صراع بين حضارتين

الآداب – العدد الأول – كانون الثاني /يناير/ 1957

صِرَاعٌ بينَ حَضارتين
بقلم الدكتور عبد الله عبد الدائم

في الفترات الحاسمة من حياة الأمم تزول القشرة الظاهرة التي تستر حضارتها وتخفي حقيقتها، فتظهر هذه الحقيقة سافرة عارية وتنضو عنها قناعها وبرقعها المضلِّل.
ويحلو لنا أن نشبه هذه الفترات الحاسمة في حياة الأمة ببعض المواقف في حياة الفرد، حيث تزول الرقابة العقلية المنظمة وتعتزله الاعتبارات الاجتماعية التي يأخذ بها عادة، ويعود إلى طبعه العميق الأصيل، فتتكشف شخصيته على حقيقتها ويقفز من أعماق حياته اللاشعورية كل ما في نفسه من غرائز أولية ودوافع أصيلة لا صنعة فيها ولا حياء.
فالفرد كما نعلم يعيش في أكثر الأحيان حياة ظاهرية كاذبة يرعى فيها ما يفرضه المنطق من سلوك، ويجري مع ما يمليه المجتمع من قيود وحدود. فلا يُظهر من حقيقته إلا رواء ظاهراً هو الرواء الذي يسمح به العقل وتسمح به الرقابة الاجتماعية، أو هو الماء المقطّر الذي يمرّ من مصفاة المجتمع ومصفاة قواعد المجتمع، ومن ورائها العقل الاجتماعي. ولكنه في بعض المناسبات الحاسمة يكشف تلك القشرة الزائفة التي اصطنعها وينضو ذلك الوجه الصقيل الذي أتقن تهذيبه وتثقيفه وتزيينه، فيعود إلى طبيعته الأصلية ويأوي إلى وجوده الغريزي العميق يمتاح منه كل ما يحتوي عليه من عواطف كثيراً ما تكوّن فجّة، ومن منازع غالباً ما تكون وحشية حيوانية. وليس من سرف القول أن نقول مع بعض علماء النفس أن الأنا العميقة للإنسان تشتمل على أكثر الغرائز بدائية ووحشية، بل ليس من سرف القول أن نقول أن هذه الأنا العميقة محمّلة بكل ما خلّفه الأجداد الأقدمون الأوائل من غرائز وحشية بل من ميول حيوانية. غير أننا نحب أن نستدرك فنبين أن هذه الأنا العميقة ليست في نظرنا واحدة عند سائر الأفراد وأنها لا تتجلى على حظ واحد من الوحشية والقسوة والبدائية، بل كثيراً ما تتبدى لدى بعض الأفراد الأفذاذ أكثر عمقاً وأطيب عوداً.
وفي حياة الأمم أيضاً مثل هذا الانقسام بين سلوك ظاهر وجوهر عميق كامن. فيها، في الأيام العادية، تلك الحياة التي ترضيك في ظاهرها، وذلك التأنق الذي يعجبك، وذلك الرواء المصقول الذي يحمل معه ظاهراً من التهذيب والنظام. وفيها بعد ذلك، في الأيام الحاسمة، عود إلى طبعها الأصيل، إلى حقيقتها الصادقة التي لا زيف فيها.
من هذه الأيام الحاسمة في تاريخ الأمم، الأيام التي عشناها في الآونة الأخيرة والتي ما نزال نحيا فيها حتى اليوم. فلا عجب إن رأينا فيها كاشفاً ثميناً لطبائع الأمم المصطرعة
ولا عجب إن قذفت لنا بأشياء مفاجئة عن خصائص بعض الشعوب.
لقد كنا نكذب أنفسنا منذ سنوات حين كنا نخبر حضارة الشعب الفرنسي وحضارة الشعب الإنكليزي، ونتهيب الحكم السريع على هاتين الحضارتين رغم ما شهدنا من حقائق كانت توحي لنا بما يقنعنا من طبيعتهما. لقد كنا منذ الفترة التي عانينا فيها حياة ذينك الشعبين، والشعب الأول من بينهما خاصة، ندرك أننا أمام حضارة زائفة كاذبة وأن ذلك الظاهر من النظام والاحتشام والتهذيب ليس إلا رواء كاذباً وتشكلا سطحياً زائفاً. كنا ندرك مثلاً من خُبرنا ببعض الأفراد هناك كيف غدا كل شيء عندهم محكوماً بالكسب وبالكسب في أبشع صوره بل في أكثرها افتضاحاً. وكثيراً ما استبان لنا أن اللطف الذي نلقاه وحسن المعشر الذي نخطى به والنظام الذي نواجهه ما هي إلا شباك للصيد والاقتناص وزيادة الكسب وليست عناصر أصيلة في حياة تلك الشعوب. بل كثيراً ما ألفينا أن وراء ذلك اللطف الذي يحبسه المجتمع وترسمه تقاليده وتوحي به المصالح والمنافع، فظاظةً تتجلى في كل لحظة لا يتدخل فيها المجتمع ولا تلعب فيها المصالح. وكم شبهنا سلوك كثير من الناس هناك بسلوك سجين قننت له الرقابة الاجتماعية تصرفاته فجعلتها مهزلة في ظاهرها وأخفت ما وراءها من عنف وقسوة ووحشية تتحين الفرص للظهور وتنتظر الإفلات من عين الرقيب لتسفر ضارية عارمة.
وكثيراً ما راودتنا منذ تلك الأيام فكرة كنا نجد بعض الحرج في إظهارها، رغبة منا في الاستزادة من مؤيداتها، وهي أن الأخلاق التي نلقاها لدى تلك الشعوب والتي لا تخلو في ظاهرها من صدق وحفظ لحقوق الآخرين، ليست إلا ثمرة صنعية من ثمرات النظام الاجتماعي. فالنظام الاجتماعي هناك تبدّى لنا السبب في سيطرة بعض المبادئ الخلقية، ورأينا في دولاب الحياة الاجتماعية عندهم ما يحمل إلى النجاح والكسب عن طريق هذه الخصال الخلقية وما يجعل النجاح عسيراً دون تلك الخصال. وهكذا لم نقتنع بوجود خلق أصيل نابع من بنية الأفراد وتكوينهم العميق ووجدنا الخلق نفسه بنياناً اجتماعياً إضافياً يمكننا أن نطلق عليه الوصف الذي يحبونه هناك فنقول عنه إنه نوع من الـ Superstructure.
وفي الوقت نفسه كنا ندرك منذ ذلك الحين الفارق العميق بين الأخلاق التي نشهدها في تلك البلاد وبين الأخلاق في بلادنا. فبينما كنا نرى الأخلاق في تلك البلاد تتردى وتزل في كل لحظة يستطيع فيها الأفراد الفرار من واجبات النظام الخارجي ومتطلبات اللياقة الاجتماعية، كنا نرى الأخلاق في بلادنا تشمخ بأنفها وتظهر أبية عزيزة رغم سوء النظام الخارجي ورغم ضعف النظام الاجتماعي. ومن هنا كنا ندرك أن الأخلاق لدى تلك الشعوب مؤسسة اجتماعية تعيش ما بقيت الخيوط الخارجية التي تمسك بها، وما تلبث حتى تتداعى إذا ما أصاب تلك الخيوط وهن. بينما كنا نرى الأخلاق في بلادنا شيئاً أصيلاً عميقاً في النفوس، ينث الأريحية والتضحية والكرم، رغم سوء النظام الاجتماعي ورغم عوامل الفساد الكثيرة التي رانت على مجتمعنا خلال عصور طويلة فأفسدت ما أفسدت ولم تترك للخلق متنفساً.
كنا نرى ذلك كله، بل كثيراً ما كنا نرى بعض الأمور الأخرى التي نطيل مضغها فيما بيننا وبين أنفسنا. كنا ننظر مثلاً إلى احترام الفرنسي والإنكليزي للنظام والقانون، فنتساءل ماذا يعني ذلك الاحترام تماماً. وكثيراً ما كنا نلقي من أنفسنا جواباً نضمره وهو أن ذلك الحرص على النظام والقانون حرص شكلي آلي أيضاً، وأنه نتيجة حضارة تعقدت وغدت في حاجة إلى آليات تصونها، وخير آلياتها النظام والقانون. بل كثيراً ما كنا نعتقد أن ذلك الحرص الزائد على النظام والقانون يفصح عن نفوس تحجرت ولم يبق لديها من معالم الإنسانية ما يجعلها تصل إلى الحياة عن غير طريق من هذا الضابط الخارجي. كنا نرى أن تلك النفوس افتقدت كل تصرف عفوي وكل خلق باطني يمكن أن يؤديا إلى بقاء الحياة سليمة ولو غاب النظام، ولم تجد لها حامياً غير النظام الخارجي والدرع القانوني. وهل يكون النظام نظاماً حقاً إذا لم يكن صادراً عن نظام نفسي داخلي يوحّد بينه وبين الأخلاق؟
وفي مقابل ذلك كنا نرى أن بعض الفوضى التي نلقاها في بلادنا أعلى قيمة من ذلك النظام المصنوع. فالفوضى عندنا – على إنكارنا لها وعلى كونها وليدة الفساد الاجتماعي بوجه عام – كثيراً ما تخفي وراءها خلقاً وروحاً إنسانية، بل كثيراً ما تكون ثمرة لهما. منذ أيام كنا نتحدث في المذياع عن ذلك الموظف في الترام الذي حاول أن يعفينا من دفع أجرة الركوب لأن المسافة التي نود أن نقطعها قصيرة. وكنا نوجه اللوم والنقد إلى ذلك الموظف ولا نرى من حقه أن يتعدى على القانون ويبيح ركوب الناس بلا أجر إذا كانت المسافات قصيرة. بل كنا نقول إن مثل هذا العمل سرقة للدولة. ومازلنا اليوم عند رأينا. ولكننا – رغم إنكارنا لهذا العمل – نحب أن نكشف عما وراءه، ونجد من التجني أن ننظر إليه نظرة خارجية شكلية صرفة. فوراء هذا العمل فيما نعتقد عاطفة إنسانية نبيلة. إنها عاطفة بدائية دون شك، ولكنها تصدر عن رغبة خلقية في قياس الأمور بمقاييس إنسانية لا بمقاييس قانونية فقط، وعن نزعة إلى تحميل القانون بعض المعنى الإنساني. فلقد شق على ذلك الموظف أن يتكبد الراكب أجرة كاملة من أجل مسافة قصيرة، واعتبر إعفاءه عوناً إنسانياً له. إن في نظرته ضعفاً في التكوين الخلقي العام، ولكن فيها قوة فيما نعتقد من حيث دلالتها الإنسانية. أليست القوانين في الأصل استجابة للحاجات العميقة للناس؟ أليست قيمتها في روحها ومعناها لا في نصها وشكلها؟
واليوم بعد أن وقعت المعركة وجدنا في حوادثها ما يؤيد كل ما ذهبنا إليه. فالمعركة كما قلنا كشفت عن الحضارة الحقيقية للأمم المتصارعة وأظهرت حقائقها سافرة عارية. إنها وكدت من جديد: أن تلك الحضارة الفرنسية والإنكليزية قد انتهت بعد سنوات من الترف ومن التحكم في الناس إلى أن تكون قشرة ظاهرة تخفي وراءها كل معاني التأخر الحضاري. فالحضارة لا تقوم بلا حياة إنسانية أصيلة تقر في نفوس الشعب المنتسب إليها. ومثل هذه الحياة الإنسانية الأصيلة ومثل هذه الدوافع الخلقية النبيلة تتبدى لنا بعد المعركة بعيدة كأشد ما يكون البعيد عن كيان هاتين الحضارتين. وهذا الشيء وحده هو الذي يفسر لنا في نهاية الأمر ما وجدناه لديهما من خرق للمنطق وللشرعة الدولية وللأخلاق الإنسانية. فلقد دعتهما الأزمة إلى التحلل من الأبراد السطحية التي تلبسانها وإلى إظهار الكيان العميق الثاوي وراء تلك الأبراد بما فيه من همجية وهزء بالخلق وانتهاك لحرمة الإنسان.
لقد عجب الكثيرون – ممن خدعوا طويلاً عن حقيقة هذين الشعبين وظنوا خلال سنوات أن في حضارتهما شيئاً إنسانياً عميقاً – عندما رأوا ما رأوا أيام المعركة وعندما قرأوا ما قرأوا بأقلام كثير من كتاب تلك البلاد، وهالهم أن ينقلب ذلك الفكر الناعم في ظاهره، الوديع في محاكماته، المهذب في منطقه وأقيسته، فكراً أهوج لا يعرف للمنطق حرية ولا يقيم للمحاكمات والأقيسة وزناً. وحاروا كيف يفسرون هذا الانقلاب العميق فيما حسبوا. وتفسيره عندنا يسير هين وهو أن ما عرفوه من حضارة ذينك الشعبين زائف في أصله، وأنهم لم يلمسوا في تجربتهم معهما سوى الظاهر الخداع والبهرج المزيف.
والمعركة، إذ صدّقت ما نعتقد به حول حقيقة هذين الشعبين، صدقت في الوقت نفسه عقيدتنا العميقة حول حقيقة شعبنا العربي. فهي قد أتاحت أيضاً للشيء العميق في نفوسنا أن يظهر، وكشفت عن الجوهر الكامن وراء قشرتنا الاجتماعية الفاسدة. فلقد وكدت من جديد تلك الحقيقة التي طالما آمنا بها وهي أن العنصر الإنساني العميق ثاوٍ في نفس العربي ولا يحول بينه وبين الانطلاق سوى سجن أوضاعه الخارجية. ولقد قدمت الدليل القاطع على أن هذا الركود الذي يتبدى عندنا في أيامنا العادية محمَّل بثورة إنسانية عميقة تلمع فيها التضحية والأريحية والشمم.
فالمتأمل لمصر العربية أيام المعركة والمشاهد لبطولات بور سعيد والمتلمس لروح الكرامة العربية التي انطلقت في كل قطر عربي غدا يفهم اليوم فهماً لا مرية فيه معنى الروح الإنسانية العميقة الأصيلة في نفس الشعب العربي، وما تحمله من قوى تتفجر سخية ثرّة في المناسبات الحيوية. على أن الأيام الأخيرة التي عاشها الشعب العربي الحديث ليست في الواقع الدليل الوحيد الذي أثبت هذه الحقيقة. فلقد مرت بهذا الشعب منذ قرون محن كثيرة مع الاستعمار كان يتبدى فيها دوماً، بين الحين والحين، قوياً في إنسانيته، شديداً في حرصه على حريته، صادقاً في تضحيته في سبيل أقرانه وفي سبيل أحفاده. إن الثورة المصرية أيام سعد زغلول ومصطفى كامل ليست عنا ببعيدة. والثورة السورية تطل علينا من الأمس القريب. ومثلها الثورات الكثيرة والحركات العديدة التي ظهرت وما تزال تظهر على أرض العرب. وهل بعد ثورة المغرب العربي، وعلى رأسه الجزائر العربية، من حاجة إلى إثبات بطولة شعب يتحد لديه تعشق الحرية بأسمى معاني الإنسانية والخلق الإنساني.
سوى أن المعركة الأخيرة، لما اتصفت به من أوصاف خاصة نادرة، كانت دليلاً حاسماً قاطعاً على أصالة هذه الروح العربية الإنسانية. لقد حلقت في سماء مصر وفي سماء البلاد العربية الأخرى روح الكرامة وبرزت التضحية في خير صورها وأشكالها وظهر الخلق العربي، خلق الإيثار والفداء والأريحية، رائعاً ساطعاً.
فهل نغلو بعد هذا إِن قلنا إِن الصراع بيننا وبين المستعمرين الفرنسيين والإنكليز صراع بين حضارتين: حضارة زائفة تحمل في ظاهرها النظام والخلق والتهذيب، وتخفي في باطنها الفوضى النفسية والعقلية وضروب الوحشية البدائية، وحضارة أصيلة ظاهرها الفساد والتأخر، وباطنها الإيمان بالإنسان والتضحية في سبيل حرية الإنسان؟
هل نغلو إن قلنا إن هذه البلاد العربية التي توصم بالتأخر، ومن ورائها الشعوب الآسيوية السائرة في طريق التحرر، هي المدعوة إلى حمل الرسالة الإنسانية إلى العالم، الرسالة الحقة التي لا تقوم على الغلبة، وإنما تقوم على الاحترام العميق لحقوق الإنسان وعنصر الإنسان؟ إنها هي القمينة بأن تحمل على راحتها معاني الحق والخلق، ما دامت هذه المعاني عندها شيئاً أصيلاً يتحرك في أعماقها رغم الفساد، وما دامت عند أعدائها زيفاً تتكشف وراءه غرائز الوحوش.
دمشق
عبد الله عبد الدائم