلت آثار هذا الإيمان حتى يومنا هذا.
وقد عبّر كاتب مثل «ستيفان زفايغ Stephan Zweig»، وهو الدخيل على ميدان الطب، تعبيراً رائعاً عن تلك النزعة، في كتابه الشهير «الشفاء بالروح» فقال:
«إن المرض لا يعني اليوم ما يقع للإنسان في جملته، وإنما يعني ما يقع لأعضائه.. وإن مفهوم المرض ككل مفهوم قد تبدل. وتضاءلت بذلك رسالة الطبيب الأصلية والطبيعية. إن مهمته تقتصر اليوم على تحديد مكان المرض، على تشخيصه، على حشره في زمرة معروفة من الأمراض. وقد أخذ هذا الشكل الموضوعي الفني للعلاج أوضح صورة له في القرن التاسع عشر، وذلك لأن عنصراً ثالثاً جديداً تدخل بين الطبيب والمريض هو عنصر الآلة، ذلك العنصر الميكانيكي الخالص. وهكذا غدا نفاذ الطب وقدرة التركيب الخلاق لديه، من الأمور الثانوية في التشخيص».
ومع ذلك ما نريد أن تذهب بنا الإشادة بالنزعة الجديدة، نزعة الطب النفسي الجسدي، إلى نكران جميع أصولها السابقة، وإلى اعتبارها حركة بدئية من ألفها إلى بائها. فالحق أن لهذه الحركة مستبقين لها منذ أقدم عصور التاريخ، ونحن واجدون بذورها في التوراة والفيداس Védas، ولدى آباء الكنيسة، ولدى العرب خاصة. وفي جميع العصور وجد أطباء ينظرون إلى المرض نظرة شاملة يقيمون فيها الوزن الكبير لأحوال المريض النفسية ولجملة بنيته الشخصية. بل إن المنتصرين لنزعة جسدية خالصة في الطب، لا يعوزهم في علاجهم اليومي لمرضاهم الاهتمامُ بالعوامل النفسية، ولا نعدم عندهم نصحاً بالراحة لمريض يعاني من ارتفاع الضغط، وتحذيراً من الإعياء لآخر مكبود.
غير أن تلك القرزمات التي نقع عليها في تاريخ الطب، وتلك العناية العابرة بالعوامل النفسية التي نشهدها في العلاج اليومي حتى لدى أكثر الأطباء عداء من الوجهة النظرية للمفاهيم الكلية والتعليلات الشاملة، تظل جانباً يسيراً جداً من نزعة الطب النفسي الجسدي في كامل معناها ووثبتها الحديثة. فهي في الحق لا تقف عند حدود هذا الاهتمام العادي الذي نعرفه لدى جميع الناس، بأثر الأحوال النفسية في الآفات البدنية، بل تجاوز ذلك إلى بحث علمي منظم في هذه الوحدة الشاملة، وحدة الحياة الجسدية النفسية. والطب النفسي الجسدي الذي نود الحديث عنه علم نشأ في قرننا هذا، له أصوله المنهجية والتجريبية. وما هو تجميعٌ لطائفة من النظرات الحدسية العابرة، بل هو ثمرة بحث دائب عنيد، لا يعتمد على الملاحظات العابرة، وإنما يعتمد على جملة من النظريات ذات الطابع العلمي الخالص.
الدراسات التي ساعدت على نشأة نزعة الطب النفسي الجسدي:
وقبل أن نخوض في الحديث عن أسس هذه النزعة الجديدة، لابد أن نشير إلى أهم الدراسات التي ساعدت على بزوغها. وإشارتنا هذه ليست في الواقع تاريخاً فحسب وإنما هي عون على فهمها من خلال مخاضها.
على رأس الدراسات التي ساعدت على نشأة نزعة الطب النفسي الجسدي، الدراساتُ الخاصة بالأمراض النفسية. فكلنا يعلم كيف كان ميدان الأمراض النفسية حتى أواخر القرن الماضي منفصلاً عن سائر ميدان الطب. فبينما كانت الأمراض عامة تُبحث ضمن إطار نتائج الدراسات المخبرية، كانت الأمراض النفسية تتبدى خارجة عن هذا الإطار، غريبة عنه. وقد حاول الأطباء المؤمنون بالأساليب المخبرية الخالصة، وبمبادئ «فيرشوف» خاصة، أن يحققوا في ميدان الأمراض النفسية ما فعلوه في ميدان الأمراض الأخرى، أي أن يردوا هذه الأمراض النفسية إلى أسباب جسدية تشريحية بينة، لا سيما بعد تقدم علم الأنسجة. ولكنهم أخفقوا في محاولتهم هذه. صحيح أنهم استطاعوا أن يردوا الخبل العام، الذي تعرف أصوله الراجعة إلى الأمراض الزهرية منذ أمد بعيد، إلى بعض الآفات النسيجية في الجهاز العصبي المركزي. وصحيح أنهم كشفوا عن بعض التغيرات في بنية النسيج الدماغي، في حال عته الشيخوخة وفي المرض المعروف باسم مرض «آلزهايمر Alzheimer». ولكنهم في مقابل ذلك وقعوا في حيرة ما بعدها حيرة حينما وجدوا أن معظم الاضطرابات النفسية المعروفة – كحالات الفصام وحالات الذهان الوسواسي الهمودي وغيرها – لم يمكن إرجاعها إلى آفات تشريحية تتبدى بالمجهر. ورغم أن العلاج عن طريق الوسائل الكيميائية، ولا سيما بعد أن اكتشف «إيرليش Ehrlich» الدواء الشهير بالـ «سالفارسان Salvarsin» الذي حل محله البنسلين فيما بعد، قد نجح في بعض ميادين الأمراض النفسية، ورغم أنه أمكن تفسير التأخر العقلي في ذلك الحين بسوء عمل الغدة الدرقية وتم اكتشاف أثرٍ كثيرٍ من الغدد الصم في الأمراض النفسية، ظل من الصحيح دوماً أن ثمة طائفة من الأمراض النفسية لا تخضع لهذه الضروب من التفسيرات الجسدية ولهذه الأنماط من العلاج. على رأس هذه الطائفة الفصام، الذي لا نلفي فيه وراء تفكك الشخصية العميق أيّ تغير عضوي ملحوظ. والأمر على هذا النحو في تلك الزمرة الواسعة من الأمراض النفسية التي يطلق عليها اسم الأمراض العصابية névroses.
وكلنا يذكر ما أدت إليه دراسة هذه الأمراض النفسية المستعصية، من ثورة في مفاهيم الطب النفسي، على يد عالم النفس النمسوي الشهير «سيغموند فرويد». ولن نعود ههنا إلى أصول النظرية الفرويدية في تفسير الأمراض النفسية، ولن نزجي حديثاً غدا مكروراً عن موقف صاحب مدرسة التحليل النفسي من النظرة السائدة في عصره عن الأمراض النفسية، وعلى رأسها الهستيريا، ولن نرحل معه إلى مستشفى السالبتريير حيث درس شاركو واطلع على أساليبه في علاج هذا المرض دون أن ينقع له ذلك غليلاً، ولن نصحبه في تطوافه حتى «نانسي» حيث تعرف على وسائل العلاج عن طريق التنويم المغناطيسي التي كان يصطنعها «برنهايم Bernheim». بل لن يتيح لنا الوقت أن نقف عند تجاربه الهامة التي بدأها مع أستاذه «برويير Breuer» ثم أكملها لوحده بعد انفصاله الأليم عن ذلك الأستاذ. والذي يعنينا من هذا كله أن فرويد وضع الأسس المكينة لتفسير جديد لنشأة الأمراض النفسية، يمكن أن نعده في المجال الذي يعنينا في محاضرتنا، أولّ رد فعل علمي قوي ضد المبادئ التحليلية التي كانت سائدة في الطب خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وأقوى ضربة وجهت إلى العناية بالتفصيلات العضوية الآلية، وأنجعَ سهم صُوب نحو تلك النزعة التي كانت تنكر ذلك المبدأ البيولوجي الأساس، الذي ما فتئنا نشير إليه وهو أن الكيان العضوي كل متآخذ، وأن سير أجزائه لا يمكن أن يفهم إلا من خلال سير الجهاز العضوي كاملاً.
وهكذا غدت دراسة الأمراض النفسية، التي أخذت على يد فرويد شكل دراسة للشخصية المريضة بكاملها، أساساً لموقف جديد في الطب بكامله، أبرز ما فيه اتخاذ الشخصية بكاملها محوراً لاهتمامات الطبيب.
وهكذا استبان للطب، عن طريق ما وقع في ميدان الأمراض النفسية، أن ثمة أمراضاً لا مجال إلى ردها إلى آفات محددة متوضعة في مكان ما، لأنها أمراض ترجع إلى اضطراب في الوظيفة الكلية للشخصية، ترجع إلى الكيان الجسدي النفسي بكامله.
وزاد في تعميق هذه النظرة إلى الكائن الإنساني ككل موحد، ما حدث من اكتشافات في مجالات أخرى غير مجال التحليل النفسي، على رأسها ظهور نظرية الصيغة أو الشكل، ثم تقدم دراسة الأمراض العصبية، وخاصة تقدم الدراسات المتعلقة بالغدد الصم.
ولن نقف طويلاً عند نظرية الصيغة أو الشكل، تلك النظرية التي كان من أقطابها «كولر Kokler» و«فيرتهايمر Wertheimer» و«كوفكا Köffka» والتي أحدثت انقلابات أساسية في النظرة إلى الحوادث النفسية والجسدية على حد سواء. وحسبنا أن نقول إن هذه النزعة كانت رد فعل على النزعة التحليلية المغرقة التي سادت علم النفس في القرن التاسع عشر على يد أمثال فيشنر وفيبر وغيرهما، والتي أدت إلى «تشريح» النفس الإنسانية، تأسياً بما حدث في علوم المادة الجامدة. وكان أقوى ما جاءت به نزعة الصيغة هذه، في جوابها على تلك النزعات المحللة المجزئة، التجاربُ التي أيدت قولها بأن «الكل» ليس مجرد مجموع للأجزاء، بل هو شيء زائد عما في أجزائه، مباين لها. ولهذا فمن المتعذر أن نفهم الأجزاء دون أن ندرك الدلالة التي لها ضمن جملة الكيان الكلي الذي تنتسب إليه.
ومثل هذا التطور الذي أطلقته نظرية الصيغة في ميدان الحياة النفسية خاصة، جرى في ميدان الطب نفسه، وحملت لواءه الدراساتُ الخاصة بالأمراض العصبية. إذ بينت هذه الدراسات أن جميع أجزاء الجسم مرتبطة ارتباطاً مباشراً أو غير مباشر بجهاز مركزي تعمل تحت إشرافه، وأن العضلات الإرادية والعضلات الخاصة بالحياة النباتية أيضاً، تخضع للمراكز العليا في الجهاز العصبي. أما خضوع هذه الأخيرة، نعني الأعضاء الخاصة بالحياة النباتية، فيتم بوساطة الجهاز العصبي المستقل. وهكذا تتجلى وحدة الكيان العضوي عن طريق وظائف الجهاز العصبي المركزي، وتبدّى واضحاً أن هذا الجهاز يعمل منظماً للعمليات الداخلية النباتية وللفعاليات الخارجية المتصلة بالبيئة. وهذا الطابع المركزي تمثله المراكز العليا في الجهاز العصبي، تلك المراكز التي يطلق عليها المظهر النفسي لها، اسم الشخصية.
وهكذا خطت الدراسات الطبية خطوة جديدة شطر الإدراك الكلي لوحدة الكيان الإنساني، في مظهره الجسدي والنفسي.
وقدم دفعة جديدة لهذا الاتجاه ما تم من اكتشاف الغدد ذات الإفراز الداخلي، الذي أُطلق عليها اسم الغدد الصم. إذ سار هذا الاكتشاف خطوة جديدة في فهم التعقد الهائل لوظائف الجسد النباتية والتشابك الكبير بينها، وإذ تبدى جهاز الغدد الصم جهازاً منظماً كالجهاز العصبي المركزي سواء بسواء. وبينما يقوم الجهاز العصبي المركزي بنقل المنبهات العصبية وتنظيمها عن طريق الأعصاب المحيطية التي تنتشر في جميع أجزاء الجسم، يقوم جهاز الغدد الصم ببث مواد كيمياوية خاصة في مجرى الدم، فينظم سير الأعضاء بوسائل كيمياوية.
ونعلم اليوم، بعد تطور دراسات الغدد، أن عمليات التبادل الاستقلابي تنظَّم أولاً عن طريق هرمونات الغدة الدرقية، وأن استقلاب مائيات الفحم يتم عن طريق التأثير المتضاد لكل من غدة البانكرياس من جهة وهرمونات الغدة النخامية والكُظْرين من جهة ثانية؛ بل نعلم فوق هذا أن الغدة النخامية هي التي تلعب الدور الأول في تنظيم إفرازات الغدد الصم المحيطية، ولهذا يطلق عليها بعضهم اسم «الغدة الأم».
بل أضافت آخر الاكتشافات إلى هذه الحقيقة شيئاً جديداً، يزيد في إدراك وحدة الكيان العضوي، وهو أن معظم وظائف الغدد الصم خاضعة في نهاية الأمر إلى وظائف المراكز العليا للدماغ، أي إلى الحياة النفسية.
إن جميع هذه الاكتشافات أدت في خاتمة المطاف إلى أن ندرك ببينة واضحة أثر الحياة النفسية في الوظائف الجسدية وأثر الوظائف المحيطية للجسد في وظائف الجهاز العصبي المركزي.
وتطبيق هذه الحقائق التي تم اكتشافها شيئاً بعد شيء على بعض العمليات الجسدية المرضية، قاد في نهاية الأمر إلى دخول النزعة الجديدة التي دعيت باسم نزعة الطب النفسي الجسدي.
ولادة نزعة الطب النفسي الجسدي:
ولقد ولَّدت هذه النزعة اتجاهاً جديداً في دراسة أسباب المرض. فالتجربة اليومية العادية تبين لنا أن للانفعالات العنيفة أثراً في الوظائف الجسدية. بل هي تبين لنا أن ثمة تناذرات نوعية خاصة لكل حال من أحوال الانفعال، من مثل الضحك والبكاء والاحمرار وتغير دقات القلب والتغيرات التنفسية وغيرها. ولكن لما كانت هذه العمليات النفسية الحركية لا تجر إلى اضطرابات ذات بال في حياتنا اليومية ولا تتبدى لها نتائج ضارة، أهملها الطب التقليدي ولم يعرها كبير اهتمام، ما دامت أعراضاً تزول بزوال الانفعال ولا تخلّف أثراً، وما دام الاستقرار يعاود الكيان العضوي من جديد.
غير أن الدراسات التي قام بها مذهب التحليل النفسي خاصة على أنواع العصاب، كشفت حقيقة جديدة وهي أن اضطرابات جسدية مزمنة يمكن أن تحدث تحت تأثير الانفعالات النفسية الطويلة المتكررة. وكلنا يعلم كيف لوحظت هذه الاضطرابات الجسدية أولى ما لوحظت، لدى المصابين بالهستيريا، وكلنا يذكر تلك الأعراض الجسدية التي تحدث لدى هؤلاء نتيجة لضروب الصراع العاطفي. كلنا يذكر أولى الدراسات التي قام بها «فرويد» على تلك المريضة الشابة التي كانت تشكو أعراضاً جسدية كشفت دراسة فرويد عن أساسها النفسي، وكان ذلك الكشف نقطة الانطلاق في مذهبه كله(1).
وقد حاول أنصار التحليل النفسي الأوائل أن يمتدوا بهذه الظاهرة وبهذا التفسير لأعراض الهيستريا إلى سائر أشكال الاضطرابات الجسدية الناشئة عن أسباب نفسية، بما في ذلك الاضطرابات التي تجري في الأحشاء. فبينوا مثلاً أن أعراضاً جسدية كارتفاع ضغط الدم أو النزيف المعدي تشتمل على دلالة رمزية شبيهة بأعراض الهستيريا، وما كان أولئك الفرويديون الأوائل قد أعاروا بعد الأهمية اللازمة لحقيقة ذات بال، وهي أن الأعضاء الحشوية ينظمها الجهاز العصبي المستقل المعروف باسم الجهاز الودي، وأن من غير المحتمل بالتالي أن تكون أعراضها تعبيراً رمزياً عن أفكار، كما يجري في الأعراض الهستيرية. غير أن هذا لا يمنع تأثرها الواضح بالأحوال الانفعالية التي تستطيع أن تنتشر في جميع أجزاء الجسد بوساطة الطرق اللحائية التلامسية وبوساطة الألياف المستقلة. ومما هو ثابت لا يحتمل الجدال أن الآثار الانفعالية يمكن أن تُنَشّط أو تكف عمل كل عضو. والطبيعي، بعد زوال التوتر الانفعالي، أن تعود الوظائف الجسدية التي اضطربت به، إلى سابق توازنها. غير أن هذه الإثارة والكف للوظائف النباتية، بتأثير الانفعالات، حين تغدو مزمنة ومفرطة تؤدي إلى اضطرابات عميقة في تلك الوظائف، تدعى أحياناً باسم «عصابات الأعضاء» وهو اسم يشمل كل ما يدعى باسم الاضطرابات الوظيفية للأعضاء النباتية.
ولا حاجة إلى الوقوف طويلاً عند مفهوم الاضطرابات الوظيفية هذه، هذا المفهوم الذي أنضجه الأخصائيون بالأمراض الداخلية، لا أطباء الأمراض النفسية. وحسبنا أن نذكِّر بما اكتشف من الاضطرابات العصابية أو الوظيفية للمعدة وللأمعاء ولجهاز القلب والأوعية الدموية.
والمهم أكثر من هذا أن يستبين لنا عن طريق هذه الإشارة الفارق بين الأعراض الجسدية الشبيهة بأعراض الانقلاب الهستيري وبين الأعراض التي تنتسب إلى عصاب الأعضاء أو بكلمة أ خرى إلى الاضطرابات الوظيفية للأعضاء. فالأعراض الأولى تعبير رمزي عن محتوى نفسي ذي طاقة انفعالية. وهدفها تصريف التوتر الانفعالي. وهي تحدث في الجهاز العصبي العضلي الإرادي أو في الجهاز الحسي الإدراكي، وهو جهاز وظيفته الأساسية التعبير عن التوتر الانفعالي وتصريفه. أما عصاب الأعضاء فليست غايته التعبير عن الانفعال، وإنما هو جواب فيزيولوجي تقوم به الأعضاء الحشوية على العود الدائم أو الدوري للأحوال الانفعالية. فزيادة ضغط الدم مثلاً تحت تأثير الغضب لا يخفف من هذا الغضب. ومثل هذا يصدق على إفراز المعدة في حال الجوع الذي لا يخفف من الرغبة في الطعام.
على أن الشيء المشترك بين النوع الأول من الأعراض، نعني الأعراض الهستيرية ونظائرها، وبين النوع الثاني من الأعراض، نعني الأعراض الراجعة إلى اضطرابات وظيفية في الأعضاء، هو أن كليهما جواب على منبهات نفسية، وأنهما يؤكدان بالتالي أهمية العوامل الانفعالية في الاضطرابات الجسدية. ولهذا كانت النتيجة الطبيعية لهذه الحقيقة انتشار العلاج النفسي لبعض الأمراض الجسدية. سوى أن هذا العلاج النفسي اقتصر حتى تلك المرحلة من التطور على حالات الاضطراب الوظيفي، ولم يتناول الاضطرابات العضوية الحقة الراجعة إلى تغيرات ملحوظة في الأنسجة. ولقد أدرك الباحثون منذ أمد، في مجال هذه الاضطرابات العضوية، أهمية الأحوال الانفعالية، ولكنهم ما كانوا قد اكتشفوا بعد طبيعة الرابطة التي تربط بين العوامل النفسية وبين هذه الاضطرابات العضوية الأساسية.
لهذا خطت الدراسات خطوة جديدة في هذا المجال، فاستبان شيئاً بعد شيء أن لا مجال لإقامة فراق قاطع بين ما هو وظيفي وما هو عضوي. وأخذ الأخصائيون يتبينون أن الاضطرابات الوظيفية الطويلة المدى يمكن أن تؤدي إلى اضطرابات عضوية خطيرة مصحوبة بتغيرات في البنية النسيجية. وساعدت بعض الحقائق التي كانت معروفة إذ ذاك على توكيد هذه النتيجة. فلقد كان معروفاً منذ أمد طويل أن فرط نشاط القلب يمكن أن يؤدي إلى تضخم عضلات القلب، وأن الشلل الهستيري لعضو من الأعضاء يمكن أن يقود إلى انحطاط في العضلات والمفاصل نتيجة لبقائها مشلولة ساكنة. وهكذا بدا من الممكن أن تؤدي الاضطرابات الوظيفية الطويلة المدى لعضو من الأعضاء إلى آفة في هذا العضو وإلى وقوع مرض خطير فيه بالتالي. وقامت الدراسات النفسية والفيزيولوجية مغذة جادة لتزيد في تحقيق هذه الفرضية، وأدت في مجال قرحة المعدة خاصة إلى الاعتقاد بأن الاضطرابات العاطفية الدائمة يمكن أن تكون الخطوة الأولى نحو عصاب في المعدة قد يولد مع الزمن قرحة المعدة. كذلك بينت مثل هذه الدراسات أن الاضطرابات الانفعالية، إذ تثير تقلبات دائمة في ضغط الدم، يمكن أن تؤدي مع الزمن إلى وقوع إعياء في جهاز الأوعية.
هذه الاعتبارات الجديدة تبلورت في مفهوم شامل، هو مفهوم «اضطرابات الوظائف العضوية ذات النشأة النفسية». وهذه الاضطرابات تتكون حسب وجهة النظر التي أتينا على ذكرها في مرحلتين: ففي المرحلة الأولى يحدث اضطراب وظيفي في العضو، نتيجة للانفعال المتكرر الدائم؛ وفي المرحلة الثانية تقود الاضطرابات الوظيفية المزمنة إلى تغيرات تدريجية في الأنسجة وإلى مرض عضوي مستعصٍ بالتالي.
وهكذا حدث تغير بارز في مفهوم المرض وأسبابه. فلقد كان الاضطراب الوظيفي يفسَّر من قبلُ برده إلى آفة نسيجية عضوية. أما بعد تقدم الدراسات التي أتينا على ذكرها، فقد وجدت رابطة سببية جديدة، فبدت الاضطرابات الوظيفية على العكس علة في بعض الأحيان للآفات النسيجية. ورغم أن هذه النتيجة لم تكن بالجديدة تماماً، فإنها لم تلق القبول اللازم من كثير من الأطباء، وقابلها العديد منهم حذرين مشككين. فلقد ربي هؤلاء كما رأينا على مبادئ «فيرشوف» وظلوا نهباً للأثر العميق الذي أحدثه فيهم اكتشاف الجراثيم كأسباب للأمراض. ولهذا مارى أطباء المدرسة القديمة هذه في القول بأن الاضطراب الوظيفي يمكن أن ينجم عن صراع انفعالي. وظنوا أن الأبحاث الجرثومية في المستقبل لابد أن تكشف عن تغيرات نسيجية في مثل هذه الاضطرابات الوظيفية.
العوامل الانفعالية في الأمراض:
غير أن تطور الدراسة أثبت على العكس، عن طريق البحث الدقيق في تاريخ حياة المرضى، وجود أصل وظيفي للاضطرابات وأن هذا الأصل سابق على التغيرات النسيجية. ولئن كان من العسير أن نقرر حتى اليوم ما هي الاضطرابات العضوية الناجمة عن مثل هذه الأسباب الوظيفية المرتبطة بعوامل نفسية، فمن المحتمل جداً أن تكون كثير من الأمراض التي توضع عادة تحت ذلك العنوان الكبير في الطب، نعني عنوان «الأمراض المزمنة التي لا يعرف لها أصل» مندرجة تحت هذه الزمرة من الأمراض الوظيفية ذات النشأة النفسية. ومن الراجح أن العوامل الانفعالية المزمنة ذات أثر كبير في الكثير من اضطرابات الغدد الصم. وهذا أمر بيّن في مرض الجدرة. إذ نعلم أن بداية هذا المرض ترجع غالباً إلى رض انفعالي. كذلك من البيّن أن العوامل الانفعالية تلعب دوراً أساسياً في اضطرابات استقلاب مائيات الفحم، وبالتالي في نشأة مرض السكر. ومعنى هذا كله، بعبارة جديدة، أن كثيراً من الاضطرابات المزمنة لا تنشأ في البداية عن عوامل خارجية سواء كانت ميكانيكية أو كيمياوية، ولا تتولد من جراثيم مفرطة في الصغر، وإنما تنشأ أولاً وقبل كل شيء عن النشاط المفرط المستمر الذي تقوم به الوظائف العضوية أثناء الحياة اليومية في نضالها الدائم من أجل الحياة. والعوامل الانفعالية، من مثل الخوف والعداء والتأثم والرغبات المحرومة، إذا ما كبتت وصدت دوماً ولدت توتراً انفعالياً مزمناً يؤدي إلى اضطراب وظائف الأعضاء الحشوية. وتعقّد حياتنا الاجتماعية من شأنه أن يجعل كثيراً من الانفعالات مكبوتة لا تجد لها منصرفاً ولا تستطيع أن تعبر عن نفسها تعبيراً خارجياً عن طريق انقلابها إلى فعالية إرادية حرة. وهكذا تمكث هذه الانفعالات سجينة، وكثيراً ما تحوّل مجراها فتنطلق في طرق أخرى خطيرة. إنها بدلاً من أن تتجلى في الأفعال العصيبة الإرادية، تؤثر في الوظائف النباتية، كالهضم والتنفس والدوران. إن شأنها في هذه الحال شأن أمة حيل بينها وبين أن تحقق مطامحها السياسية الخارجية، فكانت بسبب ذلك معروضة لهزات داخلية واضطرابات اجتماعية. ذلك أن الكيان العضوي، عندما تضطرب صلاته مع العالم الخارجي، يمكن أن يبدي أيضاً اضطرابات في سياسته الداخلية تتراءى في اختلال وظائفه النباتية.
ولئن كان من البدهي بعد هذا أن بعض الجراثيم المرضية تفضل بعض الأعضاء، ولهذا تدعى بالجراثيم النوعية الخاصة، فمن الصحيح أيضاً أن مثل هذه الظاهرة تسري على الانفعالات التي تفضل بدورها عضواً على عضو والتي يختص كل منها في معظم الأحيان بأثره في عضو معين بالذات. فالغضب المكبوت ذو صلة خاصة فيما يبدو بجهاز الأوعية الدموية والقلب. ونزعات القلق العاطفي، والحاجة إلى الحماية، تبدي صلة نوعية خاصة بوظائف التغذية. والرغبة الجنسية ذات أثر نوعي فيما يبدو، في وظائف التنفس.
وواضح أن اغتناء معلوماتنا في ميدان الصلات بين الانفعالات وبين نشاط الكيان العضوي نشاطاً سوياً أو مرضيّاً، يستلزم تبدلاً كبيراً في موقف الطبيب الحديث. إن من اللازب عليه أن يألف النظر إلى ضروب الصراع الانفعالي نظرته إلى أشياء لا تقل في واقعيتها عن الجراثيم التي يمكن أن ترى بالعين أو بالمجهر. وأكبر ما قدمته الدراسات النفسية، وعلى رأسها دراسات التحليل النفسي، إلى عالم الطب أنها أضافت إلى المجهر البصري مجهراً آخر نفسياً.
وهكذا نرى أن النزعة النفسية الجسدية في مشكلات الحياة والمرض، تقدم نوعاً من التركيب والربط بين العمليات الفيزيولوجية الداخلية وبين استجابات الفرد على البيئة الاجتماعية. إنها تقدم أساساً علمياً للملاحظات المعروفة الشائعة، من مثل التحسن السريع للمريض نتيجة انفصاله عن بيئته الأسرية أو بعد انقطاعه عن أعماله المألوفة المعتادة. ذلك أن هذه الدراسات تبين أن الصراع الانفعالي العاطفي يسقي جذوره من الظروف الأسرية والمهنية. ولهذا كان من شأن الدراسة المتصلة للصلات بين الحياة العاطفية وبين العمليات الجسدية، أن تزيد من مجال فعالية الطبيب. فإذا بضروب العناية الجسدية والنفسية التي تقدم للمريض تنسَّق وتدمج ضمن علاج طبي شامل. وهذا هو المعنى العميق الحق للطب النفسي الجسدي.
وجدير بالإشارة أن هذه العوامل الانفعالية يمكن أن تلعب دوراً في جميع الأمراض الجسدية المعروفة، لا في طائفة منها فحسب. والهام في شرعة هذه النزعة أن كل مرض، من الوجهة النظرية، مرض نفسي جسدي معاً، لأن العوامل الانفعالية تؤثر في جميع العمليات الفيزيولوجية، بوساطة الطرق العصبية والإفرازات الغدية. وليس مجزئاً أن نقصر لقب الأمراض النفسية الجسدية على أمراض شهيرة معدودة ثبتت أصولها الانفعالية ونجح علاجها بالطرائق النفسية، من مثل قرحة المعدة، وأعراض الروماتزم، وتضخم الغدة الدرقية، وارتفاع ضغط الدم، والربو، ومرض السكر، وبعض الأمراض الجلدية. والحق أن هذه الأصول النفسية الجسدية المشتركة تلعب دورها في جميع الأمراض. حتى السل لا يكفي فيه أن نؤكد أنه وليد اجتياح عصية كوخ. إنه هو أيضاً مرض نفسي جسدي. وقد أثبت بعض الباحثين المحدثين، من مثل «سترن Stern»، في كتابه: صراعات الحياة أسباب للأمراض(1)، أثر العوامل الانفعالية، بل أثر الرغبات اللاشعورية، في انطلاق مرض السل. ولا يتسع المجال للحديث عن ملاحظاته الهامة في هذا المجال.
وحسبنا في ذلك كله أن نقول إن كل مرض، مهما يكن شأنه، يمكن أن ترجع أسبابه إلى قائمة العوامل التالية:
1- البنية الوراثية.
2- رضوض الولادة.
3- الأمراض العضوية في الطفولة التي تزيد من تأذي بعض الأعضاء واستعدادها للإصابة.
4- ضروب العناية التي لقيها الشخص في طفولته: من مثل طراز الفظام الذي خضع له، وطريقة تعويده على النظافة، والشروط المادية والنفسية لنومه الخ..
5- الحوادث العارضة الجسدية أو الرضية التي تقع في طور الطفولة الأولى والثانية.
6- التجارب العارضة العاطفية التي تقع في طور الطفولة الأولى والثانية.
7- الجو العاطفي في البيئة المنزلية والملامح الشخصية المميزة للوالدين والأقرباء.
8- الرضوض الجسدية اللاحقة.
9- التجارب العاطفية اللاحقة المتصلة بالعلاقات بين المريض وأقرانه، وبالعلاقات المهنية وسائر الصلات الاجتماعية.
وواضح أن هذه العوامل التي عددناها يختلف أثرها من مرض إلى مرض. وواضح أيضاً أن أهمية الطب النفسي الجسدي ترجع إلى أنه أضاف العامل الرابع والسادس والسابع والتاسع إلى سائر العوامل الأخرى التي عرفها الأطباء دوماً. غير أن الهام في هذا كله ما يؤكده الطب النفسي الجسدي من أن النظرة الكلية الشاملة إلى هذه العوامل المختلفة هي وحدها التي تستطيع أن تقدم للطبيب لوحة صحيحة كاملة تكشف عن نشأة المرض وأسبابه. ولهذا فهو يطلب إلى الطبيب وصفاً دقيقاً للعوامل النفسية، ويرى من الواجب أن تكون دقة هذا الوصف النفسي مساوية لدقة الملاحظات الفيزيولوجية. وعنده أن الدراسات الفيزيولوجية التي تُربط بوصف نفسي اعتباطي لا يمكن أن تسهم في فهم سبب المرض فهماً أحسن. والوصف الدقيق لنشاط قلب مريض، مهما يكن هذا الوصف مفصلاً، شيء عديم القيمة إن لم يصحب بمعرفة لحالاته الانفعالية ولأفكاره.
فكرة السبب في المرض:
ذلكم أن من أهم الانقلابات التي تحدثها النزعة النفسية الجسدية في الطب، الانقلاب الهام في النظرة إلى فكرة «السبب» في الأمراض النفسية. ولتوضيح ذلك، نستقي هذا المثال الذي أورده «بوفال Pophal» في كتابه بالإسبانية عن مفهوم السبب الذي نشر عام 1930 في بونس آيرس. يقول «بوفال»: إن كلاً منا يعلم أن ذات الجنب تعتبر مرضاً إنتانياً نموذجياً يرجع غالباً إلى أثر الجرثوم المعروف باسم Diplococcus lanceolatus. ومع ذلك فإن مسألة انطلاق هذا المرض ليست بهذا القدر من السهولة: فليس من الكافي أن نضع إنساناً أمام هذا الجرثوم ليتكون الالتهاب الرئوي المذكور. ولنا أن نسأل: كيف يحدث أن هذا الجرثوم الذي نقع عليه كثيراً في الفم دون أن يكون ذا أثر ضار، ينقلب في لحظة من اللحظات عاملاً مرضياً في الرئتين؟ إننا نعلم أن الغشاء الطبيعي للمجرى التنفسي، والنسيج النخروبي للرئتين، يملكان قدرة كبيرة على المقاومة. إن كل ما نلاحظه أن هذه النزلة الصدرية نتيجة لزكام. ومعنى ذلك، في عرف الطب التقليدي القديم، أن الزكام «سبب» ذات الجنب.
ولكن من واجبنا أن نضيف في مثل هذه الحال أن الناس إذا وجدوا في ظروف واحدة،
لا يصابون جميعهم بالزكام. ومن ميسرات الزكام كما نعلم استعداد مكتسب أو مستند إلى بعض الخصائص الوراثية في الكيان العضوي. وثمة أسباب كافية تحملنا على الاعتقاد بوجود استعداد وراثي سابق للزكام. وهكذا نمسك بسبب ثالث لذات الجنب، بالإضافة إلى الجرثوم وإلى الزكام.
وأخيراً ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار الاستعداد السابق للإنتان الناجم عن الجرثومة التي ذكرناها، وألا ننسى أنه إذا ما وقعت الإصابة فإن انطلاق المرض يرتبط بجملة من الظروف المتنوعة: كحالة التعب لدى المريض، والإدمان على الكحول من قبل الخ.. وجميع هذه العوامل يمكن أن تسمى أسباباً..
وهكذا تكون بين أيدينا حزمة من الأسباب. فأيها هو السبب الحاسم أو الأساسي كما يقولون؟ لا شك أن السبب الحاسم ما هو الجرثوم الذي أشرنا إليه والذي يعتبر الجرثوم الخاص بذات الجنب، والذي هو في الواقع جرثوم لا خطر له. وإذا ما اتبعنا نظريات علم الطبيعة في دراسته للطاقة، قلنا إن السبب هو البنية النسيجية الخاصة للرئتين اللتين تحدث فيهما الظاهرة المعروفة باسم ذات الجنب.
ولكن مثل هذه الظاهرة لا تنشأ أبداً من تلقاء ذاتها، أو بسبب بعض العوامل الداخلية المزعومة. ولابد لها أن تُحرّض وتثار على نحو ما عن طريق عوامل خارجية، هي الجرثومة. ومع ذلك هذا اللقاء بين رئة تملك استعداداً مرضياً وبين منبه خارجي لا يكفي لإثارة المرض، ولابد أن تنضاف شروط أخرى خاصة جداً، ترجع إلى عوامل أوسع، منها النفسي والاجتماعي.
وهكذا نرى أنه إذا كان مفهوم السبب مفهوماً مفيداً في العلوم الطبيعية، فإنه لا يملك مثل هذا الشأن في علم الحياة. والسبب في ذلك أن الكائن الحي لا يستجيب استجابة جزئية بسيطة، وإنما يستجيب استجابة شاملة ككل، كبنية. والمرض في نهاية الأمر ظاهرة حيوية. وفي ميدان الحياة لابد أن نقيم وزناً كبيراً للصلات المتبادلة والدائمة التي تربط الكائن الحي ببيئته. وفي وسعنا أن نجمع هذه الصلات في كلمة واحدة هي «التكيف». والمرض في نهاية الأمر عجز عن التكيف، والشفاء إعادة لهذا التكيف. وعوامل التكيف وانعدامه عوامل عديدة شتيتة ولا يمكن ردها إلى سبب بسيط أو أسباب معدودة.
قرحة المعدة والطب النفسي الجسدي:
وبعد، سبق أن أشرنا إلى ما أسهمت به الدراسات النفسية الجسدية في مجال معرفة العديد من الأمراض والتماس وسائل الشفاء لها. وعلى رأس الأمراض التي تذكر في هذا الباب، مرض الربو وارتفاع ضغط الدم وأمراض الجهاز الهضمي وبعض الأمراض الجلدية وبعض الأمراض المتصلة بالغدد الصم.
ولن يتاح لنا في هذا الموقف أن نتدارس هذه الأمراض جميعها، على نحو ما يراها الطب النفسي الجسدي. وحسبنا أن نعرض كمثال، لواحد من هذه الأمراض التي عنيت بها هذه النزعة وقدمت لها تفسيراً شاملاً وعلاجاً مستحدثاً. ونعني بهذا المرض قرحة المعدة.
لقد تحدث المتحدثون عن «أسباب» كثيرة مختلفة تفسر وقوع هذه الآفة. فردها بعضهم إلى عامل إنتاني، وردها آخرون إلى رضوض أو إلى حال من أحوال التحسس أو إلى اضطرابات في جهاز الدوران.. وليس من شأننا أن نتحدث عن هذه التفسيرات التي نقع عليها في كتب الطب. ونجتزيء منها بنتيجة لا يماري فيها أحد من الباحثين، هي أن ظهور قرحة المعدة مرتبط بوجود عصارة المعدة. وهذا أمر بيّن ما دامت هذه القرحة لا تنال إلا أجزاء الجهاز الهضمي التي تحتك مع هذه العصارة (من مثل المعدة والمري والاثني عشر)، ولا تنال أبداً الأجزاء التي لا يبلغها هذا السائل. يضاف إلى هذا أن الباحثين استطاعوا أن يحدثوا قرحة المعدة تجريبياً على بعض الكلاب عن طريق إدخال هذه العصارة، بالطريقة التي أشاعها العالم الروسي بافلوف Pavlov، أيام دراسته للفعل المنعكس الشرطي.
وهكذا تقود هذه الحقيقة البدهية الأولى، وهي ضرورة وجود عصارة المعدة لحدوث القرحة، إلى الأخذ بالنظرية المعروفة باسم النظرية الهضمية. وهي نظرية ترى أن عصارة المعدة تخرب جدرانها وتحدث الآفة عن هذه الطريق. وقد ثبت ذلك تجريبياً منذ بين «كلود برنار Claude Bernard» أن عصارة المعدة قادرة على أن تهضم رجل ضفدع حية.
وهذه الحقيقة الثانية تقودنا إلى التساؤل التالي: لماذا لا يحدث هضم جدار المعدة دوماً؟ وما هي آلية الدفاع التي تمنع ذلك؟
من المعروف قديماً أن المادة المخاطية التي تفرزها غدد المعدة تقوم بوظيفة حماية المعدة. وبينت أبحاث حديثة فوق هذا أن غشاء الإثني عشر يولد هرموناً مضاداً للقرحة يدعى باسم
الـ entérogastron، يقوم بعمله عن طريق مزدوج إذ يقلل من توليد عصارة المعدة ويحمي بشكل من الأشكال غشاءها.
وإذا كان الأمر كذلك، فمعنى هذا أن مشكلة قرحة المعدة قوامها توازن بين القوة «المخرشة» لعصارة المعدة وبين مختلف آليات الدفاع التي تحول دون وقوع أثرها على الجدار المعدي المعوي. أي أن الآفة يمكن أن تقع إما بنتيجة زيادة العامل الأول، نعني عصارة المعدة، وإما بنتيجة ضعف العامل الثاني، نعني الهرمون المضاد، وإما بنتيجة اجتماع العاملين معاً.
أما تولد عصارة المعدة فيسيطر عليها خاصة الجهاز العصبي النباتي وبصورة خاصة الجهاز الشبيه بالودي. وأثر تضخم وظيفة الجانب من الجهاز الشبيه بالودي الذي يعصب المعدة يمكن أن يلخص في أمور ثلاثة: الأول فرط الإفراز والثاني فرط حركة المعدة والثالث فرط احتقان الدم فيها. أما فرط الإفراز فيؤدي إلى زيادة القدرة المخربة لعصارة المعدة؛ وأما فرط الحركة وفرط احتقان الدم فيؤديان إلى إضعاف القوة الدفاعية للغشاء. وهذا كله يقودنا إلى إدراك شأن اضطراب التوازن العصبي النباتي، ذلك الاضطراب الذي يخرب جهاز الهجوم والدفاع للغشاء المعدي، فييسّر بذلك ظهور القرحة واستمرارها. وقد أثبت بعض الباحثين ذلك تجريبياً، إذ نجحوا في إحداث قرحة لدى أرنب عن طريق تنبيه العصب الرئوي المعدي (المعروف باسم العصب المبهم) تنبيهاً كهربائياً. كذلك لاحظ آخرون حدوث قرحة المعدة نتيجة لحقن مادة «البيلوكاربين Pilocarpine»، أو نتيجة لتنبيه الجهاز شبه الودي.
وثمة مؤيد آخر لهذه الحقيقة تقدمه لنا الجراحة الطبية. نعني بذلك علاج قرحة المعدة عن طريق قطع العصب المبهم. وقد أعطى هذا العلاج في رأي بعض الباحثين نتائج إيجابية في عدد كبير من الحالات. ومعنى ذلك أن انقطاع العصب المبهم يحطم الدور الفاسد المرضي.
ولكننا إذا ما قبلنا الدور الهام الذي يلعبه فقدان التوازن العصبي النباتي في تكون قرحة المعدة – هذا الدور الذي يرجع فيما يبدو إلى سيطرة العصب المبهم – كان علينا أن نخطو خطوة أخرى فنكتشف الأسباب التي تؤدي إلى فقدان التوازن هذا.
وفي هذا المجال تبين الدراسات كلها أثر المراكز العصبية المركزية ودورها في تكون قرحة المعدة. وهي تجنح بالتالي إلى القول بوجود مركز شبيه بالودي في اللحاء المتوسط. ومكان هذا المركز فيما يبدو هو الحُديبة الرمادية التي تنطلق منها حزم من الألياف الخلفية تربطها بالنوايا المركزية للدماغ وللنخاع الشوكي، وعلى رأس هذه النوايا وأشهرها نواة العصب المبهم التي تؤثر في الرئتين والقلب ومجرى الهضم العلوي.
ودلت التجربة على أن أي تخريب يقع في أي جزء من المجرى الداخلي لهذه الحزم من الألياف ضمن الجمجمة بدءاً من تحت التلاموس الخلفي حتى مركز العصب المبهم من شأنه أن يحدث ائتكالات في جهاز الهضم أو قرحاً فيه أو ثقوباً.
وخلاصة هذا كله أن هناك أكثر من دليل وتجربة على شأن منطقة ما تحت التلاموس في قرحة المعدة. غير أننا نعلم في الوقت نفسه ما أثبتته التجربة من أن جميع وظائف ما تحت التلاموس يمكن أن تعمل تحت تأثير الأسباب النفسية. كما استبان بالبحث أن من الممكن الحصول عن طريق الإيحاء على تغيرات في عمل المعدة تتجلى خاصة في إفرازها وحركتها، وأن للانفعالات السارة أو المؤلمة آثاراً واضحة على المصابين بالقرحة. بل مضت الدراسة إلى أبعد من هذا، فبينت أن من غير النادر تكوّن قرحة المعدة بنتيجة مثل هذه التغيرات النفسية، وأن القلق أو العداء أو الغضب المكبوت بشدة يصحبها بالضرورة احتقان في المعدة وإفراط في حركتها وإفراط في إفرازها. وفي هذه الحال، تنطلق ائتكالات في غشاء المعدة وضروب من النزيف عند أدنى رض، وكثيراً ما تتبدى نقاط من الدم نتيجة التقبضات العنيفة لجدار المعدة.
وتحاكّ العصارة الهضمية الحامضة مع سطح مؤتكل على هذا النحو يؤدي إلى تزايد في إفراز هذه العصارة وإلى احتقان أكبر في غشاء المعدة. وإذا ما طال تعرض مثل هذا السطح إلى العصارة الهضمية، انتهى الأمر بتكون قرحة معدة مزمنة.
ويختم أحد الباحثين حديثه عن هذه الصلة بين الانفعالات وبين تكون قرحة المعدة بقوله:
«يبدو من المحتمل إذن أن سلسلة الحوادث التي تبدأ بالقلق والغم وبصراع نفسي داخلي، وما يصحب هذا القلق والصراع من فرط في نشاط المعدة، والتي تنتهي بالنزيف أو الانثقاب، هي التي تؤلف التاريخ الطبيعي لقرحة المعدة لدى الكائنات البشرية».
هذه النتيجة توكيد واضح إذن لأثر الانفعالات القوي في نشأة قرحة المعدة. يضاف إلى هذا أن من الأمور التي يعرفها الأطباء أن وقوع «أزمات» المقروحين يتفق مع فترات التوتر الانفعالي بل مع بعض الرضوض العاطفية المحددة في بعض الأحيان. بل إن العديد من الأطباء نظروا إلى هذا المرض دوماً نظرتهم إلى آفة من آفات الحضارة الحديثة. وقد أثبت بعض الباحثين أننا لا نقع عليه مثلاً لدى سكان منطقة منعزلة من جبال الهيملايا. أفلا يشيع القول بأن أمراض جهاز الهضم هي أمراض المفكرين من الناس؟
بل إن قيمة العملية الجراحية التي أشرنا إليها، وهي قطع العصب المبهم، تدل في نظر كثير من الباحثين على أهمية الاندفاعات العصبية والنفسية في تكون قرحة المعدة. فمن الظواهر المألوفة لدى المرضى الذين عولجوا عن هذه الطريق، نعني قطع العصب المبهم، أن المشاغل الأسرية والمهنية والمالية، لا تترك بعد قطعه أي أثر في معدة المريض، بعد أن كانت من قبل تحدث توتراً انفعالياً يزيد من سوء قرحته.
ولكن إذا كان الأمر كذلك، وكان للانفعالات هذا الأثر الهام في تكون قرحة المعدة، فمن حقنا أن نسائل: لماذا لا نعاني جميعاً من قرحة المعدة هذه؟ وهل هنالك بالتالي انفعالات من نوع خاص هي التي تحدث قرحة المعدة دون غيرها من الانفعالات؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فما هي هذه الانفعالات؟
لقد سبق أن رأينا أن أفضل الظروف الميسرة لبزوغ قرحة المعدة هي الناجمة عن فقدان التوازن العصبي النباتي الذي يتجلى في زيادة حموضة المعدة وفرط حركتها وفرط احتقان الأوعية الدموية فيها. ورأينا في الوقت نفسه أن مثل هذه الظروف الميسرة يساير ظهورها ظهور انفعالات كالقلق والغضب والكراهية. وعلينا أن نضيف هنا أن هذه الظروف نفسها تحدث في حال استعداد المعدة للهضم، أي عندما «تتهيأ» المعدة لتلقي الطعام.
وهذه الحقيقة الأخيرة هي نقطة الانطلاق في نظرية نفسية هامة تحاول أن تكشف عن معنى الصراع العاطفي الثاوي وراء قرحة المعدة. وأول من تحدث عن هذه النظرة أحد زعماء مدرسة الطب النفسي الجسدي، نعني الطبيب الأميركي آلكسندر Alexander(1). وقد بدأ حديثه عنها منذ عام 1934 في مقالات كثيرة، ثم أيده في ذلك تلاميذه وأتباعه الكثيرون.
وإليكم موجزاً لهذه النظرية:
ترى نظريات التحليل النفسي أن المرحلة الأولى من مراحل الحياة الجنسية لدى الطفل، هي المرحلة الفمية. إذ نجد الطفل الوليد يستمتع بالطعام وبكل ما يدخل إلى فمه. والأم طبعاً هي التي توفر له هذه اللذة، كما توفر له الحماية والحب. ولهذا كان الطفل الوليد متعلقاً بها تمام التعلق. ومن هنا تربط نفس الطفل بين الغذاء والرعاية ربطاً انفعالياً، ويختلط في حياته اللاشعورية تلقي الطعام وتلقي العطف. ومن السهل اكتشاف هذه الحقيقة في الحياة اليومية، إذ ثبت لدى دراسة بعض حالات البدانة لدى الطفل أن نقص العاطفة التي يتلقاها الطفل يدفعه إلى التعويض عنها عن طريق الشره.
فإذا ما قامت بعد ذلك حوادث وأزمات عاطفية تؤدي إلى اضطراب النمو الطبيعي والنضج السوي للشخصية حاول الفرد أن يفر مما يستلزمه هذا الموقف من نضال، وأن يأوي إلى التعلق بغيره. وهكذا تقوم لديه رغبة لا شعورية في أن يعود طفلاً تعنى به أمه وتحميه وتطعمه. ومثل هذا العود إلى التبعية والتعلق، ليس ممكناً دوماً، إذ كثيراً ما لا يجد مثل هذا الفرد من يُحله محل أمه ومن يتعلق به تعلقه بها. وفي أحيان أخرى قد لا يرغب هو نفسه أن يعترف بهذه الحاجة إلى التعلق والحماية لأن مثل ذلك لا يتفق مع مبادئ حياتنا الاجتماعية – تلك المبادئ التي تؤثر تأثيراً قوياً في نموه النفسي والتي تريد منه على العكس أن يكون كائناً مستقلاً يعطي ويمنح بدلاً من أن يكون كائناً تابعاً يبحث عن الحماية والعون. وهكذا يحدث لدى الفرد رد فعل يجعله يسلك سلوكاً فيه عداء واستقلال وطموح وإيجابية. غير أن رغبة التعلق المكبوتة لديه تظل دوماً تحرقه من أعماقه وتستبد في لا شعوره. وبنتيجة العلاقة بين الحاجة إلى العطف والحاجة إلى الطعام التي ألفيناها لديه في طفولته، تتحول هذه الرغبة إلى رغبة في أن يُطعم. وتعمل هذه الرغبة عملها دوماً في المعدة عن طريق الجهاز العصبي – النباتي، محدثة فيه ارتكاسات فيزيولوجية قوامها التهيؤ لتلقي الطعام، ذلك التهيؤ الذي يجعل المعدة كما رأينا في موقف ميسر لانبثاق التقرح. يضاف إلى هذا أن الفرد، حين لا يجد التعلق والحماية اللذين يبحث عنهما في لا شعوره، يشعر على العكس بعواطف العداء والكراهية، تلك العواطف التي إذا ما كبتت أسهمت في زيادة التغيرات الفيزيولوجية التي تطرأ على المعدة. ومن الثابت تجريبياً أن تهيؤ المعدة لتلقي الطعام يمكن أن يحدث تغيرات خطيرة فيها إذا لم يأت هذا الطعام.
وهكذا نستطيع أن نلخص نظرية «ألكسندر» في قرحة المعدة على النحو التالي:
إن بعض الأفراد يشكون ضروباً من الصراع تحول دون النمو السوي لشخصيتهم وتخلق لديهم الرغبة في التعلق والحماية. فإذا لم تجد هذه النزعة السلبية ما يشبعها في الواقع، لأسباب داخلية أو خارجية، ولدت عواطف عداء مكبوتة. ونزعات العداء هذه، شأنها شأن نزعات التعلق تثير، كرد فعل، اضطرابات عصبية نباتية قوامها إفراط في طاقة العصب المبهم، تترك آثاراً في فيزيولوجية الهضم عن طريق ضعف الطاقة المقاومة وزيادة الطاقة الهجومية المخربة، فتيسر بذلك انطلاق القرحة واستمرارها.
هذه النتيجة التي انتهى إليها آلكسندر أيدها كثير من الباحثين غيره وأيدتها التجربة العملية.
وقد كان بودنا أن نشفع هذا الوصف الذي تقدمه نزعة الطب النفسي الجسدي فيما يتصل بمرض جسدي كمرض القرحة، بالإشارة إلى وسائل العلاج التي تصطنع في هذا السبيل. غير أن ضيق المجال يحملنا على القول بإيجاز أن وسائل العلاج نابعة من طبيعة التفسير الذي تقدمه هذه النزعة للداء، أي أنها وسائل نفسية تحاول أن تقضي على العوامل اللاشعورية المكبوتة والرغبات الخبيثة، مصطنعة الأساليب النفسية المعروفة في هذا المجال، التي فصل في الحديث عنها مذهب التحليل النفسي خاصة. يضاف إلى هذه الوسائل النفسية وسائل جسدية تصاحبها، نتيجة لإيمان أصحاب هذه النزعة بالصلة التامة بين ما هو جسدي وما هو نفسي. وهكذا يقوم العلاج على أساس شامل، كما قام التفسير على مثل هذا الأساس الشامل، فينصب على علاج العضو المريض والجهاز العصبي النباتي والفرد كله بعد ذلك. فالعلاج ينبغي أولاً أن يضعف من القوة الهجومية المخربة التي للعصارة الهضمية وأن يزيد من قدرة المقاومة لدى الغشاء الهضمي وذلك عن طريق الأمور التالية:
1- اتباع حمية ملائمة من شأنها أن تخفف من نشاط المعدة إفرازاً وحركة، وتعطل أثر العصارة الهضمية الحامضة.
2- استخدام العقاقير المضادة للحموضة.
3- تناول مواد مخاطية مقوية لغشاء المعدة من مثل مادة الفوجلسون Fogelson.
4- العلاج عن طريق الأشعة السينية بغية تخفيف الحموضة.
5- استخدام مادة كمادة الإنتروغاسترون entérogastron التي اكتشفت منذ أمد ليس ببعيد.
ثم إن العلاج ثانياً ينبغي أن يهدف كما قلنا إلى إعادة التوازن العصبي النباتي عن طريق مواد كالمواد التالية: البلادون Belladone، الأتروبين Atropine، سلفات البنزدرين Sulfate de Benzédrine، البابا فيرين Papavérine، أو عن طريق اقتطاع العصب المبهم.
والعلاج ثالثاً ينبغي أن يحدث أثراً في المراكز الدماغية العليا التي تقوم بالإشراف على الجهاز العصبي النباتي، وذلك عن طريق اللجوء إلى مركبات «البرومور Bromure» والباربيتوريك التي ثبت نجعها في هذا المجال.
وأخيراً لابد للعلاج أن يعنى بالصراع العاطفي الذي هو أساس المرض وأن يجد له الحل، عن طريق وسائل العلاج النفسي المعروفة، التي لا يتسع المجال للتفصيل فيها.
وكل ما يمكن أن يقال في مجال العلاج هذا، أن المهم أن تتجه العناية إلى الفرد لا إلى العضو المريض، أي إلى الفرد ككل، إلى العضوية ككيان جسدي نفسي متكامل متآخذ.
الحوادث اللاشعورية والمرض:
وبعد، هذه لمحة خاطفة عن تلكم النزعة المحدثة في الطب، التي قدمت لموضوع الصلة بين الحوادث النفسية والأمراض الجسدية أوضح تفسير وأعمقه. ومن خلال بعض جوانبها التي أشرنا إليها ندرك أن مسألة الصلة بين ما هو نفسي وما هو جسدي لم يعد اليوم مقصوراً في مجال الطب على ذلك التأثر والتأثير العامين الغامضين بين هذين الوجهين من أوجه الحياة، بل تجاوزت ذلك إلى تحديد دقيق مدروس لطبيعة هذا التأثر والتأثير المتبادلين، قوامه دراسة عميقة علمية للأدوات والأجهزة الجسدية التي تنتقل بوساطتها الآثار النفسية عبر الوظائف العضوية المختلفة.
وهكذا يجد الطب نفسه أمام مرحلة جديدة كل الجدة: لقد كانت الأمراض قديماً تفسر كما نعلم تفسيراً جسدياً خالصاً. وأعقبت ذلك نزعة تفسير الأمراض النفسية بالأسباب النفسية، بعد أن كانت ترد إلى مس من الشيطان أو إلى أسباب جسدية خالصة فيما بعد. وجاءت نزعة الطب النفسي الجسدي فقدمت للأمراض الجسدية تفسيراً نفسياً، بل نقول بتعبير أصح قدمت للأمراض جميعها تفسيراً واحداً وهو تفسير جسدي ونفسي في آن واحد، وردت طبيعة المرض إلى هذا التداخل الذي يقوم بين العوامل التي تدعى جسدية وبين العوامل العامة الشاملة في كيان الفرد ككل، التي تدعى باسم العوامل النفسية.
ومن هنا استبانت للباحثين الحقيقة البدهية في ذاتها والتي أُنكرت مع ذلك في التطبيق الطبي العملي طوال عصور مديدة، وهي أن الكائن الإنساني يستجيب لأي حادثة تصيبه استجابة كلية شاملة، وأن كل عنصر دخيل يغزوه لا يأخذ معناه لديه إلا من خلال اللحن الكامل لكيانه العضوي النفسي، من خلال موقفه العام، ومن خلال قدرته على التكيف مع كل طارق جديد. وهذه القدرة على التكيف قدرة عضوية نفسية في آن واحد. وهي بالتالي غير تابعة لطبيعة الجرثومة الطارقة وحدها، ولا لطبيعة العضو المصاب وحده، ولا لآلية سير الوظائف الفيزيولوجية وحدها، ولا للتربة والبنية السابقة فحسب، بل هي خاضعة لأولئكم جميعاً، وخاضعة فوق هذا وقبل هذا لذلك التركيب الكلي الشامل الذي هو موقف الفرد الشخصي العام من المؤثرات التي تقع عليه وشكلُ استجابته لها، ومدى تهيئه النفسي لقبولها أو رفضها.
إن الآثار التي تخلّفها الحياة النفسية في سلوكنا اليومي، في جميع مظاهره وأشكاله، أعمق مما قد يخيل إلينا بكثير. وأشد هذه الآثار خطراً ما تخلفه الحياة النفسية اللاشعورية، التي رأينا طرفاً من شأنها لدى دراستنا لقرحة المعدة على غرار ما ترى نزعة الطب النفسي الجسدي. وما نرانا في حاجة إلى إعادة المكرور من القول، لنذكّر من جديد بأهمية الحياة اللاشعورية، ذلك الاكتشاف الذي عد أكبر اكتشاف في القرن العشرين، ولنبين تلك الحقيقة التي قررها فرويد وهي أن سلوكنا الحقيقي، في طابعه الشامل الجسدي والنفسي معاً، يتحدد بتأثير العوامل النفسية اللاشعورية بالدرجة الأولى. إن تلك الحوادث النفسية اللاشعورية، كما يحلو لفرويد أن يقول، أشبهُ بذلك الجانب الكبير من الجمودية الثاوي تحت سطح الماء، في حين أن الجوانب الشعورية الظاهرة أشبه بسطح الجمودية الظاهر فوق سطح الماء. وكلنا يعلم أن الكتلة الضخمة الكبرى من الجمودية هي التي تثوي تحت الماء، ففيها مركز ثقل الجمودية وهي التي تحدد حقيقة سيرها واتجاهها وعملها. والأمر على هذا النحو تماماً في مجال الحياة النفسية. فالحوادث اللاشعورية فيها هي التي تحدد الطبع والسلوك وطراز الاستجابة على المواقف وشكل الخضوع للأمراض وطريقة الارتكاس عليها.
ويطول بنا الحديث إن نحن أردنا أن نفصّل في أثر هذه الحوادث اللاشعورية في حياة المرء. وحسبنا ما دمنا قد قصرنا حديثنا على ميدان الأمراض الجسدية أن نشير إلى مسألة كبرى قد تساعدنا على فهم الكثير مما يخفى من أمر التأثير الذي توقعه الحوادث النفسية اللاشعورية على الحياة العضوية الجسدية.
إننا جميعاً نذكر قولة فرويد الشهيرة حين وصف المرض النفسي بأنه ملجأ. فالشخص الذي تثور في نفسه ضروب من الصراع النفسي لا يقوى على حلها وإيجاد الموقف الذي يؤدي إلى التكيف معها، يلجأ إلى المرض النفسي الذي يجد فيه خير إرواء لنزعاته النفسية ورغائبه اللاشعورية التي لا يسمح له الواقع الاجتماعي بإروائها وهو سليم معافى. وهكذا يعفيه المرض من الرقابة الاجتماعية ويبيح له أن يعبر عن الرغائب والمشاعر والمواقف العدائية التي لا يقوى على إظهارها في حال الصحة. وبهذا المعنى يكوّن المرض النفسي ملجأ لمن لم يستطع أن يجد في الواقع حلاً لمشكلاته المستعصية.
هذه الحقيقة التي تصدق على المرض النفسي، نرى أنها صادقة على المرض الجسدي،
لا سيما بعد ما شهدناه من عدم الانفصام بين المرض النفسي والجسدي. ومعنى هذه الحقيقة حين تطبق على الأمراض الجسدية، أن هذه الأمراض أيضاً قد ينتجعها الشخص، تحت تأثير عوامل لاشعورية، حلاً لبعض المشكلات والأزمات العاطفية، وخلاصاً من أنواع الصراع التي لا يقوى على التحرر منها في حال الصحة.
إن كلاً منا يعلم هذه الظاهرة البسيطة التي نجدها لدى الأطفال حين يجدون في المرض أو التمارض ملجأ يحميهم من بعض المهمات التي لا تروق لهم، من مثل الذهاب إلى المدرسة. بل كلنا يعلم أن التعلل بالمرض كثيراً ما يصحبنا كباراً وكثيراً ما نجد فيه وسيلة لتبرير عجزنا وضعفنا أو قصورنا في مجال من المجالات. وكثيراً ما يكون هذا التبرير لاشعورياً فإذا بنا نقتنع بأننا مرضى، فراراً من واجب ثقيل ملقى علينا، أو عمل شاق لا نقوى عليه.
فإذا نحن وسعنا أفق هذه الملاحظة البسيطة العابرة، استطعنا أن ندرك إدراكاً أعمق معنى أثر الحوادث اللاشعورية في الأمراض الجسدية. وكم كنا نود أن يتسع المجال لنتحدث عن كثير من الدراسات التي بينت كيف تنطلق بعض الأمراض في ظروف انفعالية وعاطفية يكون فيها الوقوع في المرض ضرباً من الخلاص يرى فيه المريض حلاً لمشكلاته. كم كنا نتمنى أن نشير إلى ما أورده بعض الباحثين من الملاحظات على عدد من المصابين بالسل مثلاً، الذين انطلق المرض لديهم في فترة هم أحوج ما يكونون فيها إليه، حلاً لمشكلات عاطفية وأزمات نفسية لم يجدوا لها خلاصاً. ولا يعني هذا أن الرغبة اللاشعورية كافية وحدها لإحداث المرض، ولكن معناه كما أدركنا من سياق المحاضرة كلها أن هذه الرغبة هي التي تنضاف إلى العوامل الأخرى من استعداد بنيوي وجرثومة طارئة، لتجعل وقوع المرض محتوماً.
ولعلنا لا نجد غرابة في توكيد هذا الأثر للحوادث والرغبات اللاشعورية بعد أن أوغلت نزعة الطب النفسي الجسدي في هذا المجال، فكشفت عما هو أبعد مدى، يوم بينت أثر الحوادث والرغبات اللاشعورية في الوقوع في الكوارث نفسها. لقد كشف لها البحث في الكوارث على اختلاف أنواعها أن هذه الكوارث كثيراً ما تكون مدفوعةً برغبة لاشعورية للوقوع فيها. فكأن الفرد في كثير من الأحيان يبحث عن حتفه بظلفه، يبحث عن عقاب ينتظره، بحثاً لاشعورياً، ويقع في الكارثة كأنه يتوقعها بل كأنه يريدها. حتى إذا كانت الواقعة، وكان وجهاً لوجه أمام الكارثة، كان موقفه النفسي أشبه بموقف من يقول: ها هي ذي، لقد وجدتها. ذلك أن أقوى البواعث اللاشعورية أثراً في تعريض الأشخاص إلى الكوارث الشعور بالإثم، ذلك الشعور الذي يحاول صاحبه أن يصرفه على نحو لاشعوري، عن طريق تأنيب نفسه بنفسه وتوقيع العقاب على ذاته. ويبين «راوسون Rawson»(1) أن 60% من المرضى المصابين بكسور يقرون لدى فحصهم فحصاً نفسياً بشعور بالإثم وبنقمة وغضب موجهين نحو شخص له علاقة بالحادث. ويستشهد لذلك بالمثال التالي:
من أقوال فتى في السادسة عشرة من العمر:«إنها حقاً خطيئتي، لأن أمي أنبأتني أن طعام العشاء جاهز وأن علي ألا أخرج. ولكني خرجت مع ذلك، ودخلت في شوط مصارعة فكسرت ذراعي. ولا ضير في ذلك إذ لا شك أن أمي نادمة الآن على ما فعلت وتتمنى لو لم تكن قاسية معي إلى هذا الحد. ويستشهد الكاتب نفسه بمثال آخر فيقول:
جرحت سيدة لها من العمر سبعة وعشرون عاماً وهي تهبط سلماً. وقد كان يقع لها الحادث عينه كلما اختصمت مع أهلها أو مع زوجها بعد أن تزوجت. ومما قالت بهذا الصدد: لعلي كنت أسلك خيراً من هذا السلوك الذي أدى إلى جرحي لو كان لديهم ذوق سليم وعاملوني بحظ من الاحترام أكبر، بدلاً أن يقسوا علي مثل هذه القسوة».
إن مثل هذه الحوادث، تعبير في الواقع عن فكرة عميقة الجذور في نفوسنا وهي أن الألم تكفير عن خطيئة. فالألم يخفف من قلق الوجدان المجرم ويعيد إلى النفس سلامها الداخلي وطمأنينتها. ولما كان أكثر أسباب مشاعر الألم ذيوعاً لدى الأطفال هو الشعور بالثورة والكراهية ضد الآباء، نجد الأشخاص المهيئين للوقوع في الكوارث يحتفظون راشدين بهذا الشعور الثوري الذي عرفوه في طفولتهم ضد آبائهم، ويوجهونه ضد الأشخاص الذين يمثلون السلطة عامة. كذلك نجدهم يحتفظون برد الفعل، الذي كانوا يقابلون به، أطفالاً، الخطايا التي يرتكبونها مع أهلهم وثورتهم ضد هؤلاء الأهل. وهذا الائتلاف بين البغض وبين الشعور بالخطيئة هو عامل من العوامل التي نعثر عليها غالباً في الكوارث ويقول موجز إن الأشخاص الذين نجد لديهم حاجات ملحة لعقاب ذواتهم هم الذين يتألف منهم العدد الأكبر من الأشخاص المهيئين للوقوع في الكوارث. ويبين شأن مشاعر الإثم هذه في وقوع الكوارث الأسئلة الدارجة التي يطرحها المصابون بالكارثة بعد الصدمة مباشرة، حين ينادون مثلاً: لماذا حدث لي هذا؟ ولماذا كنت جديراً بمثل هذا العقاب؟».
ويذكر «ألكسندر» ما يؤيد هذه الفكرة القائلة بأن وراء بعض الكوارث قصداً ونية لاشعورية. فيذكر مثلاً أن رجلاً ذكياً في شرخ الشباب أتى إلى عيادته يشكو إليه هموداً عميقاً بعد إخفاق حل به في كفاحه في سبيل العيش وكان هذا الرجل ينتسب إلى أسرة رفيعة. غير أنه لزواجه من امرأة تنتسب إلى طبقة اجتماعية دون طبقته، هجره أبوه وهجرته أسرته وقطعت كل صلة به. وقد انتهى صراعه الطويل في سبيل اللقمة باندحار وهزيمة نفسية سببتها أعراض مرضية عصابية بدأت تظهر عليه فنصحه الطبيب أن يذهب إلى محلل نفساني. ولما قنع بالنصيحة، بعد تردد طويل، طلب من الطبيب ذات أمسية أن يأتي ليراه وليتناقش معه في بعض التفصيلات المتصلة بهذا التحليل النفسي الذي ينصحه به والذي يحار في اتباعه. غير أنه لم يأت إلى الطبيب، إذ انقلبت سيارته على مقربة من بيت هذا الطبيب ونقل إلى المستشفى مصاباً بجراح خطيرة. وذهب الطبيب لزيارته في المستشفى فوجد جراحه ثخينة ووجده ملتفاً بالضمادات الكثيرة، وما كان يُرى من وجهه إلا عيناه. غير أنه وجده مع ذلك في حال معنوية جيدة، ووجد حالة الهمود والأسى قد فارقته، كأنما شفي من المرض النفسي الذي كان يعاني منه، وكأن الكارثة قد أذهبت عنه هموده. وكانت الكلمات الأولى التي قالها هذا المصاب: «والآن دفعت ثمن كل شيء. الآن أستطيع أن أقول لوالدي رأيي الحقيقي فيه على الأقل». وبدت لديه رغبة في أن يكتب رسالة شديدة اللهجة إلى أبيه يطلب إليه فيها نصيبه من ميراث أمه. كما اشتعلت في رأسه مشاريع كثيرة وأخذ يفكر في حياة جديدة.
خاتمة:
أو نعجب بعد هذا كله أن يكون للحوادث النفسية، وللحوادث النفسية اللاشعورية، شأن كبير في سلوك الإنسان كله، وفي سلوكه المرضي خاصة؟
ليس الهام أن نعجب، والهام أن ندرك مدى تلك الأغوار البعيدة، أغوار الحياة النفسية، وأن نملك نظرة واعية إلى عمق الحياة الإنسانية وتعقدها وتشابكها. الهام أن يغدو العلاج الطبي علاجاً يطل من خلال هذا الوعي العام الشامل للإنسان، للإنسان كنفس وجسد، ككائن ملقى في الكون، له مشاعره وصبواته، وله نضاله اليومي في معركة الوجود، وله تساؤلاته الطويلة حول جوهره ووجوده وغاية حياته.
إن الإنسان الذي يمرض، ليس تلك الآلة البسيطة التي يتعطل جزءٌ من أجزائها، إنه ذلك الإنسان الذي يحيا على الأرض وعيناه مشرئبتان إلى السماء. إنه ذلك الكائن الذي يبحث عن مجهول وجوده ومعنى حياته، إنه ذلك الحي الذي يشعر بضآلته وعظمته في آن واحد، يشعر أنه صفر بالقياس إلى اللانهاية وكل شيء بالقياس إلى الصفر. يشعر في آن واحد بأنه عجز عن أن يستنقذ ما تسلبه الذبابة، وبأنه صنو الآلهة وصورة الله وكلمته على وجه البسيطة.
مثل هذا الكائن الذي يتقلب بين رمضاء العدم وقمم اللانهاية، لا يمكن أن يكون ذلك المكبود الذي يحيا المرض في جانب من كبده، ولا ذلك الممعود الذي تقرح القروح معدته وتعدو عليه دون أن يكون له فيها شأن أو معها قصة. إنه يحيا مرضه ويحييه، بل هو خالق مرضه وصحته إلى حد كبير.
إن وراء عدم الجسد عدم النفس، ووراء حياة الجسد حياتها. وما يزال العالم المادي وحده أعجز من أن يكون المتحكم الوحيد في هذا الكائن الذي سخر المادة لخدمته أيما تسخير، والذي استطاع عالمه النفسي أن يكون عصا سحرية تقلب وجه الكون والحياة.
إن العالم الأكبر ينطوي كله في العالم الأصغر، عالم النفس الإنسانية: من خلالها يأخذ معناه، وحوادثه رهينة بإطار هذه النفس. والمرض جزء من هذا العالم الأكبر، لا يتخذ شأنه إلا من ضمن هواء الحياة النفسية الإنسانية الشاملة. إنه مرض الإنسان، الإنسان القوي الضعيف، الإنسان المريد العاجز، الإنسان الذي تصطرع في دمه ولحمه وعصبه ملايين الرؤى الخفية والصبوات المبثوثة. إن مأساة الإنسان الذي يريد أن يتشبه بالآلهة في صبواته ومطامحه، والذي يجذبه ثقل الحمأة ولزاجة الطين، هي مأساة نفسه وجسده معاً تعيش في فكره كما تعيش في عروقه وأعصابه، وتهز عقله كما تهز كبده الحرى أو قلبه الشٌّبِم، وتجعل الحياة عنده دوماً في صراع مع المرض والموت.
21/1/1961