قديم وحديث

مجلة المعلم العربي – العددان 2، 3 – كانون الأول 1954 – كانون الثاني 1955

قديم وحديث
للأستاذ عبد الله عبد الدائم

ونعود إلى القصة عينها، قصة القديم والحديث، إنها مكرورة أبداً جديدة أبداً.
ولئن كانت هذه القصة في بعض الأحيان حديثاً نظرياً أو إشارة إلى غائب، فهي في معظم الأحيان حديث واقعي، حديث الساعة. وهي اليوم في بلادنا على هذا النحو الأخير. فأنى اتجهنا في حياتنا ألفينا هذا الصراع قوياً بارزاً: نراه في ميدان التعليم، ونراه في ميدان الدوائر الحكومية جملة، ونراه في مجال الحياة الاقتصادية، ونلفيه في قلب الحياة الفكرية والأدبية.
والسبب في هذه المشكلة في بلادنا اليوم بين واضح: أنه يرجع إلى تعاصر جيلين نشأ كل منهما على قيم وأفكار تكاد تناقض ما نشأ عليه الآخر. والفرق بين جيل وجيل قائم دوماً على مر العصور، غير أنه لم يلبس في أي عهد هذا الشكل من الحدة والغلو الذي يتلبس به اليوم. فالتطور في عصرنا هذا، ولا سيما في بلادنا، مغذ مفرط في السرعة. وأدوات الانقلاب، الانقلاب في كل شيء، أصبحت ماضية جبارة. والعقول، عقول الجيل الجديد، غدت تواقة لأعمق ما في الجدة من معنى، منفتحة على آفاق المجهول، آفاق الحلل الطريفة. بل نستطيع أن نقول غير مغالين أن نفوس هذا الجيل الجديد ظمأى إلى نهر ماؤه ليست كماء الأنهار، نهر من الحياة الاجتماعية الجديدة الفياضة…
غير أن ذلك الشوق وهذا الظمأ يواجهان مياهاً راكدة، فلا يجدان في المجتمع القائم ما يشفي تلك الغلة، ويلفيان على سطحه طائفة من العقول السكرى بخمرة القديم، السعيدة بحب البالي التليد. وهكذا يقوم الصراع عنيفاً بين حالم يرى خطوط مستقبله نضرة جديدة، وبين حالم يستمتع برؤي قديمه الخالد السعيد.
ويطول بنا الحديث إن نحن عرضنا أوجه هذا الصراع في شتى ميادين الحياة الاجتماعية. ويطول بنا الحديث أكثر وأكثر إن نحن ذكرنا ما ينجم عنه من انشقاق عميق في بنية المجتمع وتضارب أصيل في جهازه. ولهذا نفضل أن نقصر حديثنا على جانب يعني المعلمين خاصة، فنتحدث عن بعض مظاهر هذا الشقاق بين القديم والمحدث في جو المدرسة. وقد أوحت إلينا بهذا الحديث عن ذلك الفراق بين قديم مدارسنا وحديثها مشاهدات واقعية كانت لنا في بعض هذه المدارس:
يتلقى معلمونا اليوم، بفضل دور المعلمين خاصة، طائفة من المبادئ التربوية التعليمية يملكون بعدها حماسة إلى عمل تربوي منظم علمي. ويخرج كثير منهم من دور المعلمين هذه وفي يدهم زهرات الصبوة إلى الجديد وإلى الإبداع والابتكار فواحة ندية. ويقبلون على مدارسهم الجديدة، وفي أذهانهم أخيلة «مونتسوري» و«باركهرست» و«دوكرولي» و«ديوي» و«وأشبورن» وغيرهم من أكابر المربين المبدعين. ويخفّون إلى عالم الأطفال باسمين سعيدين، تداعب أفكارهم متعة ما سيحققونه في هذا العالم الطري من معجزات.
وما هي إلا أيام قلائل حتى تزورهم أشباح القديم المرعبة:
إنهم يجدون هذه الأشباح أولاً في أثاث المدرسة وبنائها. إذ يلفون في أكثر مدارسنا هيكلاً مادياً معتماً مهملاً، يناقض تمام المناقضة هيكل المدرسة المضيئة المشرقة التي حُدثوا عنها في صفوفهم.
ويجدونه بعد ذلك في إهمال بعض مطالبهم المتصلة بتنظيم المدرسة وعدم الاكتراث بكل ما يخطر على بالهم من جديد، بل يجدونه خاصة في ابتسامة السخرية والإمكانيات المحدودة التي يلقونها من بعض الأشخاص المتزمتين، حين يجابهون هؤلاء ببعض المطالب. إنهم يلقون منهم غالباً ابتسامة عريضة، تحمل الطمأنينة الكسولة، وراءها في معظم الأحيان عبارة أزلية: ما زلتم في بداية الطريق تحملون الحماسة لعمل جديد؛ غير أن الأيام ستطامن حماستكم هذه، وستقتل ما لديكم من منازع جديدة، وستردكم إلى حكمتنا نحن الذين عركنا الحياة.. وهكذا يبدأون بمرحلة تعلم جديدة: يبدأون بمرحلة يتعلمون فيها نسيان ما تعلموه في دور المعلمين. وكلما أتقنوا هذا الدرس الجديد، تحقق التكيف بينهم وبين بيئة توجيههم ودخلوا في حلبة الناجحين الموفقين.. أما الفئة الضالة التي لا تقوى على هذا التكيف التراجعي والتي تظل في صبوتها إلى جديدها، إلى مبادئها، فتتهم بالسذاجة وترمى بالصبيانية، ويقذف عليها كل من حولها مزعجات ما تلبث حتى تقلب صبوتها ألماً يائساً وثورة مريضة.
ويزيد في حدة هذا الصراع بين هؤلاء التواقين إلى تنظيم مدرسي جديد وأولئك الهازئين بكل جديد رائد في مجتمعنا أفكار مشوهة ضالة كادت تصبح معياراً لصحة الأفكار وصدقها. وهذه الأفكار المشوهة الضالة في جوهرها، الصحيحة في نظر كثير من أبناء مجتمعنا، تساعد على الهزء بتلك الفرقة الخارجة على سنة الحياة المدرسية التقليدية. ونعني بتلك الأفكار ما نعلمه جميعاً عن حديث بعض الناس حديثاً سطحياً تافهاً عن الواقعية والمثالية. إذ نرى هؤلاء ينعتون بالواقعية كل عامي النظرة، مباشر الهدف، لا يعرف للمنازع الروحية معنى، ولا يحمل أي فكرة جديدة أو مذهب جديد في الحياة. بينما ينعتون بالمثالية الخيالية كل من علا عن حياة الاستسلام والتواكل، ونظر إلى مستقبل جديد، وخط لنفسه ولغيره أهدافاً وغايات غنية خصيبة. وهكذا يكاد هؤلاء القوم يصمون كل مجرد بالخيالية وكل محافظ بالواقعية. وينسون أن التاريخ لم تخطه إلا أخيلة أولئك الطامحين إلى الإبداع، وأن أولئك الذين ندعوهم مثاليين خياليين هم الذين أثبت التاريخ دوماً واقعيتهم، لأن أخيلتهم ما لبثت حتى انقلبت إلى واقع محقق. أما أولئك الواقعيون فهم الذين عاشوا حياتهم في خيال فقير، وقضوا وقضت معهم واقعيتهم الهزيلة المزعومة.
ثم إن هؤلاء المعلمين الراغبين في التجديد يجدون أشباح القديم في أمر أدهى مما ذكرنا: يجدونه في عقول كثير من زملائهم في المدرسة. وههنا يكمن الخطر الأكبر.
فهذا معلم شدأ حظاً من التربية يريد أن يعالج طفلاً رسب في صفه ثلاث سنوات متتاليات وأصبح من أقطاب المشاغبين في المدرسة. فيدرس حاله ويعلم أنه فقير معدوم وأنه لا يكتب شيئاً من وظائفه لأن أباه يمنعه من أن يشعل النور خوفاً من الإنفاق. ويحاول المعلم أن يطلب إليه كتابة وظائفه في المدرسة، خلاصاً من هذه العلة. ولكن الزملاء من حوله يهزأون ضاحكين، ويتهمونه بقصر النظر، ويؤكدون أن هذا الطفل عصي على كل تعلم وفهم وأنه محكوم عليه بالجهل إلى أبد الآبدين. وعبثاً يحاول إقناعهم وإقناع الإدارة بوجهة نظره.
وهذا معلم آخر يأتي إلى المدرسة حديثاً، فيقدم له المعلمون طالباً في صفه يذكرون الأعاجيب عن سوء أخلاقه ورغبته في الإيذاء، ويحدثونه عن حركات الإزعاج التي يقوم بها في الصف، وعن «النقيفة» التي يحملها معه في مكان مجهول ويسدد منها الضربات كلما سنحت له الفرصة. ويوصي هؤلاء المعلمون القدامى معلمنا الجديد بالضرب عليه بيد من حديد. ولكن معلمنا لا يأبه لوصيتهم هذه ويحاول أن يفهم حال هذا الطالب وأن يلتمس لها الدواء. ويدرك في نهاية الأمر أنه طفل يشكو تحاملاً كبيراً من معلميه، إذ يتهمونه بكل نقيصة تجري في الصف، ويجعلون منه كبش الفداء دوماً. فإذا أذنب الصف جميعه لم يوقع العقاب إلا على هذا الطفل، وإذا أحب المعلم أن يجرب غضبه جربه على هذا الطفل. حتى اقتنع الطفل بأنه سيئ فعلاً وأراد ألا يخيب ظن الأساتذة فيه فأخذ يثبت لهم فعلاً وفي كل مناسبة أنه ذلك الخبيث الذي تصوره وأنه متعب كما يريدون. ولهذا لا يلجأ معلمنا الجديد معه إلى ما يلجأ إليه أولئك الزملاء، أي إلى مداواته (ما دام داؤه الأصلي ما لقيه من عقاب ونقمة)؛ ويسلك معه سلوكاً جديداً ناجحاً يحاول فيه أن يقنعه بأنه غير شرير وأن يعيد إليه الثقة بنفسه. ولكن الزملاء يثورون ويتهمونه بالتحيز إلى ذلك الطفل أو بالضعف والخور وعدم القدرة على كبح النفوس عن جماحها.
وذاك معلم ثالث يقبل على مدرسة يتناول بعض طلابها الغداء فيها. فيحاول أن يستفيد من ساعات فراغهم بعد تناول طعام الغداء، لتحقيق بعض الأهداف التربوية عن طريق تعويدهم على بعض الألعاب الجميلة المنظمة، أو عن طريق إمتاعهم بجلسات موسيقية أو غير تلك من الوسائل فيثور الزملاء، ولا يفهمون أن يضيع هذا المعلم وقت التلاميذ في مثل العمل، ويؤكدون له أن من الأجدى عليه وعليهم أن يطلب إليهم في أوقات الفراغ هذه كتابة درس الإملاء مائة مرة مثلاُ، أو كتابة خطيئة ألف مرة… ويبينون له خاصة أن مثل هذا العمل أدعى للنظام ولتحقيق السكينة في المدرسة. أما عمله هو فمضيعة للوقت ومدعاة لضجة مزعجة للمدرسة وطمأنينتها.
وإليك معلماً يحاول ألا يرهق طلابه بالوظائف البيتية، وألا يقدم لهم منها إلا ما هو منتج فعلاً، مجرباً أن يلقنهم ما يحتاجون إليه عن طريق الدرس. فيثور الزملاء عليه ويتهمونه بالكسل، ويثور أولياء الطلاب في بعض الأحيان ويزعجهم أن يظل أطفالهم بلا عمل يحبسهم عن اللعب في البيت.
ومثل ذلك المعلم الذي يحاول أن يعود أطفاله على الصدق والأمانة فيبيح لهم أن يصلحوا أخطاء الإملاء التي كتبوها، بعد تسجيلها على اللوح، بالقلم الأزرق العادي، لا بالقلم الأحمر كما يفعل المعلمون عادة حين يطلبون إلى الطلاب تصحيح الأخطاء بالقلم الأحمر ليعرفوا عددها، فيغتنم الأطفال فرصة ذهول المعلم أحياناً ويصلحون بعض الأخطاء خلسة بالقلم الأزرق لئلا تحسب عليهم. إن هذا المعلم الجديد يلقى هذه المرة ثورة الطلاب أنفسهم، إذ لا يفهمون هذه الطريقة التي اعتادوا على غيرها في سنيهم الماضية مع سائر المعلمين.
ولن نستطيع إحصاء الأمثلة الكثيرة، على هذا الصراع بين معلم يريد أن يغير من الطرائق المتبعة، وبين زملاء له آمنوا بعاداتهم التقليدية. وما أوردناه من الأمثلة واقعي، يحدث أكثره لكثير من المعلمين.
على أن الصراع ينقلب إلى احتجاج صارخ إذا حاول بعض المعلمين الجدد الذهاب بتجديدهم إلى أبعد من هذه الحدود الإصلاحية الجزئية، فجربوا أن يطبقوا بعض الطرق الحديثة في تنظيم العمل المدرسي مستوحين مثلاً طريقة «دالتن» أو «الطريقة الفعالة» أو «طريقة المشروع» أو غيرها. فعند ذلك تثور ثائرة المدرسة وتثور ثائرة الزملاء، وتنطلق ابتسامات الهزء وتصل إلى حدود القهقهة العميقة المريحة. وعند ذلك خاصة تفوح في جو المدرسة كلمات «المثالية» و«الواقعية» ويظهر حكماء المعلمين ويلقون بنصائحهم الرشيدة، ويربت الزملاء على كتف المعلم الجديد الغر طالبين إليه الهدوء والتعقل. ويسكت المعلم وتعود الحياة إلى مجاريها الطبيعية، ويصبح كل شيء على أحسن ما يرام في أحسن العوالم الممكنة!
وبعد، هذا قليل من كثير، اجتزأنا فيه ببعض الأمثلة التي توحي بأمثلة كثيرة غيرها، وحاولنا فيه ألا نتجاوز نطاق المدرسة إلى ما هو أوسع منه من نطاق. أما إذا تجاوزنا هذا النطاق وذهبنا إلى نطاق القديم والجديد في المشاريع الكبرى التعليمية وفي وضع المناهج وتنظيم التعليم ومراحله ومراتبه، وجدنا من الأمور عجباً، ورأينا الخوف من الجديد ثاوياً في أعماق حركتنا التعليمية، ورأينا مقاومة المجددين أصلاً من أصول العمل الرسمي. ومثل ذلك ما نجده في غير مجالات التعليم.
إن العلم لا يخاف الجديد، ولا يكمن الخوف من الجديد إلا حيث يكمن الجهل. ذلك أن العلم لا يعرف المجهول؛ والخوف دوماً خوف من مجهول. ومن ملك بصيرة علمية واضحة وعقلاً مؤثثاً بقوانين العلم ومبادئه، عرف كيف يشمر ويمضي في جديده غير هياب، لأنه يعلم ما المصير وإلى أين المسير.
لهذا فنحن لا نلقي مسؤولية مقاومة الجديد على القدماء وحدهم، وإنما نلقيه على المحدثين أنفسهم. فهؤلاء قد يملكون الصبوة إلى الجديد دون أن يملكوا المضمون العلمي المنظم لهذه الصبوة. وعند ذلك تكون محاولاتهم مجرد منازع خيالية فعلاً، وعند ذلك يضربون أسوأ مثل عن الجديد. وأخوف ما يخاف على الجديد ألا يكون واعياً منظماً، وأن يكون مجرد ادعاء
أو إشارة يزين بها الصدر، دون أن يحمل في أعماقه طريقة تحقيقه وأصول إنفاذه. والنتيجة التي نريد أن ننتهي إليها في كلمتنا هذه هي أن مسؤولية التجديد تقع أيضاً على المجددين أنفسهم، ولا يجوز أن يعتبروا مقاومة القدامى سبباً كافياً لتراجعهم، ولا يجوز أن يتخذوا من هذه المقاومة حجة بل ذريعة يتذرعون بها.
إن من طبيعة الأشياء أن يقاوم القديم الجديد، غير أن النصر دوماً للجديد إن كان هذا جديداً فعلاً محملاً بالروح المنظمة العلمية لا بمجرد التوق والظمأ. ولهذا فرب قديم أحدث من جديد. وأخطر شيء على الجديد غموضه واتصافه بالتعميم، بدلاً من وضوحه واتصافه بالخطة المبينة المجزئة.

عبد الله عبد الدائم