حول كتاب سعيد عقل: مشكلة النخبة في الشرق

الآداب – العدد الثامن – آب /أغسطس/ 1954

حَول كتاب:
«مشكِلة النخبَة في الشَرق»
بقلم عبد الله عبد الدائم

لا شك أن النخبة هي المفصحة دوماً عن مقام المجتمع، وإن قيمة الشعوب لا تقاس بمتوسط مستوى الناس فيها بمقدار ما تقاس بعدد الأفراد النابهين الأفذاذ الذين يمثلون الصفوة بينها. ففي هؤلاء الأفراد تتجسد مطامح الأمة وصبواتها، وعنهم تصدر اندفاعة المجتمع نحو مستقبل أكمل. وهم الذين ينتشلون أمتهم من روح المحافظة التي تسيطر على سواد الناس، ويقذفون بها في طريق التجديد العميق، مرهصين بما ستؤول إليه تلك الأمة، متحسسين بالتيارات الخفية التي تضطرم في أعماقها، ميسِّرين بزوغ هذه التيارات.
وكثيراً ما تلخص حياة الأمة كلها في هؤلاء الأفراد القلائل، وكثيراً ما ترتد عبقريتها كلها إلى فرد أو أفراد. والذي خلق التاريخ وخلق الأمم، كما نعلم، هم هؤلاء القلة.. إِنهم قلة في عددهم، ولكنهم فيما يحملون من آمال الجمهور وتطلعاته كثرة غالبة. وقد يجهلهم الجمهور أحياناً، ولا يرى كيف يمثلون حقيقة حاجاته، ولكنه ما يلبث حتى يلمس سرهم، فيندفع إِثرهم.
وأقوى ما في هذه النخبة أنها تظل الحافظة الأمينة للقيم الفكرية والخلقية العالية. فهي تخلص لهذه القيم حين يكفر بها أكثر الناس، وبهذا تُري هؤلاء الناس كيف يعيش المثل الأعلى وكيف يخلق كبار النفوس، وتجعل من القيم الرفيعة شيئاً ذا كيان وجسد، لا مجرد آمال وأحلام.. وعن هذه الطريق تحول بين عامة الناس وبين التنكر لهذه القيم، وتجعلهم لا يقدمون على انتهاكها إلا وهم أذلة صاغرون. فهذه النخبة عيون رائعة ترمق الناس في سرهم وعلانيتهم، فتحبسهم عن الشر وتدنيهم من الخير.. وهي أمل باسم يُمنّي المخلصين من الناس بما ينتظرهم من رتبة العظماء ومقامات ذوي النفوس الكبيرة.
ثم إن تذوق المعاني الفكرية والروحية العميقة لا تتأتى للجمهور إِلا عن طريق هذه الصفوة. فهي إذ طعمت، تعرف كيف تنقل ما طعمت إلى غيرها.. وهي إِذ رأت وأبصرت، تعرف كيف تنثر، بمجرد وجودها، ما رأته وأبصرته.. إِنها صاحبة أذواق. وإِن أحاسيسها لنضّاحة بهذه الإنسانية الكبرى.. ومن خلال جسدها تنطلق دوماً رعشة الجمال والخير، فتسيطر على من حولها وتشيع فيهم هزة كريمة مبدعة.
عن مثل هذه الصفوة يتحدث الشاعر الكبير سعيد عقل في كتابه «مشكلة النخبة في الشرق». ومن خلال حديثه عنها تتجلى معاناته الحية العميقة لحياة هذه النخبة. ومن خلال كلماته يقرأ القارئ ما يملكه رجل النخبة من توفز ونظرة إِنسانية رحبة مطلعة، تجعل معرفته وخلقه «في مستوى المصائر الكبيرة». إِنه يبين لنا قبل كل شيء أن النخبة هي من لا يوجهها القدر، بل توجهه. فهي لا تستقبل الوجود، وإِنما تقصده. وهي لا تقف من العالم موقف المنفعل القابل، بل تفعل فيه وتشعر بأنها هي المسؤولة عن مصيره، وهي التي ترفع الناس عن مستوى الصغائر، وتقودهم إلى «المناخات العلى»، وتمدّهم «بنبل العلم وبالفكر الكبيرة». إِنها بعيدة عن «الأثرة والانكفاء على الذات، شاعرة بحريتها، وشعورها بحرمتها هذا هو كلُّ حيويتها»، وهو «السياج الذي يصون العالم من إِغراء المال يلوح به أصحاب الأعمال الكبيرة». وتاج أعمالها «أن تنادي بين فترة وأخرى إِلى التمرس بعمل ضخم يجيء في مستوى القضاء والقدر».
ويبين الشاعر أن الخلاص من الأخطار الكبيرة التي تواجه الأمة، من مثل خطر إسرائيل، لا يكون إِلا بهذه النخبة. وما مأساة فلسطين إِلا نتيجة لانعدام هذه النخبة التي كان في وسعها وحدها، لو وجدت، أن تعد منذ أربعين سنة لمواجهة خطر الصهيونية. وهو يفرّق بين النخبة والحزب تفريقاً جوهرياً. لأن الحزب عمل سياسي ويتطلب الحكم بالتالي.. بينما تظل النخبة «أكبر من تطلب الحكم وأكبر من الحكم». «فتسلّم زمام الحكم مشوب، وإِن قليلاً، بشهوة السلطة، والنخبة فوق الشهوة وفوق السلطة». ولا يقوده هذا التفريق إلى محاربة الحياة الحزبية؛ بل يرى أن اصطراع الأحزاب، في بعض المراحل «خير طريقة لشفاء قوى الشعب المصابة ريثما تضج فيها العافية». غير أنه يرى أن «الحزب ينفي سواه، والنخبة تلهم سواها». وأجمل ما في هذا التفريق عنده حديثه عن الأحزاب التي انتهجت سبيل العمل الحزبي، وظل قوادها مع ذلك متحلين في قرارة نفوسهم بمناقب النخبة. فكلنا يعلم الصراع الذي يثور في نفوس هؤلاء القواد بين طبيعة العمل السياسي التي تجر إلى الخصومة، وبين صفات أبناء النخبة التي تأبى أن تحارب الأشخاص وتكتفي بمهاجمة الشر فيهم. وكلنا يعلم كيف يُضطر هؤلاء القواد أحياناً – إِن سلكوا هذه السبيل، سبيل العمل الحزبي الذي تغذيه روح النخبة وخصالها – إِلى خيانة العمل الحزبي، لأنهم يخسرون المعركة مع خصومهم ولا يصلون إلى الحكم، رغبة منهم في الوفاء للعقل والإنصاف والخلق.
والحق أن الكاتب يلمس ههنا مشكلة عميقة تواجه الجيل العربي المخلص عندنا. فهذا الجيل يبدأ حياته مخلصاً للقيم الخلقية والفكرية السامية، متحلياً بأعراق النخبة. ولهذا يكتفي في بدء حياته بأن يكون فوق الخصومات وفوق العمل الحزبي المباشر، ولا يجاوز موقف الموجِّه المبشر بالمعاني النبيلة.. ولكنه ما يلبث حتى يجد نفسه بحكم موقفه النبيل هذا نفسه، مضطراً إلى تنظيم توجيهه هذا تنظيماً عملياً أكثر جدوى ونفعاً. إِذ يرى أن لا سبيل إلى فرض أخلاق النخبة ومطالبها إِلا عن طريق تكوين صف نضالي يخوض الحياة العامة ولا يبقى على هامشها، وينخرط في العمل السياسي بالتالي.. غير أنه يريد هذا العمل السياسي عملاً من نوع جديد، تنسجم فيه المبادئ مع أسلوب تطبيقها، وتظل القيم الخلقية والفكرية رائده وموجهه، ويظل مترفعاً عن الأهداف الشخصية والغايات العاجلة.. وهو، إِذ ينتهج هذا الأسلوب، أسلوب العمل السياسي المخلص لمبادئ النخبة، يجد نفسه عاجزاً عن فرض وجوده السياسي، مقصراً عن الأحزاب النفعية القائمة على الخصومات والمهاترات.. وهنا يتنازعه اتجاهان: إِما أن يسلك سبيل العمل السياسي المباشر، سبيل سائر السياسيين، فيتخلى عن مبادئ النخبة ويصل إلى الحكم، ويبرر عمله هذا بأنه عمل تمليه ضرورة تحقيق الأفكار التي آمن بها. وإِما أن يظل في طريقه الأولى، يعمل بأسلوبه السياسي الجديد المحمّل بعبق المبادئ والقيم الرفيعة، ويحجم عن انتهاج الأسلوب السياسي العادي المؤدي إلى النجاح والحكم. وإِذ ذاك قد يشعر بأنه يحكم على مبادئه نفسها بالعقم، وعلى قيمه بأن تبقى بعيدة عن التحقيق، ما دام لم ينتهج سياسة الوصول إلى حكم يحقق فيه غاياته، وما دام لم يستبح لنفسه أن يجعل الوصول إلى الحكم، بأي وسيلة، أمراً جائزاً تبرره الرغبة في تحقيق المبادئ والأهداف عن طريق الحكم.
والذي نريد أن نقوله بهذا الصدد هو أن هذه المشكلة التي تواجه الجيل العربي الواعي ليست عصيّة على أي حل، وأن الموقف السليم لا يكون بأن تعتزل النخبة في أبراج النخبة، كما لا يكون بأن تتخلى النخبة عن مبادئها وأهدافها منتهجة أسلوب السياسة الناجحة العاجلة.. فالمشكلة واقعة مستعصية على الحل حين لا يملك هذا الجيل النفَس الطويل، وحين لا ينظر النظرة البعيدة، زاهداً بالربح العاجل في سبيل ربح آجل، بعيد ولكنه مضمون، قد لا يلقاه هو وتلقاه أمته من بعده. أما إِذا تخلص هذا الجيل من نزق المطالبة السريعة، وعلم أن نجاح النخبة في عملها السياسي لا يتأتى إِلا بعد مراحل طويلة في حياة البلاد، وبعد بناء هادئ راسخ طويل الأمد، فعند ذلك يتخلص في الوقت نفسه من هذا الصراع المتأزم في نفسه بين الاتجاهين اللذين ذكرنا: اتجاه العمل السياسي المباشر، واتجاه العمل بروح النخبة، بعيداً عن العمل السياسي.
والواقع أن بقاء النخبة في جوها الصافي، بعيدة عن الحياة السياسية الكدرة القائمة، خيانة لرسالتها، ونوع من الترف يجعلها تفضل البقاء في صفوها، ولو كان هذا البقاء عقيماً، على النزول إلى معترك الحياة الواقعية الدامية. وليس أجمل حقاً من أن يعتزل رجل النخبة في جوه الروحي العبق، متعالياً على كل شيء: ولكن الجمال شيء، والواجب شيء آخر. وعبث أن يبرر مثل هذا الرجل موقفه بأنه يقدم، عن طريق اعتزاله هذا، خدمات لا يقدمها عن غير هذه الطريق: فمثل هذا القول يظل تبريراً وادعاء وفلسفة للتخاذل، وليس واقعاً.
إِن براعة الفكرة تتجلى بأن يستطيع صاحبها أن يقلبها إلى عمل. وقوة رجل النخبة ينبغي أن تتبدى في قدرته على أن ينظم قيمه وأفكاره في أسلوب عملي يشيعه بين أكبر عدد ممكن من الناس. ولا معنى للفكرة إِن لم تكن قوة، قوة موجِّهة حقيقية. ومجرد إِشعاع الفكرة من بعد لا يهب لها كامل قوتها وإمكانياتها ولا يمكن أن تعطي هذه الفكرة كامل قوتها إِلا إِذا نُظّم نشرها وإِذاعتها. وتنظيم هذا النشر وتلك الإذاعة هو العمل السياسي عينه، إِذا فُهم كما تريده النخبة.
وهذا لا يعني أن المسألة ليست دقيقة وصعبة، وإن الانحدار من مثل هذا العمل السياسي الموجَّه بروح النخبة إلى العمل السياسي التافه ليس خطراً صعب الاجتناب. ولكن مهمة النخبة، قبل غيرها وقبل أي شيء آخر، هي ركوب مثل هذه المواقف الدقيقة الصعبة وحسن قيادتها. ومتى كان الموقف الصحيح ميسّراً سهلاً؟
وهل تأتي غلطة الشاعر في كتابه هذا، حين يورد بعض الأفكار التي لا نقره عليها، إِلا بسبب هذا الانعزال الذي تعيش فيه النخبة أحياناً، والذي يحملها على ألا تحسن فهم واقع حياة أمتها، وعلى أن تعالج الأمور معالجة من لم ينزل إلى واقع هذه الأمة، وبقي في مفاهيمه المجردة وأفكاره المبيّتة؟ إِنه يبيّن مثلاً أن «الصهيونية، منذ أن تأسست، انطوت طبيعياً على محو لبنان»، ويعتبر هدف الصهيونية لبنان من دون سائر البلدان العربية. ويورد بعض الحقائق التي لا ننكر بعضها، وإِن يكن أكثرها مصطنعاً. فسائر البلدان العربية الأخرى، فيما يرى، «إِما صفر من المياه، وإِما ذات مياه أجنبية المنبع – إِلا لبنان.. » وجميعها، إلا لبنان، واقعة من الكرة تحت الدرجة الخامسة والثلاثين من خطوط العرض، مما يجعلها بعيدة عن أن تكون مركزاً للمدنية. «فلا ينابيع قومية إِلا في لبنان، ولا مناخ ملائم إِلا في لبنان»؟! وسماء لبنان تمطر سبعين بالمائة من مجموع أمطار البلدان العربية !!
وهنا نسائل: متى كانت الظروف الطبيعية المادية وحدها هي التي تكوّن الأمم وتخلق الحضارات؟ أوليس الإنسان هو المتحكم في الطبيعة؟ أولم يقلب الصحارى إلى سهول، ويطلق المياه حيث لا مياه، ويغير وجه الأرض كما يشاء؟ أوليس تاريخ الحضارة الإنسانية هو تاريخ تغلب الإنسان على الطبيعة والأرض والمناخ؟ وهل يجوز الحديث عن أثر البيئة الجغرافية في عصر سادت فيه الوسائل التكنيكية القادرة على الهزء بهذه البيئة؟
وهل صحيح بعد ذلك أن لبنان وحده يتمتع بهذه الشروط المادية الملائمة؟ وهل يفكر الصهاينة في مياه لبنان دون أن يفكروا في بترول العراق والجزيرة مثلاً؟ وهل في وسع لبنان، قبل هذا وفوق هذا، أن يقاوم الصهيونية منفرداً، ناسياً تكتله مع سائر أبناء الأمة العربية؟ أوليست مهمة النخبة أن تخلق هذا الوعي العربي الجامع الذي يستطيع وحده أن يقف مدافعاً مكيناً؟ وأين تعيش القيم الفكرية الرفيعة والمعاني الروحية العميقة التي تثور في نفوس النخبة، إِن لم تعش في الدعوة إلى كيان قومي عربي سليم، يستطيع وحده أن يجابه شتى الآفات التي تكتنف الأمة العربية؟ إِن الكاتب نفسه يبين خير بيان أن الحرب قائمة بين العلم والعاطفة، وأن مهمة رجل النخبة أن يقف شجاعاً في جانب الحقيقة. وما نحسب الحقيقة في جانب هذا التأليه للبنان، ورده إلى أصول غريبة عنه، وفصله عن الحضارة العربية التي سادت فيه منذ القديم.. وهل الموجات التي غزت لبنان قديماً، وعلى رأسها موجات الفينيقيين، إِلا موجات عربية فاضت من جزيرة العرب منذ أقدم الأزمنة؟
على أننا مع الكاتب تماماً عندما يتحدث عن بعض المعضلات التي ستتحدى نخبة الغد. فهو يبين، في عمق ونبالة، أن من المعضلات التي تواجهها هذه النخبة إِعادة الثقة بالعقل البشري، وأن منها استعادة الكرامة البشرية، وأن منها مشكلة الصراع بين مصالح الحاكم الخاصة وبين مصالح الأمة التي اؤتمن عليها.. وهو إِذ يطرح مشكلة القومية (أو مواطنية الأمة، كما يقول) والإنسانية (أو مواطنية العالم)، يحسن حين يبين أن القومية لا تشتمل على معنى الأثرة واعتبار البغضاء أساس البقاء، وأن العالمية لا تشتمل بدورها على التهرب من التزامات الإنسان نحو الآخرين، ولا تعني الذوبان «في كلامية تدمر الثقة بما يرتسم على الأفق من وحدة العالم». وهو بهذا يشير إلى المفهوم الصحيح للقومية: فالقومية لا تعني العصبية والغلبة؛ وبهذا تنسجم مع الفكرة الإنسانية العميقة، ما دامت إِنسانية الإنسان لا تزهر ولا تتفتح إِلا في تربته القومية. غير أنه يريد أن يفهم من مواطنية الأمة معنىً ضيقاً، ويخاف في نهاية حديثه عنها أن يجعلها والقومية العربية سواء، مناقضاً مرة أخرى روحه العلمية التي يحرص عليها. إِنه يعتبر أن نصف مشكلات الشرق «ناجم عن كونه اهتم، منذ فجر النهضة السياسية، للضمّ أكثر منه للتكثيف، لتوحيد الأقاليم أكثر منه للتمدين». وهكذا يستعيض عن القومية الحقيقية بالمواطنية، مواطنية اللبناني للبنان مثلاً.. وينسى أن كل مشكلات العرب، لا نصفها، ناجم عن محاولة كل قطر من أقطار العرب أن يحل مشكلاته على انفراد، متناسياً أن لا سبيل إلى الخلاص من الاستعمار ومن الأوضاع الاجتماعية الفاسدة إِلا عن طريق العمل العربي الموحَّد، وأن القضاء على أي واحدة من هذه المشكلات في قطر واحد أمر مستحيل إِذا لم يرافقه القضاء عليها في سائر الوطن العربي. فمشكلة البلاد العربية واحدة، والعمل على الخلاص منها لا يكون إِلا وفق أسلوب موحَّد. وإِذا لم تتكتل الفئة النضالية الواعية في مختلف أرجاء البلد العربي، ولم تنتشر في كل جزء من أجزائه، يستحيل على الانقلاب الاجتماعي أن يبلغ شاطئ الأمان وأن يتحقق في أي قطر عربي.
ويحسن الكاتب كثيراً حين يتحدث عن معضلة تعهد المعرفة الشعبية، وحين يبين أن «إِيجاد التفاهم بين العامة والخاصة لا يتم بحال من الأحوال بإنزال هذه إلى مستوى تلك، بل برفع تلك إلى مستوى هذه»، وحين يحمل على «الدلعة الديمقراطية» التي عوّدت العامة أن تسايرهم الخاصة. كما يجيد حين يعرض لمشكلة القدرة على الطموح. وحين يبين أن «أفتك ما يضعف الشرق اليوم ادعاء جبناء المأمل بأنهم هم الواقعيون، وتعريضهم بذوي الطموح الضخم»، وحين يقول قولته: «لن يوفر للشرق حتى أقل متطلباته إِلا من سينتدبه إلى المتطلبات الكبيرة».
وبعد، لنا أن نتساءل أخيراً: لمَ يعتبر المشكلة «مشكلة النخبة في الشرق»؟ وماذا يعني الشرق عنده؟ وهل ما يقوله ينطبق فعلاً على جميع بلدان الشرق، ولا ينطبق إِلا على بلدان الشرق؟ وفيمَ الإحجام عن ذكر كلمة «عرب»؟ أفلا تحمل هذه الكلمة معنى واقعياً حياً؟ وهل إِلى إِنكارها أو التنكر لها من سبيل؟ حقاً إِن الصراع الذي يواجه النخبة هو الصراع بين العقل والعاطفة. فهل لهذه النخبة أن تتحدى ذواتها وتتحدى رواسبها، وتنظر إِلى الأمور نظرة رائدها العقل والواقع؟ وهل لها أن تولد ولادة جديدة؟ إِن أعدى أعداء تكوّن النخبة أن تنساق هذه مع غرائزها، دون أن تحاول أن تجلو هذه الغرائز بنور العقل وبمجاهدة النفس.
دمشق
عبد الله عبد الدائم