العربي الإنسان

الآداب – العدد الثاني – شباط /فبراير/ 1958
العَرَبيّ الإنسَان
بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم
كلما وعت الفكرة العربية القومية ذاتها أدركت عمق منازعها الإنسانية في الوقت نفسه، واستبان لها مضمونها الإيجابي.
ونحن إذا تركنا جانباً ماضي الأمة العربية الذي اتحدت خلال سطور تاريخه سورة النزعة القومية مع صفاء النزعة الإنسانية وخيرها، وجدنا في واقع هذه الأمة العربية اليوم ما يحدثنا أفصح الحديث عن الأهداف الإنسانية العميقة للنزعة القومية العربية.
ويتجلى هذا الغرض واضحاً جلياً إذا أطل أبناء العرب الإطلالة الواجبة على دنيا العرب كلها، أي إذا خرجت الفكرة العربية من قوقعتها الضيقة التي أقامت فيها حتى الآن، قوقعة البلدان العربية التي نالت بعض الحظ من التقدم. ومن طبائع الأمور أن تصبح الفكرة أوعى لذاتها إذا نظرت سائر وجودها، وأن تظل مقصرة عن مداها ما دامت تطل على جانب من موضوعها دون جانب.
ففي دنيا العرب عوالم ما تزال مجهولة إلى حد كبير من العرب أنفسهم. وما تزال البلدان العربية المتقدمة في معزل عن البلدان العربية المتخلفة. وهذه البلدان العربية المتخلفة تحدثنا أبين حديث عن المعنى الإيجابي الإنساني الذي تحمله الفكرة العربية الصحيحة. فهناك في أقاصي الجزيرة العربية، في الخليج العربي، تثوي إمارات صغيرة، فيها عبق العروبة الأصيل، وإن يكن هذا العبق مطموساً إلى حد كبير بسوء الأوضاع وفساد البيئة الاجتماعية. في هذه البلدان العربية النائية المعزولة، تجد العربي في صفائه وإيمانه وشممه، وتجد التوثب العربي والعزة العربية. غير أنك تلمس في الوقت نفسه بؤساً ما بعده بؤس، وتلمس جموعاً إنسانية حرمت نعمة الحياة، وأقامت تلتحف الشقاء وتجترع الموت البطيء.
وأنت حين ترى هذين الواقعين، واقع التوثب العربي وواقع الفقر والبؤس، تخرج بنتيجتين:
أولاهما أن الذي يستطيع أن يقضي على فساد الأوضاع هناك هو هذا الشعور العربي الصادق. فهذا الشعور الذي يحمله كثير من أبناء هذه المناطق، والذي تجده حاداً صارخاً عند بعض القادة الواعين، هو الذي يثور دوماً ضد الفساد ويدعو إلى القضاء عليه. وأنت تدرك إدراكاً بيناً أن عمق الشعور بالفساد وبسوء الأوضاع ووطأة الفقر يتناسب تناسباً طردياً واضحاً مع عمق الشعور العربي.
وكلما كانت الفكرة العربية أوضح لدى الذي تعرف، كأن تحسسه بآلام أبناء شعبه وبؤسهم أنبل وأصدق. ومن هنا تدرك إدراكاً عميقاً أن المنقذ الأول لهذه الجموع البشرية البائسة هو يقظة الشعور العربي، ولا سيما في أوساط القيادة. ومن هنا تلمس بالتالي كيف تكون الفكرة القومية العربية سلماً طبيعياً للفكرة الإنسانية، وكيف ترقى من الشعور العربي إلى الشعور الإنساني عن طريق تدرج حي.
بل أنت تدرك من وراء هذا كله المعنى الحي للفكرة القومية العربية. فهذه الفكرة ليست كما يريد أن يصورها بعضهم بناء نظرياً مصطنعاً أو تركيباً عقلياً مقصوداً. إنها من حياة الشعب العربي وفي حياته. فواقع الشعب العربي، واقعه البائس، يبعث الفكرة القومية لا محالة. والفكرة القومية بدورها هي الوسيلة الوحيدة للقضاء على هذا الواقع البائس. وتكاد لا تلقى متحسساً بفقر شعبه وبؤسه إلا وتلقى وراء هذا التحسس، وبسببه ومن أجله، تحسساً بالعروبة والفكرة القومية. ولهذا أخذنا نلمس في البلدان العربية تقارباً طبيعياً بين الذين بدأوا من رؤية البؤس والفقر وظنوا أن القضاء عليه يمكن أن يكون عن غير طريق الفكرة القومية، وبين الذين بدأوا من شعور عربي قومي خلو من المضمون الإيجابي في كثير من الأحيان. فرؤية البؤس والثورة على البؤس قادتا الفريق الأول إلى جذوره ومنابعه وقوَّتا لديه الأحاسيس العربية، فإذا به يدرك أن الفكرة القومية هي الوسيلة الوحيدة للقضاء عليه. والشعور العربي العاطفي الخالص، ما لبث حتى قاد الفريق الثاني إلى محتواه الحقيقي وتكملته الطبيعية، إلى تحميله معنى النضال ضد الأوضاع الاجتماعية الفاسدة.
ويقين أن وعي الواقع العربي من قبل أبنائه لابد أن يقود يوماً بعد يوم إلى عمق الإيمان بالوحدة التامة بين الفكرة العربية والعدالة الاجتماعية، بين القومية والإنسانية. وهل ادعى إلى اهتزاز عروق العروبة وأعصابها من أن ترى بأم عينك طفلاً في قرية نائية من قرى «قطر» العربية، يقرأ أمامك العربية ويحفظ كتابها الأكبر ويردد من أحاديث رسولها، ويكتب حروفها لا يسعفه في ذلك كله إلا جسم هزيل بائس، وفم جائع، وعينان أضواهما الرمد؟ هل ادعى إلى استيقاظ القومية والإنسانية في نفسك في آن واحد ودفعة واحدة، من أن تشهد من خلال هذا العربي المعدم نور العلم وبريقه يتفتح لينقذه وليرده إنساناً سوياً؟
أجل، إنك لتدرك إدراكاً حياً حاراً أن مثل هذا الفتى لن ينقذه إلا عربي شعر بوشائج القربى معه واهتز للغة العرب تخرج من فمه المتعب، وأدرك أن وراء هذه الأسمال البالية والجسد الضنك روحاً وثابة قد تحمل معها عبقرية «عمر» أو بطولة «عبد الناصر». ولن يراودك الشعور في لحظة من اللحظات أن إنقاذ مثل هذا الفتى والتحسس بآلامه قد يأتيان على يد غريب عن العروبة، مهما تكن مشاعره الإنسانية عريقة سامية. أرأيت إلى ذلك الابن الضعيف الذي تحمله أمه وتزيد في عنايته لضعفه ولما يشكو من عاهات؟ قد تراه غير أمه فترى أنه غير جدير بالحياة، وقد تتمنى موته. أما أمه فعنايتها به بسبب ضعفه، وأملها فيه أقوى، لأنها تريد أن تنقذه من ضعفه. وكثيراً ما تتخيل في رأسه الهزيل بطلاً أو عالماً. كذلك أبناء العروبة: إن هزيلهم يزيد في حماسة العربي لإنقاذه، وقد يراه الغريب عن العروبة غير جدير بالحياة، وقد يرى من الإنسانية تخليص الإنسانية منه. إن الشعور الإنساني جزء لا يتجزأ من الشعور القومي. والإنسانية إن لم تغتذ بالفكرة القومية التي تهب لها مضمونها، ضلت ذاتها، وانجرفت إلى نقيض الإنسانية، واتخذت من إنسانيتها ذريعة تبيح لها القيام بأعمال غير إنسانية، وادعت أن في وسعها تحقيق الإنسانية ولكن على أنقاض الإنسانية وأشلائها. أفلا يزعم بعض من يدعي الإنسانية في فرنسا أن تقتيل شعب الجزائر يستهدف أنبل غاية إنسانية، ألا وهي نقل الحضارة الغربية إلى تلك البلاد؟ ألم يقل قائلهم منذ الأيام الأولى من احتلال الجزائر أن هدف مقامهم هناك تحضير شعب الجزائر ونقل المدنية إليه، وإن أقصر طريق لتحقيق هذه الغاية هي أنبل طريق وأشرفها! وما دامت أقصر طريق هي الحرب والقتل ومقاومة أبناء البلاد الذين لا يفقهون خيرهم، فلتكن الحرب وليكن الدمار! أفلا يدعي أكابرهم اليوم أن الهدف من استخدام القوة في الجزائر هو الوصول إلى السلم والسلام؟
أما النتيجة الثانية التي يخرج منها المتأمل لواقع الشعب العربي في هذه البلدان المتخلفة خاصة فهي أن الفكرة القومية العربية لا يمكن أن تكون صادقة مع نفسها إن ظلت في نطاق البلدان العربية التي نالت بعض الحظ من التقدم. فالفكرة العربية الحقة إما أن تكون شاملة وإما ألا تكون. وعمق الشعور العربي، كعمق عاطفة الأم، يتجلى في الاهتمام بالمتخلف قبل المتقدم، وبالهزيل قبل القوي، ولا نتجنى على الفكرة القومية العربية إن قلنا إنها ما تزال غالباً تبحث الأمور على الصعيد المحلي ولا على الصعيد العربي الواسع. وهي رغم محاربتها للنضال الإقليمي، ما زال منجرة إليه. وقد يكون لها بعض العذر في ذلك، إذ ما تزال في حاجة إلى العمل التدريجي. غير أننا نعتقد أن ليس لها العذر كله، وأنها لا تقوم بما يمكن أن تقوم به تجاه سائر البلدان العربية، ولا سيما البلدان العربية النائية المتخلفة.
إن هذه البلدان العربية النائية تحن إلى أخبار العروبة حنين الأرض الجدبة لماء السماء، وإن قليلاً من اهتمام البلدان العربية الأخرى بها، وعلى رأسها البلدان العربية المتحررة، ليبعث فيها حياة جديدة وقوة جديدة. وغني عن البيان أن هذه البلدان العربية المتخلفة لا تستطيع أن تنهض من كبوتها وتتلخص من عقال بؤسها وتنال حريتها إلا إذا نهضت بها البلدان العربية التي سبقتها في ميدان التطور. ولا يجوز في حال من الأحوال أن تظل صلة البلدان العربية الأخرى بهذه البلدان المختلفة مقصورة على نزوح بعض الأفراد القلائل الذين يأتون للارتزاق غالباً بل كثيراً ما يراودهم الاستثمار والاستغلال. ولابد أن تكون هذه الصلة صلة واعية مدروسة، تقدم فيها البلدان العربية الناهضة وسائل التقدم والنهوض لهذه البلدان العطشى.
وبعد، لقد ظهرت رسالة الإسلام في واد غير ذي زرع، في قلب صحراء كانت تعاني من التخلف والبؤس ما تعاني. واختار الإسلام لرسالته أولئك العرب الأعزة في أطمارهم البالية. ذلك أن رسالة الإسلام الإنسانية، كان لابد لحملها من مثل هؤلاء القوم الذين ينزعون بحكم وجودهم البائس إلى أسمى المثل والمعاني الإنسانية، كما ينزعون بفطرتهم إلى العزة والشمم، وليس من قبيل الصدفة أن يخاطب عمر بن الخطاب من يخلفه قائلاً: «وأوصيك بالعرب خيراً فإنها مادة الإسلام.. » فمادة الإسلام قائمة في قلوب أولئك القوم الذين كانوا «خير أمة أخرجت للناس»، والذين نراهم، بحكم ذلك الازدواج القائم في حياتهم، نعني إباء العربي وبؤسه، يمزجون بين أعمق معاني القومية وأنبل مشاعر الإنسانية. وهذا الازدواج تقرأه في أعمق صورة اليوم في البلدان العربية المتخلفة التي نتحدث عنها. فنحن ما نزال نرى الروح العربية الكريمة عزيزة قوية لدى أناس لا يملكون من النعم إلا ذماءها ولا يعرفون من طراوة العيش إلا قسوته، ما نزال نقرأ لدى هؤلاء الشعوب المعاني التي عبر عنها مثل المتنبي حين قال:
وإنا لمن قوم كأن نفوسم بها أنف أن تسكن اللحم والعظما
ولن يقدر للفكرة القومية العربية اليوم أن تحمل كامل رسالتها ما لم يتصل الماضي بالحاضر، فتنبت الحياة في الصحراء موطن العروبة الأول، وينطلق مردة البادية يحملون إيمانهم ويحطمون أغلالهم.
الدوحة – قطر – الخليج العربي
عبد الله عبد الدائم