قرأت العدد الماضي من الآداب

الآداب – العدد الحادي عشر – تشرين الثاني /نوفمبر/ 1956
يسر «الآداب» أن يعود الدكتور عبد الله عبد الدائم إلى قرائها بعد انقطاع دام زهاء عام قضاه في باريس حيث أتم إعداد الدكتوراه في الفلسفة وناقشها وأحرزها بامتياز منذ شهرين.
والدكتور عبد الله عبد الدائم يقصر تعليقه في هذا المقال على أبحاث مؤتمر الأدباء العرب الذي عقد في دمشق في الشهر الماضي مفتتحاً بذلك النقاش في قضايا أدبية ما تزال من حياتنا الفكرية في الصميم. والآداب تعتذر عن تمكنها – بسبب تأخر صدور العدد الماضي – من تقديم نقد القصص والقصائد في باب هذا الشهر.
قرأتُ العَددَ الماضِي من الآداب
بقلم الدكتور
عبد الله عبد الدائم
1- مكانة الأدب العربي بين الآداب العالمية للدكتور طه حسين:
يومئ الدكتور طه حسين في فاتحة كلمته هذه إلى مسألة ذات مساس بقلب العمل الذي توافر عليه مؤتمر الأدباء العرب، وذلك حين يبين أن الحديث فرض عليه عن موضوع يعترف بأنه لا يحسنه. وحق له أن يومئ ويغمز، فالمنظمون للمؤتمر لم يوفقوا إلى طرح موضوعاته كما لم يوفقوا إلى أسلوب تكليف الأدباء بها. فقد كنا نفهم أن يلجأ هؤلاء إلى أحد موقفين: أولهما أن يتخيروا موضوعات عملية تتصل بالمشكلات الراهنة الحية التي تراود الأدباء في عملهم الأدبي والتي تحتاج إلى أن يأتمروا ليصلوا فيها إلى بعض الحلول المشتركة الميسرة لعملهم هذا: كأن يبحثوا في وسائل صيانة الحرية الأدبية، أو في واجب الأدباء حيال المشكلات القومية التي تهز مجتمعهم العربي، أو في تنظيم الدعاوة لقضية فلسطين والمغرب، أو في أساليب نشر الأدب العربي في العالم، أو في تيسير سبل النشر أمام الأدباء، أو في نظم الجمعيات الأدبية، أو في وسائل محاربة الأدب التافه أو غيرها من المشكلات العملية التي تدرك حرفة الأدب. والموقف الثاني الذي كان في وسعهم أن يلجأوا إليه أن يطلبوا إلى كبار الأدباء، ممن نضجت تجربتهم الأدبية وحرّقتهم الحاجة إلى فكرة ينثونها أن ينقلوا إلى جمهور الأدباء صورة عن هذه التجربة الحية ويحدثوهم عن تلك الفكرة التي غدت لهم مقضّة. أما أن ينصرف منظمو المؤتمر عن كلا الموقفين فيفرضوا على بعض الأدباء موضوعات أكثرها بعيد عن مشكلات العرب الراهنة ومعضلات الأدباء الحية، وأما أن تلقى أمم الأدباء عناوين قد تثيرهم وقد لا تثيرهم، وأما أن يكون توزيع هذه العناوين على هؤلاء الأدباء توزيعاً لا تفسره اتجاهات هؤلاء ونزعاتهم، فهذا ما لا يتفق وغايات أي مؤتمر أدبي. وما كانت المؤتمرات الأدبية في يوم من الأيام قاعات للامتحان يسأل فيها الأدباء عن الجواب يقدمونه لبعض المسائل، ويحاسبون بعد ذلك على جوابهم حساب الطالب أمام هيئة الفاحصة.
وإذا غادرنا هذه الغمزة إلى صلب ما جاء في حديث الدكتور طه حسين، وجدناه يسعى لتقويم مفهوم في حاجة حقاً إلى تقويم، هو الاعتقاد السائد بأن الأدب العربي لا يكون عالمياً إلا إذا قرئ في بلاد الغرب. وبهذا ينضو غشاوة كان من شأنها أن تفسد الحديث عن الصلة بين الأدب العربي والآداب العالمية. ومثل هذا الجلاء للأمور نجده عنده حين يبين الفارق العميق بين ما أصابه الأدبان اليوناني واللاتيني قديماً من ذيوع وانتشار، وما أصابته اللغة العربية من ذلك وهو يقرر حقيقة جديرة بالذكرى حين يبين كيف استطاعت اللغة العربية، من دون أكثر اللغات القديمة، أن تجاوز حدودها وديارها لتبلغ بلاداً مترامية الأطراف، وتصبح فيها لغة حديث ولغة علم. ومن هنا ينتهي القول بأن الحضارة العربية حضارة إنسانية في أعماقها. وبهذا يفتح أمام السامع آفاقاً فسيحة ما تلبث حتى تذكره كيف تلتقي النزعة القومية بالإنسانية عند العربي، وكيف نجد في صلب بنية اللغة التي يتكلم بها أساساً لهذا اللقاء بين نزعتين طالما فصل بينهما الغرب ولم ينتهوا إلى توحيدهما إلا بعد لأي. ونعتقد أن هذه الفكرة وحدها كانت أهلاً لفضل من البحث، ولعلها جوهر الموضوع الذي عالجه الدكتور طه حسين. فمن عصب الموضوع حقاً أن ندرك أن الأدب العربي، ومن ورائه اللغة العربية مع ما تحمله من فكر وفلسفة ونظرة إلى الحياة، يشتمل في أعماقه على موقف إنساني ويحتضن طاقة على الذيوع والانتشار. هي طاقة الفكرة التي خلقت لتذيع وتنتشر لأنها بطبعها مبعوثة إلى الخلق كافة. إن الكلمة العربية تحمل في ثناياها بذور انطلاقها شطر العالم، شطر الإنسان البعيد والقريب، فهي مثقلة بنظرة إلى الكون أساسها المشاركة والتآزر والعون. واللغة العربية، كما يقول عميد الأدب العربي موجزاً: «تمتاز بشيء من قوة الطبيعة وتمتاز بشيء من السحر الخاص الذي ينفذ إلى القلوب ويسيطر على العقول ويستأثر بملكات الناس واللفظة العربية لفظة كريمة كأبنائها – لها القدرة على الترحال والتطواف والدخول في مسارب العقول والنفوس. وهي قبل هذا وذاك تحمل – فيما نعتقد – شحنة من العاطفة والحمية قلما تستثيرها لفظة في لغة أخرى، والعاطفة والحمية قطبان من حياة الإنسان بهما يتأتى له التشارك مع سائر الناس. وليس من باب المصادفة أن تكون للكلم في حياة العرب تلك الآثار البينة التي عرفناها في أيامهم ووقائعهم وتاريخهم جملة: «فالألفاظ – القوى»، إن صح التعبير وإن صح أن نغير بعض الشيء من مصطلح أطلقه «فوييه Fouillé» على «الأفكار – القوى»، نجدها أعمق ما نجدها في لغة العرب حيث يحمل اللفظ غالباً سهم انطلاقه إلى عمل وتحوله إلى فعل وحيث نجد الوحدة بين الأسلوب والعمل، بين انحناءة اللفظة وانحناءة الفعل، وحيث تجتاز العبارة حلبة العقل بما فيها من سدود وحدود مقاومة لتسري في الدم والحياة عملاً حراً طليقاً ينال كل إنسان. أفلا يصح أن نقول إلى حد بعيد أن العرب فتحوا العالم باللفظ والقلم قبل السيف، وأن رسلهم إلى الدنيا كانت لغتهم وكانت أدبهم؟ ألم يقل أكثر الناس في لغة العرب ما قاله ذلك الأعرابي حين سمع القرآن: «إن لهذا الكلام لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق»؟ إن الحديث عن بيان اللغة العربية يحتمل فيما نعتقد كثيراً من الدراسة العميقة، وإنه ما يزال حديثاً لم يطرق بعد».
2- الأديب والناقد: لميخائيل نعيمة
هذه الكلمة نبتة من نبتات الأديب الكبير الذي اعتاد دوماً أن يعب من نبع الحياة دون أن ينهل من غدرانها الصغيرة الآسنة. فلقد عود قراءه أن يصدر في أدبه عن وحدة عضوية بينه وبين الحياة، عن استلقاء ضمن روح الكون يغتذي منه ويرتضع أفاويقه. ولهذا تلقاه يجد الحرج كله في أن يسلط على عمل الحياة من يستوقف ذلك العمل، وأن يقيم أمام الإبداع وما فيه من حرارة وأصالة عيوناً رقيبة باردة تنظر إلى هذا الإبداع من خارجه لترى الهيكل والصورة دون أن تلمس الدفء والرعشة. وهل يستطيع الحكم على عمل كله شوق وتوقد من مكث يلقي عليه النظرات السادرة المقرورة؟ وهل تستطيع أن تنقل دفقة «القلق» إلى إنسان هو عنها في معزل؟ وهل يعرف آلام المخاض من ينتظر الوليد ليعرف وزنه وحجمه وطوله؟
تلك في رأينا روح الكلمة التي ألقاها الأديب الكبير في مؤتمر الأدباء. وإذا كان النقد فهماً لحركة الكاتب من داخل ومحاولة للنفاذ إلى خط إبداعه، كان من الظلم لهذه الكلمة أن نناقشها ضمن معطيات هي غير معطياتها. إنها في الواقع تنقد نفسها بنفسها حين تضع نتائج الإبداع الأدبي في مصاف العمل الذاتي الحي الذي لا تحكم عليه إلا الحياة. وهو يقطع الطريق في الواقع على كل من قد يتهمه بالهزء بالنقاد أو الإقلال من شأنهم حين يبين لنا ماذا يفهم من النقد وحين يقول بكلام لا غشاوة عليه أن ثمة ناقداً وناقداً، وأن الناقد الذي يعتز به هو من «لا يعيش على حساب غيره كما تعيش الطفيليات على بعض النباتات والحيوانات، بل ليعطيك من وهج روحه مقاييس للحق والخير والجمال تستهويك وتفرض احترامها عليك». إنه، بتعبير آخر، يريد أن يقول: لا يفل الحديد إلا الحديد ولا ينقد نتاج الحياة إلا حياة مخضلة مثلها، وإن الزهرة لا تنقد بأنها دون الثمرة في الطعم وإنما تنقد بزهرة أكثر منها عبقاً وألمع جمالاً. إنه يريد من الناقد أن «يخلق» لا أن يعيش على فتات الموائد. وكم في هذا القول من صدق وخير في هذه المرحلة من حياتنا الأدبية حيث نجد متحدثين كثيرين عن واجبات الأدب والأديب ولا نجد أديباً حقاً يرينا هذه الواجبات رؤيا العين وينقلنا إليها مباشرة دون ما مقدمات أو تعريفات. وهل جاءكم خبر «فاليري» حين كان يتحدث عن الرقص، ثم قدم الراقصة «ميراندا» قائلاً إنها خير ما يتحدث به عن الرقص؟ إنه لجميل حقاً أن نفرق مع الأديب الكبير بين النقد الخلاق وبين الضجيج، بين المخاض والكلَب، وإنه لعميق حقاً أن ندعو معه إلى علاقة بين الناقد والكاتب هي «علاقة اطمئنان وثقة وسلام».
والحق أن كل ما نود أن نبثه للأديب الكبير من نجوى أن أسلوب عرضه لهذه الأفكار الجميلة كلها أسلوب يثير الشبهات في بعض الأحيان، بل يثير النقاد فيحملونه أكثر مما فيه. وكثيراً ما نجد في هذه الكلمة التي ألقاها أقوالاً ما نظن الكاتب يود أن يقولها على إطلاقها، فحركة فكره العامة لا تنبئ بها. ومن حقنا أن نذكر الأستاذ الكبير أن بعض القراء السامعين معذورون إن لم يستطيعوا دوماً بلوغ الجو العام الذي تصدر عنه سائر أجواء الكلمة والذي يفسر بعض نبواتها. ثم المعذرة من أديبنا إن سألناه كيف انجر إلى تلك الموازنة بين نتاج الطبيعة التي تقذف بالغث والسمين، وبالغث من أجل السمين، وبين نتاج الأدب، فقرر مثلاً أن الأدب يستحيل أن يكون أدب عباقرة لا غير، وذكر أن «لابد مع العباقرة من أنصاف عباقرة ومن كتاب وشعراء ما زارتهم العبقرية حتى في الحلم»؟ أفيطلق هو كلمة «أدب» على كل ما دبج وكتب أم يضن بها على غير أهلها فيقصرها على الأدب الرفيع العبقري وحده، أم أغرته حجج بعض فلاسفة العرب حين بينوا علة وجود الشر وذكروا أن الخير لا يستبين إن لم يخلق الشر؟
3- الأديب والدولة: لفؤاد الشايب
في هذه الكلمة المطولة نخترق دروباً وشعاباً لا ندري ما الذي يحملنا إليها ولا نعلم لم الانطلاق فيها. إن السامع لها يحبس الأنفاس طويلاً يرتقب ما يرده إلى الواقع الحي فلا يظفر. إنه ليخيل إليه أن صاحبها يفر من قلب الموضوع عن قصد. ويبيت البعد عن كل ما يمسه الصلة بين الأديب والدولة في بلادنا، رغم أنه أولى الناس بالحديث عنها. وإلا فما هذا الحج والاغتراب البعيد إلى «هوبس» و«روسو» بعد أن نفضهما الفلاسفة وعلماء القانون وأشبعوهما بحثاً؟ وهل توقفت أبحاث الإنسان عند هذين القطبين وعند من احتذوا حذوهما حتى نخصهما بمثل هذا الحديث المطول؟ إن الصلة بين الفرد والدولة في هذا العصر الذي تغيرت فيه بنية الدول الحاكمة وظهرت فيه المذاهب الاجتماعية الشتيتة لم تعد تدرج ضمن منطق المباحث التي كان يقوم بها هوبس أو روسو في عصر ما كانت الشعوب تعرف فيه معنى حكم الشعب بالشعب.
أم أن هنالك صلة عميقة خفية بين ما أتى به هذان المفكران وبينما يريد أن يقوله الأستاذ الشايب، من شأنها أن تفسر هذا الاصطفاء والإيثار؟ الحق أن بعض هذه الصلة قائمة فيما نعتقد، وإننا نفهم سبباً واحداً لهذا الوقوف عند هذين القطبين، هو ترجح الكاتب نفسه بين الفكرتين اللتين جاء بهما هذا الفيلسوفان. فهو، رغم الخاتمة التي ينتصر فيها لحرية الكاتب، يظل في الواقع نهباً مقسماً بين الفرد والدولة لا يدري لأيهما يحكم، لأنه ما يزال في مرحلة هذا الفصل المجرد بين فرد ودولة، وما يزال حبيس قرني الإحراج كما يقول المناطقة. إنه ما يزال يؤمن مع «هوبس» بأن إعطاء الدولة كل شيء أساس «لا يزال الآن وسيبقى أبداً من وراء كل بناء لدولة تمزقها الاضطرابات ويهدد سلامتها العدو» وهو في الوقت نفسه يشيد بحرية الفرد وبمعاقله المقدسة، سليلة الفكر الحر الجريء. فكأنه يتخذ لنفسه موقف ذلك الرجل الذي حار بين طعم اللوذينج وطعم الفالوذج فقال: كلما حكمت لأحدهما أدلى الآخر بحجته.
ثم ما هي الحرية الفردية التي يريدها الكاتب للأديب؟ إنها في معظم ما ذكر لا تعدو تلك الحرية التي تجعل الكاتب فوق المجتمع وفوق القيم الاجتماعية والخلقية والتي تعيد إلى الأذهان تلك المشكلة البالية المكرورة حول أخلاقية الأدب ولا أخلاقيته. وطبيعي في مثل هذه الحال أن يظل الفصام قائماً بين الفرد والدولة، وطبيعي أن يظل الأستاذ الشايب في مرحلة القسمة الثنائية Dichotomie. وطبيعي بعد هذا كله ألا يتبين لنا في نهاية المطاف ذلك الخيط الدقيق الذي يريد الكاتب أن يجريه بين الدولة والأديب وأن نظل ضمن قطر التناقض العميق بينهما.
إن في الصلة بين الأدباء والدولة في بلادنا زاداً ثراً لمن أراد أن يمتاح الواقع الحي ويغرف من تجربة حارة يعانيها بأعصابه وروحه. وإن في تحرق الدولة عندنا لأدب جريء صادق ينفصل عن الفساد الاجتماعي ويأبى السير وراء كل ناعق ما يجري الأقلام فوارة جادة، وما يبعدها عن التمطق بأحاديث الذاهبين والسباقين.
4- الأدب والفنون الجميلة: لمحمود أمين العالم
هذه الكلمة صورة موفقة عن البحث الجدي المركز، الذي جمع إلى وفرة المعلومات القدرة على الإيجاز المعبر، والذي استطاع في صفحات قلائل أن يتطرق إلى مشكلات غنية موحية. وهي قد كتبت فوق ذلك بأسلوب علمي مطمئن قلما تجد فيه صيحات خطابية أو جموحاً هائجاً. إنها مطمئنة فيما تجزم، وهي من اطمئنانها في قوة، ومن عمقها في وضوح. وهي تعرف ما ينبغي أن يقال وما لا ينبغي، ولا تفهم معنى «لطش» الأدبي. هذا إلى أنها كلمة محددة الموقع الجغرافي والزماني، فهي تدري – وقلما يدري سواها – أنها تقال في بلد عربي وفي مرحلة من نضال العرب. ولعلها توحي إلى السامع والقارئ في كثير من التواضع الرفيع أنها تمشي على استحياء وأن صاحبها يأبى أن يشقق الألفاظ الكثيرة، ويفتق المعاني العريضة باحثاً عن موضوع لا يعنيه فيه غير صلته بأمته بمرحلتها التاريخية الحاضرة.
وهنا يحق لنا أن نحاسب الأستاذ العالم بعض الحساب وأن نضع بعض التساؤل في كفة الميزان الأخرى. فهل وفي الأستاذ العالم حديث الصلة بين الأدب والفنون والجميلة في بلادنا العربية ما يستحقه من بحث وتعمق؟ وإذا جاز له الإيجاز المحمود في الشق الأول من الموضوع حيث يلخص بعض التجربة العالمية بهذا الشأن، فهل يجوز له أن يكتفي بهذا العرض السينمائي الخاطف في الشق الثاني حيث الحديث عن الفنون وتضامنها في بلدنا العربي؟ إن كثيراً من الومضات الخاطفة التي أتى بها في هذا الباب جديرة بفضل من البحث والإيضاح. وهي كالبرق تومض فتستفزنا دون أن تنير لنا السبل. وهل نغتفر له مثلاً أن يضن علينا بالحديث المفصل عن تلك الفنون الجماهيرية التي أشاد بقيمتها؟ أليس في هذا الموضوع منطق خصيب لأديب مثله يريد أن يجعل من الأدب أداة إنضاج للمجتمع وتوجيه للمشاعر القومية؟
5- وسائل تعريف العرب بنتاجهم الأدبي الحديث لبدر شاكر السياب:
في هذه الكلمة روح المؤمن بقضية، الحامل لرسالة. فصاحبها ممن لا يقف من مشكلات مجتمعه ومشكلات الأدب في موقف من يحلو له أن يثقب اللآلئ ويصوغ عقودها في حلبة صراع الشعوب ومصرعها، بل يعرف معنى المرحلة التاريخية. التي تجتازها الأمة العربية ويؤمن بتاريخية Gechchichkeit المشكلات والمباحث. إنه لا يفصل موضوعه عن زمانه ومكانه ولا يعنيه أن يثير مباحث فقهية عائمة عن صنوف الأدب في العالم وعما يمكن أن يصدر في المستقبل البعيد من نتاج أدبي عربي. إنه ابن السنة السادسة والخمسين بعد التسعمائة والألف وابن هذا المجتمع العربي. إنه يدرك مسؤوليته ككاتب عليه أن يساعد على انبعاث الفجر الذي أومض.
فلهذا فمن الابتعاد عن منطقه أن يأخذ عليه بعضهم الدفاع العنيد عن الأدب الواقعي الملتزم. إن المسألة – كما ذكر وألحف – مسألة توقيت. إنه يقول قولاً لا جمجمة فيه. إننا نخوض معركة يتقرر من فوزنا أو خسارتنا فيها وجودنا كأمة ذات فن وحضارة ورسالة.. إنه يعود فيقول «إن الأدب الذاتي، في هذه المرحلة من حياة أمتنا، ترف لا غير» فهل نرذل قول من ينادي كل مثقف وأديب في أيام الحرب لحمل السلاح في معركة البقاء؟
إما أن نبحث عن موضوع الالتزام وعدمه، بصرف النظر عن زمان معين ومكان معين، فهذا أثر لم يدعنا الأستاذ السياب إلى الخوض فيه، ولا نود المناقشة حوله. وهو في رأينا موضوع مطروح طرحاً زائفاً ومشكلة من تلك المشكلات المختلقة الصنعية.
من هذا الأفق إذن ينظر الأستاذ السياب إلى الأمور، ومنه يريد أن يطل على معالجة موضوع الوسائل الخاصة بتعريف العرب بنتاجهم الأدبي. فهو لا يريد أن يفصل بين الفكرة والوسيلة. بل هو يريد أن يقول إن الفكرة تحمل في صلبها وسيلة نشرها وتضم في ثناياها بذور انقلابها إلى عمل ونشاط. إنه يريد أن يتجاوز ذلك البحث البالي في الوسائل دون النظر إلى اتحاد الهدف بالوسيلة حيثما تصفو الفكرة وتستقيم الأشياء. وهل كالأدب شيء أجدر بأن تتحد فيه الغاية والأسلوب المؤدي إليها؟
إن الكاتب يتلمس حصيفاً من الرأي حين يرى أن واقعية الأدب هي بحد ذاتها وسيلة من وسائل التعريف به. وإنه يدعو إلى موقف جدي شجاع حين يحمل الأدباء وحدهم مسؤولية انتشار أدبهم. إنه يذكرهم أن الأدب القوي الحي لابد أن يذيع الحياة من حوله ويضم الناس إليه. إنه يريد أن يحول بينهم وبين إضفاء المسؤولية على غيرهم – وهي في الصميم منهم – ليبين لهم أنهم وحدهم يتحملون مسؤولية ما يلقاه أدبهم من نقص الذيوع وضعف الانتشار. فالأدب الذي لا يحمل معه قلوب الشعب عسير أن يسير إلى الشعب، والفكر الذي لم يغتذ من حرارة تلك الملايين العربية الظامئة إلى الحرية الطامحة للكرامة لا يستطيع أن يغذي مثل هذه النفوس السخية ولا يجوز له أن يطلب إليها أن تنهل منه. إن هذه النفوس – على جهلها وسذاجتها – أطول باعاً في الأدب من الأدباء حين تثور لقوميتها وتتحرك أوتارها على أنغام الحرية والعزة.
دمشق – كلية التربية
عبد الله عبد الدائم