من التحريف الفكري

مجلة الأمل الحمصية – أيلول 1947

من التحريف الفكري
حول مقال
للكاتب الفرنسي [فرانسيس جوردان]

يعاني المبدعون دوماً تقولات المتطفلين الذين يريدون أن يغذوا جدب فكرهم بخصوبة أولئك، فيتبرعون، باسم النقد أو النظرة الفكرية، بالتخريج والتأويل ويريدون أن يحمّلوا آثار هؤلاء المبدعين ما لا تحتمل ولا تسيغ. فإذا بالآثار الفنية تشوه بنظراتهم، وإذا بجمال المبدعات يغشاه عفن الفكر الجامد المجبل.
فكم شاعر عانى من متأويله سوء الفهم وسماجة النظرة؛ وكم أديب قاسى أدبه تحريف أصحاب النزعات وأهواء المتشيعين؛ وكم فنان غدا موطئاً لكل قاصد، ونهباً لكل ذي إرب: كل يستخرج من فنه ما يريد وما تريد له فلسفته، وكل يجد فيه نصيراً لنزعته الفكرية أو مبدئه الاجتماعي. وكم موسيقي غدت قطعه تُجتر ممن لا يفهمون الحياة إلا من خلال أطر فكرية، وقوالب ثقافية جامدة، همّها أن تصوغ من اللحن فلسفة ومن النغم نظريات. أليست مثل هذه النظرات الفظة هي التي دعت «جيد» حين كان يأوي إلى بعض المتأدبين يستمعون إلى بعض القطع الموسيقية ويتأولونها ويفسرون معانيها، إلى أن يثور في وجههم قائلاً: «أما أنا، فأحب الموسيقى التي لا تعني أي معنى؛ أحب الموسيقى التي لا تعني إلا الموسيقى!».
واليوم، بعد أن غزت العالم حمّى المبادئ الاجتماعية، يقبل كثير من الكتاب على تشويه كل إنتاج، إذ يكرهونه على أن يكون متطوعاً للمبادئ التي يرتضون وأن يأتي شاهداً ودليلاً على ما يريدون.
من ذلك، المحاولة التي قام بها كاتب فرنسي، ماركسي النزعة، هو «فرانسيس جوردان»، أحد مؤسسي مجلة الفكر(1). إذ شغله أن تكون مبادئ الماركسية قانوناً طبيعياً يخضع له الحجر والبشر، وأن يرى في كل شيء آية على متانة هذه المبادئ وشمولها وإطرادها.
فبدأ مقاله بمقدمة موجزة بيّن فيها كيف أدى اتساع المعارف البشرية إلى إزالة الحواجز فيما بينها، وكيف إن كل علم يفيض اليوم على غيره ويمتزج به. وعجب للفن، كيف يريد أن يظل في معزل، وينأى على كتلة المعارف، ويدعي لنفسه الاستقلال عن سائر وظائف الفكر البشري. ويريد هو أن يخطو هذه الخطوة، فيتساءل: هل يكون من المعقول أن تكون الصلة بين الفكر الماركسي والقصة، أقوى منها بين هذا الفكر وبين فن الرسم، الذي يمت في الجوهر والصميم وفي أصل تكوينه إلى نسب ماركسي أصيل!.
أما الأدلة «فقاطعة» تشهد بهذه الصلة:
ضع هذا المربع في قاع أسود يبدُ فاتح اللون. ثم ضعه على قاع أبيض يبدُ أشد سمرة الخ.. فما هي إذاً قيمته الحقيقية ولونه الحقيقي؟ إن هذا السؤال فاقد المعنى، إذ قيمة الشيء بما يحيط به، واللون لا يكون ثابتاً، بل يتغير بتغير ما يجاوره. أفلا تقرب هذه الظاهرة القرب كله من تلك الحقيقة التي قررها، بعد هيجل، كل من ماركس وأنجلز، والتي تبيّن أن التغيرات في الكم تنقلب إلى تغيرات في الكيف؟
وهكذا يريد الكاتب أن ينتهي من هذه الملاحظات البدائية العامية التي وضعها علم النفس بين مسلماته الأولية، إلى أن الرسام جدلي مادي، أراد ذلك أم لم يرد، علم ذلك أم جهل!! ويعجب لأولئك الكتاب الذين لم يدركوا مالا يخفى على عقل، وهو أن فن الرسم أوضح شاهد يمكن الإتيان به على صحة المادية الجدلية، وخير دليل ملموس على قوة هذه الفكرة.
فهذه النسبية التي هي من أسس المادية الجدلية. هي أيضاً من جوهر فن الرسم. فليس للّون وجود خاص، ولولا التضاد لما ظهر. وهو لا يفعل ولا يحيا إلا بالتضاد. إن مثل هذه الحقيقة التي يقررها عالم الألوان لهي توكيد صريح لمبدأ ستالين القائل «ليس في الكون ظواهر منعزلة»! والرسام، كالجدلي المادي، «يواجه الأمور.. ناظراً قبل كل شيء إلى ما بينها من صلات متبادلة وتشابك» كما يقول أنجلز!
إن هذا اللون الأبيض لا معنى له إلا بالقياس إلى الألوان البيضاء الأخرى وليس ثمة لون مطلق البياض، والبياض دوماً نسبي. فهذا المنديل الأبيض مثلاً، إذا سقط على الثلج لم يعد أبيض. أليست هذه الحقيقة أيضاً هي عين الحقيقة التي قررها أنجلز! (وكأن غيره لم يقررها) وهي أن «ليس ثمة شيء نهائي مطلق».
وفوق ذلك، أفلا يحق لنا أن نقول، ما دام الأبيض نسبياً، وما دام الأسود نسبياً، وما دام كل لون نسبياً، أنْ ليس هنالك انقطاع أو حاجز بين اللون الأسود والأبيض، وأن بينهما اتصالاً. وأن الحقيقتين المتناقضتين تلتقيان! وإذا صح هذا صح معه مبدأ الجدلية إذ هي تقرر كما تعلم، إن الأضداد تصطرع وتأتلف في آن واحد!
ويأسف الكاتب أخيراً ويعتذر، إذ كان بوده، لو يفسح له المجال ويتاح له الوقت، أن يأتي بشواهد أخرى أعمق وأقوى، وأن يبيّن، بتحليل جوهر فن الرسم تحليلاً أوفى، أن بين هذا الفن وبين مبادئ الماركسية وشائج قربى؛ وبذلك تستبين الحقيقة لمن يدعوهم إلى الانتساب لهذه المبادئ، فيدر كون قوة المنهج الماركسي وشموله!!
تلك نظرات ندرك جميعاً ما فيها من سماجة وتكلف، وقد لا نكون في حاجة إلى استخراج ما فيها من وهن فكري وفجيعة للذوق. ولولا الإشفاق على الفن من أن تسطو عليه النظرات المريضة. وخشية الانحدار إلى مثل هذا التخرص والاسترسال فيه، لما كنا نعير مقال الكاتب غير الإهمال.
ونريد أن نقرر قبل كل شيء أننا لا نستهدف نقد الأدلة التي لجأ إليها الكاتب (على ما تتصف به من ضعف واضح)، فالأدلة لا تعنينا، ويعنينا أن اللجوء إلى مثل هذه الطريقة للتدليل على أي مبدأ من المبادئ، ماركسياً كان أم غير ماركسي إسفاف غير مقبول، وإزراء الفن.
نعم، إن المعارف قد تشابكت وعُقدت بينها الصلات؛ وإن الوجود كله متشابك ملتحم ومعاني الكون تسقى من منهل واحد. ولكن، أفلا نشعر جميعاً أن من التفكير الصبياني إن نلجأ إلى مشابهات عرضية بين الأشياء، وأن نستنتج من هذه المشابهات الهادئة الصامتة، مذاهب كبرى ونظريات؟ أو ليس من المضحك أن نثبت مثلاً مبدأً ضخماً كمبدأ النسبية بأمثلة ساذجة نبين فيها كيف يكون السيف ماضياً إذا قيس بالعصا، وكيف يبدو مفلولاً أمام البندقية؛ أو نبين كيف يكون المربوع قزماً إذا قيس بالعملاق وعملاقاً إذا قيس بالقزم، أو نبين بإيجاز، وبتحصيل حاصل واضح، أن الصغير كبير أمام ما يصغره، صغير أمام ما يكبره! وهل يجوز أن نتخذ عالم الأشياء صورة لعالم الأفكار وبرهاناً عليه!
وَلمَ يلجأ كاتبنا إلى فن الرسم، ويأتي البيوت من ظهورها؟ لقد كان في وسعه، إن هو أساغ مثل هذا المنهج في التفكير، أن يأتي بالأمثلة المباشرة والشواهد الصبيانية المبثوثة في كل الأشياء: فأينما اتجه يرى أن كل أحكامنا على الأشياء نسبية، وإن طول الأشياء وعرضها ولونها وظلها وحرورها، نسبي.
إن الملاحظة العلمية غير الملاحظة العامية، وإن مثل هذا التفكير الذي يرى المشابهات العادية والمشاهدات العفوية، فيطرب لها، ويعمم على أساسها ويضع القوانين، هو عين التفكير الذي كان يدعو مثل «طاليس» إلى القول بأن أصل الوجود هو الماء، ومثل «انكسمندريس» إلى القول بأنه الهواء، ومثل «هيرقليطس» إلى القول بأنه النار الخ..
والحق، إن العقل، إذا أساغ هذه النظرات التي تقفز من الملاحظات الجزئية الساذجة إلى التعميمات الكلية الشاملة، والتي تخلق من الظواهر العرضية مبادئ عامة، استطاع أن يقرر أي مبدأ أو أية نظرية دون ما عناء: إذ لا يعجزه إن يرى المشابهات التي يريد. وغنى الكون يتسع لكل صائد واهم!
وما مثل الكاتب في محاولته هذه إلاّ مثلُ الكثيرين من المفكرين الشكليين، نذكر منهم «انبذ قليس» الذي أراد أن يبين إن حركة الجواهر الفرده التي يتألف منها الوجود. قائمة على الحب والكراهية، وإن الحب والكراهية أصل الوجود مستنداً في ذلك إلى بعض المشاهدات السطحية التي أغرت عقله الصوري بأن يصعد منها إلى مبدأ عام وقالب شامل، حتى لتخال قوالب العقل سابقة في الوجود على وقائع الكون.
على أننا نخشى على كاتبنا، إن أباح لنفسه ولغيره مثل هذه الطريقة، أن يقيض له من يستخرج من فن الرسم في خطوطه وألوانه وظلاله، ما يناقض مبدأه الماركسي ويثبت غيره. فليس للفكر في هذه الطريقة ضمانة.
وبعد، أفلا يكون من التشدق والضعف معاً، أن نلجأ دوماً إلى الفنون والآداب نسألها الغوث ونمتاح منها العون؛ وأن نجعل من المبادئ الاجتماعية والمنتجات الفنية سيحاناً لا صلات طبيعية؟ وهلا يكون من التجني على الآثار الأدبية أن نفهمها بغير نظرة الأدب، ونتذوقها بغير مذاق الفن. لعل لكل موضوع من موضوعات المعرفة حساً لا يذاق إلا به، ولعل من الإحسان لما تنتجه الإنسانية ألا نتكلف تشويهه بعقلٍ فقيه، وأن نصون مبدعات الفن، ملجأ النفوس الحية، من التحريف والنظر إليها من وراء الحجب.
عبد الله عبد الدائم