الحظ

مجلة الأمل الحمصية – تشرين ثاني 1949

الحـظ
للأستاذ عبد الله عبد الدائم
هذا حديث طريف ألقاه الأستاذ عبد الله
عبد الدائم في حلقة الزهراء الأدبية بدمشق
وتلطف فخص مجلته هذه بنشره فله الشكر
مجلة الأمل
تتردد كلمة “حظ” على ألسنة الناس، بل على ألسنة من ينزع منهم إلى القول العلمي وينأى عن الكلام الجزاف؛ فترانا نردد مثل هذه الأقوال “إن فلاناً بائس تعيس، قليل الحظ” و”إن فلاناً إنسان طيب، غير أنه سيء الحظ والطالع”. فهل تقابل كلمة “الحظ” هذه شيئاً واقعياً له وجود، أم أنها لون من ألوان الكلم أو بقية باقية من أوهام قديمة؟.
إننا سننتهي في هذه الكلمة إلى رأي قد يبدو غريباً للوهلة الأولى وقد يظنه بعضهم مبايناً للروح العلمية؛ هو أن الحظ شيء واقعي، له وجود نفسي، في وسع عالم النفس أن يصفه ويحلله ويقدم له تفسيراً.
ونرى قبل البدء في عرض الحجج المؤيدة لهذا الرأي عرضاً منطقياً منظماً، أن نخط للقارئ صورة مقتضبةً عن نشأة هذا الرأي عندنا وولادة هذه العقيدة في نفسنا.
ذلك أن خير برهان دوماً هو البرهان الصادر عن التجربة الحية وخير يقين هو اليقين الذي يستوحيه المرء من مشاهداته الواقعية اليومية:
1″- لقد كنا نلاحظ منذ عهد بعيد أن الفرح بشير ينبئ بحدوث حوادث سارة، وإن الحزن، على العكس من هذا، إشارة تنذر قبل حين بوقوع الكوارث والصعوبات. نعم لا يكفي أن يكون المرء مسروراً كيما يثير هذا السرور لديه حوادث محببة إليه، ولا أن يكون حزيناً كيما يجلب له هذا الحزن صواعق القدر. غير أن من النادر أن يقع لأحدنا أن يكون الحظ مواتياً له في لحظة من لحظات الانقباض والغم، أو أن يكون معادياً له في طور من أطوار الفرح العميق.
2″- ثم إن الألعاب التي تدعى بألعاب النصيب أو الحظ، قد قدمت لنا في هذا المجال درساً آخر، فلقد لاحظنا منذ أمد بعيد، خلال بعض الألعاب التي كنا نقوم بها مع بعض الأصدقاء أو الأقرباء، أن اللعب يكاد يخضع لضرب من الغائية، وكأنما يملك قصداً حسناً أو سيئاً، وكأن له إرادة جازمة يسير فيها فيواتينا أو يعادينا. ولقد رجعنا ذلك في بادئ الأمر إلى ذلك الميل الطبيعي الذي يدفع الإنسان عادة إلى تجسيد الحوادث التي تعنيه وتهمه، وقلنا إن ما نتخيله وهم من أوهام الفكر، وإننا حين نعجز عن تفسير مواتاة اللعب لنا أو معاداته صدفة واتفاقاً، نلجأ إلى أن نتخيل اللعب كائناً ذا نية وقصد، يغضب ويرضى، ويهادن ويعادي، غير أن التجربة عندما تكررت مئات المرات أقنعتنا أن الأمر أعمق من هذا. وكثيراً ما تأتّى لنا أن نشهد، متفرجين، بعض ألعاب الحظ في قاعات عامة، فوجدنا أن للعب ما يشبه الكره للتشتت والميل إلى التركز والتجمع عند شخص أو أشخاص معينين، وأن هنالك دوماً شخصاً يجلب النظر بما يصيب من ضربات موفقة أو مخففة تتجمع ولا تأتي فرادى. حتى كأن هنالك روحاً مزودة بالعاطفة تدير اللعب وتوجهه، فتتحزب ضد إنسان أو تنتصر له، في عنف وتصميم. وكثيراً ما اهتبلنا الفرصة لنسأل بعض اللاعبين الغاوين والمحترفين عن مثل هذه الظاهرة، فكان جوابهم لنا: إن هذه الحادثة حادثة تطالعهم كل يوم، بل هي حقيقة يقبلها جمهور اللاعبين ويتفقون حولها جميعاً.
عند ذلك أطلقنا على هذه الظاهرة اسم “قانون التتابع” ونعني به تلك الحقيقة التي ترينا الحوادث السارة أو التعيسة تتوالى توالي حلقات متآخذة، فما تكاد مصيبة تنطلق حتى تتبعها أخرى، وما يكاد حادث سعيد يجري حتى تلحق به حوادث مثله، حتى كأن قانون التجمع يحكم حوادث السراء والضراء كما يحكم أكثر ظواهر الكون، وكأن العزلة لا تطيب لها كما لا تطيب لغيرها.
ونحن نلمح هذا القانون “قانون التتابع” في الحياة العادية، في ذلك المد والجزر الذي يخضع له الإنسان في حياته حين يتقلب بين النعيم والشقاء، بين بزوغ نجمه وأفوله؛ وحين يدور دولاب الحياة فيرفع من وضع ويضع من رفع.
ومن الأقوال الجارية على ألسنة كثير من الناس أن المصيبة لا تأتي أبداً منفردة وحيدة. والواقع يبين لنا أن ثمة أشخاصاً يشعر المرء تجاههم أن القدر يلاحقهم وأن في كل ما يحدث لهم مسحةً من الشيطان. ومن منا لم يلق تلك الأسر التي انصبت عليها المصائب تترى بعد فترة من الحياة هادئة ناعمة؟ فالأم تجن، والأب يجرح ويغدو عاطلاً عن العمل، والابن يفقد عمله لإفلاس معلمه وهكذا…
صحيح أن بعض المصائب هي نتيجة طبيعية لمصيبة أولى، بحيث لا تؤلف في مجموعها إلا حادثة واحدة. ولكن كثيراً ما يحدث أن تكون المحن غير ناتجة عن عمل الشخص ولم يجنها بيده. ففي خلال هذه الحرب مثلا، يبدو أن بعض الناس في البلاد التي عانتها حقاً . خرجوا منها غير مصابين بأذى، وأن آخرين قد ذاقوا كل مرارتها، وأصابتهم كل ضراتها.
3- ثم أن ملاحظة النشاط اليدوي قادتنا إلى نتائج تشبه تلك التي انتهينا إليها عن طريق ملاحظة اللاعبين. ولعل كلاً منا قد لاحظ تلك الظاهرة الشائعة العادية، وهي أن العمل اليدوي يصاب بشيء من العسر وفقدان الدقة في حالات التعب والاضطراب العصبي، وإن ما يدعى بالعسر في الحركات يرافق دوماً هذه الأحوال الجسدية والنفسية السيئة. ويكفي للتأكد من هذه الحقيقة أن يحاول احدنا أن يحلق لحيته بآلة عادية بعد عمل عضلي منهك قام به أو بعد طاقة عصبية ضخمة صرفها. فالجسم إذا بدا فيه عجز أو تخاذل بعض التخاذل ظهرت لدى صاحبه زلات الأيدي والأرجل وكل تلك الحركات الضالة التي تخطيء مقصدها ولا تصيب هدفها. أفلا نرى، عندما يكون الإنسان جائعاً يمزقه الجوع، أن يده تفر من إرادته وطوقه وكأنها لا تخضع له، وأن الحركات تغدو أرنة غير مطاوعة؟ أفلا نشعر أن المرء إذ ذاك لا يغدو عاجزاً عن القيام بالأفعال الدقيقة فحسب، بل يفقد القدرة على تسيير حركاته الأولية العادية تسييراً أميناً مطمئناً ؟ ها هو ذا يريد أن يضع الإناء على المنضدة فيقلبه، ويريد أن يتناول “شوكة” فتسَّاقط على الصحن.
وكلنا يعرف تلك الخادمات اللائي يضطر الناس إلى رفضهن لأن يدهنِّ تعيسة عسراء.
ولربما فكر الكثيرون أن هذه الأشياء كلها أمور طبيعية وأن ليس فيها شيء عجيب، وأن جميع حركاتنا يوجهها الانتباه، وأن الإعياء الجسدي والفكري حين يصيب الانتباه يصيب هذه الحركات بالتالي. ومثل هذه الفكرة تراود المرء للوهلة الأولى، وقد راودتنا أيضاً في البداية، ثم ما لبثنا حتى رفضناها. صحيح أن المرء عندما يكون في كامل انتباهه، يحلل الموقف تحليلاً أدق، فيقبض على ناصيته، ويجنب نفسه كثيراً من الكبوات والتخبطات العقيمة. ولكن أفلا نشعر أن مثل هذا العسر في الحركات يحدث لنا ولو كنا في تمام انتباهنا، وأننا كثيراً ما ندرك الهدف المقصود إدراكاً واضحاً، ثم يفر من يدنا أو تفر يدنا منه، شأننا عندما نريد أن نملأ ساعة عن طريق مبزلها، فنرى المبزل تماماً، غير أن أناملنا تنفلت عنه وتنأى وتنزلق من دونه. إن في أبسط حركاتنا وأكثرها ألفة منا ضرباً من الوحي والإلهام. والانتباه نفسه، الذي فكرت أن ترد إليه هذا الفشل في الحركات، هو بدوره لا يواتينا دوماً، ولا يتأتى لنا دوماً أن نحصل على انتباه كامل تام. وكثيراً ما ندرك أن الانتباه يعطى ويوهب ولا يؤخذ ويغتصب، وكثيراً ما ندرك أن الانتباه المغصوب القسري الذي نناله غلاباً هو، عادة، عقيم غير منتج، وأن أخصب الانتباه ما كان عفوياً، مطبوعاً غير مصنوع.
لنحاول الآن، بعد هذه الحوادث التي ذكرناها أن نقدم للحظ تفسيراً. ويهمنا قبل كل شيء أن نبين أننا في تفسيرنا للحظ ننأى عن كل تفسير غيبي، وننكر أن يكون الحظ من عمل قوة خارجة عن الإنسان. وفي رأينا أن الحظ ما هو إلا ما يملكه الناس على درجات متفاوتة من قدرة على جعل الحوادث الطبيعية والحيوية والبشرية خاضعة لإرادتهم، دون حساب منهم أو تقدير.
فتفسيرنا إذن سيكون تفسيراً علمياً، لا مغيباً متصلاً بما وراء الطبيعة. ولا شك أن مثل هذا التفسير سوف يصطدم بعقبات كثيرة.
مآخذ حول البحث في الحظ:
وأول ما يؤخذ علينا وعلى كل من يحاول أن يعطي للحظ تفسيراً، أن تكون الحوادث التي نأتي بها لنؤيّد نظريتنا هي محض مصادفات وظروف ليس لها أساس وضعي حقيقي. ذلك أننا، في الشؤون التي تتعلق بمستقبلنا وبآمالنا ومخاوفنا نفقد صفاءنا المعهود ويتعلق فكرنا بصدفة أو اتفاق عابر ويعتبره حجة ويبرر به إيمانه، وينسى ألوف الحوادث التي لم تحدث فيها هذه الصدفة. فأحكامنا في مثل هذا المجال أحكام متأثرة بعواطفنا وأهوائنا، نقبل فيها ما نريد أن يكون، ونعتقد بالشيء لأننا نريد أن نعتقد به.
والمآخذ الثاني الذي يؤخذ علينا بهذا الصدد أيضاً، هو أن محاولتنا وضع نظرية للحظ شيء يناقض مبدأ أساسياً من مبادىء العلم الحديث، هو مبدأ التقيد أو الجبرية، ذلك المبدأ الذي يقرر أن جميع ظواهر الكون خاضعة لقوانين ثابتة مطردة لا تتخلف عنها، وأن ليس في الطبيعة صدفة أو حادثة خارقة للطبيعة، بل لكل شيء سبب، والنتيجة الواحدة تصحب دوماً أو تتبع نفس الأسباب، والأسباب الواحدة تحدث نتيجة واحدة دوماً. فمحاولة وضع نظرية للحظ والإيمان به يعنيان أن في مقدور الحظ إذا وجدت شروط طبيعية وبيولوجية ونفسية معينة، أن يغيِّر الحادثة الطبيعية المرتقبة التي تنتج عن هذه الشروط، وأن يجعل الأمور تحدث مغايرة لما ترسمه هذه الشروط. فتلك الحجرة التي لم تكن لتسقط إلا بعد شهر لو أنها كانت تخضع لقوانين الثقالة وحدها، تسقط اليوم في اللحظة التي يمر فيها تعيس تنكر له القدر.
وكرة “الروليت” التي كان ينبغي أن تقف على الرقم (2) لو أنها سارت وفق اندفاعها الآلي المحض، تقف الآن على الرقم (8) فتسعد لاعباً ابتسم له الحظ.
وهكذا يرى هذا المأخذ الثاني أنه إن صدق وجود قوة خاصة هي الحظ، في وسعها أن تتدخل فتغير من القوانين المقررة، لغدا العلم لفظاً عقيماً فارغاً.
الرد على هذه المآخذ:
ولن نجادل طويلاً في هذين المأخذين، فهما مأخذان عاريان عن الصحة.
أما فيما يتعلق بالمأخذ الأول فيهمنا أن نبين حقيقة أساسية، وهي أن تقرير حادثة من الحوادث واعتبارها واقعية موضوعية شيء ناتج عن إقرار الجماعة لها، وإن الحادثة المقررة هي التي يقرها جميع الناس ضمن مجتمع معين. ونحن نؤمن بالحقائق لا لأننا خبرناها بأنفسنا، بل لأن بعض الثقات قد أكدوا لنا صحتها. وإلا فما أدرانا أن الأرض تدور وأن أمريكا موجودة، وأن نابليون قد وجد؟ إننا لم نخبر ذلك بأنفسنا، ولكننا اعتقدنا به وقررناه، لثقتنا ببعض الشخصيات العلمية التي أقرته.
ولما كنا نستقي اليوم أكثر حقائقنا عن علماء الطبيعة الجامدة ونستوحي معارفنا منهم، ترانا نذهب مذهبهم ونسلم دون مناقشة بمبدأ يسيطر على تفكيرهم، وهو أن لا وجود إلا لما يقع تحت الحواس، ولما يزان بميزان ويقاس بمقياس. ويعزب عن فكرنا أن المقياس الذي نقيس به الأمور المادية لا يصلح لقياس الأمور النفسية المعنوية، وأن علماء الفيزياء، على جلالة قدرهم في أمور المادة الجامدة وطول باعهم، ليسوا هم أصحاب الكلمة، فيما يتصل بالأمور النفسية.
إن علم النفس ما يزال طفلاً، وإن الإنسان قد سار في طريق معرفة المادة الجامدة شوطاً بعيداً، على حين أن معرفته لعالم النفس ما تزال معرفة قاصرة، ولعل لنا أن نتساءل كما تساءل برغسون عما كان يحدث لو أن الآية قد انعكست ولو أن الإنسانية، بدلا من أن تتقدم في اتجاه معرفة الطبيعة الجامدة، تقدمت في اتجاه معرفة الإنسان وأسرار حياته النفسية، ولو أن كوبرنيكوس وغاليلو ومن بعدهما قد أولوا الأبحاث النفسية عنايتهم بدلاً من الأبحاث الفيزيائية. لو حدث ذلك ثم قيل في يوم من الأيام إن باخرة تمخر البحر قادمة إلى شاطئنا من بلد مجهول كانت العلوم الطبيعية قد تقدمت فيه، وأن هذه الباخرة تسير بلا شراع وبقوة يدعونها قوة البخار، لنالنا العجب وملكتنا الدهشة وانكرنا كل الإنكار. غير أن العكس هو الذي حدث فالعلوم الفيزيائية هي التي تقدمت، وقوانين المادة الجامدة هي التي اكتشفت أما العلوم النفسية فما تزال في المهد وقوانين العالم النفسي ما تزال مجهولة. ولهذا ترانا نعجب لظواهر هذا العالم النفسي وننكر أن تخضع لغير ما تعارفنا عليه من قوانين فيزيائية، ونعتبر الإيمان بمثل الحظ من القوى النفسية ضرباً من الوهم وحديث خرافة.
وأما فيما يتصل بالمأخذ الثاني القائل بأن الإيمان بالحظ يعني إنكار التقيد الطبيعي وخضوع الحوادث لأسباب لا تتعداها، فردنا عليه أن كل قانون طبيعي يتعطل بفعل قانون آخر، وأن من الإيمان بالتقيد أن نؤمن أن الحادثة التي ينبغي أن تحدث إذا توافرت شروط وأسباب معينة، لا تحدث إذا وجدت شروط أخرى جديدة تعطل حدوثها. فإذا نحن رمينا قطعة من الحديد سقطت في اتجاه عمودي، وفق قانون الثقالة. ولكن هب أن إنساناً وضع فوق رأسنا قطعة من المغناطيس القوي في اللحظة التي رمينا فيها القطعة، إذن لصعدت القطعة إلى أعلى بدلاً من أن تهبط إلى أسفل. فهل يعني هذا أن مبدأ التقيد قد اختل؟ كلا. فمن مسلمات هذا المبدأ أنه إذا تداخل قانونان خضعت الظاهرة لكلا القانونين معاً.
تلك حقيقة بدهية أردنا أن نذكرها، مع ذلك، لقيمتها في هذا المجال. فما شأنها في هذا الاعتراض الذي يقال عن الحظ خاصة؟ إن اللبس فيما يتصل بالحظ راجع إلى أننا نستخدم تجاهه كلمة تقيد بمعنيين متباينين. فنحن نفهم من التقيد أولاً ثبات قوانين الطبيعة واطرادها، وهذا شيء صحيح. ونفهم منه ثانياً وحدة قوانين الطبيعة، وهذا الفهم الثاني للتقيد هو الفهم الخاطىء الذي يجعلنا ننكر ظاهرة كظاهرة الحظ. إن هذا المفهوم يرى أن جميع قوانين الطبيعة من نوع واحد، وترجع إلى تفسير واحد ويرى بشكل خاص أنها جميعها، نفسية كانت أو حيوية أو فيزيائية، ترجع إلى خواص واحدة.
وهكذا ترانا نطبق على الأمور النفسية نفس القوانين التي نطبقها على الحوادث الفيزيائية. ونحن إذ نقول إذاً بالحظ لا ننقض مبدأ التقيد، وإنما ننقض مفهوماً خاصاً يحاول أن يفسر ظواهر الطبيعة تفسيراً واحداً، ويرى أن ما ينطبق على المادة الجامدة من قوانين ينطبق على عالم النفس.
الوضع النفسي قوة:
والآن، بعد أن مهدنا لبحثنا بدحض هذين الاعتراضين، نحاول أن نقدم التفسير الذي نراه للحظ.
إن مشكلة الحظ تصبح ميسرة في رأينا إذا بينا أننا حين نصلي أو نلمس الخشب أو نتوسل بمثل هذه الوسائل، لا نغير الأشياء الخارجية، وإنما نغير نفسنا وحالنا النفسية، فتتغير الأشياء بالتالي. إن الوضع النفسي قوة لها أثرها. وأثرنا في الأشياء يختلف باختلاف الحال التي نحن فيها، فإن نحن أقبلنا عليها إقبال المتفائل، كان نصيبنا من النجاح أكبر، وقيل إن حظنا حسن، وإن نحن أقبلنا عليها بروح متشائمة كان حظنا من النجاح ضئيلاً. وعامة الناس عندما يعتقدون ببعض الأشياء التي ندعوها خرافية، لا يخطئون في النتيجة غالباً وإنما يخطئون في تفسير هذه النتيجة وهذه حال أكثر المعتقدات الشعبية: إنها صحيحة غالباً في ما تقرر من نتائج، غير أنها لا تعرف أن تفسر هذه النتائج تفسيراً صحيحاً. إن أصحابها يرون مثلاً أننا حين نصلي نؤثر في نتيجة الحوادث، وهذا صحيح، إلا إنهم يخطئون حين يعتقدون أن الصاعقة مثلاً سوف تسقط في غير المكان الذي عليها أن تسقط فيه إذا نحن صلينا. هب أن الصاعقة ينبغي، وفق القوانين الطبيعية، أن تسقط على سطح بيت ما، وهب أن إنساناً ما في هذا البيت قائم يصلي لينجو من الصاعقة. إن في تفسير أثر الصلاة، ومفعولها هنا وجهين: فإما ألا تسقط الصاعقة على السطح، وإما أن يفكر ذلك الإنسان بأن يترك البيت قبل أن تسقط فيه الصاعقة. وبتعبير أوضح، إن الصلاة قد تؤثر على الموضوع الخارجي وقد تؤثر على حال الشخص. والوجه الثاني هو الصحيح. والعلماء الذين ينكرون أثر مثل الصلاة ينكرونه لأنهم ينظرون إلى الأمر من الوجهة الأولى فقط. ولو أدركوا أن أثرها راجع إلى ما تنتجه في نفس الشخص وأن هذه الحال النفسية التي تخلقها هي التي تؤثر في الموقف المادي، لهان تفسير الأمر ولما أنكروا. إننا إذا بدأنا من هذه النقطة وأدركنا تأثير الذات، ذات الإنسان في الأشياء سهل علينا أمر الحظ. إن الإنسان لا يؤثر في الأشياء ذلك التأثير البسيط الذي يتخيله علماء الفيزياء عادة، حين يقصرون أثره على إدراك العالم الخارجي عن طريق الحواس، والتفكير في هذا الإدراك. إن أثر الإنسان يتعدى هذا، وعلينا إذا أردنا أن نقدره حق قدره أن نحيط علماً بدقائق حياته الباطنية، فنفكر في جريان الذكريات وما فيها من شيء لا يدرك، وفي نضج العادات وفي تقلبات المزاج وفي كل تلك الحياة الغامضة التي تدعى بالحياة تحت الشعورية. إن عالم الفيزياء، حين يتصور العالم، ينسي عالم اللاشعور ولا نقصد باللاشعور قوة خفية مجسدة قائمة، وإنما نقصد به صفة تصف الحوادث النفسية التي لا نشعر بها. ولا نعدِّه فرضاً وإنما هو حقيقة لعلها من أصدق الحقائق التي نلاحظها في حياتنا النفسية.

اللاشعور: وهكذا نفتح باباً من أبواب مشكلة الحظ إذا نحن أدخلنا أثر اللاشعور في حوادثنا وفي حياتنا.
فما هي إذاً تلك الحوادث اللاشعورية التي تتيح لنا معرفتها أن نجعل ظاهرة الحظ مقبولة معقولة؟ لنؤكد من جديد أن هذه الحوادث ليست لا شعورية في جوهرها، وإنما هي لا شعورية بالعرض، وهي لا شعورية لأن الإنسان العادي لا يعرفها. لقد قلنا إن الحظ يعني أن نجعل الحوادث مواتية لنا مطاوعة، بطرق لا تستطيع الحواس العادية أن تكتشفها. وأبرز هذه الحوادث وأهمها هي الحوادث الاجتماعية أو الحوادث الراجعة إلى تفاعل الأشخاص. فأكثر ما ييسّر لنا من مصير سعيد أو مجيد يرجع إلى ما أتاحه لنا الآخرون من أمثالنا. فهم الذين يرفعوننا إلى قمة القوة والعظمة أو يهوون بنا على العكس إلى حضيض التعاسة والبؤس.
وجميع الناس في حاجة، لاستكمال سعادتهم، إلى عون جيرانهم الأقربين أو وقوفهم موقف الحياد. وهنالك سبيلان للتأثير في الآخرين ولتسخير إرادتهم لنا: سبيل الخوف وسبيل العطف. ولا نقصد بالخوف أن نلجأ معهم إلى التهديد والوعيد، فهذا أمر لا شأن له في بحثنا، وهو حادثة عادية. وإنما نقصد به هنا ذلك الخوف الذي يحدثه الوجود المادي لبعض الأشخاص. فكل منا يستطيع أن يتأكد، إذا هو أجاد الانتباه إلى حركات نفسه الدقيقة المرهفة، أن وجود بعض الأشخاص يثير فينا اضطراباً. فهذا شخص يدخل إلى مكتبك فلا يؤثر في حالك الباطنية تأثيراً واضحاً ويدعك مرتاحاً. أما ذاك فتشعر أمامه على العكس أنك في ضيق تتقلص وتنكمش، وكأنك في وجل منه. إنك تشعر أنك في ضيق في عواطفك وأفكارك وحركاتك، فتنهض وتظل واقفاً دون أن تعرف لماذا. وأنت مع ذلك لم تر هذا الشخص إلا هذه المرة. والذين لم يلاحظوا منا هذه الحركات النفسية يعرفون على أقل تقدير أنهم حين يتوجهون إلى أسرة من الأسر أو مجتمع من المجتمعات لقضاء مأرب لهم، يفضلون أن يتوجهوا بحاجتهم إلى أناس دون أناس، يختارونهم منذ النظرة الأولى دون أن يشعروا. فهنالك أشخاص نندفع إليهم بيسر، وهنالك آخرون صعب منالهم. وثمة مقاومات معنوية لا تقل في حقيقتها وطابعها الواقعي، إذا أجدنا ملاحظتها، عن المنحدرات وعوائق الطريق.
هذا فيما يتصل بتأثيرنا في الأشخاص أو تأثير الأشخاص فينا عن طريق الخوف. وهنالك تأثير آخر يتم عن طريق العطف. هنالك أشخاص يؤثرون فينا عن طريق شيء يشق تعريفه يدعى بالظرف أو الرشاقة، يملكه الأطفال جميعهم تقريباً، ولو لم يكونوا جميلي الصورة، ويملكه بعض الأشخاص الآخرين، فيملكون الناس عن طريقه. هكذا ترى أنك إذا شعرت بظرف طفل من الأطفال وقبلت الاشتراك معه في لعبه ملكك من حيث لا تشعر وصيرك ألعوبة له. وهكذا ترى أن سحر فتاة رشيقة شيء لا يقاوم.
النظرة والحظ:
هذه القدرة على الامتلاك وهذا الظرف الساحر، تفصح عنهما النظرة خاصة. والنظرة شيء تحدث عنه المتحدثون منذ القديم وعزوا إليه قوة خاصة. وهي في عرف جميع الناس مرآة النفس. ومما تقوله السيدة “دي جانليس” في هذا: “إن أمهر الأفواه لا يعدو أن يكون ترجمان الأفكار. أما النظرات فنرسم الفكرة نفسها وتخرجها”.
والنظرات ألوان وأشكال: فهنالك نظرة تفرض نفسها عليك، كتلك النظرة التي تشع من عينين سوداوين، ليستا منفتحتين مشرقتين تماماً، فهما إذا نظرتا إليك أقصدتاك وأصابتا عينيك، وانطلقت منهما حزمتان ناريتان على شكل مخروط، ما تلبثان أن تخترقاك. ومثل هذه النظرة هي التي نجدها عند الرؤساء والزعماء، وهي التي إذا عاناها المرء شعر رأساً أن عليه أن يخضع وأن الاستسلام حتم عليه.
وهنالك، على العكس من هذه النظرة، النظرة التي توحي الرشاقة التي نحن بصددها، وهنا تكون العينان واضحتين كستناويتين أو زرقاوين، مشرقتين منفتحتين تماماً، تنطلق نيرانهما في حزم متوازية لتكسوك بعد ذلك نوراً لطيفاً، فهي أشبه بصلاة، وهي نداء ودعاء. ومثل هذه النظرة هي التي افتنَّ خيال الرسامين في منحها للمسيح.
النطق والحظ:
هذان الضربان من التأثير اللذان نجدهما في النظرة ونمتاحهما من العين، نجدهما بشكل أوضح أيضاً في النطق: فالدور الاجتماعي للنطق دور هائل. ولن نغالي مهما نبالغ في أهميته. إن أكبر حوادث التاريخ نشأت أحياناً عن قوة اللسان وعن تعرجات صوت خطيب سياسي مفوه. وللصوت منحنيات ومعارج تملك النفوس بضرب من السحر لا يقاوم، وإن من البيان لسحراً.
وهنالك خطيبان: خطيب نتبعه ونستمع إليه لأننا لا نقوى على ألا نستمع إليه. وخطيب نصغي إليه لأننا لا نريد ألا نصغي إليه. ومن الأبحاث الشيقة أن نبين عناصر الصوت التي تخضع الإرادة وتثنيها، أو تملك القلوب وتأسرها. وكلنا يعلم كيف يتعلم الضباط في الجيش أن يلفظوا الأوامر، حين يوضعون على مسافة بعيدة، ويطلب إليهم أن يكون صوتهم قوياً جهورياً. ولا يكفي أن يكون الصوت شديداً بل ينبغي أن يكون خطيراً فيه رجولة وقوة. وينبغي فوق هذا وقبل هذا أن يكون جازماً قاطعاً. وهذا الشرط الأخير لا يتعلق تحقيقه بنا، فهنالك نوع من ” البتر” في الكلام يحدث في إرادة المحدث أثراً مباشراً آلياً. والطلاب يدركون من الطريقة التي يلفظ بها أستاذ للمرة الأولى قوله “أنصتوا” الأستاذ الذي ما من طاعته بد والأستاذ الذي سيزعجونه. والأشخاص الذين يدعون “قساة” يملكون هذه اللهجة الجازمة التي تقطع دابر كل شك وتردد. وفي مقابل هؤلاء الأشخاص نجد أشخاصاً لا يملكون هذا البتر والجزم في نبرة الصوت، ولكنهم يملكون إغراء وفتنة في صوتهم، بها يملكون غيرهم، فصوتهم لا يملك الشدة والقسوة المعهودة في الخطباء، ولكنهم ينالون قبول السامعين ويملكون إرادتهم عن طريق طابع صوتهم ولحن حديثهم المتسق. فصوتهم ينفذ إلى القلب كما تنفذ الصلاة، ويطرق الآذان بلا استئذان، ولا يريد السامع أن يتخلص من سحره.
هذه القسمات التي نجدها عند الخطباء، نجدها، بدرجة أضعف في الحياة العادية والكلام العادي، ولها شأنها في جعل النجاح حليف بعض الأشخاص دون بعضهم الآخر، وتفسر الحظ بالتالي. تذهب إلى موظف تطلب إليه منحة أو معلومات: إن نجاحك في مطلبك يتوقف، إلى جانب توقفه على المظهر الجسدي الذي بينا قيمته، على لهجة صوتك. فإذا أردت أن تنجح وجب أن تكون هذه اللهجة حازمة قاطعة تجعل الموظف في حال نفسية معنوية يستحيل معها أن يرفض طلبك، أو أن تكون هذه اللهجة على العكس من هذا مليئة بالرشاقة والظرف الذي يروقه. فهنالك أصوات مائعة قلقة غير مطمئنة، تجاب دوماً:”لا”. وهنالك أصوات عديمة الطعم حائلة اللون يشعر سامعها بضيق منها، وتحدث على نحو آلي كراهية لا مردّ لها.
وإذا أردنا أن تزداد قناعتنا بالدور الهائل الذي يلعبه الصوت في أعمالنا، يكفي أن نذكر الصوت الغرزي الذي يأخذه الطفل عندما يطلب شيئاً من الأشياء. فهل هنالك أظرف وأرشق من نبرة صوت طفل في الثالثة من عمره؟ وأي قلب قادر على أن يرفض له طلباً إذا هو تحدث إليك متململاً مقلباً عينيه؟ ذلك أن الرشاقة هنا فطرية مطبوعة، ليس فيها كلفة أو صنعة. والصوت الرشيق لا يكون مؤثراً إلا إذا كان مطبوعاً، أما إذا كان متكلفاً فهو مقيت بغيض. إن تأثير نبرتنا لا يتعلق بإرادتنا ولا هو شيء في طوقنا، إنه هبة من الطبيعة، يتغير بتغير الأفراد لنقل إذاً إن المرء يملك، عن طريق النظرة والنطق خاصة، قدرة سحرية بها يخضع إرادة الآخرين له. وفي وسعنا أن نربط هذه القدرة بظاهرة معروفة في علم النفس هي ظاهرة الاستهواء أو الإيمان. فالمتكلم يستطيع عن طريق تعرجات صوته أن يقف قوة المراقبة والنقد لدى المستمعين إليه، فيغدو بذلك السيد الحقيقي لهم، يوحي إليهم ما يريد ويصدقون كل ما يقول، دون أن يملكوا مناقشته.

الإلهام والحظ:
وما دمنا قد ذكرنا الإيحاء والاستهواء، فلنذكر ظاهرة أخرى لا تقل في أثرها عن أثر الإيحاء، وهي مثله ظاهرة لا شعورية، لها شأنها في الحوادث المادية، إذ تؤثر في بعضها وتجنبنا بعضها الآخر وتستثمر أخرى. هذه الظاهرة هي ظاهرة الإلهام أو الوحي. والشيء الذي يميز الإلهام أن الفكرة فيه لا نهيئها نحن ولا نحدثها بنتيجة تفكير عقلي منطقي، وإنما تنبث فينا، وكأن روحاً خارجة عنا تقذفها في نفسنا، فإذا بها تشرق من ذاتها، وكأنها نور يضيء فجأة موقفا من المواقف أو يحل معضلة من المعضلات، نشعر به ونتحسسه، ولا ندري من أين صدر ولا كيف صدر. حتى ليخيل إلينا أن روحاً علوية كامنة فينا أو خارجة عنا تقدم لنا حل المشكلات التي نبحث عنها. هذا هو شأن شيطان سقراط، وهذا هو شأن آلهة الشعر أو شياطينه مع الشعراء، وهذا هو شأن ذلك الصوت المجهول الذي كانت تسمعه “جان دارك” ويسمعه كل الملهمين.
هذا الإلهام الذي نجده عند الملهمين وكبار المبدعين نجده في حياتنا العادية أيضاً. وبه نستطيع أن نفسر بعض ظواهر الحظ. ونحن إذا تأملنا حياتنا اليومية أدركنا أن هنالك ألوفاً من ضروب الإلهام والوحي، وأن الفكرة التي يسميها الألمان “Einfall” ظاهرة مألوفة في حياتنا. فهنالك ما يشبه العبقرية حتى في الحياة العملية، وهنالك وحي وإلهام وشياطين تلهم في أعمالنا البسيطة المبتذلة. وطالما تحدث المتحدثون عن سير الحظ مع الجرأة جنباً إلى جنب. والمثل الفرنسي القديم يقول “Qui ne se met au hasard, ne sera riche tôt ni tard” وماذا تعني الجرأة؟ إنها تعني انعدام التردد، تعني الثقة. هذه الثقة نجدها عند أولئك الأشخاص الذين تتحقق الوحدة في حياتهم، ونرى مزاجهم وإرادتهم على وفاق. ونفقدها على العكس لدى أولئك الذين اعتنقوا، بنتيجة التفكير والإرادة، طريقاً في السلوك معاكساً لميولهم الطبيعية الحسنة والسيئة.
الثقة وأثرها في الحظ:
وها هنا نجد أحد أسرار الحظ العميقة. والشواهد متفقة على ذلك. فمما يقوله “ميترلنك” (LeTemple enseveli, p.269) “وإن الثقة التي تتحسس النجاح، تجدّ للحصول عليه وتستميت للوصول إليه وتمتح جميع ينابيع قواها التي لا تعرفها الحيرة والشك”.
ولعلنا نذكر تلك الصورة التي يقدمها لنا “لابرويير” عن الغني حين يقول:” جيتون رجل غض الاهاب، ممتلىء الوجه متدلي الوجنتين، مستقر العين مطمئنها، عريض المنكبين، عالي البطن، يمشي في عزيمة وحزم، يتحدث في ثقة.. تراه مرحاً ضحاكاً معتداً بنفسه غير صبور، سريع الغضب، ماجناً دبلوماسياً.. إنه يخال نفسه عبقرياً موهوباً وذا نكتة بارعاً. إنه غني”. أما “فيدون” فهو، على العكس من هذا “غائر العينين، عفن اللون، نحيل الجسم والوجه… إنه ذاهل حالم، تلمح في سيماه أمارات الغباوة: فهو ينسى أن يقول ما يعرف أو أن يتحدث عن حوادث يعرفها.. إنه ذو وسواس، خجول رقيق يمشي في أناة ولين كأنه يخشى أن يطأ الأرض، خافض العينين لا يجرؤ على النظر بهما إلى من يمر به.. إنه فقير”.
هذه السمات التي يقدمها لنا ” لابرويير” هي عين الصفات التي نجدها تقريبا في أكثر الكتب التي تتعرض لمشكلة الحظ والنجاح. فمما نقرؤه في كتيّب لـ “ايتيين ري Etienne Rey” عن الحظ:
“أنظر إلى اللاعب الذي يطرق الحظ والحظ يواتيه. إنك تشعر لديه بارتعادة خفية وهيجان فوق هيجان البشر: إن كيانه كله يتمدد ويثور إنه يشعر أنه مختار مصطفى، تقوده قوة خفية مستسرة”. ومما نقرؤه فيه أيضاً: “إن المتفائل يخلق حظه، والمتشائم يخيف الحظ”. وإليك في هذا المجال ما يقوله” أوريزون سوبت ماردن Orison Sweet Marden” ” إن طموح المرء إلى الغنى وتوقعه أن يغدو فقيراً مع ذلك، والشك دوماً في قدرته على تحقيق ما يرغبه، معناه انتظار الوصول إلى الشرق بالسفر من جانب الغرب.- مهما تكن جهودك التي تبذلها للوصول إلى النجاح، فأفكارك إن كانت مشبعة بالخوف من الإخفاق تعطل عملك كله وتجعل نجاحك مستحيلاً”.
هكذا نرى أن هنالك حالات تمر بنا نشعر فيها كأننا مدفوعون بنابض داخلي، فينطلق عملنا دون عائق، كأنه آلة مسيرة. في مثل هذه الأحوال نرى التاجر مثلاً في نشوة. فإذا عرضت عليه مشروعاً أجاب دون تردد: نعم. كأنه على يقين مباشر من أن المشروع حسن، فهو لا يختار. وإذا أردت على العكس من هذا أن تبتاع منه شيئاً، قدَّم لك الثمن في كثير من الحرية، كأنه يقدم لك خدمة ويحسن إليك إذ يرضى أن يبيعك ما تريد. فإذا بك لا تجرؤ على مناقشته, وإذا رفضت ظل يبتسم كما لو كنت قد اشتريت منه.
ولندع التاجر ولننتقل إلى سائر الناس. أليس من الملاحظ دوماً أن النصر في شؤون الحب ما هو للجمال، وإنما هو للرشاقة والظرف؟ حتى أن بعضهم قرر أن أكثر الأهواء الكبرى أذكاها القبح قبل الجمال. نعم إن الجمال ليس نقيصة، ولكن الهام في الأمر هو هذه الحال من الرشاقة التي نصفها. إن الذي نحبه ويجذبنا ويأسرنا، هو الحياة التي تفيض من الأشخاص وتتفجر من حركاتهم، هو هذه الحيوية التي تنبع من الكيان كله وتتجلى في العينين والحركات والكلام خاصة. أنظر إلى فنانة كبيرة طعنت في السن وأنظر إليها صامتة لا تتحدث: إنها تبدو جافة عديمة الماء، وتبدو نظراتها باهتة وعضلاتها ساكنة. ثم ما تلبث إذا تحدثت أن تراها تتبدل شيئاً بعد شيء، وما تلبث حتى ترى نظرتها تشتعل ووجهها يضيء ويشرق وصوتها يشتد ويصيبه الدفء. لقد تناقصت سنها عشرين سنة في نظرك. إن الفنانة الحقة لا تشيخ أبداً.
هذا الضرب من الاطمئنان والسعادة، الذي يرافق بعض الأشخاص والذي يكون من عوامل الحظ عندهم، ندركه حتى في حركات اليد. إنك تبحث عن كلمة في المعجم فإذا كنت رائق المزاج تفتح مباشرة الصفحة المطلوبة. وتبحث عن ورقة في درج، فتقع يدك رأساً على الدرج المطلوب دون تخبط. تصل في المساء إلى بيتك وتتلمس ثقب المفتاح، فإذا بجهودك تذهب سدى إذا كنت منقبضاً غير منطلق. وتريد أن ترز شسعاً على آخر، فتسّاقط المسامير من يدك، وتردد من غير أن تشعر:”حظي قليل”.
وكنتيجة لهذه الحقيقة، ترى أن النجاح، إذ يجلب معه السرور والحبور، يجلب نجاحاً آخر. ويتجلى هذا أوضح ما يكون في الكلام: إن أحدنا إذا أراد أن يكتب أو يتحدث، خطيباً أو أستاذاً، يبدأ بادىء ذي بدء بأن يبحث عن ألفاظه ويتعثر، حتى إذا وجد التعبير الذي يعدّه موفقاً، انعكس هذا الفرح الذي يشعر به على الجمل التالية، فإذا بها تغدو مزدانة بالصور الجميلة، وإذا بالمرء يتسامى شيئاً بعد شيء ويعلو ويرتفع ويجاوز ذاته.
وهكذا نستطيع، عن طريق الثقة بالنجاح، أن تتغلب على كثير من المخاوف وننجح. ومما يكرره المحاربون القدماء غالباً أن السعادة تجعل الإنسان لا يحس بالخوف، وإن المرء إذا بقي حياً مدة معينة، فالأمل معقود على بقائه حياً طوال الحرب. ومن الملاحظ في هذا المجال أن حديثي العهد بالحرب يحصدون حصاد القمح. نعم إن لنقص خبرتهم شأناً في ذلك، غير أن في الأمر شيئاً آخر أيضاً غير نقص الخبرة هو نقص هذه الثقة التي تجلب النجاح. فالحديثون في صنعة الحرب، عندما يقبلون للمرة الأولى على جحيم الوغى، يخافون ويذعرون. وما سبب ذلك إنهم أقل شجاعة من غيرهم، فهم كثيراً ما يكونون جريئين إلى حد التهور، غير أنهم يشعرون بنوع من الانقباض والغم الجسدي، وضرب من الاهتياج، يرجع إلى هذا المشهد المختلط، مشهد جثث مشوهة دامية، ودخان وعجاج، وسط صخب القنابل ودوي المدافع. فهم لا يخافون الموت خوفاً واعياً شعورياً، غير إنهم على يقين لا شعوري من إنهم لن ينجوا من المعركة ولن يخرجوا منها سالمين. أما المحاربون القدماء، فقد مروا بهذه المرحلة في البداية، غبر إنهم تجاوزوها، وعاشوا هذه المخاوف يوماً بعد يوم، غير إنهم نجوا، فتبددت مخاوفهم هذه وأدركوا أنها أوهام. وهكذا تبلَّد حسهم بالخطر والمخاطرة وأعقب ذلك الاهتياج الذي كانوا يعانونه في الأيام الأولى شعور متين بالطمأنينة. فتراهم يرددون دون أن يشعروا أمام كل ضربة قاسية جديدة “لقد منينا بشر منها”. وهكذا يحتفظون أمام الخطر برباطة جأشهم، على حين ترى الحديثين يفقدون وعيهم ويطيش لبهم، فلا يرون أين يضعون أقدامهم، ولا يرون من أمامهم، ولا يسمعون الدوي والصفير واضحاً، وهم يفقدون فوق هذا شيئاً يمتلكه المجربون ممن عركوا الحرب وعركتهم الحرب، هذا الشيء هو ذلك الحس الخاص، وذلك التوسم والتشمم الذي ينذر بالخطر عن طريق ضرب من الاندفاع الجسدي. وكثير من هؤلاء المجربين يحدثوننا عن إنهم مدينون بحياتهم إلى حركة لا تدرك قام بها رأسهم في اللحظة التي أتت فيها شظية تداعب صدغهم، أو إلى عزم مفاجىء لم يفكروا فيه دفعهم إلى أن يستلقوا على الأرض قبل انطلاق قنبلة من مدفع وانفجارها في المكان الذي كانوا فيه، وقبل انطلاقها مباشرة.
هذا النوع من الاعتياد الذي يجنب الإنسان الخطر، حين يجعله واثقاً مطمئناً، نجده في جميع أنواع النشاط الخطرة. نجده عند سائق السيارة والطائرة مثلاً. فالسائق الماهر هو الذي تكوَّنت لديه عادة السوق فجعلته سيد نفسه في مواقف الخطر. والسائق المبتدىء سائق ضعيف معروض للخطر، لا لأنه لم يتمرس بعد بمهنته ولم يتدرب عليها فحسب بل لأنه يفقد الثقة والاطمئنان ويخاف الخطر. انظر إلى فتى يتعلم امتطاء الدراجة. إن أكثر زلاته وسقطاته راجعة إلى الخوف الذي يعانيه أمام عائق يفاجئه: يجد سيارة تنطلق في طريقه مسرعة، فيخاف فيسقط. ولا يرجع هذا إلى نقص في المهارة، إذ هو منذ حين كان يسير ويدرج دون عناء. غير إنه لم يملك بعد رباطة الجأش وتلك الأفعال المنعكسة النافعة التي تأتي بعد التجربة والخبرة. إنه لم يملك بعد ذلك الصفاء الذي يجعل الفكر حراً ويهب للحركات يسراً.
إن كلاً منا يعلم ما في مهنة معمار السطوح من خطر. ومع ذلك، ترى العامل المدرب يسير على قدد الخشب ويسير فوق الجدران كما لو كان يسير على الأرض الراسخة. قد تقولون إن الخبرة قد علمته كيف يضع رجله، وإنه يركن إلى هذه المهارة المكتسبة, وهذا صحيح وكل مهنة تحتوي على عنصر من الدربة. غير أن الدور الأكبر هنا لشيء غير هذا، للثقة أيضاًُ. إذ يكفي أن يسقط مرة ليتملكه الخوف وليعجز عما كان يقوم به قبل ذلك في كثير من اليسر. إن للثقة بالنفس التي تكتسب عن طريق الفوز والنجاح المتكرر شأناً وأي شأن! وإلا، فلماذا يكون حظ الإنسان من السقوط من خشبة معلقة مرتفعة أعظم من حظه من السقوط من خشبة مثلها منبطحة على الأرض؟ إن السبب في ذلك واضح، وهو الخوف من السقوط في الحال الأولى وعدم الخوف من ذلك في الحال الثانية.
هكذا ندرك في نهاية الأمر ما للثقة من شأن في النجاح وفي مواتاة الحظ لنا. ففي حال الثقة تكون جميع طاقات الجسم والنفس معبَّأة مجندة في سبيل الغاية التي يراد الوصول إليها. فلا يسمع الإنسان ولا يرى ولا يحس بشيء غير ما يتعلق بالعمل الذي يطلب تحقيقه. فالتفكير هنا على حد تعبير برغسون، مسدود بالعمل.
الشك:
وعلى العكس من هذا نرى إن حال الحيرة والتردد تخلق الإخفاق وتجلب سوء الحظ والطالع. وفي هذه الحال نرى انتباهنا مقسوماً بين العمل والتفكير في العمل، هذا التفكير في العمل الذي يجعل فكرنا يفكر تفكير الحالم في إمكان حدوث العمل المناقض. ولنضرب على ذلك مثلاً: هب إنني أحاول الهرب، فإذا بي أعي ما أفعل فتراودني فكرة أخرى وهي أن في أمكاني ألا أهرب، وأن الهرب قد لا يكون ضرورياً. فالعمل هنا، على عكس حال الثقة، مسدود بالتفكير مشلول معطل. وبهذا يستبين لنا أن سوء الحظ المزمن الذي يسببه التردد المزمن، هو شكل من أشكال انخفاض الطاقة الحيوية أو هبوط ما يسميه برغسون بالانتباه إلى الحياة. فالشك صفة ملازمة لتخاذل القوى الجسدية والنفسية. وإذا احتد الشك واشتد أصاب الأشياء الواقعية نفسها. فتفقد الأشياء وجودها العادي وتغدو أشبه بأشباح من صنع الخيال. فترى المصاب بالشك يرى الأشياء المألوفة المعتادة غريبة، ويشكو غرابتها، ثم ما تلبث هذه الأشياء شيئاً بعد شيء أن تفقد وزنها وتغدو صوراً عائمة. أما إذا كان الشك أضعف من هذا، كما في حال التخاذل النفسي المزمن، كان منصباً على أمكان حدوث الأشياء لا على وجودها نفسه. كالشك في إمكان حدوث الوظائف العضوية. وهذا ما كان يعرف قديماً باسم الـ “Hypocondrie” وفي هذه الحال ترى المريض يجنح إلى أن يصغي إلى ذاته ويرقب سير هضمه وتنفسه ودورة دمه وجميع الوظائف العضوية التي تجري عادة على غير علم منا. ويبدو له أن من الغريب أن تستطيع المعدة هضم ما يقدم لها، وأن يستطيع القلب الاستمرار في ضرباته ودقاته إلى غير نهاية، متسائلاً:” أفلا يمكن أن تقف هذه الوظائف فجأة؟”.
وقد ينصب الشك أيضاً على علاقاتنا مع غيرنا فترى المصابين بالتخاذل النفسي، الذي هو أصل الشك كما قلنا، متشائمين دوماً، يشكون في صدق الآخرين وكرمهم وحسن نيتهم، ويحذرون ولا يرون من حولهم إلا كاذبين سارقين ماكرين. وليس التشاؤم كما يظن موقفاً فكرياً نظرياً يصل إليه الإنسان بنتيجة التفكير في الناس ومعاناته لخداعهم ومكرهم. وإنما هو نتيجة للتخاذل قبل كل شيء. هكذا نرى الأشخاص الذين طبعوا على الثقة، يشتكون عجز التجارب عن أن تشفيهم من فرط الثقة هذه، ويبينون إنهم يخدعون ويلقون من الآخرين ما يكفي ليقدم لهم درساً في التشاؤم، ولكنهم مع ذلك يتابعون ثقتهم. وتراهم يكررون أن هذا شيء فوق طاقتهم وأقوى منهم ولعل في وسعنا أن نقرر إنه إذا كان الشيوخ أقل ثقة من الشباب، فما ذلك لأن الشيوخ جربوا فساد الناس وخبروا سوءهم أكثر من الشباب، ولكن لأن الحيوية تنتقص بتزايد العمر، ولأن الشيوخ في حال تخاذل وانحطاط عام.
وأخيراً قد ينصب الشك أيضاً على إمكان حدوث الحوادث الطبيعية العادية. في وسعك أن تحكم على إنسان إنه متخاذل شاك إذا رأيته يعجب من خضوع الأشياء لإرادته ومطاوعتها له. فهو يعجب أن ينبت الحب الذي زرعه. ويكفي في نظره أن يكون هو الذي قام بالفعل لكي تتجلى في الحادثة إرادة سيئة: فالباب لم يشأ أن ينفتح لأنه هو الذي حاول فتحه، إنه يرى في كل شيء نوايا السوء ويتصور الكون عامراً بالعداء له. على حين يملأ المتفائل الكون بالأرواح المحسنة.
خلاصة:
كأننا ننتهي من هذا كله إلى القول بأن سوء الحظ هو في بعض الأحيان عجز في الوظائف النفسية ونتيجة للتخاذل والانحطاط النفسي الذي يخلق الشك والخوف. قد يعترض على ذلك بأننا نخفق أحياناً لأننا نفرط في الثقة والحماسة. فكم من طلاب يتقدمون للفحوص فيفقدون كل وسائل النجاح، لأن خيالهم قد أفرط في نزوعه إلى النجاح، ولأنهم وثقوا بالنجاح أكثر مما ينبغي! والجواب على هذا الاعتراض أن الحماسة المفرطة هي دليل العجز غالباً، وهي تعني أن خوفنا يفوق أملنا. فالرغبة تتضخم كرد فعل على هذا الخوف الثاوي تحتها. وكأن هنالك ضرباً من التعويض. والمرء لا يرغب رغبة مفرطة إلا فيما يخاف أن يفقد. وطيف العطش يساور المرء كثيراً في الصحراء، لأن مما يخشى في الصحراء دوماً ألا يوجد الماء. أفلا نلاحظ جميعاً أن الرغبة في بعض المواد الغذائية تزداد عندما يخشى فقدانها؟ أو لا يلاحظ في سني الحرب أن بعض الأشخاص يستهلكون من المواد أكثر مما يستهلكونه في أيامهم العادية، وأنهم يجنحون إلى محبة اللحم مثلاً والتدخين وشرب القهوة، لا لشيء ألا لأن وجود هذه المواد في الأسواق أصبح نادراً؟ وحتى في النشاط اليدوي، نرى الاضطراب الشديد دليل العجز. ويكفي للتأكد من ذلك أن نتأمل إنساناً يكاد يفقد وعيه وهو يقلب مفتاحاً في قفل في ساعة من ساعات السرعة، دون أن يصل إلى غايته، أن الاضطراب الشديد هو دوماً دليل الضعف والحماسة المفرطة ضرب من الاضطراب. وعامة الناس يفهمون هذه الحقيقة حين يقررون أن الإنسان يتأخر دوماً عندما يكون مسرعاً، وإنه عندما يفقد الشيء ويحتاج إليه لا يجده. وبهذا كله، يثبت لدينا أن التخاذل النفسي الذي يولد الخوف والشك هو من أهم أسباب سوء الحظ والطالع. وليست هذه النتيجة بمستغربة إذا نحن تذكرنا كيف تتم أعمالنا: إننا حين نقبل على عمل من الأعمال نتصور أولاً الغاية، ثم نلتمس لها الوسائل. هذه الوسائل لا تكون دوماً حاضرة مهيأة. لذلك تقوم سلسلة من الأفعال المنعكسة وتنتظم سلسلة من الحركات عن غير شعور منا، بغية تهيئة هذه الوسائل المؤدية إلى الغاية. فإذا كان الخوف غالباً على الرجاء رأيته هو الذي استأسر بالأفعال المنعكسة لينظمها في عمل منسجم معه. فكأن الأمر إذاً أمر تنازع بين فكرتين تقومان في النفس، تكون الغلبة فيه لتلك التي تحمل شحنة عاطفية أكبر، أي تلك التي نكون لها أميل وثقتنا بها أكبر.
ومن هنا نرى أن سوء الحظ ليس نقيض الحظ، وإنما هو غياب الحظ، هو حال واقعية يعمل فيها الفرد عن غير شعور منه على هدم نفسه بنفسه وتحطيم عمله بيده، عن طريق ما يحمله من خوف وعدم ثقة وتخاذل.

عبد الله عبد الدائم