الحركة السريالية

مجلة الأمل الحمصية – تشرين الثاني وكانون أول 1948

الحركة «السريالية» Surréalisme
للأستاذ عبد الله عبد الدائم

لم يكتب في العربية عن النزعة السريّالية الشيء الوافي؛ رغم أنها نزعة ليست بالمحدثة ولا بالعابرة. فلقد عاشت بين الحربين العالميتين الأولى والأخيرة، وما زالت حتى اليوم تنث ومضاتها بين الفينة والفينة، وما زال حواريوها يجوبون البلدان، ويبعثون من كل صقع صيحة.
وقد لا يكون من اليسير أن أقدّم، في مثل هذا الموجز، صورة وافية عن هذه النزعة، بله أن أحيط بدقائقها وبما تقلب عليها من ألوان وتقلبت عليه من أشكال. وقد يكون من العسير أن أعرف بها تعريفاً جامعاً مانعاً، كما يريد المناطقة، إذ مثل هذا التعريف إن كان يجوز على كل شيء، فهو في هذا المجال غير جائز.
فالنزعة السريالية كلٌّ حيّ، ومن الصعب أن تُحبس الحياة في تعاريف وأُطر: لقد اندست في شتى مجالات الحياة، فصح لك أن تصف قصة من القصص بأنها سريالية، وصح أن تحدّث عن قطعة تمثيلية، أو عن إعلان يستوقف انتباهك في الشارع، أو واجهة تحبس نظرتك من متجر، فتقول عن تلك جميعها إنها سريالية.
أفأنت قائل عنها إنها حركة شعرية؟ إنك لن تخطئ، ولكن أي حركة شعرية هي! وأي لفظ قادر على أن يعبّر عن هذه الموجة التي ابتلعت الحركة الرومانتيكية وذيولها، وحطمت كل ما يُقرأ في المدارس من شعر وما يرتَّل من قصيد، لتبقي بعد هذا كله على مثل قصيدة «الاتحاد الحر» لـ «أندريه بروتون Breton» أو «العيون الخصيبة» لـ «بول إيليار Paul Eluard»
أو «موجة أحلام» لـ «آراغون Aragon»؟
أفأنت قائل عنها بعد ذلك إنها حركة فنية؟ لن تضلَّ الرأي دون شك، فآثار «بيكاسو Picasso» و«تانغي Tanguy» و«ماسُّون Masson» لا تفهم لولا النزعة السريالية.
أم أنت قائل، وراء هذا، إنها مذهب فلسفي؟ إنها كذلك، وإن أصحابها فلاسفة، ولكنهم فلاسفة مجُّوا الفلسفة ولفظوها، ولم يلجأوا إلى العقل، بل غلَّقوا الأبواب أمامه، وفتحوها على مصراعيها أمام أمواج الحلم وتيارات اللاشعور. فأنكروا عبقرية الشعور والصحو، وآمنوا بحقيقة اللاشعور، وبسبق الروح على المادة. ولقد بدأوا أول ما بدأوا متكئين على فلسفات سبقتهم، ولا سيما فلسفة «فرويد» و«هيجل» ثم ما لبثوا بعد حين حتى هجروا كل فلسفة، وصبوا لعناتهم على كل فيلسوف، وعلى هيجل وفرويد، وأعلنوا أنهم تجاه ثورة، ثورة في كل شيء وعلى كل شيء، وأن الثورة لا تعرف المستبقين ولا تحفل بالأجداد والمرهصين.
ومع ذلك، لعلنا إذا تجاوزنا الشعور الخالص الذي لا يقبل التعريف دوماً، وهبطنا إلى عالم الألفاظ والمصطلحات، استطعنا أن نلتمس للسريالية بعض التعريفات. فمما كتبه (أندره بروتون)، زعيم المذهب، في تعريفها: «إنها الجريان النفسي الآلي الذي نحاول به أن نعبر عن مجرى الفكر الحقيقي، لفظاً أو كتابة أو بأية طريقة أخرى. وهي ما يمليه الفكر، حراً من كل رقيب يفرضه العقل، طليقاً من أي شاغل خلقي أو فني.
ومما يقوله أيضاً في تعريفها: السريالية تقوم على الاعتقاد بالوجود الواقعي لبعض أشكال من التداعي أهملت قبلها، وبقدرة الحلم الخارقة، وبالفكر المسترسل المنزه عن الغاية. وهي تنزع إلى أن تقوّض إلى غير ما رجعة جميع أنواع النشاط النفسي الأخرى، وإلى أن تنوب هي منابها في حل مشكلات الحياة الرئيسية».
والحق، لعل أولى السمات التي تسم هذه الحركة الالتجاء إلى اللاشعور في شتى مجاليه ومجالاته، في مجال الحلم والكتابة الآلية والنوم المغناطيسي بل والأمراض النفسية. وهي تلجأ إليه لتصف ما يجري فيه وصفاً أميناً غير مقيد بقيد، ولتحدث عنه أحاديث خيال ومتعة وانطلاق. فهو في نظرها المعبر الصادق عن حياة الإنسان وحقيقته، وهو المبدع الحقيقي، وعن طريق العناية بمبدعاته نستطيع أن نكشف كثيراً من الروائع الفكرية والفنية في الحياة.
وإليك ما يحدثنا به «أندره بروتون» نفسه عن بذور هذه الحركة لديه وأصولها عنده على نحو ما نقع على ذلك في «البيان السريالي» الأول الذي نشره عام 1924. يقول ما خلاصته: في عام 1919، قَرَّ انتباهي على الجمل الجزئية التي تراود المرء في عزلته المطلقة، قبيل النوم، فيدركها فكره دون أن يقوى على أن يحددها. لقد حدث ذات مساء، قبل أن أسلم نفسي للكرى، أن أدركت جملة طريفة غريبة، كانت تطرق مسامعي دون أن يكون فيها أي أثر من آثار الحوادث التي كانت تشغلني في يقظتي ووعيي تلك الساعة؛ أدركتها إدراكاً واضحاً ما بعده وضوح، كأنها أُلقيت إليَّ بحرفها، وأخذت تلحف في المراودة فما أستطيع لها دفعاً، حتى كأنها كانت تقرع الزجاج قرعاً. وما أذكر هذه الجملة اليوم كاملة، على أنها قريبة من الجملة التالية:
(ثمة إنسان قصمته النافذة شقين). وما كانت حين ظهورها تحتمل أي لبس أو غموض، إذ كان يصحبها تصور بصري ضعيف لإنسان يسير وقد علت هامته نافذة شطرته. ولما كنت مشغولاً في تلك الفترة بأفكار (فرويد)، أمارس طرقه في شفاء بعض المرضى، عزمت على أن أستخلص من نفسي ما يراد استخلاصه من أولئك المرضى، أعني حديثاً فردياً أخاطب به نفسي، سريعاً كل السرعة، ليس للفكر النقدي عليه سلطان، يعبر تعبيراً صافياً عن الفكر الحر، عن الفكر في شكل كلام.
وهكذا أنكب أصحاب السريالية في بدء نشوئها على العناية بمثل هذه الحالات اللاشعورية التي تتجلى في الحلم وغيره، وعُني من بينهم (سوبو Soupauet) و (آراغون) بالكتابة الآلية خاصة، و(كروفل René Crevel) بالنوم المغناطيسي، وعنوا جميعهم بكل ما ينبثق عن عالم اللاشعور.
غير أن النزعة السريالية ليست بسيطة إلى هذا الحد، ولا تنحل إلى مثل هذا بمثل هذا اليسر. وقد يوضح هذا التعريف الإيجابي لها بعض التعريفات السلبية. فهي، كما يراها (بروتون)، ثورة على النزعة الواقعية، تلك النزعة التي جلبت من خساسة وضعة، وصيغت من كفافٍ واطمئنان. وهي، بالتالي حملةٌ على كل ما تنتجه هذه النزعة الواقعية، ولا سيما القصة، التي غدت امثل شكل في الأدب، والتي يتأنق كل كاتب في أن يصف بها، خلال الصفحات الطوال، دقائق النفوس والطباع وصفاً أشبه بالعدم منه بالوجود، مجتنبةً دوماً أن تطرح حقاً مشكلة الإنسان ومصيره. فكأنها جعلت من الأدب ألهية وضرباً من السلوى، نعنى فيها بحياة دمىً تتحرك، بعد أن أحكم نظامها بعض الأحكام أو كله، ولمِّ غدت القصة الشكل المفضَّل الشامل بين أشكال الأدب؟ لأنها تلبي شهوة المنطق لدى أولئك الذين يقرأونها، والذين يجدون فيها لذة حلوة حين يلهون بأن يجمعوا بعض القوى إلى بعض أو يطرحوا بعضها من بعض، كما يفعلون في الميكانيكا. إن نفس الإنسان لتواقة إلى مثل هذه المنمّقات المنطقية، حيث تجد الأشخاص وقد حُددّوا واسماً وسناً، وحيث تلفي قواهم تختصم وتتنازع عبثاً ولهواً. وما لمثل هذا الشأن خلقت اللغة، ولا لمثل هذا المصير بُعثت. إنها خلقت لنستخدمها استخداماً «سريالياً»، لنهب شكلاً لذلك الخيال الذي يحمله كل إنسان في نفسه والذي يقوى وحده على أن يبيح لنا أن ندخل حرمات ما كان لنا أن ندخلها من دونه. لم يدرك الإنسان بعد أن المنطق نطاق نضربه حول الأشياء لنخرجها مكبلة، وأن العقل عقال يخفي ضمنه في كثير من الأحيان حظاً من اللامعقول ليس بقليل. ولم يحرص بعد على أن يحمل أحلامه محمل الجد، ويأخذها مأخذ حق، وما زال مفرّطاً بهذا الكنز الثمين الذي وُهبه، كل ليلة. إنه ليستطيع أن يمتاح منه الوحي كما يمتاحه من ملكاته العقلية، فيؤلف بين حالين ليستا متناقضتين إلا ظاهراً، حال الحلم وحال اليقظة، ويصل إلى الحقيقة المطلقة، إلى ما فوق الواقع. وهناك يلفي كل عجيب.
«هات ما تكتب عليه، بعد أن تجلس في خير مكان ملائم لاعتكاف نفسك على نفسها وأجلس جلسة منفعلة سلبية، تتلقى فيها ولا تلقي. واضرب صفحاً عن مواهبك وعبقريتك، وعن مواهب الآخرين وعبقرياتهم. وأذكر أن الأدب أبأس طريق يوصل إلى كل شيء. ثم أهرع إلى الكتابة سريعاً، دون أن تبيّت موضوعاً، وأكتب بسرعة لا تستطيع معها أن تمسك نفسك أو ترغب في قراءة ما كتبت… تأتك الجملة الأولى من تلقاء ذاتها.. أما الثانية فمن الصعب الحكم عليها.. على أن هذا لا يعنيك. وما عليك إلا أن تستمر على هذه الحال ما شئت، وأن تثق بغزارة الهمسات وكرمها(1).
قصة حياة السريالية:
وقد يكون من التجني أيضاً على السريالية، كما قلت وأقول، أن تحدّها بهذه الأوصاف كلها. وقد تكون السبيل الأمين لإيضاحها أن نصحبها في تطورها، وأن نقتفي خطواتها، فهي حركة وثورة، قبل أن تكون جملة من الأفكار الأدبية والملح الفكرية. وهي كائن حيٌّ نما واكتمل بما لقي من صعاب وبما عرف من مناسبات وشؤون، ولها، شأن كل نزعة أدبية؛ ما يبرر ظهورها وما يبرر نضجها، وعندها البواعث والدوافع التي يسَّرت خلقها:
لقد كان للحرب العالمية الأولى شأن في تحضير هذه النزعة، فلقد عاشت بين عام 1918 و1940 (إن صحّ أنها بدأت في الانطفاء في السنوات الأخيرة)، وعاصرت خلال هذه الفترة حركات اجتماعية وسياسية وعلمية وفلسفية لها قيمتها الكبرى، فأثرت في بعضها وتأثرت بعضها الآخر. أنشأها في باريس أناس لا تتجاوز عدتهم اثني عشر شخصاً، ولكنها لم تلبث حتى ذاعت في شتى الأنحاء، فكان لها رواد في إنكلترا وبلجيكا وإسبانيا وسويسرا وألمانيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا، بل جاوزت القارة الأوروبية إلى أفريقيا وآسيا (الصين) وأمريكا (المكسيك والبرازيل والولايات المتحدة). حتى أن أربع عشرة دولة كانت ممثلة في المعرض الدولي للسريالية، الذي انعقد في باريس في شهري كانون الثاني وشباط من عام 1938. ذلك أن السريالية حطمت الأطر القومية للفن، وطارت من فوق الحدود، فأصابت من الذيوع ما لم تصبه حركة قبلها، حتى ولا الحركة الرومانتيكية.

لذا كان من الخطأ أن نعتقد أن مثل هذه الحركة كانت وليدة بعض الأدمغة المنعزلة. ولعل ما لقيته من إعجاب وإقبال، وما واجهت من مقاومة وبغض أيضاً، دليلٌ صادق على أنها كانت تلبي حاجات حقيقية وتطلعات، خالدة أبدية دون شك، إلا أنها اشتدت واحتدت في العصر الذي ولدت فيه. ولقد مهد لظهورها من جهة ثانية، نزعات أخرى معروفة، كالنزعة التكعيبية والنزعة المستقبلية، ولا سيما نزعة الدادا Dada. بل لقد كان زعماء السريالية الذين تداولوا الزعامة كابراً عن كابر، وهم «آراغون» و«بروتون» و«إيليار» و«بيريه Péret» هم الذين كانت تتألف منهم جماعة الدادا حتى عام 1922. ونزعة الدادا هذه وليدة الحرب العالمية قبل كل شيء؛ وعسيرٌ علينا فهمها إذا لم ندرك أن أرض إنباتها وإنتاشها كانت تلك الحرب، وأنها نشأت في قلبها عام 1916، وانتشرت انتشار النار في ألمانيا المغلوبة عام 1918، ثم وصلت أخيراً إلى فرنسا الدامية فيما بين عام 1919-1920. وكم كنا نود أن نحلل الحال التي خلقتها تلك الحرب، والتي أدت إلى انتشار مثل هذه النزعات. وقد يكون لنا إلى مثل هذا البحث الفياض عود.
هكذا خلقت الحرب حركة الدادا. كما خلقت جملة من الشعراء تأثرهم السرياليون أي تأثر، من أشهرهم: «أبو لينير Apollinair» الذي كان له حظ وافر في تنشئة النزعة والذي كانت له في بيانه (الفكر الحديث) جولات، وجولات سريالية. ثم «جاك فاشي Jacques Vaché» النانتي، ذو الشعر الأحمر، الذي سلك سلوكاً حراً أثار «بروتون» زعيم السرياليين؛ وقد أخذ عنه هذا بعض الأفكار، نجدها جليَّة في البيان السريالي الثاني. ثم «آرثور كرافان Arthur Cravan» و«ريفردي Reverdy» و«تزار Tzara» خاصة، أحد أقطاب الدادا. وهكذا خلقت الدادا الحركة السريالية، حين انفض عنها أتباعها، لأسباب يطول الحديث عنها، وألفوا حركة مستقلة، هي السريالية هذه.
السريالية والسياسة:
ولم ترد الحركة السريالية أن تكون حركة فنية أدبية خالصة، بل آمنت أنها ثورة عملية، على نحو ما يتجلى ذلك في العنوان الذي اختارته للمجلة التي أصدرتها منذ عام 1924، وهو «الثورة السريالية». وهي ثورة لا تقتصر على ميدان الأدب، بل تتعداه إلى جميع الميادين ولقد بدا النشاط السياسي للسريالية أول ما بدا في حرب الجزائر. لقد تأثر أتباعها من قبل بالحرب العالمية وحملوا على حرب علموا عقمها وذاقوا مرّها، والآن يرون القوى تعبَّأ وتحشد من جديد، لا لمقاومة دولة رأسمالية هذه المرة، ولكن لمحاربة شعب أصيل محب للحرية. لقد كان زعيم هذا الشعب، الأمير عبد الكريم، يؤكد أن أهل الريف لا يطلبون سوى الحياة الكريمة، على قدم التساوي مع الفرنسيين. لذا رأيت السرياليين يدافعون عن الثائرين على حين كان الأدباء الرسميون يدافعون عن «فرنسا المهددة» بزعمهم.
السريالية والشيوعية:
وهنا بدأ التقارب بين الحركة السريالية والحركة الشيوعية. فلقد كان الشيوعيون ممن دافع عن حركة الجزائر وانتصر للثائرين. لذا حرص السرياليون على أن يكوّنوا معهم، ومع جميع المنظمات الثورية، جبهة موحدة، تجلت أول ما تجلت في جماعة ألفت في ذلك الحين باسم جماعة «الوضوح». على أن هذا التقارب الموقت بين السريالية والشيوعية ما لبث حتى خلق أزمة عنيفة في قلب الحركة، إذ طرح على أتباعها أمر الانتساب إلى الشيوعية، فرأى بعضهم الاستقلال عنها، ورأى بعضهم الآخر الانضمام إليها. وكان على رأس هؤلاء الأخيرين «نافيل Pierre Naville» وعلى رأس الطائفة الأولى «بروتون» الذي أراد أن يبقي على استقلال الحركة السريالية ورأى أن ثورتها أوسع وأشمل من الثورة الشيوعية، وأن الشيوعيين لا يمثلون إرادة الثورة خير تمثيل، إذ يقوم الحزب الشيوعي على الدفاع عن مصالح مادية فقط، ولم يقو بعد على أن يخلق ثوريين حقيقيين. ذلك أن المرء لا يغدو ثورياً إلا بعد أن يقدم عدداً من التضحيات، كأن يضحي بمنصبه أو حريته بل وحياته. والبسيكلوجيا الشيوعية خاطئة حين تريد أن تثير ثوريين بما تعدهم به من حياة مادية رخية يسيرة. فالذي يحمل الثائر على العزم والمضي، ما هو الأمل في حياة فردية أحسن، وإنما الأمل في حياة قاسية، قوامها الحرمان الإرادي والتضحيات.
ومع ذلك ظلت الأزمة مستحكمة، وظل الشقاق قائماً في صفوف السريالية، وتجلى واضحاً عام 1929، حين أخذ «بروتون» يقصي عن الحركة من ليسوا أهلاً لها، وأكثرهم ممن انضم إلى الشيوعية وإلى (تروتسكي) خاصة. وانتهت الأزمة بإعلان استقلال الحركة السريالية، حين بيَّن «بروتون» أن الحركة السريالية تظل حركة ثورية، ولو لم تغدُ شيوعية، وتظل مستمسكة بمبادئ الطبقة العاملة، دون أن تتبع في ذلك وحي الثورة الروسية. على أن هذا الموقف لم يكن موقف جميع زعمائها؛ فـ (آراغون) ظل أقرب إلى الشيوعية و(نافيل) هجر السريالية نهائياً.
السريالية المستقلة:

وهنا بدأت الحركة السريالية عهد إنتاج مستقل، ونشطت من جديد في شتى الميادين، وأخذ «بروتون» في إيضاح مبادئها وغاياتها. وفي هذا الطور نجد أفكاره قد اتضحت ونضجت وأخذت شكلاً عميقاً حاراً، تجلى في «البيان السريالي الثاني».
يبدأ «بروتون» هذا البيان بتعريف السريالية فيقول: «إن كل شيء يحمل على الاعتقاد أن ثمة حداً فكرياً، فيه يزول التناقض بين الحياة والموت، بين الواقع والخيال، بين الماضي والحاضر، بين ما يوصل إليه وما لا يوصل، بين الأعلى والأدنى، فلا ندرك كل تلك إدراك الأصل والنقيض. وليس من هدف للسريالية غير الأمل في تحديد هذا الحد وإيضاحه.. وهذا الموقف يبين عقم المحاولات الفنية والفلسفية الماضية، التي تحاول أن تقدِّم حلولاً، ويُظهر أن السريالية لا تعنى بغير البحث عن هذا الحد الذي يزول فيه التناقض بين المواقف والأشياء. لذا كانت تشترط قبل كل شيء انفصالاً تاماً عن العالم على نحو ما هو مقدَّم لنا، والانخراط في ثورة مطلقة وعصيان تام».
وبعد أن يحمل «بروتون» على الحركات الماضية ويهدِّم بعض الأشخاص الذين كان السرياليون قد عدوهم مستبقين لهم من قبل، من أمثال «رامبو» و«بودلير» و«بو Poë»، وبعد أن يحمل على النظام القائم على استثمار العدد الأكبر للعد الأصغر، ينتقل إلى الحديث عن السريالية فيبدي مآخذه على ما كان فيها من نقائص وقصور، ويبين أن التجربة لم تتحقق بعد تماماً، وأن الكتابة الآلية والحلم لم يُستخرج منهما كل ما يمكن استخراجه؛ وذلك لانشغال أكثر أتباع الحركة بما يجدُّ من اكتشافات، وانصرافهم عن الناحية العلمية من العمل. ويقرر أخيراً أن الحركة السريالية لم تعد تقنع بهذا الموقف المتواضع، وأنها لن تقبل إلا الانصراف الكامل، والموقف الكامل، وأن ليس من سبيل أمام السريالي الحقيقي سوى أن يغامر بكل شيء في سبيل الوصول إلى ذلك الحبور الجميل، حبور الإدراك البعيد، في أعماق الوجود..
ولقد هُيِّئ للحركة منذ عام 1931 من وهب لها نشاطاً وشباباً، هو «سالفادور دالي Salvador Dali» صاحب المنهج الجديد الذي عرف باسم «المنهج البارانوئي النقدي» نسبة إلى البارانويا. وهو مرض يصحب لدى المصاب به بهذيان في تأويل العالم الخارجي والداخلي، وبإكبار للذات مبالغ فيه. غير أنه يمتاز من غيره من أنواع الهذيان بالنظام والانسجام. وله أشكال عديدة ويملك صاحبه صحة سوية، ولا يبدي أي اضطراب عضوي. ومع ذلك تراه يحيا في عالم غريب، لا يخضع له، شأن أكثر الأشخاص السليمين، وإنما يُخضعه ويكيِّفه وفق رغباته. لذا رأى فيه «دالي» ظاهرة تستحق أن يفاد منها، ورأى أن مما يغني الزاد السريالي أن نلجأ إلى إظهار التداعيات والتأويلات الهذيانية وأن نهب لها شكلاً موضوعياً نقدياً. فالكتابة الآلية والحلم في نظره حالان سلبيتان، على حين أن «البارانويا» هي ضرب من الفعالية المنظمة، تهدف إلى أن نُدخل إلى العالم خلسة وخفية رغبات الإنسان، وجميع رغباته ورغبات جميع الناس. وبهذا مهَّد «دالي» لظهور فكرة سريالية جديدة، هي فكرة [الأشياء السريالية]. فلقد بيَّن أن كل شيء يمكن أن يغدو موضوع نظرة سريالية، أو «شيئاً سريالياً» إذا نحن نزعناه من موطنه، أي أخرجناه من إطاره المألوف واستخدمناه لغايات غير الغايات التي خلق لها. أو بتعبير أوضح؛ إن الشيء السريالي هو كل شيء خلقناه كما نشأ، حراً، ولم نرد منه سوى إرضاء من خلقه. أو قل هو كل شيء خلقناه وفق رغبات اللاشعور والحلم. انظر إلى «مبزل الزجاجات» على ما فيه من ابتذال، وامنحه من عندك قيمة فنية، بأن تعزله عن إطاره المعتاد، وتنسى ما صنع، له تغدُ أمام شيء غريب، ذي أسنان مصطفة في دوائر متناقصة مشرئبة إلى أعلى، أمام شيء هو بمثابة عامل بالتماس، يثير لديك جمهرة من الرغبات اللاشعورية. وإذا ما أدركت بعد ذلك أن في وسع كل شيء أن يشغل، بإرادة من يختاره، هذا الدور؛ وأدركت بعده أن عدد الأشياء غير محدود، علمت كيف تغدو إحساساتنا لا متناهية ومشاعرنا غنية
لا يحصرها عدّ. أضف إلى هذا أن في وسع الإنسان ألا يكتفي بالأشياء الموجودة، وألا ينتظر كرم الطبيعة والصدف، فيخلق هو بنفسه «أشياء سريالية» تعبر أصدق تعبير عن قوى اللاشعور ورغبات الحلم، وتكون بمثابة تحقيق مادي لحالات وأشكال يكاد صاحبها لا يتبينها، وتكاد من دقتها تفوته. وهذا ما جربه (بروتون) حين رغب في أن يجري في الواقع أشياء رآها في الحلم. وما في مثل هذا العمل، في نظرهم، إغراق في الخيال، كما يرى بعض من يحمل على «السريالية». فالشخص لا يعدو هنا، حين يبتكر هذه الأشياء، أن يترجم مادياً شكلاً حلم به. و(بروتون) وهو من يجهل الرسم جهلاً عميقاً، ولا يعرف كيف يمسك القلم، قد استطاع، عن هذه الطريق، أن يخلق رسوماً نشرتها المجلات السريالية، وأن يخترع أشياء معقدة ودقيقة.
وبعد، تلك صورة عن السريالية لا توضح جميع معالمها؛ ومنها نتبين أن هذه الحركة كانت تعبيراً عن حاجة إلى انقلاب في حياة الإنسان، أدركت أنه لن يتحقق عن طريق العمل السياسي وحده، ولا عن طريق العمل الروحي وحده، وإنما يتحقق عن طريق عمل جمعي، يلتقي فيه العمل الروحي والعمل السياسي على صعيد واحد، فلا تدري أيهما يسبق الآخر. ولعل السريالية في أعماقها تعبير أوَّليّ ناقص عن نزعة إنسانية جبارة، تريد أن تغني حياة الإنسان الروحية وتمتعها بمعاني وأحاسيس جديدة؛ فتغني بذلك، في الوقت نفسه، منتجاته المادية، وتخلع عليها معنىً إنسانياً جديداً. ولعلها أرادت أن تخطو بالإنسان خطوة أوسع في طريق التطور، كيما يغدو كائناً مرسلاً حراً من القيود، لينهل معاني الوجود فيرسلها دون أن يكدرها بنقد أو تعديل، ويستسلم إلى الأحاسيس حلوة طرية، فيلقيها دون أن يجفّ نسغها بمعايير المجتمع وتقاليد السنة.
ولئن كنت قد حرصت على أن أقدم عنها هذا الموجز، فما ذلك إلا لشعوري أن مثل هذه النزعات جديرة بالتأمل الطويل، ولإيماني بأن هذه البراعم الروحية لابد أن تتفتح أزاهير، وأنها أقرب إلى الإنسان من الأشياء القريبة المحسوسة وأجدر منها بالمعرفة. ولن يعنيني هنا أن أفعل ما يفعله النقاد عادة، فأبين أخطاء هذه النزعة وما وقعت فيه من ضروب المغالاة وما كان لها من أعاجيب وفنون؛ فظني أن مثل هذا الأسلوب في الحديث عن المذاهب والنزعات أسلوب عقيم، لا يخرج عن العبث الفكري والبهلوانية. فالحركة التي تبنى بناء عقلياً وتنشأ إنشاء فكرياً خالصاً يمكن أن ينالها العقل بالتجريح، ويحق للفكر أن يضعها على محك النقد. أما الحركة التي تنشأ عن طبيعة الحياة وتتفتح معها، فتفنيدها تقهقر عن الحياة ورفعتها، وتجريحها من قبل العقل الصوري المنظّم قصور عن فهم شيء ينبغي فهمه: وهو أن للعقل ثورة على ذاته، وأنه يجاوز حدوده ويحطم سدوده أحياناً، وأنه قوة خلق وإبداع إلى جانب كونه قوة تنظيم وعقل وتحديد، وأن العقل المكوِّن، على حد تعبير «كنت»، يهزأ من العقل المتكوِّن.
فليصمت أولئك الذين ما زالوا منصرفين إلى رصف للأشعار، وتلطيخ للوحات، دون أن يفهموا هذه التجربة السريالية الحية، وليدركوا أن في تحليق النسر الذي يصعق لاقترابه الشديد من السحب، عملاً أجل وأسمى دوماً من زحف الديدان على الأرض زحفاً مطمئناً آمناً.

دمشق
عبد الله عبد الدائم