الحي اللاتيني أيضاً..

الآداب – العدد الخامس – أيار /مايو/ 1954

«الحيّ اللاتينِيّ» أيضاً..

أثارت رواية «الحي اللاتيني» اهتماماً كبيراً في الأوساط الأدبية لم تشهد مثله إلاّ الآثار التي سجّلت نقطة تحوّل جديدة في تطوّر أدبنا العربي الحديث. وقد تناول الرواية حتى الآن
– ولما تمض على صدورها ثلاثة أشهر – زهاء عشرين كاتباً من مختلف الأقطار العربية كانت آراء معظمهم في صالحها. غير أن بعض الكتاب لم يفهموا الرواية أو لم يجدوا فيها إلاّ الجانب الجنسي. وقد هالهم الحديث عن مثل هذا الجانب، فوجدوا في ذلك خروجاً على مبدأ الالتزام الذي تأخذ به «الآداب» ورئيس تحريرها، مؤلف «الحي اللاتيني». ونحن نعتقد أن ثورة هؤلاء على الرواية، وهم نفرٌ قليل، هي ثورة لا شعورية على ما في نفوسهم من حياة جنسية يسودها الصراع بين المحافظة والتحرر، فكأن الرواية كانت بمثابة مثير لاضطراب يودّون أن يتابعوا أبداً كبته في نفوسهم، وافتضاح لمشكلة نفسية يحبّون دائماً أن يطمسوها، وهذا ما يدعوه علماء النفس بـ Projection. وهذه الظاهرة، في رأينا، هي أكبر دليل على صدق الحاجة إلى مثل هذه الرواية التي تُفصح بالدرجة الأولى عن مخاوف الشباب العربي إزاء المشكلة الجنسية وإساءتهم لفهمها. ونحن نؤمن بأن معالجة هذه القضية، وقد حاولت «الحي اللاتيني» معالجتها، من صميم رسالتنا الالتزامية.
هذا وقد نشرت «الآداب» في العدد السابق مقالين في نقد الرواية بقلم الأستاذين يوسف الشاروني وأحمد كمال زكي. ووردتها هذا الشهر عدة مقالات في الثناء على الرواية أو في تجريحها، فلم يكن لها بدٌ من أن تختار مقالين أولهما بقلم الأستاذ عبد الله عبد الدائم، أستاذ التربية وعلم النفس في الجامعة السورية، وثانيهما بقلم الأستاذ عيسى الناعوري، صاحب الزميلة «القلم الجديد» المحتجبة. وسيرى القراء أن أحدهما يكاد يناقض الآخر مناقضة تامة في فهمه لرواية «الحي اللاتيني»، ونحن نترك للقراء مناقشة الرأيين جميعاً.
«الآداب»

مقال الأستاذ عبد الله عبد الدائم

«عندما أحدثك عن نفسي أحدثك عن نفسك، وغير رشيد من ظن أنني لست أنت».
كلنا يذكر هذا البيت الذي رد به «فيكتور هوغو» مزاعم الأدباء الكلاسيكيين، وعلى رأسهم «بوالو» Boileau مشرّع الشعر الكلاسيكي. وكلنا يذكر الصراع الذي ساقه معهم في مقدمته الشهيرة لرواية «كرومويل» مبيناً خاصة تهافت المبدأ الذي استقوه من «مونتيني» Montaigne، وهو قوله «إن حديث الكاتب عن نفسه حديث منفر».
والحق أن نسغاً من فورة الحياة يجري في كل واحد منا، وهذا النسغ إذا عرفنا الكشف عنه واستجلاءه، استطعنا أن ننقل إلى الآخرين دفقة الحياة ومعناها، وأن نطلعهم على ما في نفوسهم منها. والكاتب البارع هو من عاش جانباً من هذا النسغ عيشاً عميقاً، حتى افتضه وكشف أمره لنفسه وللآخرين. والذي يشعر به القارئ لكبار المؤلفات، أن أصحابها قد رأوا وأبصروا: رأوا الحياة إذ عانوها، وجرت فيهم يسيرة هينة، وسالت من كتاباتهم عفواً ودون ما عنت. إنه ليشعر أن لسان الحياة هو الذي ينطق بلسانهم، وأنهم لا يعدون أن يكونوا ناقلين أمناء لما يلهمه ذلك اللسان ويوحيه، بل يشعر أن الألفاظ والسبك والفن الروائي تكاد كلها تصهر وتزول في حرارة ما تفضي به الحياة التي يعبرون عنها، وأنها لا تعود وسائل وأساليب مستقلة لنقل معاني الحياة وهمساتها، وإنما تغدو جزءاً منها ونتائج عادية طبيعية تتأتى طائعة لمن اتصل بهذه المعاني وامتص تلك الهمسات. أوليس هذا الشعور هو الذي يراودنا مثلاً عندما نقرأ روايات لدوستويفسكي وتولستوي وشكسبير وغيرهم من أصحاب التجارب الإنسانية العميقة؟
ومن هنا كانت الروايات التي يتحدث فيها المؤلفون عن أنفسهم وحياتهم الخاصة أقوى ما يكتبون في أكثر الأحيان. فهم في مثل هذه الروايات ينقلون تجربة حقيقية عانوها بسائر أعصابهم، وهم بهذا ينقلون لنا جزءاً من الحياة الحقيقية، الحياة العامرة – إنهم فيها يصلون إلى مقام الكشف، الكشف عن الحياة، بل إلى مقام الاتحاد بها، إن أردنا أن نتبنى بعض تعابير المتصوفة. فهم قد صارعوا وارتقوا في معارج الوصول، وعرفوا طعوماً حقيقية؛ وما عليهم بعد ذلك إلا أن ينشروا بضاعتهم هذه في أمانة وبساطة ويسر. وهذا هو مصدر القوة التي نجدها في كتاب مثل «كتاب صديقي» لأناتول فرانس، أو «اعترافات فتى العصر» لموسيه، أو «الاعترافات» «للقديس أوغسطين»، أو «الأيام» لطه حسين، أو «قدر يلهو» لشكيب الجابري، أو «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس.
إن شيئاً واحداً تتطلبه الحياة من الإنسان لتخلص له وتمنحه عطاياها، هو أن يصدق في معرفتها، وألا يتحدث عن جوانب منها لم يعرفها ولم يعانها. وأي حديث عن أي جانب عرفه المرء حقاً حديث ينتقل سريعاً إلى نفوس السامعين أو القارئين، ويجدون فيه أحاسيسهم وذواتهم. بل أي معرفة لجانب صغير من الحياة، إذا كانت معرفة عميقة حقاً، لابد أن توصل صاحبها إلى الإطلال منها على بعض الجوانب الأخرى، بل لابد أن توصل صاحبها إلى أن يضع يده على قلب مشكلة الوجود وجوهره، وعند ذلك يصل في كتابته وفكره إلى شأو لا يمنحه إياه التحليل المنطقي، ويصيب من الحقائق ما لا يعيه هو تماماً، إذ تكون الحياة هاديه ومحرك فنه.. ومن هنا نرى كثيراً من الفنانين والمؤلفين الكبار يجهلون هم أنفسهم ما تحتويه مؤلفاتهم من معاني وأجواء.
ولسنا نزعم أن كتاب «الحي اللاتيني» قد بلغ هذا الشأو تماماً، غير أننا نجد فيه محاولة جدية للسير في هذه السبيل، وخطوة كبرى نحو بلوغ هذه الرتبة. إن فيه تجربة، وإن صاحبه لم يرد أن يحدثنا إلا عما جربه وعاناه حقاً، وجرب أن ينقل إلينا أحاسيسه وانطباعاته دون ما تورية، ودون ما تشذيب، ووصف هذه الأحاسيس بالتفاهة حيث ينبغي، وحمل عليها حيث يجب، وصدق معها ومع نفسه في أكثر الأحيان..
فهو شاب عربي لم ينكر مجتمعه مدعياً، ككثيرين غيره، أن في وسعه بيسر أن يلبس ثوب الغرب ويقتحم تياره دون ما توجس وخيفة. ولم ينكر ما خلفه هذا المجتمع فيه من رواسب الحرمان الجنسي والقلق والمحافظة والخوف من المجهول، بل الخوف من الذات.. إنه لم ينكر أنه، ككل شاب عربي مخلص، ما يزال يتلمس ذاته ووجوده، ويبحث حائراً عن نواته ورسالته.. ولم يدع أنه وصل إلى معرفة هذا الوجود وتلك الرسالة، ولو ادعى لأنكرنا عليه ذلك.. إنه ككل عربي يعيش في المرحلة الحالية من تاريخنا، يفتقد وجوده الأصيل ويشعر أن ثمة شيئاً، ثمة رسالة ومثلاً أعلى، تضيء له من بعيد وتومض، ويقبض عليها في بعض لمحاته ولمعات نفسه، ولكنها ما تلبث حتى تفر من قبضته، مخلفة وراءها سراباً. إنه واحد من ذلك الجيل المعذب القلق الذي يشكو الحيرة، ولم يستقر بعد على قيم حقيقية توجه حياته وترشد سبيل سلوكه. ولكنه ليس، كبعض هذا الجيل، ممن استخذى واستسلم وضاع مع حيرته؛ وإنما هو، كطليعة واعية منه، يحاول أن يعرف ويصل ويبحث، ويرى الأمور بين الملهم صاحب الرسالة، وإن كانت رسالته غير واضحة المعالم بعد. والحق، إن الأمم تعرف في بعض أطوار حياتها مراحل يكون فيها القلق الباحث عن حل هو وحده الموقف الصادق الصحيح، ويكون فيها ادعاء الوصول إلى حل وطمأنينة كذباً وزيفاً أو مواتاً ومسكنة. ومثل هذه المرحلة هي التي تعرفها بلادنا اليوم.. ومثل ذلك الموقف القلق هو الذي يقفه المؤلف في روايته.
ويتجلى هذا القلق الباحث لدى المؤلف عن طريق اتصاله بالغرب. إنه يريد أن يفر من نفسه إلى عالم يعتقد أن فيه شفاء أوصابه.. ويتساءل هل هو بالغ هذه الغاية.. ويسأل ما هو الشفاء الذي سيلقاه، وما هو الداء الذي يفر منه ويتلمس له الدواء؟ والحق، إنه لا يعطي جواباً على هذين الأمرين في روايته، فهو لا يعرف الداء. وهذا وجه من أوجه القلق التي يعيشها الشاب العربي في بلادنا: إنه يفتقد شيئاً لا يعرفه تماماً، ويشكو ألماً لا يتبين موضعه. وخطأ أن نقول إن الداء الذي يشكو منه بطل الرواية هو الحرمان الجنسي.. نعم إنه يصرح لنا في بداية الرواية بأنه يبتغي المرأة في رحلته الجديدة إلى الغرب، ولكن من واجبنا أن ندرك من سياق حديثه أن هذه الناحية جزء من قلق عام لا يعرف أن يصفه، لم يتضح له فيه غير هذا الجانب. أفلا يفر المرء في بعض الأحيان إلى الحلول الجنسية حين لا يعرف حلاً آخر؟ أوليست التجربة الجنسية مفتاح التعرف على النفس وخبر أغوار الذات؟ إنها لدى المؤلف وسيلة يتلمس عن طريقها ذاته ويخز بها وجوده ليشعر به ويعرفه. أفلا يشعر المؤلف إنه منعدم الهوية في كثير من الأحيان، «يعجزه أن يرسم لنفسه صورة متميزة الأبعاد واضحة المعالم» ص 4؟ أفلا يتمثل كيانه «شيئاً فارغاً يعوزه الامتلاء والكثافة، صدفة جوفاء ملقاة على رمل شاطئ، عوداً فارغاً من القش تتقاذفه، بلا هوادة، مياه نهر صاخب» ص4؟ إنه ليحدثنا في بعض أجزاء روايته كيف يحاول أن يفيق من هذه الغيبوبة الوجودية عن طريق المرأة؛ ويصف لنا حاله عندما طلبت إليه رفيقة صديقه، بعد أن ودعاه في المطار وامتطيا السيارة معاً أن يقدم لها سيكارة؛ ويحدثنا في كثير من البراعة عن شعوره بشخصيته وكيانه على إثر هذا الطلب التافه، بعد الحيرة والخجل والإحجام:
«وسقط كل الخوف والهيبة والتردد والاضطراب، سقطت كلها عن كاهله. بل هو بدأ يشعر أنه يدوسها كلها بقدمه. أكان حقاً بحاجة إلى أن تطلب منه امرأة سيكارة أو أن تقترح عليه دخول مقهى، حتى يشعر بشخصه، حتى يشعر بأنه إنسان حي، إنسان حر؟ يخيل إليه الآن، بل هو موقن، أنه مالك منذ هذه اللحظة زمام الموقف، وأنه منتصر على جميع الظروف التي سيواجهها» ص4.
أفلا نجد في هذا تعبيراً عن حقيقة يعرفها كل إنسان ويعرفها الإنسان العربي خاصة، وهي أنه يبدأ بالتعرف على وجوده عن طريق المرأة، وأنها وسيلة لتحطيم كثير من خجله واضطرابه وغيرهما من الصفات التي لا تكشف إلا عن خرق في إدراك معنى الحياة؟ أفلا يتخلص مثل هذا الشاب من «عسر» نفسه وتثاقلها وارتباكها، عن طريق مثل هذه التجربة؟
إن المؤلف ليبرع في وصف أثر هذا «الكاشف»، نعني المرأة، في تفتيح نفسه وإعادة الثقة إليها والقوة؛ ويبين لنا خير بيان كيف أطل من هذه التجربة، تجربة المرأة، على آفاق كثيرة في الحياة. بل كيف نقلته إلى ما قد يبدو نقيضها، نعني الفكرة القومية. والحق أن المرأة كانت له أولاً وآخراً وسيلة للكشف عن ذاته ورسالته وحياته في أمته.. إنها وسيلة ولم تكن غاية.. إنها وسيلة لتفتيح نفسه وإغنائها وسبر غورها والتأكد منها، وإنها وسيلة بعد ذلك إلى إثارة قلق مبدع ومشكلات جديدة لها صلة بقلب حياته القومية.
إنه إذ تفتحت نفسه، تفتح لحياته ومشكلات بلاده. وهو إذ غدا إنساناً سوياً لا يلجمه الجهل بالمرأة ويشوهه، بحث ككل إنسان سوي عن سر وجوده ومعنى رسالته وغاية مطافه. بل إن مشاعر الصداقة نفسها قد أرهفت لديه وغدت ذات لون خاص عن طريق هذه التجربة:
«كان على يقين من أن صداقته لصبحي ستصبح صداقة صحيحة خالصة يوم يلتقي مثله بفتاة تطلق مشاعره الحبيسة من عقالها وترد أحاسيسه إلى موضعها الطبيعي من قلبه وروحه» ص 72.
وكل من عرف شيئاً عن قوانين الحياة النفسية، يفهم تمام الفهم معنى هذه التجربة وصلتها بأعمق معاني الحياة الاجتماعية والقومية.. أولم يذهب بعض الباحثين إلى القول بأن التجربة الجنسية تصل المرء بمنبع الوجود وجوهره؟ وإن نحن آثرنا ألا نذهب هذا المذهب البعيد، فلن نستطيع أن ننكر أن محبة الإنسانية ومحبة الحياة القومية والاجتماعية تتأتى غالباً للذين أرضوا نفوسهم أولاً وأشبعوها. ولولا قلة يعرفون أن يخلقوا من الحرمان رياً، ومن الكبت تصعيداً وإبداعاً، ومن النار برداً، لجعلنا هذا القول عاماً شاملاً.
ويزيد في القيمة الاجتماعية لهذه التجربة لدى المؤلف أنه لا يقبل عليها منطلقاً من رواسب مجتمعه، بل يقتحمها وهو محمل بروح هذا المجتمع كلها وتقاليده، مثقل بنظرات أمه وأقاربه. وهو ههنا أيضاً يلمس جانباً حياً من تجارب الفرد العربي، إذ يصف لنا الصراع الباطني الذي يقوم في نفسه بين جانبين يتجاذبانه: جانب يدعوه إلى أن يحيا حياة حرة مليئة بالانطلاق من أسر التقاليد، وجانب يشده إلى مجتمعه وتقاليده وعاداته. وما نظن شاباً عربياً لم يعرف هذا التمزق والصراع. وليست قيمة هذا التمزق في الواقع في أنه صراع بين جيلين، كما يصفونه، ونزاع بين عقليتين: بل قيمته في أنه صراع بين نزعتين كامنتين في أعماق الفرد الواحد. فالفرد الواحد من جيلنا الجديد يملك هذين التيارين في قرارة نفسه، يشدانه ويتنازعانه، مهما يدّع. وهو إذ يصارع لا يصارع محافظة غيره بتحرره هو، وإنما يصارع محافظته هو بتحرره هو أيضاً.. إن في نفسه ازدواجاً: فهو متحرر أعمق حدود التحرر أحياناً، ولكنه في الوقت نفسه محافظ كأقوى ما تكون المحافظة.. بل إن تحرره العنيف الذي يظهر صاخباً أحياناً، ما هو إلا تمويه يوهم نفسه عن طريقه أنه حر منطلق من إسار المحافظة. أليست بعض الاندفاعات العنيفة التي تتبدى أحياناً بمظهر الشجاعة والجرأة، تعبيراً عن جبن وخوف؟ أليست بعض الشجاعة، كما يقولون، فراراً إلى أمام؟ أوليست فن إخفاء الخوف أيضاً؟
إنها حقاً مشكلة الشاب العربي تلك المشكلة التي يتابعها المؤلف في الرواية، مشكلة هذا الصراع بين المحافظة والتحرر الحالَّين معاً في قرارات النفوس، وفي قرارات أكثرها ادعاء للمحافظة أو ادعاء للتحرر. وأقسى المشاعر هي المشاعر المزدوجة المعنى، وأقدر الانفعالات على إقامة الاضطراب في قلب الحياة النفسية هي تلك التي تحتوي في آن واحد على حدين وقيمتين. أفلا تأتي قسوة عقدة «أوديب» مثلاً، التي يحدثنا عنها علماء التحليل النفسي، من هذا الازدواج فيها ومن اشتمالها على عنصر البغضاء والمحبة معاً لشخص واحد هو أحد الأبوين؟ ومثلها عاطفة الحسد والغيرة وكثير من العواطف الإنسانية.
وهكذا نرى المؤلف يحدثنا عن ذلك الشعور بالإثم والخطيئة الذي يراود الفرد في مجتمعنا عندما يقدم على تجربة جنسية، وعن القلق الذي يعتريه حيالها. إنه حين أغلق الباب خلف المرأة الأولى التي اتصل بها «أرسل زفرة طويلة»، وكان «يشعر بضيق لا يدرك له تعليلاً إلا أنه غير راض عن نفسه. وعصفت به الحيرة، فلم يدر ما الذي ينبغي أن يفعله الآن..» ص 64. وهكذا نراه يحاول، بنزعة العربي وروحه، أن يرقى من هذه التجربة الجسدية إلى تجربة تمتزج فيها الروح بالجسد، ليلقى التبرير «العربي»، إن شئنا، لمثل هذه التجارب. «أليس هو فتى من الشرق العربي؟ إنها رواسب أجيال طويلة من الحرمان والكبت والخوف من المرأة تشده إلى ماضيه وتقاليده» ص 98 ولذلك يعرف «جانين» ويحب «روحها عبر جسدها، وجسدها عبر روحها» ص 225. ويحب فيها طهرها وتجربتها الفاشلة مع خطيبها وفرارها من أهلها وألمها الذي تمضغه في داخلها؛ ويروقه هذا الوضع الخاسر الذي تجره معها، كأنما يريد أن يظهر أمام نفسه بمظهر المنقذ المضحي، وكأنما يريد أن يمنح تجربته الجديدة هذه معنى روحياً فيه عبق المثل العليا التي تراوده:
«وهل تنوي أن تتخذ من شخص جانين مطهراً تتحلل فيه من أوزارك، وتنفض عنده آثامك؟ أتدري حقاً لماذا تحبها إن كنت حقاً تحبها؟ أشفقة وعطفاً على تلك الفتاة التي حطمتها مأساتها الغرامية؟ أم إعجاباً بهذه الفتاة اللامعة ذكاء وحساً وبصيرة؟».
أجل، إنه يبحث فيها أيضاً عن ذلك المجهول، مجهول الشاب العربي القلق التواق إلى القيم الروحية، الذي يأبى أن يرى في الأشياء حمأة المادة ورجس الطين… إنه تواق إلى اقتطاف معانٍ غير معاني الجسد وغير معاني اللذة.. إنه يريد أن يرى وجوده في مرآة هذه الفتاة، وأن يعرف واجبه الاجتماعي من خلال متعته الفردية. ولهذا يمنح صديقه «فؤاد» قيمة خاصة ما تني تنمو وتشتد، إذ يحاول هذا الصديق أن يعجل لديه هذا الربط بين تجربة الفرد وتجربة الجماعة، بين متعة الخلوة ومتعة النفس التواقة إلى المثل الأعلى القومي، ويشعره بأن «حياته ينبغي أن تضطلع بتبعة وتتحمل مسؤولية وتسعى إلى غاية» ص 141، ويوكد عنده فكرة القصد والنية في كل شيء، مبيناً له ما تبينه الفلسفات الحديثة من أن وجود المرء لا يتحقق إلا ضمن مسؤولية وغاية، جاعلاً من مسؤولية العمل القومي القصد الأول والموجه الكبير الذي يهب للحياة معنى وللسلوك مفتاحاً واعياً. إنه يحاول أن يخرجه من «بحران وجوده»، وأن يلقي في نفسه تلك الجذوة التي تضطرم بها أعماقه، «فتلقي على نظرته إلى الحياة ضوءاً هادياً يربط الأحداث فيما بينها، ويتوجه نحو غاية واحدة وهي.. خدمة القضية القومية في بلاد العروبة كلها» ص 164.
ولكن رحلته هذه في سبيل الوصول إلى الطمأنينة وإيجاد الحل لبحرانه، تخفق كما تخفق كثير من رحلات الشباب العربي في طريق البحث عن الرسالة المرجوة منهم. فهو ما يلبث في كثير من الأحيان، حين يفارق صديقه «فؤاد» أن «يعاوده الشعور بالعوم والطفو.. وأن يلمس بيديه هذا الفراغ الذي يستخفه.. » بل ما يلبث أن يخفق في إتمام ذلك النسيج الذي حاك أول خيوطه، نسيج صلته مع «جانين» وما كان يعلقه على هذه الصلة من انقلاب عميق في نفسه وقيمه ونظرته إلى العالم.. فإذا به يعود متثاقلاً إلى الجانب المحافظ من نفسه، ويصغي لآراء أمه ومجتمعه ومن حوله هاجراً «جانين»، محاولاً أن يخلع على هذا العمل المحافظ وجهاً متحرراً إذ يفسر انصرافه عنها وعزوفه عن الزواج بها تفسيراً قومياً، يستقيه أيضاً من آراء صديقه فؤاد. وبهذا يبرز الصراع الداخلي الذي تحدثنا عنه، الصراع بين الروح المحافظة والروح المجددة الثاويتين في أعماق كل منا، شديداً عنيفاً، ولا سيما بعد أن تمده أفكار «فؤاد» التي تصلح أن تستثمر، عند الاقتضاء، لتبرير بعض المواقف المحافظة.
ولعل خير ما في الرواية هو هذا التراجع والضعف والعودة إلى القلق والحيرة، بعد مراحل أوهمت بالتغلب عليها. ولا نرى نحن في هذه العودة إلى نقطة البداية نقيصة في الرواية وإنما نرى فيها أحد جوانب القوة. ذلك أن النغم الأساسي الموجه للرواية، في رأينا، هو هذا القلق الذي يقبع فيه الشاب العربي، وهذا التلمس الفاشل الذي ينطلق إليه باحثاً عن معنى وجوده، وهذه الواحات التي تتراءى له في الطريق فيحبسها ماء ويظن أنها ضالته ورسالته، فإذا هي آل وسراب.. بل اللحن الأصيل الذي تردده نفس هذا الشاب هو ضرب من العود الأبدي Retour éternal إذ يبدأ ويمضي ويشمر للبحث ويتوهم أنه وصل، ثم ما يلبث حتى يرى نفسه في مكانه لم يبرحه، وفي نقطة البداية لم يفارقها..
«بل الآن نبدأ يا أمي» بهذا تنتهي الرواية!
وفي هذا القلق الذي يواجه الشاب العربي البشرى كلها والأمل كله.. إنه ينيء عن أنه بدأ يسير في الطريق السوية. وإن اعترافه بفراغه وجهله وفقدان رسالته هو بداية علمه.. إنه أخذ يرى المشكلة وأخذ يطرحها على بساط البحث، وطرح المشكلة، كما يقول «بيكون» نصف العلم..
«لا يا عزيزي. فأنا أحسب أنك على خطأ. إنهم لا يوحون بالنفور. وأنت لن تنفر منهم إذا أدركت أنهم شبان قلقون، يبحثون عن أنفسهم. إننا جميعاً نحن الشبان العرب، ضائعون يفتشون عن ذواتهم. ولابد أن نرتكب كثيراً من الحماقات قبل أن نجد ذواتنا» ص 9.
«والتفت فيما حوله، فتراءت له، في موجة بشرية، وجوه كثيرة يعرفها، صبحي، عدنان، زهير، كامل، ربيع، صالح، أحمد، سعيد.. بل فؤاد.. كلهم حوله وعشرات غيرهم عيون تطل منها أرواح ضائعة، تبحث عن نفسها، على مقاعد الجامعات وفي مقاهي الأحياء، وبين أذرع النساء. وهو نفسه، هذا الشيء الفارغ، هذه الصدفة الجوفاء، هذا العود من القش، أليس هو أضيعهم نفساً وأشردهم روحاً؟» ص 90. وتعجبنا في هذه الجملة الأخيرة قول المؤلف: «بل وفؤاد». فهو أيضاً شاب قلق ضائع، وهو لا يملك بعد الروح الهادية التي ترشده.. غير أنه أشد شعوراً من غيره بضرورة امتلاكها.. أوليس هذا هو واقع كثير من الشباب العرب الأقوياء: لديهم التطلع والتوق، وليس لديهم تفاصيل هذا التطلع ومضمونه وطرق بلوغ ما فيه؟ إن كل ما لفؤاد من فضل على بطل الرواية هو أنه جعله يوكد تساؤله وبحثه وقلقه، بعد أن كاد يشعر في قرب جانين أو غيرها، أنه بلغ حال السكينة والاطمئنان التي لا تعرف الغواشي. أولم يخطر لباله مرة أن يخاطب جانين قائلاً: «وما يعنينا أن نعرف من نحن؟ ألا يكفينا أننا كائنان يعيش أحدنا بالآخر؟ ألا تشعرين أنك تحققين الآن غاية وجودي؟ وأنا كذلك؟ لماذا تبتعدين يا جانين؟ لماذا تستشرفين الآفاق القاصية؟» وهذا الاستشراف للآفاق القاصية هو الذي كان يحرقه في الواقع، وما اتهم به جانين إلا لأنه كان يصارع نفسه، ثم جاء فؤاد فوطد أركانه..
وهكذا يعود الفتى من ديار الغرب وهو قلق كما كان، بل أشد قلقاً وتساؤلاً.. وكل ما في الأمر أن موضوع قلقه قد اتضح أكثر، وأنه أصبح أغنى وأوجع.. إنه يدرك الآن معنى المرأة وشأنها في تفتيح النفس؛ ولكنه يدرك ما لم يكن يدركه من قبل تماماً، وهو أن هذه التجربة ليست إلا جزءاً من تجربة أوسع، وأنها لا تحمل قيمة في ذاتها، بل تستمد قيمتها مما تثيره في النفس من رغبة في البحث وتوق إلى اكتشاف معنى الذات والوجود.. وهل ثمة أقدر على اكتشاف معنى الحياة من احتكاك النفوس وامتزاج الأنا بالغير؟ وهل ينكر الدور الذي يلعبه الشخص الآخر في تكوين كيان الفرد وشعوره بتضحيته؟
وبعد، لقد آثرنا الوقوف عند جانب في الرواية نعتقد أنه جوهرها ومحورها. وبهذا فاتنا أن نذكر جوانب أخرى، بعضها يتصل ببراعة الأداء والفن القصصي، وبعضها يتصل بالقدرة على تحليل الأحاسيس النفسية الدقيقة.. والمؤلف في هذا كله موفق. غير أن توفيقه لم ييسّر له إلا لأنه قبض على مشكلة حية، ووصف شيئاً عاناه، فكان هذا الشيء الذي عاناه رائد أسلوبه وفنه، وصائغ عباراته وإشاراته..
دمشق
عبد الله عبد الدائم