العروبة وآلام المخاض

العربي العدد الخامس عشر – فبراير – شباط 1960

العروبة وآلام المخاض
د. عبد الله عبد الدائم

لا شك أن المرحلة التي نحياها اليوم هي نقطة الانعطاف بين أمس الأقطار العربية وغدها، والجيل الذي يعيش على مفترقات طرق التاريخ جيل سعيد سعادة حية عميقة. إنه يعيش مخاضاً روحياً حقيقياً، فيه ينفصل عن ماض قريب جديب ما يزال يحمل أوزاره ليتجه إلى مستقبل خصيب ما يزال يتشوف إليه ويلمحه في الأفق دون أن يقبض عليه.
وفي هذه المنزلة، منزلة استشراف الجديد، والصراع مع رواسب القديم، تجد النفوس الفتية كامل تفتحها، وتلتمس مجال نشاطها الخلاق.
إنها حقاً «تعيش في خطر» على حد تعبير «نيتشه»، شاكية السلاح دوماً تترقب وتتوفز وتحمل أمانة الأجيال.
والجيل العربي اليوم، واحد من تلك الأجيال التي تعيش مرحلة تاريخية منفجرة بالقلق المبدع والتوفز الخلاق. إنه جيل يعش حقاً مع التاريخ، حين يعزم ويصمم على أن يهب للتاريخ معنى، ويضع فيه ميسماً، وفيه تتحقق «التاريخية» ويتحقق القلق التاريخي، إذا أردنا أن نستخدم رطانة الفلاسفة ونذكِّر بمصطلحات الفيلسوف الألماني «هيدجر».
أو ليس الشعور الحق بالحرية، الحرية الخلاقة المحققة للوجود في أعمق أعماقه، هو أولاً وقبل كل شيء وليد «التزام» نلتزمه، وعزم نعزم عليه، به نقطع مجرى الأشياء الرتيب السادر لنخط فيه مجرانا ونشق اتجاهنا؟ أفلا يعني العمل الحر عزماً قاطعاً ننفصل فيه عن الرتابة والحياة التي تحملنا في تيارها، بل ننفصل فيه عن ذواتنا، عن رواسب الاستمرار والركود في ذواتنا، لنقرر في نهاية الأمر فعلاً جديداً، فعلاً مبتكراً؟
إن الشعور بالحياة، بالحياة المتفجرة لا يكون إلا في لحظات الخلق الحر والعزم المبدع. والحياة لا تعطي نفسها ولا تمنح الشعور بحرارتها ودفئها، إلا لمن حاول أن يجبهها، أن يقف حقاً في تيارها وأن يقطع انسيابها المستسلم مع الصفحة الظاهرة الراكدة منها.

والجيل العربي اليوم، جيل عزم على أن يصنع التاريخ، على أن يهب لتاريخه معنى، وقرر أن يمنح وجوده مداه، وهو لهذا جيل سعيد كأعمق ما تكون السعادة، إنه يحس حقاً بدفقة الحياة ويعالجها في أعماقه.
غير أن لكل مخاض آلامه، آلامه السعيدة، والجيل العربي الذي يحيا اليوم معركة الانفصال عن ركود ألفه سنوات طويلة، والذي يتجه شطر مستقبل لم تستبن سائر معالمه بعد، جيل يلقي من آلام المخاض ما يلقي، ويعاني من التأزم ما يعاني. فالآلام في نظرنا آلام خصيبة محملة بالعطاء، إن هي وعت ذاتها، وأدركت مسؤولياتها، وهي على العكس معرضة لأن تنقلب إلى إجهاض فاشل إن هي لم ترتفع فوق الألم لتخلق منه الأمل.
ومن هنا كان واجبنا جميعاً أن نقف في معركة الولادة الجديدة هذه، يقظين حذرين نسدد الخطى ونبين لجيل المعركة حقيقة وجوده، وواجب هذا الوجود.
المرء الذي يعيش في قلب المعركة، قلما يستطيع أن يتبين جميع أوجهها، ومن هو غارق في التيار لا يقوى على أن يرى جنباته.
ولهذا كان جيلنا العربي، الذي ألقى نفسه في يمِّ معركة قومية تاريخية كبرى، معرضاً للانزلاق بحكم انغماسه في لُجَّة اليمِّ، وانجرافه في تياره.
ومن هنا أتى واجب الحديث عن واقعنا الذي نحياه ومستقبلنا الذي ننشده، لنزداد وعياً لأنفسنا ولئلا يغادرنا هذا الوعي في أي لحظة من لحظات المعركة.
إن تساؤلنا كرة بعد كرة: مَنْ نحن اليوم، وإلى أين نسير؟ ما هو بالتساؤل المكرور الذي فقد قيمته.
إن حاجتنا إليه ماسة دوماً وهو الذي يجعل نضالنا نضالاً مدركاً لخطواته مصححاً لأخطائه واثقاً من نتائجه.
وما نزعم لأنفسنا أننا نستطيع في مثل هذه العجالة أن نفي هذا الموضوع الضخم حقه
أو بعض حقه فهو موضوع حياتنا كلها، وهو عملنا الدائب المتصل الذي لا ينقطع وحسبنا أن نقف عابرين عند بعض الصُّوى التي قد تساعد في جلاء الطريق.
معركة وصراع:
المجتمع العربي اليوم هو أولاً وقبل كل شيء مجتمع ينهض فيه الصراع العنيف بين العادة والنزوع، بين ما ألفه وبين رغبته في أن يجاوز ما ألف.
لقد مرت على المجتمع العربي عهود من الركود والانحطاط كاد ينسى فيها حضارته وأصالته، وتآمرت على هذا المجتمع جملة من القوى التي أرادت أن تفقده معالمه وأن تطمس كيانه القومي كاملاً. وتألب الاستعمار التركي عليه، ومن بعده الاستعمار الغربي محاولاً أن يقطع صلته بتراثه وأن يمحو خصائصه.
ولا شك أن أصالة العربي وقوة تراثه الحضاري كانا أقوى من محاولات الطمس هذه وأمنع من حملات الإبادة كلها، على عنفها وشدتها. فاستطاع أن يصمد لهذه الغزوات واستطاع أن يحفظ شعوره بذاته، شعوره بحضارته وأصالته.
وإن مما يؤكد للعربي ثقته بنفسه ورفيع نجاره ومحتده هذا التحدي الجبار الذي قام به تجاه كل العوامل التي استهدفت إبادته والقضاء على كل صفة من صفات تراثه.
وهكذا خرج العربي من المعركة القاسية، معركة القرون الطويلة، ظافراً قوياً، جاوز مرحلة الثبات والصبر إلى مرحلة الدفاع عن الذات، إلى مرحلة التحدي، فتحدى الاستعمار وما يزال يتحداه، وانتصر على قُوى تفوقه، في معركة الجزائر وفي معركة عمان، وفي معركة القناة، وفي سائر المعارك النضالية التحررية التي تقوم على أرض عربية، وإن لم يسمع فيها دوماً ضجيج السلاح.
غير أن هذا الإحساس بالعزة القومية – وهو إحساس حق – ينبغي ألا يطمس أمام أعيننا بعض الحقائق. والذي علينا ألا ننساه هو أن النزوع القومي الذي ثبت وانتصر، لابد أن يجاهد مخلفات المعركة التي قامت بينه وبين أعدائه. فلكل معركة بقاياها المزعجة التي ينبغي ألا نتجاهلها، والمعركة التي قامت بين العرب وبين العوامل التي تألبت على كيانهم ووجودهم، معركة انتهت دون شك بثبات المنازع العربية وصمود الروح القومية، ولكنها خلفت وراءها مع ذلك مجموعة من العادات، تعشش في قلب هذه المنازع وتصل إلى الصميم من تلك الروح.
ولا نأتي بجديد من الأمر إذا قلنا أن السنوات الطويلة التي أقام فيها الغرباء في بلادنا، وعاثوا فيها تخريباً وتهديماً، قد أورثتنا مثالب مما أرادها هؤلاء الغرباء، وجعلت في حنايا وثبتنا العربية نفسها بذوراً فاسدة، ولا نغلو إذا قلنا إن وثبتنا العربية تحمل في ثناياها بذور تهديمها وإننا إذا لم نلتقط هذه البذور ونجتث أصولها شيئاً بعد شيء عرَّضْنا وثبتنا للخطر الكبير.
وهل نحن بحاجة إلى أن نستعير تعبيراً من ميدان علم النفس فنقول إن ثمة عوامل هدامة عميقة لا شعورية تثوي في أعماقنا، وتحاول أن تخرب في الخفاء وأن تعمل في الظلمة، وسبيل العلاج منها أن نعيها وأن ننقلها من اللاشعور إلى الشعور؟
وهكذا يقوم الصراع عميقاً بين النوازع والعادات. فالنوازع في كل قلب عربي وفي كل أرض عربية، نوازع البعث القومي والوحدة العربية المنشودة. أما العادات العقلية وأما التقاليد النفسية الموروثة، فما تزال تغالب تلك النوازع.
مصطلح من علم النفس:
وهي إذ تغالبها لا تقوى على أن تفعل ذلك جهاراً وعلى شكل سافر، وفعلتها في هذا المجال فعلة العوامل اللاشعورية المكبوتة. وما دمنا قد أوردنا المصطلح المقتبس من علم النفس، فالعوامل اللاشعورية المكبوتة كما نعلم لا تقوى على أن تظهر سافرة خوفاً من رقابة الشعور، هرباً من القيم التي يجري عليها المجتمع، ولهذا تتفتح وتظهر في غير زيها، وتنسلّ خفية، على نحو ما نرى في الأحلام أو زلات القلم واللسان، أو الأمراض النفسية، أو النكتة
أو غيرها.
كذلك العادات العقلية المألوفة التي ورثناها نتيجة عهود الانحطاط، والتي هي بقايا المعركة بيننا وبين العناصر الدخيلة على كياننا، فهي لا تظهر سافرة وإنما تلبس لبوساً غير لبوسها، بل إنها تلبس لبوس المنازع العربية التي تغالبها وتحاول أن تصطنع زيها وأن تزيفه.
هكذا نجد الآن مجموعة من الأفكار في البلاد العربية، تحاول أن تقاوم الفكرة العربية عن طريق اصطناع زائف لها وادعاء مؤمن بها في الظاهر، كافر في الباطن، مدعية الحرص الخاص عليها، بينما هي تحاول هدمها.
وهناك، بعد أولئك وهؤلاء، من قرَّت في أذهانهم عادات حرص المستعمر على بثها وإشاعتها، وجعل لها الصدارة في أعماله وفي محاولات التهديم التي قام بها، ونعني بذلك الروح الطائفية أو العنصرية. وأصحابها أيضاً يحاولون أن يفرضوا بقايا العنصرية
أو الطائفية التي ورثوها وأن يظهروها كعناصر لازمة للفكرة العربية وأن يتخذوها عقيدة ومبدأ، زاعمين أن بينها وبين القول بالعروبة نسباً أو صلة.
وهناك أيضاً أولئك الذين ألِفُوا النظم الاجتماعية البالية التي أقامها الغرباء في بلادنا خلال سنوات طويلة، فأرادوا أن يفلسفوا هذه النظم وأن يسيروا في سياسة تعمية تجعل من مسايرة هذه النظم ضرورة تستلزمها طبيعة الكيان العربي.
إن المرحلة التي يعيش فيها جيلنا العربي هي مرحلة هذا الصراع بين النزوع العربي القوي وبين العادات الموروثة التي تعيش في قلب هذا النزوع وتهدده. ولعل الأنوار تسلط على معالجة هذا التناقض الباطني العميق بين المنازع والعادات، فنتجنب بذلك مخاطر المخاض المجهض، ويزيد وعينا لنضالنا القومي وتعميقنا له.

خطر داخلي وآخر خارجي:
إن أكبر خطر يمكن أن يهدد هذا النضال العربي الفتيَّ هو أن نطمئن إلى قوة الفكرة العربية، وإلى عزيمة المنازع العربية، فننسى ما يناقضها من عاداتنا السابقة وأفكارنا الموروثة الشوهاء. والشيء الذي ينبغي أن يقر في ذهننا أولاً وآخراً هو أن هذه المنازع معرضة لأخطار في قلبها وداخلها قبل أن تكون معرضة لأخطار تأتيها من خارجها، وأن الوسيلة المثلى لتحقيق هذه المنازع هي عن طريق جهاد أنفسنا، جهاد ذواتنا.
إن أخطار الفكرة العربية لا تأتيها من خارجها، بمقدار ما تأتيها من داخلها، من الأفكار التي تتزيَّى بزيها وتصطنع لباسها وهي نقيضها في الواقع.
إن الفكرة القومية على غناها في النفوس وشدة حرارتها في العروق، لا تتحقق طائعة من تلقاء ذاتها، وهي كأي فكرة تتحقق بمقدار وعينا لها ونضالنا في سبيلها. إنها تستلزم منا نضالاً يومياً متصلاً نتغلب به قبل كل شيء على أنفسنا، على عاداتنا.
إن التاريخ، تاريخ أمتنا، ما هو بالشيء الذي يفرض ذاته، إنه يكتسب معالمه وصفاته كلما وعيناه وعرفناه. وتاريخ الأمة اكتشاف وبناء، ويكون حياً بمقدار حياته في النفوس.
ومن هنا كان الواجب الأول والأخير على الجيل العربي الحاضر أن يعي المرحلة التاريخية التي يجتازها وأن يدرك صفاتها وألا يحجبه انسياقه في غمرتها عن تبيّن مقوماتها ومتطلباتها الحقيقية. وعند ذلك وحده تتحقق له السعادة الحقة، سعادة الوعي، سعادة الإدراك الحر، سعادة النضال المتجاوز لذاته دوماً، المتسائل عن قيمته بلا انقطاع.
إن محاولة تجاوز الذات محاولة شاقة لا تقوى عليها إلا الأجيال الفذة. ومحاولة تجاوز العربي لعاداته التي عاشت في أعماقه وتقاليده ومنشآته فترة طويلة من الزمن هي البطولة الحقة، وهي النداء الذي ينبغي أن يغري النفوس الكبيرة في رحلتنا العربية الكبرى.