النهضة الاجتماعية

مجلة المرأة – العدد المختار – صدر في خاتمة عام 1948
النهضة الاجتماعية
كلمة الأستاذ عبد الله عبد الدائم
يميّز العلماء بين التطور والتقدم. ويعنون بالتطور تغير الأحوال، سواء كان هذا التغير حسناً أو سيئاً. أما التقدم فيعنون به التطور إلى أمام، وتغير الأحوال إلى خيرٍ منها.
والتطور في أكثر الأحيان نتيجة لعوامل خارجية تفرض على الشعب فرضاً، دون أن تكون له قدرة على مغالبتها والوقوف ضد أثرها وتيارها. ذلك أن أية ظاهرة اجتماعية لا تعيش منعزلة عن غيرها من الظاهرات الأخرى، بل تحيا بها، وتتبدل بتبدلها. وطبيعي أن تتغير أمور التربية مثلاً بتغير الوضع الاقتصادي أو السياسي، أو أن تتغير الأوضاع الأسرية بتغير الثقافة وطراز المعيشة. وقد أشار إلى ذلك العلامة ابن خلدون، مؤسس علم الاجتماع الحديث (أو علم العمران كما يدعوه) منذ أمد بعيد، فقرر أن عادات الناس وطباعهم تختلف باختلاف نحلتهم من المعاش وحظهم من المأكل والمشرب والملبس. ثم وقف عند هذا الأمر علماء الاجتماع اليوم وقفة أطول، فقرروا أن لكل ظاهرة اجتماعية قوانين تحكمها، وأن الأمور الاجتماعية لا تسير وفق الأهواء والصدف، بل تخضع لقوانين ثابتة مطّردة لا تتخلف لا تقل في ثباتها وقوتها عن قوانين العالم الفيزيائي.
وما نريد هنا أن ندخل في مثل هذا البحث الفكري، إذ ما يعنينا هو أن هنالك في عالم الحياة الاجتماعية تطوراً قسرياً يعانيه الشعب منفعلاً به لا فاعلاً فيه، هو هذا التطور الذي تفرضه عوامل خارجة عن إرادة الأفراد، كتغير أوضاع المعيشة
أو اتصال بمدنية غريبة، أو انقلاب في الأوضاع السياسية…
أما التقدم فهو تطور واعٍ، يسلكه الشعب بإرادته، وينبثق من داخله وقلبه، صادراً عن معرفة صحيحة وهدفٍ مسدد.
وفي نهضة المرأة لدينا هذان المظهران. فهنالك نهضة زائفة مصطنعة لم تنتج عن سابق وعي وتصميم، وإنما كانت نتيجة عوامل خارجية فرضت على المرأة فانقادت لها وحملت مع تيارها، دون أن تحاول التساؤل عن الهدف الذي تسير إليه. وهذا ما نراه في ظواهر التحرر الأولى التي سادت لدى طبقة ضيقة، هي الطبقة الثرية غالباً، حيث كانت حرية المرأة لا تعني سوى رواء من المظاهر غير مدعوم بفهم صحيح ولا بعمل صحيح. وهنا فهمت المرأة من النهضة أن تستمع وأن تلهو وتنال قسطاً من الحرية، دون أن تساهم مساهمة حقة في خدمة مجتمعها وأرادت أن تأخذ دون أن تعطي، ودون أن تشارك في حياة الوطن الاجتماعية والفكرية. أو بتعبير آخر، فهمت المرأة الحرية الشخصية على أنها غاية في ذاتها لا واسطة للخدمة الاجتماعية.
وهنالك، إلى جانب هذه النهضة الزائفة، نهضة أخرى، جاءت متأخرة عنها بعض الشيء وفيها وعت المرأة السورية وضعها، وأدركت المهمة الملقاة عليها، وفهمت أن عليها قبل أن تعنى بمظاهر التحرر أن تتساءل عن معناه وعما يفرض من جهد، وأدركت أن الأخلاق الحقيقية هي الأخلاق المنتجة للمجتمع، وأن الحرية التي تطالب بها هي حق من حقوق وطنها لا حق من حقوقها وحسب، إذ بها تستطيع أن تساهم مساهمة فعلية في بناء كيان أمتها.
وطبيعي ألاّ ينكر المجتمع على مثل هذه المرأة أمرها، وطبيعي ألاّ يجادل في أمر حريتها ما دامت هذه الحرية حرية منتجة، لم تصطنعها المرأة إلا لتخرج من الحرية الكسولة إلى قيود العمل المثمر. وطبيعي أن ينكر على المرأة الأولى موقفها، حين يرى كيف أساءت فهم الحرية. ذلك أن الحرية المطلقة، الحرية المسفوحة، وهم لم يوجد ولا يمكن أن يوجد في مجتمع سليم، والحرية تعني دوماً، لدى الشعوب جميعاً ولدى المفكرين جميعهم، إفساح المجال لتحقيق شيء، ولم تعن أبداً ترك المجال لا لشيء.
وبهذا وجدت لدينا نهضة نسائية قائمة على أساس صحيح، وإن تك ما تزال وليدة ضعيفة البنية. ومنها وحدها نرجو التقدم الصحيح وننتظر الخير الكثير. ونحن نأمل أن تنبثق نهضتنا الاجتماعية من هذه النهضة الواعية العاملة، التي تريد أن تكون حقوق المرأة نتيجة لجهدها وكدها وما تقدّم للمجتمع من خدمات حقة، والتي تعلم أن حرية المرأة لا تنتزع بالجدل، وإنما تنتزع بالعمل.
وكثيراً ما نظرنا إلى وضع المرأة لدينا، فساءنا ما فيه من تأخر، إلاّ أننا كنا نسرّ دوماً لظاهرة جميلة، وهي أن النهضة النسائية، وإن كانت تسير لدينا بخطى وئيدة، إلاّ أنها على أية حال قد اتجهت في الوجهة الصحيحة؛ والزمن قد لا يكون شيئاً بالنسبة إلى حياة الأمة، فالغد لناظره قريب. وعلينا ألاّ نخشى بعد أمد المخاض بقدر ما نخشى أن يكون الوليد الذي يهيأ مشوهاً ناقصاً. ولعلنا بهذا خير من بعض جاراتنا الشقيقات، التي كان تطور المرأة فيها طفرة وقفزة في المجهول جاءت مجاوزة لأفهام المرأة، فلم تعها وقصرت عن احتمالها.
ولا يعني هذا أن ندع الأمر للزمن، وأن نستأني ولا نتعجل الأمور، وإنما يعني فقط أن نعمل ونجدّ مسرعين في نطاق هذا الاتجاه الصحيح، وأن نسرع ولكن في أناة، وأن نبني تقدم المرأة على أساس ثقافي متين ووعيٍ صحيح لا نخشى بعدهما انحرافاً، بل نطمئن بعدهما إلى النتائج.
إن النهضة النسائية الحقيقية هي التي يكون لها مقابل في نفس المرأة، وإن النهضة تبشر بخير إذا كان صاحبها يحمل في داخله آمالاً ومطامح وجهوداً أكبر منها. أما أن تكون النهضة أكبر من أصحابها، وأن تكون نفوسهم أضيق من تيارها، فتلك نهضة كاذبة مفروضة، قلما تنتج. وإن جمراً تحت الرماد يحمل في داخله قوىً باقية راسخة، خير من بروق تلمع لتنطفئ. ولن تخاف المرأة على حقوقها وحريتها، إذا كانت تعمل للبقاء لا للهدم.