النزعة فوق الواقعية

مجلة المعلم العربي – العدد الثالث – 1949
النزعة فوق الواقعية
للأستاذ عبد الله عبد الدائم

لم يكتب في العربية عن النزعة فوق الواقعية (السريالية) الشيء الوافي رغم أنها نزعة ليست بالمحدثة ولا بالعابرة. فلقد عاشت بين الحربين العالميتين الأولى والأخيرة ومازالت حتى اليوم تنثّ ومضاتها بين الفينة والفينة، ومازال حواريوها يجوبون البلدان ويبعثون الصيحات.
وقد لا يكون من اليسير أن أقدم، في مثل هذا الموجز، صورة وافية عن هذه النزعة، بَلْهَ أن أحيط بدقائقها، وبما تقلب عليها من ألوان وتقلبت عليه من أشكال. وقد يكون من العسير أن أعرف بها تعريفاً جامعاً مانعاً، كما يريد النحويون، إذ مثل هذا التعريف، إن كان يجوز في كل شيء، فهو في هذا المجال غير جائز:
فالنزعة السيريالية كل حي، ومن الصعب أن تحبس الحياة في تعريفات وأطر: لقد اندست في شتى مجالات الحياة، فصح لك أن تصف قصة من القصص بأنها «سريالية» وصح أن تحدث عن قطعة تمثيلية أو عن إعلان يستوقف انتباهك في الشارع، أو واجهة تحبس نظرتك من متجر، فتقول عن تلك جميعها أنها سريالية.
أفأنت قائل عنها أنها حركة شعرية؟ إنك لن تخطئ، ولكن أي حركة شعرية هي! وأي لفظ قادر على أن يعبر عن تلك الموجة التي ابتلعت الحركة «الإبداعية» وذيولها، وحطمت كل ما يقرأ في المدارس من شعر، وما يرتل من قصيد، لتبقي بعد هذا كله على مثل قصيدة «الاتحاد الحر» لـ «أندره بروتون»، أو «العيون الخصيبة»، لـ «بول إيليار»، أو «موجة أحلام» لـ «آراغون»!
أم أنت قائل عنها بعد ذلك أنها حركة فنية؟ لن تضل الرأي دون شك: فآثار «بيكاسو» و«تانفوي» و«ماسون» لا تفهم بدون النزعة السريالية.
أم أنت قائل، وراء هذا، أنها مذهب فلسفي؟ أنها ذلك المذهب، وأن أصحابها فلاسفة، ولكنهم فلاسفة مجو الفلسفة ولفظوها، ولم يلجأوا إلى العقل، بل غلقوا الأبواب أمامه، وفتحوها على مصراعيها لأمواج الحلم وتيارات اللاشعور. ولقد بدأوا أول ما بدأوا متكئين على فلسفات سبقتهم، ولاسيما فلسفة «فرويد» و«هيجل»، ثم ما لبثوا بعد حين حتى هجروا كل فلسفة، وصبوا اللعنات على كل فيلسوف، وعلى هيجل وفرويد، وأعلنوا أنهم تجاه ثورة، ثورة في كل شيء، وأن الثورة لا تعرف المستبقين ولا تحفل بالأجداد والمرهصين.
ومع ذلك لعلنا إذا تجاوزنا الشعور المحض، الذي لا يقبل التعريف دوماً، وهبطنا إلى عالم الألفاظ والمصطلحات، استطعنا أن نلتمس للسريالية بعض التعريفات:
فمما كتبه «أندره بروتون» زعيم المذهب، في تعريفها: «أنها الجريان النفسي الآلي، الذي نحاول به أن نعبر عن مجرى الفكر الحقيقي، لفظاً أو كتابة أو بأية طريقة أخرى. وهي ما تمليه النفس، حرة من كل رقيب بفرضه العقل، طليقة من أي شاغل خلقي أو فني».
ومما يقوله أيضاً في تعريفها: السريالية تقوم على الاعتقاد بالوجود الواقعي السامي لبعض أشكال من التداعي أهملت قبلها، وبقدرة الحلم الحارقة، وبالفكر المسترسل المنزه عن الغاية. وهي تنزع إلى أن تقوض إلى غير ما رجعة جميع أنواع النشاط النفسي الأخرى، وإلى أن تنوب منابها في حل مشكلات الحياة الرئيسية».
والحق، لعل أولى السمات التي تسم هذه الحركة الالتجاء إلى «اللاشعور» في شتى مجاليه ومجالاته، في مجال الحلم والكتابة الآلية والنوم المغناطيسي، بل والأمراض النفسية. وهي تلجأ إليه لتصف ما يجري فيه وصفاً أميناً غير مقيد بقيد، ولتُحدّث عنه أحاديث خيال ومتعة وانطلاق. فهو، في نظرها، المعبر الصادق عن حياة الإنسان وحقيقته، وهو المبدع الحقيقي، وعن طريق العناية بمبدعاته نستطيع أن نكشف كثيراً من الروائع الفكرية والفنية في الحياة.
غير أن النزعة السريالية ليست بسيطة إلى هذا الحد، ولا تنحل إلى مثل هذا بمثل هذا اليسر. وقد يوضح هذا التعريف الإيجابي لها، بعض التعريفات السلبية فهي، كما يراها «بروتون» أيضاً، ثورة على النزعة الواقعية، تلك النزعة التي جبلت من خساسة وضعة، وصيغت من كفاف واطمئنان.
وهي، بالتالي، حملة على كل ما تنتجه هذه النزعة الواقعية، ولا سيما القصة، التي غدت أمثل شكل في الأدب، والتي يتأنق كل كاتب في أن يصف بها، خلال الصفحات الطوال، دقائق النفوس والطباع، وصفاً أشبه بالعدم منه بالوجود، مجتنبة دوماً أن تطرح حقاً مشكلة الإنسان ومصيره. فكأنها جعلت من الأدب ألهية وضرباً من السلوى، نُعنى فيها بحياة دمى تتحرك، بعد أن أحكم نظامها بعض الإحكام أو كله. ولمّ غدت القصة الشكل المفضل الشامل بين أشكال الأدب؟ لأنها تلبي شهوة المنطق لدى أولئك الذين يقرأونها، والذي يجدون لذة أيما لذة حين يلهون بأن يجمعوا بعض القوى إلى بعض، أو يطرحوا بعضها من بعض، كما يفعلون في علم الحيلة (الميكانيكا). إن نفس الإنسان لتواقة إلى هذه المنمقات المنطقية، حيث تجد الأشخاص وقد حددوا عدداً واسماً وسناً، وحيث تُلفي قواهم تختصم وتتنازع عبثاً ولهواً. وما لمثل هذا الشأن خلقت اللغة، ولا لمثل هذا المصير بعثت، أنها خلقت لنستخدمها «استخداماً سريالياً»، لنهب شكلاً لذلك الخيال الذي يحمله كل إنسان في نفسه، والذي يقوى وحده على أن يتيح لنا أن ندخل حرمات ما كنا لندخلها من دونه. إن الإنسان لم يدرك بعد أن المنطق نطاق نضربه حول الأشياء لنخرجها مكبلة، وأن العقل عقال يخفي ضمنه في كثير من الأحيان حظاً من اللامعقول ليس بقليل. وهو لم يحرص بعد على أن يحمل أحلامه محمل الجد، ويأخذها مأخذ حق، وما يزال مفرطاً بهذا الكنز الثمين الذي وهب له كل ليلة. أنه ليستطيع أن يمتاح منه الوحي كما يمتاحه من ملكاته العقلية، فيؤلف بين حالتين ليستا متناقضتين إلا ظاهراً، حال الحلم وحال اليقظة، فيصل إلى الحقيقة المطلقة، إلى ما فوق الواقع الفقير، وهناك يلفي كل عجيب.
قصة حياة السريالية:
وقد يكون من التجني أيضاً على السريالية أن نمدها بهذه الأوصاف كلها وقد تكون السبيل الأمين لإيضاحها أن نصحبها في تطورها، وأن نقتفي خطواتها فهي حركة وثورة سارت وتطورت، قبل أن تكون جملة من الأنظار الأدبية والملح الفكرية. وهي كائن حي نما واكتمل بما لقي من صعاب، وبما عرف من مناسبات وشيءون.
لقد كان للحرب العالمية الأولى شأن في تحضير هذه النزعة. إذ عاشت بين عام 1918 و1940 (إن صح أنها بدأت في الانطفاء في السنوات الأخيرة)، وعاصرت خلال هذه الفترة حركات اجتماعية وسياسية وعلمية وفلسفية لها قيمتها الكبرى فأثرت في بعضها وتأثرت من بعضها الآخر. أنشأها في «باريس» أناس لا تتجاوز عدتهم اثني عشر شخصاً، ولكنها لم تلبث حتى ذاعت في شتى الأنحاء، فكان لها رواد في إنكلترا وبلجيكا وإسبانيا وسويسرا وألمانيا وتشيكوسلافيا ويوغوسلافيا، بل جاوزت القارة الأوربية إلى أفريقية وآسيا وأمريكا. حتى أن أربع عشرة دولة كانت ممثلة في المعرض الدولي للسريالية الذي انعقد في باريس في شهري كانون الثاني وشباط عام 1938.
ذلك أن السريالية حطمت الأطر القومية للفن، وطارت من فوق الحدود، فأصابت من الذيوع ما لم تصبه حركة قبلها، حتى ولا الحركة الرومانتيكية.
لذا كان من الخطأ أن نعتقد أن مثل هذه الحركة الواسعة كانت وليدة بعض الأدمغة المنعزلة. ولعل ما لقيته من إعجاب وإقبال، وما واجهت من مقاومة وبغض أيضاً، دليل صادق على أنها كانت تلبي حاجات حقيقية وتطلعات خالدة أبدية دون شك، إلا أنها اشتدت واحتدت في العصر الذي ولدت فيه. ولقد مهد لظهورها، من جهة ثانية، نزعات أخرى معروفة، كالنزعة التكعيبية ونزعة «المستقبل» ولا سيما نزعة «الدادا». بل لقد كان زعماء السريالية الذين تداولوا الزعامة، وهم «آراغون» و«بروتون» و«إيليار» و«بيريه»، هم الذين تتألف منهم جماعة الدادا حتى عام 1922. ونزعة الدادا هذه وليدة الحرب العالمية قبل كل شيء، وعسير علينا فهمها إذا لم ندرك أن أرض إنباتها وإنتاشها كانت هذه الحرب، وأنها نشأت في قلبها عام 1916، وانتشرت انتشار النار في ألمانيا المغلوبة عام 1918، ثم وصلت أخيراً إلى فرنسا الدامية فيما بين عام 1919 و1920.
وهكذا خلقت الحرب حركة «الدادا»، وهكذا خلقت الدادا الحركة السريالية حين انفضّ عنها إتباعها، لأسباب يطول الحديث عنها، وألفوا حركة مستقلة، هي الحركة السريالية هذه.
السريالية والسياسة:
ولم ترد الحركة السريالية أن تكون حركة فنية أدبية خاصة، بل آمنت أنها ثورة عملية، على نحو ما يتجلى ذلك في العنوان الذي اختارته للمجلة التي أصدرتها منذ عام 1924، وهو «الثورة السريالية». وهي ثورة لا تقتصر على ميدان الأدب بل تتعداه إلى جميع الميادين. ولقد بدأ النشاط السياسي للسريالية، أول ما بدا، في حرب الجزائر. لقد ثار اتباعها من قبل على الحرب العالمية، وحملوا على حرب علموا علقمها وذاقوا مرارتها. والآن يرون القوى تعبأ وتحشد من جديد، على حرب عرفوا علقمها وذاقوا مرارتها. والآن يرون القوى تعبأ وتحشد من جديد، لا لمقاومة دولة رأسمالية هذه المرة، ولكن لمحاربة شعب أصيل محب للحرية. لقد كان زعيم هذا الشعب، الأمير عبد الكريم، يؤكد أن أهل الريف لا يطلبون سوى الحياة الكريمة. لذا رأيت السرياليين يدافعون عن الثائرين، على حين كان الأدباء الحكوميون الرسميون يدافعون عن «الوطن المهدد» بزعمهم.
السريالية والشيوعية:
وهنا بدأ التقارب بين الحركة السريالية والحركة الشيوعية. فلقد كان الشيوعيون ممن دافع عن حركة الجزائر وانتصر للثائرين. لذا حرض السرياليون على أن يكونوا معهم ومع جميع المنظمات الثورية جبهة موحدة، تجلت أول ما تجلت في جماعة ألفت في ذلك الحين باسم جماعة «الوضوح». على أن هذا التقارب المؤقت بين السريالية والشيوعية ما لبث حتى خلق أزمة عنيفة في قلب الحركة، إذ طرح على اتباعها أمر الانتساب إلى الشيوعية، فرأى بعضهم الاستقلال، ورأى بعضهم الآخر الانتساب، وعلى رأس الطائفة الأخيرة «نافيي» وعلى رأس الطائفة الأولى «أندره بروتون» الذي أراد أن يبقي على استقلال الحركة السريالية، ورأى أن ثورتها أوسع وأشمل من الثورة الشيوعية، وأن الشيوعيين لا يمثلون إرادة الثورة خير تمثيل، إذ يقوم الحزب الشيوعي على الدفاع عن مصالح مادية فقط، ولم يقو أبداً على أن يخلق ثوريين حقيقيين. ذلك أن المرء لا يغدو ثورياً إلا بعد أن يقدم عدداً من التضحيات، كأن يضحي بمنصبه أو حريته بل وحياته، والبسيكولوجيا الشيوعية خاطئة حين تريد أن تثير ثوريين عن طريق ما تعدهم به من حياة مادية رخية، فالذي يحمل الثائر على العزم والمضي، ما هو الأمل في حياة فردية أحسن، وإنما الأمل في حياة نضالية قاسية، قوامها الحرمان الإرادي والتضحيات.
السريالية المستقلة:
وهنا بدأت الحركة السريالية عهد إنتاج مستقل، ونشطت من جديد في شتى الميادين، وأخذ «بروتون» في إيضاح مبادئها وغاياتها. وفي هذا الطور نجد أفكاره قد اتضحت ونضجت وأخذت شكلاً عميقاً حاراً، تجلى في «البيان السريالي الثاني».
يبدأ بروتون بيانه هذا بتعريف السريالية فيقول: إن كل شيء يحمل على الاعتقاد أن ثمة حداً فكرياً فيه يزول التناقض بين الحياة والموت، بين الواقع والخيال، بين الماضي والحاضر، بين ما يوصل إليه ومما لا يوصل، بين الأعلى والأدنى، فلا ندرك كل تلك إدراك الأصل والنقيض. وليس من هدف للسريالية غير الأمل في تحديد هذا الحد وإيضاحه.. وهذا الموقف يبين عقم المحاولات الفنية والفلسفية الماضية التي تحاول أن تقدم حلولاً، بينما لا تحاول السريالية غير البحث عن هذا الحد الذي يزول فيه التناقض بين المواقف والأشياء. لذا كانت تشترط قبل كل شيء انفصالاً تاماً عن العالم في شكله المألوف، والانخراط «في ثورة مطلقة وعصيان تام» وبعد أن يحمل «بروتون» على الحركات الماضية، ويهدم بعض الأشخاص الذين كان السرياليون قد عدوهم مستبقين لهم من قبل، من أمثال «رامبو» و«بودلير» و«بو»، وبعد أن يحمل على النظام القائم على استثمار العدد الأكبر للعدد الأصغر، ينتقل إلى الحديث عن السريالية، فيبدي مآخذه على ما كان فيها من نقائص وقصور، ويبين أن التجربة لم تتحقق بعد تماماً، وأن الكتابة الآلية والحلم لم يستخرج منهما كل ما يمكن استخراجه، وذلك لاشتغال أكثر إتباع الحركة بما يجد من اكتشافات، وانصرافهم عن الجانب العملي من العمل، ويقرر أخيراً أن الحركة السريالية لم تعد أبداً تقنع بهذا الموقف المتواضع، وأنها لن تقبل إلا الانصراف الكامل والموقف الناجز، وأن ليس من سبيل أمام السريالي الحقيقي سوى أن يغامر بكل شيء في سبيل الوصول إلى ذلك الحبور الجميل، حبور الإدراك البعيد، في أعماق الوجود.
ولقد هيء للحركة منذ عام 1931 من وهب لها نشاطاً وشباباً، ألا وهو «سالفادور دالي» صاحب المنهج الجديد الذي عرف باسم المنهج البارانوئي النقدي، نسبة إلى مرض «البارانويا»، وهو مرض يصحب لدى المصاب بهذيان في تأويل العالم الخارجي والداخلي، وبإكبار للذات مبالغ فيه. غير أنه يمتاز من غيره من أنواع الهذيان بالنظام والانسجام، فلا تجد على صاحبه أية إمارة من إمارات الاضطراب في المحاكمة المنطقية. وله أشكال عديدة. ويملك صاحبه صحة سوية، ولا يبدي أي اضطراب عضوي، ومع ذلك نراه يحيا في عالم غريب، لا يخضع له، شأن أكثر الأشخاص السليمين، وإنما يخضعه ويكيّفه وفق رغباته. لذا رأى فيه «دالي» ظاهرة تستحق أن يفاد منها، ورأى أن مما يغني الزاد السريالي أن نلجأ إلى الكشف والتعبير عن أنواع التداعي والتأويل التي تقع في حال الهذيان، وأن نهب لها شكلاً موضوعياً نقدياً. فالكتابة الآلية والحلم في نظره حالتان سلبيتان، على حين أن البارانويا ضرب من الفعالية المنظمة، تهدف إلى أن ندخل إلى العالم، خلسة وخفية، رغبات الإنسان وجميع رغباته ورغبات جميع الناس. وبهذا مهد «دالي» لظهور فكرة سريالية جديدة هي فكرة «الأشياء السريالية». فلقد بين أن كل شيء يمكن أن يغدو موضوع نظرة سريالية، أو «شيئاً سريالياً»، إذا نحن نزعناه من موطنه، أي أخرجناه من إطاره المعتاد، واستخدمناه لغايات غير الغايات التي خلق لها. أو بتعبير أوضح، أن الشيء السريالي هو كل شيء خلقناه كما نشاء، ولم نرد منه سوى إرضاء من خلقه، أو قل: كل شيء خلقناه وفق رغبات اللاشعور والحلم.
انظر إلى مبذل الزجاجات، على ما فيه من ابتذال، وامنحه من عندك قيمة فنية بأن تنزعه عن إطاره المعتاد، وتنسى ما صنع له، تغد أمام شيء غريب ذي أسنان مصطفة في دوائر متناقصة مشرئية إلى أعلى، أمام شيء هو بمثابة «عامل بالتماس» يثير لديك جمهرة من الرغبات اللاشعورية. وإذا ما أدركت بعد ذلك أن في وسع كل شيء أن يشغل، بإرادة من يختاره، هذا الدور، وأدركت بعده أن عدد الأشياء غير محدود، علمت كيف تغدو احساساتنا لا متناهية، ومشاعرنا غنية لا يحصرها عد. أضف إلى هذا أن في وسع الإنسان ألا يكتفي بالأشياء الموجودة وألا ينتظر كرم الطبيعة والصدف، بل يخلق هو بنفسه «أشياء سريالية» تعبر أصدق تعبير عن قوى اللاشعور ورغبات الحلم، وتكون بمثابة تحقيق مادي لحالات وأشكال يكاد صاحبها لا يتبينها، وتكاد تفوته. وهذا ما حاوله «بروتون» حين رغب في أن يحقق في الواقع أشياء رآها في الحلم.
وما في مثل هذا العمل، في نظرهم، غلو في الخيال، كما يرى بعض من يحمل على السريالية. فالشخص لا يعدو هنا، حين يبتكر هذه الأشياء أن يترجم مادياً الشكل الذي حلم به: وعن هذه الطريق، استطاع «بروتون»، وهو من يجهل الرسم جهلاً عميقاً ولا يعرف كيف يمسك بالقلم، أن يخلق رسوماً نشرتها المجلات السريالية، وأن يبتكر أشياء معقدة ودقيقة.
وبعد، وتلك صورة عن السريالية لا توضح جميع معالمها. ولئن كنت قد عزمتُ على أن أقدم هذا الموجز، فما ذلك إلا لشعوري بأن مثل هذه النزعات جديرة بالتأمل الطويل، وأنها على كل حال مثيرة للتفكير داعية إلى التساؤل وعدم القناعة والرضا، تفتح أمام النفس آفاقاً جديدة، وأمام المشاعر. أبواباً مبتكرة. ولن يعنيني هنا أن أفعل ما يفعله النقاد، فأبين أخطاء هذه النزعة، وما وقعت فيه من ضروب الغلو، وما كان لها من أعاجيب وطرف. فظني أن مثل هذا الأسلوب في الحديث عن المذاهب والنزعات أسلوب عقيم، لا يخرج عن العبث الفكري والبهلوانية. ذلك أن الحركة التي تبنى بناء عقلياً وتنشأ إنشاء فكرياً خالصاً، يمكن أن ينالها العقل بالتجريح، ويحق للفكر أن يضعها على محك النقد. أما الحركة التي تنشأ عن طبيعة الحياة وتنفتح معها، فحسبنا تجاهها أن نبين عوامل ولادتها. وكل تجريح لها من قبل العقل الصوري المنظم قصور عن فهم شيء ينبغي فهمه: وهو أن للعقل ثورة على ذاته، وأنه يجاوز حدوده ويحطم سدوده أحياناً، وأنه قوة خلق وإبداع، إلى جانب كونه قوة تنظيم وعقل وتجديد، وان العقل المكوِّن، على حد تعبير «كنت»، يهزأ من العقل المتكون.
إن في تحليق النسر الذي يصعق لاقترابه الشديد من السحب، عملاً أجل وأسمى على كل حال من التواء الديدان على الأرض التواء آمناً مطمئناً.
عبد الله عبد الدائم