قضية الجزائر.. أبداً «مأساة الجزائر»

الآداب – العدد التاسع – أيلول /سبتمبر/ 1957

قضيَّة الجَزَائِر.. أبَداً
«مَأسَاة الجَزائِر»
بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم

من أبرز أمائر النصر الذي يلقاه نضال الشعب العربي في الجزائر تلك الأزمات الوجدانية والعقلية التي خلقها في نفوس أبناء فرنسا. ذلك أن النضال الحي لا يغزو بقوته وإرادته فحسب، وإنما يغزو فوق هذا وقبل هذا بالقيم العقلية والإنسانية التي يحملها.
أما الأزمات الوجدانية التي خلقها نضال الجزائر في قلوب الفرنسيين وغير الفرنسيين، فالشواهد عليها غدت أكثر من أن تحصى. ولا أدل عليها من تلك المظاهرة التي قام بها أخيراً فريق من كبار رجال الفكر في فرنسا. غير أن إلى جانب هذه الأزمات الوجدانية أزمات من نوع آخر، تحمل طابع العقل والتفكير العلمي قبل الوجدان والمنازع الإنسانية. إنها تنتصر لقضية الجزائر، لا لأنها قضية عدل وحق فحسب، بل لأن العقل يأبى أن يتنبأ لها بغير النصر، ولأن التفكير العلمي يكشف عن أن كل مماراة في أمرها عبث وضلال.
ومن أهم ما ظهر في هذا الاتجاه الأخير، الكتيب الذي كتبه المفكر الفرنسي «ريمون ارون» أستاذ علم الاجتماع بجامعة السوربون، تحت عنوان: «مأساة الجزائر»(1). إن كاتبه يميني النزعة، بل كثيراً ما عبر عن عدائه لأعمال الثوار الجزائريين. ومع ذلك لم يجد عقله سبيلاً إلى إنكار حقيقة لا مرية فيها وهي أن حركة الجزائر حركة لابد لها من النصر، وأن مقاومة هذه الحركة على نحو ما فعلته حكومة «غي موليه» مقاومة عديمة المعنى، فاقدة المدلول. ولهذا نراه يدعو إلى أن يحاكم أبناء جلدته هذه المشكلة محاكمة عقلية صريحة،
لا زيف فيها ولا خداع، وأن يقبلوا فيها الحقيقة المرة، وهي أن الوصول إلى ما ندعوه بالسلم فارغ من أي مضمون. ومن هنا يفضل ألف مرة أن يواجه الفرنسيون الواقع دون ما وجل، فيقبلوا بإرادتهم وعزمهم أن الجزائر بلد مستقل عن فرنسا، ولا سبيل إلى دمجه بالكيان الفرنسي. وهو يريهم، بنور العقل، أن القول السائر «الجزائر هي فرنسا» قول لا يستقيم أمام البحث والمنطق، على ما فيه من حرارة وغذاء للعواطف، وهدهدة للأحلام. وهو يتخذ له شعاراً في هذا كله كلمة أثرت عن «مونتيسكيو»: «على المرء أن يقول الحق ولو على وطنه. إن كل مواطن مجبر على أن يموت في سبيل وطنه. غير أن أي مواطن لا يجبر على أن يكذب من أجل وطنه».
يتألف الكتيب من كلمتين، كتب أولاهما في نيسان عام 1956، وكتب الثانية بعد عام تقريباً (في أيار 1957). ولهذا نراه لا يخلو من إعادة لبعض الأفكار.
أما الكلمة الأولى فهمَّها أن تبين أن فرنسا إذ تحارب في الجزائر تحارب دون ما هدف واضح، وإن الشعارات التي تطلقها شعارات تناقض نفسها بنفسها.
فالكاتب يسائل بادئ الأمر عن مبلغ إخلاص فرنسا لنفسها حين تحاول الإبقاء على «صلات لا تنفصم» مع الجزائر، وحين تريد أن تفرض «وجودها» في الطرف الآخر من البحر الأبيض المتوسط.
وهنا يثير مسألة هامة، مسألة المبادئ التي تزعم فرنسا أنها تود الدفاع عنها حين تدافع عن الجزائر، وما تقوله من أن «وجودها» هناك يحول دون تعسف جبهة التحرير الوطني، ويساعد على إشاعة الحياة الحرة. ويبين أن ثورة أبناء الجزائر على فرنسا كثورة سائر الشعوب المستعمرة في آسيا وأفريقيا على الغربيين، ثورة لا تهدف إلى الحصول على حقوق فردية وعدالة إنسانية، بقدر ما تهدف إلى الخلاص من السيطرة الأجنبية. ولا يعني هذه الشعوب أن تحصل على مؤسسات حرة ونظم عادلة، بمقدار ما يعنيها أن تحكم نفسها بنفسها. وهي إذا خيرت بين النظم الحرة تحت الوصاية الغربية وبين نظم جائرة في دولة قومية مستقلة، فضلت الثانية على الأولى دون أي تردد. ففي الجزائر وفي غير الجزائر، تأتي مسألة النظم الحرة بعد الاستقلال القومي. وهكذا ينعدم المبرر الأول الذي يزعمه الفرنسيون حين يحاولون القضاء على الثورة في الجزائر، مدعين أنهم يفعلون ذلك لأنهم يرون من المشروع أن يفرضوا حضارتهم ومبادئهم الحرة. فالاستقلال كلمة سحرية لا تقاوم لدى الشعوب التي تناضل في سبيل حريتها، وهي «إسمنت الكتل الإسلامية».
وهكذا ينتقل إلى تفنيد المبرر الثاني الذي يصطنع دفاعاً عن الحرب في الجزائر. فكثير من السياسيين والكتاب يبينون ضرورة الاحتفاظ بالجزائر لأسباب اقتصادية: فيذكِّرون بمئات الألوف من العاطلين عن العمل الذين يخلقهم انفصام العلائق بين فرنسا والجزائر. وهنا يقول في صراحة ووضوح إن مثل هذه الحجة حجة كاذبة وخطرة جداً تسيء إلى القضية التي يدعي أنصار هذا الرأي خدمتها. ذلك أن من غير الجائز أن نقول أن شعباً من الشعوب يقاتل في سبيل الاحتفاظ بمنصرفات لعمل أبنائه. صحيح أن استقلال الجزائر، بعد استقلال تونس ومراكش، قد يؤدي إلى ركود اقتصادي. وصحيح أن بعض الصناعات، ولا سيما صناعات النسيج، قد تصاب بأذى. غير أن من الصحيح أيضاً أن فرنسا توظف حوالي ثلاثماية مليار فرنك من أموالها في الجزائر، وأن الأسواق المحمية تجلب الكسل وتجر أخيراً نفقات تفوق الأرباح. على أن ثمة أمراً فوق هذا كله: وهو الاقتصاد الذي يعجز عن أن يحيا ويقوم بنفسه دون ما «صيد غريب»، اقتصاد ضعيف ينبغي أن يعالج في ذاته. وإذا كان الاقتصاد الفرنسي لا يصل إلى التغلب على الصعاب التي يخلقها استقلال شمالي أفريقيا، فمعنى ذلك أن علينا أن نتهم هذا الاقتصاد نفسه لا استقلال الجزائر الذي يؤدي إليه. إن هولاندا قد عرفت أن تتغلب على نتائج استقلال أندونيسيا، رغم أن شأن هذا البلد في اقتصادها يفوق شأن أفريقيا في اقتصاد فرنسا.
أفيقال بعد هذا أن إعادة فرنسيي الجزائر إلى فرنسا سوف يكلف نفقات ضخمة؟ أم يقال أن العامل الفرنسي سوف يضطر إلى البطالة يوماً في كل أسبوع إذا فقدت فرنسا الجزائر؟ يكفي لدحض هذا كله أن نذكر أن حرب الجزائر تكلف فرنسا كل عام من 200 إلى 300 مليار فرنك. وإذا ما ربحت فرنسا الجزائر كلها جدلاً، اضطرت إلى توظيف مثل هذا المقدار من المال في كل عام. وهذه الأموال لو وظفت في فرنسا بدلاً من الجزائر لدرت على الفرنسيين أرباحاً أكبر تشملهم جميعاً بدلاً من أن تشمل طبقة محدودة من أصحاب رؤوس الأموال المقيمين في الجزائر.
غير أن هذه الأمور كلها أمور تمس الغد. وأهم منها أن نتحدث عن يومنا. إننا اليوم في حرب مع الجزائر. فلنسائل ما معنى أن نربح الحرب في الجزائر؟ إن حكومة «غي موليه» الاشتراكية تلخص سياستها الرسمية هناك في كلمات موجزات: عمل حربي لخلق الشروط اللازمة لانتخابات حرة، ثم مفاوضة مع النواب الذين ينتخبهم شعب الجزائر حول الوضع المقبل لهذا البلد. ومثل هذه السياسة معروضة لاعتراضين أساسيين: فمن حقنا أن نتساءل: هل من الممكن أن نعيد النظام إلى الجزائر على نحو تغدو فيه الانتخابات الحرة ممكنة؟ فالحرب لا تبقي بعدها مجالاً للحرية. ومن حقنا بعد ذلك أن نتساءل: إذا طلب نواب الجزائر الاستقلال التام والناجز فهل نحن على استعداد لأن نمنحهم إياه، أم أن المفاوضة ستدور فقط على الشكل الذي يتخذه الوضع في الجزائر ضمن الجمهورية الفرنسية أو الاتحاد الفرنسي؟
ولكن لنذهب إلى أبعد من هذا. إذا لم تنجح فرنسا في القضاء على الثورة في الجزائر بعد بضعة أشهر – وسائر القرائن تدل على أنها لن تقوى على ذلك – فماذا يحدث في فرنسا؟ وكم من الزمن يستطيع الرأي العام الفرنسي أن يدعم الجهود الحربية هناك، أليس من المتوقع أن يصبح الخلاف بين الفرنسيين الذين يقاومون مبدأ التفاهم مع الثوار وبين أولئك الذين ينتصرون لهذا المبدأ، من الحدة والقوة بحيث يصبح من المستحيل تأليف حكومة شرعية في فرنسا؟ ثم إن تونس ومراكش حصلتا على الاستقلال والجزائر بدورها لابد أن تعي ذاتها. ولا يمكن بحال من الأحوال أن تغدو جزءاً من فرنسا. ولا مناص من تكوين وحدة سياسية جزائرية. أما دمجها بفرنسا، مهما يكن معنى هذا الدمج، فأمر لا يمكن تطبيقه عملياً. ويكفي لذلك أن ندرك أن تمثيل أبناء الجزائر في مجلس النواب الفرنسي تمثيلاً يتناسب مع عددهم هو خير وسيلة لتهديم نظام الحكم في فرنسا. فتكاثر السكان مختلف جداً بين فرنسا والجزائر، وهذا الاختلاف وحده كاف لأن يجعل من المستحيل على هذين الشعبين المنتسبين إلى عرقين مختلفين ودينين مختلفين، أن يكونا مجتمعاً واحداً.
ثم إن اعتراف الاشتراكيين وحكومتهم بالشخصية الجزائرية على حد تعبيرهم، هو في أعماقه اعتراف بأن حكومة جزائرية لابد أن تتشكل في الغد. وإذا شكلت حكومة جزائرية في الغد، فلابد أن تصبح مستقلة عاجلاً أم آجلاً. فللسياسة منطقها: والحماية تجلب الاستقلال، لأن الدولة الحامية لا يمكن أن تقوي الدولة المحمية دون أن تمنحها شيئاً بعد شيء مقومات الاستقلال وأسبابه. وهكذا حين يرفض حزب مبدأ الدمج التام (كما يفعل الاشتراكيون إذ يعترفون بالشخصية الجزائرية) فهو يطلق لا محالة الحركة الأولى من عمل لابد أن ينتهي بالاستقلال. ومن الخلف المنطقي أن نعترف بأن الجزائر سوف تغدو في الغد دولة، دون أن نعترف بأنها لابد صائرة في الغد أو بعده دولة مستقلة.
ففيم يقاتل الفرنسيون إذن إذا كانت النتيجة المحتومة للقتال، سواء ظفروا أو هزموا، نتيجة واحدة، ألا وهي استقلال الجزائر أخيراً؟
قد يقال إن الفرنسيين إذ يرسلون أربعمائة ألف جندي إلى الجزائر، يبغون هدفاً بسيطاً ألا وهو عدم التخلي عن الفرنسيين المقيمين هناك منذ سنوات طويلة. وقد يقال أيضاً إن الفرنسيين لا يشرفهم أن يضحوا بأصدقائهم المسلمين هناك وأن يدعوهم فريسة لأقلية عنيفة (في رأيهم). ولكن معنى هذا أن هدف الحرب في الجزائر ينبغي أن يرسم بكلمات أبين فيقال: إن فرنسا تحارب هناك لتجعل الجزائر تصل إلى الاستقلال دون أن يكون في ذلك مساس بكرامة فرنسا، ولتخرج هناك بحكومة أكثر اعتدالاً من ثوار الجزائر وأقرب إلى الغرب. فهلا صرح المسؤولون بمثل ذلك؟ لعل في بيان الهدف على هذا النحو تيسيراً للوصول إلى حل مقبول ولإعادة النظام. فإذ ذاك تعمل الحكومة الفرنسية على بينة من الأمر وتتخذ الخطوات العملية المؤدية إلى هذا الغرض، وعلى رأسها التعويض عن الفرنسيين الذين سوف يغادرون الجمهورية الجزائرية..
ويختم الكاتب كلمته الأولى هذه، ملخصاً وجهة نظره، فيقول:
«مبلغ ظني أننا نخفف كثيراً من محنة الفرنسيين إذا لم نزيف لهم الحقائق. ففرنسا لا يمكن أن تحارب لتحول نهائياً دون استقلال الجزائر. إنها تحارب لتمنح هذا الاستقلال وفق أسلوب معين ولزعماء دون آخرين. وإذا كان الفرنسيون يتأبون على هذه اللغة ولا يقرون أن يحاربوا إلا للإبقاء على سيطرتهم وحكمهم هناك (وهذا ما لا أعتقده) فخير لنا إذ ذاك أن نتبنى حلاً بطولياً هو التخلي عن الجزائر وإعادة الفرنسيين المقيمين هناك إلى بلادهم، من أن نتبنى حرباً نسوقها عن غير إرادة منا ودون عزم ومن غير أمل في النجاح».
وفي الكلمة الثانية التي كتبها بعد عام، يعاود الكاتب أفكاره السابقة، مع وقفة خاصة مفصلة عند بعضها. فلقد كشف العام الذي انقضى بين تحرير كلمته الأولى وبين كلمته الثانية عن كثير من الحقائق التي صدقت حدسه ونبوءته. فالسياسة التي تتبعها الحكومة والتي تدعى بسياسة تحقيق الهدوء والسلم أثبتت فشلها، واستبان للجميع أنها زادت في تعقيد الأمور، وعملت على إبعاد الشقة بين الفريقين المختصمين. لقد انقطعت الصلة خلالها بين السيد «لاكوست» الوزير المقيم في الجزائر وبين صفوة الجزائريين. وانضم على جيش التحرير أكثر العلماء والبورجوازيين والطلاب والمفكرين وسائر من كانت تعقد عليهم الآمال في الوصول إلى تسوية معقولة.
ولهذا آن الأوان في نظر الكاتب، لتخلية مؤامرة الجبن، للكلام عالياً وقول الحق صراحاً، مهما يكن مراً، ودون ما مداعبة للعواطف، مهما تكن مشروعة.
ومن هنا نراه يصوغ أفكاره التي عرضها في كلمته السابقة صياغة جديدة، فيجنح إلى التساؤل عما ترغب فيه فرنسا بدلاً من التساؤل عما يمكنها أن تفعله. وأول ما يثيره بهذا الصدد القول السائر: «الجزائر فرنسية».. فيصيح في حماسة وحنق: «أنتم يا من تلقون بهذا التعبير المؤثر في حمى العزة القومية، انظروا أولاً إلى الواقع، وتدارسوا الأرقام، قبل أن تحلموا في الثروات الدفينة في الصحارى المحرقة».
وما عسانا واجدين إن نحن درسنا الأرقام واستقرأنا الواقع؟ إن أول حقيقة نجدها هي أن شعب فرنسا وشعب الجزائر لا ينتسبان إلى نموذج سكاني (ديموغرافي) واحد، ولا يخضعان لمستوى اقتصادي واحد.
ومعنى هذا أن دمج هذين الشعبين المتباينين تبايناً جذرياً يصطدم بعقبات لا يمكن تذليلها: ذلك أن القوانين (الاقتصادية والاجتماعية) التي تلائم أحدهما لا يمكن أن تلائم الآخر:
فنسبة الوفيات لدى عرب الجزائر تبلغ 15%، ونسبة الولادات تبلغ 43% وتقدر الإحصاءات تزايد عرب الجزائر بـ 3373000 بين عام 1960 وعام 1970،
وبـ 4527000 بين عام 1970 وعام 1980. وفي هذا التاريخ تبلغ عدة الشعب العربي في الجزائر حوالي 18 مليون نسمة.
ومثل هذا التزايد السريع يخلق شعباً فتياً من طراز خاص: فيه 55% فقط يتجاوزون الستين مقابل 11.6% لدى غير العرب المقيمين في الجزائر و16.4% لدى الفرنسيين المقيمين في فرنسا. أما عدد الرجال القادرين على العمل فقد انتقل من 2048000 عام 1948 إلى 236500 عام 1955. ومن أجل هذا نجد زهاء 800000 شاب عاطلين عن العمل. ولابد من خلق 67000 عمل جديد في السنة حتى عام 1960، و98000 عمل بين عام 1965، 1970، و127000 عمل جديد بين عام 1970، و127000 عمل جديد بين عام 1975 – وعام 1980.
ومعنى هذا مرة أخرى أن الأوروبيين المقيمين في الجزائر لابد أن يُكتسحوا عددياً من قبل السكان العرب. إن عدة هؤلاء الأوروبيين اليوم حوالي 1.04 مليوناً مقابل 9 ملايين عربي. وفي عام 1980 لن يزيد عدد الأوروبيين زيادة تذكر (فلن يتجاوزوا 1.2 مليوناً) بينما يبلغ العرب 18 مليوناً كما ذكرنا.
وتنجم عن هذا نتيجة أخرى هامة. وهي أن سائر ما نسمع به من تصريحات رنانة تتعهد فيها فرنسا برفع مستوى حياة الشعب الجزائري وجعله قريباً من مستوى حياة الفرنسيين، أقوال فارغة من أي معنى ما دامت زيادة السكان قائمة على هذا النحو وما دامت القوانين «المالتوسية» في تحديد النسل لا يمكن أن تطبق في مثل هذا البلد المسلم.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يتجاوزه إلى أبعد من هذا. فخلق وظائف وأعمال جديدة يستلزم تصنيع الجزائر ولكن صناعيي فرنسا لا مصلحة لهم في إقامة مصانعهم في الجزائر، ومصلحتهم تقضي على العكس من هذا بإنشائها في فرنسا: فما ينتج في فرنسا أقل نفقات وكلفة، والحرب الآن قائمة، وليس هنالك أي فرنسي يطمئن إلى توظيف في أرض تخربها الأحقاد والمنازعات.
ولنخط خطوة أيضاً. ما دامت الجزائر خاضعة لسلطان فرنسا، كان لابد أن ننقل إليها نظمنا الفرنسية من مدارس ومستشفيات وتشريعات اجتماعية. ومعنى هذا أننا إذا أردنا أن نحقق العدالة لشعب هذا عديده، وهذا تزايد سكانه، كان ذلك خراباً لفرنسا دون أن يكون فيه إنقاذ للجزائر.
وجملة القول أن الجزائر ليست جزءاً من فرنسا، ولا ينبغي أن تكون، ولا يمكن أن تكون جزءاً منها. فتزايد السكان فيها وفقرها يجعلان منها بلداً متخلفاً. وليس من المعقول أن تطبق فيها فرنسا نظاماً مختلفاً تماماً عن بقية المحافظات الفرنسية إذا أصرت على كونها فرنسية. وهكذا يصبح الاعتراف «بالقومية الجزائرية» ضرورة تفرضها الحقائق السكانية (الديموغرافية) والاقتصادية كما تفرضها مطالب شعب الجزائر وأعمال الثوار.
بل إن هنالك حقائق أخرى تجعل استقلال الجزائر أمراً مرغوباً فيه.
فدخول العمال الجزائريين لفرنسا دخولاً حراً يطرح منذ الآن مشكلة خطيرة. لقد ازداد عدد هؤلاء العمال من 60000 عام 1945 إلى 330000 عام 1956. صحيح أن الصناعة الفرنسية في حاجة إليهم. ولكن البون الشاسع الذي سيقوم دوماً بين مستوى حياة النازحين إلى فرنسا ومستوى حياة القاعدين في الجزائر جدير بأن يؤدي إلى هجرة جزائرية واسعة من شأنها أن تخلق البطالة وغيرها من المشكلات الاجتماعية.
بل إن تطبيق سياسة الهضم والدمج في الجزائر نفسها قد أدى إلى نتائج شنيعة. فنقل نظام التعليم الفرنسي للجزائر، من ابتدائي وثانوي، عمل يعج بالخلف المنطقي. فهو يؤخر سن دخول الأطفال للمدارس ويقلل من عدد الأطفال الذين يتمون تعليمهم الثانوي. ومن الأسهل دون شك أن نعلم الجزائريين القراءة بالعربية بدلاً من الفرنسية. ومن الجور الفاضح أن نطلب إليهم، عندما يبلغون الحادية عشرة أو الثانية عشرة من العمر، أن يتقدموا لمسابقة دخول الصف السادس على قدم المساواة مع الفرنسيين، رغم ما قد يتبدى فيه مثل هذا العمل من ظاهر العدالة.
وجملة هذا، أن الجزائر ينبغي أن تخضع لنظام غير النظام الفرنسي، سواء في الأعمال الكبرى أو في التعليم أو في التشريع الاجتماعي. وهكذا نجد من جديد أن الأرقام والوقائع هي التي تضطرنا إلى الاعتراف بالقومية الجزائرية، لا الثورة الجزائرية وحدها.
وينتقل «آرون» إلى تفنيد حجج الذين يخاصمون مثل هذه الأفكار، فيقول إن حجج هذا الفريق تتلخص عادة في جوابين متناقضين. فبعضهم يقول إنك تريد بهذا أن تخرب الاقتصاد الفرنسي. وبعضهم الآخر ينادي أنك بهذا تدع الجزائريين فريسة للبؤس. أما الفريق الأول فيزعم أن العامل الفرنسي يشتغل يوماً من تسعة أيام من أجل الجزائر وأن 20% من صادرات فرنسا تذهب إلى أفريقيا الشمالية (307 مليارات فرنك، 172 منها للجزائر) وأن الصناعة القطنية خاصة تفقد ربع أسواقها الخارجية، وأن صناعة السيارات تفقد 43% من صادراتها الخ..
ومثل هذه الحجج في نظر الكاتب فاقدة المعنى. فالجزائر حين تستقل تظل في حاجة إلى أن تشتري وتبيع، ومن الأسهل عليها دوماً أن تبقي على تعاملها مع فرنسا.
ثم إن من الضلال بمكان أن نعتبر مصدراً للثروة الفرنسية مقاطعة يتضاعف عدد سكانها خلال ثلاثين عاماً وتصرف فيها فرنسا سنوياً رؤوس أموال يمكن أن يكون مردودها في فرنسا نفسها مردوداً أكبر.
وهنا يجيب الفريق الثاني: إذا كان شعب الجزائر سيتضاعف عدده خلال ثلاثين عاماً، فأي بؤس سوف يتردى فيه إن نحن تركناه وشأنه؟ فيجيب الكاتب بأنه قد لا يكون من الإنسانية أن نتخلى عن الجزائر وندعها لمصيرها، ولكن إنقاذ الجزائريين من الفقر عن طريق إرسال جيش مؤلف من 400000 جندي يبدو له أبعد عن الإنسانية دون شك.
وبعد، أي تناقض بين القول بأن الجزائر مصدر ثروة لفرنسا وبين القول بأن فرنسا تود إنقاذها من البؤس؟ إن الكاتب يطلب بقوة من أؤلئك الذين يفاخرون بخدمات فرنسا للجزائر ويقررون في الوقت نفسه أن الجزائر صفقة رابحة، أن يختاروا أحد هذين القولين المتناقضين.
وهكذا ينتقل الكاتب إلى التساؤل عن الحلول التي ينبغي أن تقدم لمشكلة الجزائر ويرى أن المقترحات في هذا المجال لا تعدو أربعة:
الأول متابعة سياسة «لاكوست» التي تدعى بسياسة تحقيق الهدوء والسلام.
الثاني تغيير وسائل هذه السياسة لا غاياتها.
الثالث تقسيم الجزائر.
الرابع القبول مبدئياً بالدولة الجزائرية.
أما الحل الأول فما من أحد يشارك اليوم المقيم العام في إمكان نجاحه، حتى من بطانته. وعلى أي حال يقدر بعضهم فترة الحرب اللازمة لتحقيق السلم بما لا يقل عن سنتين أو ثلاث. فإذا قبلنا جدلاً هذا التقدير المفرط في التفاؤل والذي لا تؤيده الوقائع، فماذا عسانا واجدون؟ هب أن فرنسا تستطيع أن تنفق كل عام 300 مليار فرنك على حرب الجزائر. ولكن كم في هذا من مخاطر! فقد ينقلب الحكم، وقد يضغط الرأي العام الفرنسي على الحكومات، ويضغط عليها الرأي العام العالمي، فإذا بها تتخلى عن الجزائر ويكون التراجع شائناً.
ثم إن إرادة فرنسا ليست وحدها التي تلعب دوراً في هذا الموضوع. فمن يدرينا ماذا يحدث خلال ثلاث سنوات في مراكش وتونس؟ إن استمرار الحرب في الجزائر لابد أن يشجع العناصر المتطرفة هناك ويقلب فوق مراكش وتونس من فرنسا رأساً على عقب ويبعد عن الساحة العناصر التي ترغب في التعاون معها. وهب جدلاً أن مراكش وتونس لم تتدخلا في المعركة فعلاً. إنهما على أية حال ستظلان قواعد مغذية للمقاتلين الجزائريين، كما كانت الصين قاعدة لفييتنام الشمالية وإن ننس لا ننس أن أفريقيا الشمالية، شئنا أم أبينا، تؤلف وحدة لا تتجزأ. ولا يمكن أن نتبنى في الجزائر سياسة مباينة للسياسة التي تتبنى في تونس أو مراكش.
أما الحل الثاني، نعني تغيير الوسائل دون تغيير الأهداف فصعوباته أكبر أيضاً. فالقيام بإصلاحات معدودة في الجزائر وتقديم مساعدات لبعض العرب الناقمين على جبهة التحرير، لن تجدي في هذا المجال. فالعرب الناقمون، إن كان هناك قلة منهم، لا يمكن إلا أن تأخذهم العزة القومية ويتعاونوا مع أبناء جلدتهم. وفي حركات الثورة القومية، الوزن الحقيقي للأقليات الفعالة النشيطة على أية حال.
أما الحل الثالث، نعني تقسيم الجزائر فأسق مطلباً. إنه يرى أن يجمع أكثر الفرنسيين في المنطقة الشاطئية من مدينة الجزائر إلى وهران، ويؤلفوا جمهورية فرنسية يسمح للعرب بالحياة فيها على ألا يتجاوزوا نسبة معينة. وأما باقي البلاد فتؤلف جمهورية جزائرية يعيش فيها الفرنسيون على قدم المساواة مع الجزائريين ولكن على شكل غرباء.
ويرى بعض أنصار هذا الحل أن يلحق الجانب الشرقي بتونس والجانب العربي بمراكش، وأن يؤلف المركز، مع رأس منه ممتد في الصحراء، مقاطعات فرنسية.
وواضح ما في مثل هذا الحل من مصاعب. إنه لا يعدو أن نطبق على أفريقيا الشمالية الحل الذي طبق في فلسطين. والسابقة الفلسطينية لا تشجع على إعادة مثل هذه التجزئة. يضاف إلى هذا أن مثل هذا الحل لن يرضي أي فريق من الفريقين المتخاصمين. فلن يرضى عنه فرنسيو الجزائر كما لا يرضى عنه عرب الجزائر.
وهكذا يصبح الحل الرابع هو الحل الوحيد الممكن. إنه يعني القبول مبدئياً بدولة جزائرية، مع الاعتراف بإمكان استقلال هذه الدولة. ومثل هذا الحل لا ينافي المصالح الفرنسية، على نحو ما بيَّن الكاتب، كما أنه قد يساعد على الوصول إلى حل وسط بين العنف المتواصل والتخلي المفاجئ.
ويختم الكاتب كلمته بدعوة صادقة إلى ترك الأهواء والعواطف والاحتكام إلى لغة العقل. فأكثر الحجج التي يذكرها أنصار الحرب في الجزائر تبريرات عقلياً لمواقف عاطفية جموحة. وما يزال الفرنسيون يفتقرون، على حد تعبير «رينان Renan» عام 1870 إلى «الدماغ المفكر لا إلى القلب».
عبد الله عبد الدائم