ابن عربي صوفي أم حكيم إشراقي

مجلة الأمل الحمصية – حزيران 1947

ابن عربي صوفي أم حكيم إشراقي؟

يكتنف تاريخنا كثير من الغموض، حتى ما نكاد نستبين رجالاتنا، لما يغشاها في أذهاننا من ضباب قلما نجلوه. لذا كنا في فهمنا لماضينا طرائق وشيعاً، لا يفرق بينها اختلاف الاجتهاد، ولكن تنوع الجهل وألوانه. ولعل أشد ما يعوزنا أن نبني اتجاهات واحدة، ولن ييسر لنا هذا لما لم تكن هذه الاتجاهات وليدة العلم الصحيح والبحث الدقيق. فنحن ما زلنا، في أكثر حديثنا عن تاريخنا، وفي حلولنا لمشكلاتنا الاجتماعية، نبني على غير بنيان، وتصدر أقوالنا عن جهل بطبيعة حياتنا، وبالقوانين التي تسيرها. فكأننا لم نغادر بعد مذاهب القدماء ينشئون أبحاثهم إنشاء لا يستند إلى واقع مثبت، فتذهب بهم أخيلتهم كل مذهب وتتقاذفهم الظنون فتنأى بهم.
وما بحثي اليوم إلا محاولة صغيرة، من محاولات كثيرة واجبة، أردت بها أن أخرج ابن عربي في حلة واضحة، وأن أنضو عنه ما علق به من تأويلات مجانية، وأوصاف هي من الكثرة بعدد العقول الجاهلة به:
فابن عربي متصوف مسلم في رأي بعضهم، وزنديق كافر في رأي آخرين(1) وشيخ المحققين ومربي العارفين في رأي طائفة ثالثة(2)، وولي مقرب ترجى شفاعته في رأي كثيرين.
والحق، أن المنتصرين لابن عربي والمخالفين له على السواء، لم يريدوا أن يجدوا في دراستهم له إلا ما بيتوه من أفكار سابقة؛ فكان أن فهموا سطوره كما رغبوا؛ لا كما تفهم:
فإبن تيميه، وهو من أشد الناس عداوة لابن عربي، يحمل عليه، أكثر ما يحمل، لأنه من جماعة المتصوفة، وكلهم في نظره، منحرف عن السنة، مبتدع غير متبع. وهو يساوي في ذلك بينه وبين كثيرين غيره، لم يبلغوا في ابتداعهم مبلغه بل عرفوا بحظ وافر من الاستقامة في السنة، كابن الفارض وغيره.
أما المنتصرون له فينتصرون أيضاً لفكرة مبيتة: فهم يكبرون ابن عربي عن أن يكون شيئاً آخر غير ما يريدون له من كمال العلم ووفرة التقى. حتى أنهم أخذوا يتأولون نصوصه الصريحة، أو يرون أن لأقواله باطناً لا يقوى على إدراكه من لم يبلغ منزلته؛ بل ذهبوا إلى أبعد من هذا، فعدوا أقواله المخالفة للشرع مخالفة واضحة مدسوسة عليه، واخترعوا الروايات لإثبات ذلك: من هذا ما يروي الشعراني في مقدمة اليواقيت والجواهر، فيقول: «وقد أخبرني العارف بالله تعالى، الشيخ أبو طاهر المغربي الشاذلي، رضي الله عنه أن جميع ما في كتب الشيخ محيي الدين بما يخالف ظاهر الشريعة. مدسوس عليه قال لأنه رجل كامل بإجماع المحققين والكامل لا يصح في حقه شطح عن ظاهر الكتاب والسنة، لأن الشارع أمنه على الشريعة». ثم يوضح الشعراني هذا القول في الفصل الأول من الكتاب فيقول: «لم يزل الناس منكبين على الاعتقاد في الشيخ وعلى كتابة مؤلفاته.. إلى أن أراد الله ما أراد من انتصاب شخص من اليمن اسمه جمال الدين الخياط. فكتب مسائل في درج وأرسلها إلى العلماء ببلاد الإسلام وقال: هذه عقائد الشيخ محيي الدين بن العربي، وذكر فيها عقائد زائفة، ومسائل خارقة لإجماع المسلمين».
وليس من شأني أن أنتصر أو أحمل. والذي يعنيني أن هذا الخلاف وليد معرفة بابن عربي، هي إلى الاعتقاد والظن أقرب منها إلى علم اليقين. والذي يعنيني بعد ذلك أن أذهب مذهباً أخاله أميناً حيادياً، وهو أن ابن عربي حكيم إشراقي أكثر منه صوفياً وإن كان في الإشراق تصوف وفي التصوف إشراق.
أما التصوف فإن الدقة تفرض عليّ أن أضعه في حدوده الواضحة:
يقصد من التصوف عادة ذلك الضرب من المعرفة التي تحصل لأصحابها عن فيض إلهي لا عن طريق الفكر، والتي هي ذوق يعانى لا علم يوصف. فهي معرفة يقذفها الله في الروع وإلقاء رباني ونفث روحاني يحظى به السالكون الدين صفوا عن العلائق المادية وانسلخوا من إهاب الحس فعادوا روحاً خالصة. وانجلى سرهم حتى اطلعوا به على حقائق لابد أن تدركها النفس يوم تدنو بالتصفية من عنصرها الإلهي وتترك عالم الأشباح إلى عالم الأرواح. ومعنى هذا أن للتصوف سمتين أساسيتين: أولاهما التماس المعرفة عن طريق الذوق والوجدان؛ والثانية العزوف عن الدليل العلمي والبحث العقلي. وإليك ما يقوله العلامة ابن خلدون في هذا: «والمدارك في هذه الفنون الثلاثة (يعني الفلسفة وعلم الكلام والتصوف) متغايرة مختلفة؛ وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المتصوفة لأنهم يدعون فيها الوجدان ويفرون عن الدليل. والوجدان بعيد عن المدارك العلمية وأبحاثها وتوابعها»(1).
وإليك أيضاً ما يقوله «دولاكروا» في مطلع كتابه عن تاريخ التصوف المسيحي(2): «الصوفي من اعتقد أنه يدرك الأمور الإلهية إدراكاً مباشراً لا وساطة فيه، وأنه يعاني الحضرة الإلهية معاناة باطنية». «.. والتصوف حملة انتقام يشنها الوجدان على المعرفة التأملية المنطقية؛ وموضوعه أن فوق العقل ملكة ممتازة قادرة على بلوغ المطلق الذي فوق الأشياء».
وأما حكمة الإشراق فلعلها مازالت غامضة في الأذهان ولعل اسمها لم يتردد على الألسنة كثيراً، رغم ما لها من شأن كبير في تاريخ الفكر العربي:
أخذت عناصر هذه الحكمة عن مذهب أفلوطين وهرمس وأجاثود يمن ومن تبعهم من أصحاب الأفلاطونية الجديدة؛ ثم عن بعض حكماء اليونان الأقدمين، مثل أنبذقليس وفيثاغورس مع تأثر ببعض حكماء الفرس القدماء ولا سيما «ياني» و«جاماسف» و«بزرجمهر».
وحاصلها أنها فلسفة تريد أن تصل إلى حقائق الفلسفة، عن طريق الاختراق والإلهام، على حين يريد التصوف أن يصل إلى حقائق الدين، عن طريق الوجدان والرياضة. فهي مذهب صوفي في نظرية المعرفة، وهمها أن تبين أن المعرفة إشراق وإلهام وأنها فيض من النور الأول الذي هو أصل الأشياء كلها. وأكمل صورة لها لدى الإسلاميين نجدها في مذهب السهروردي المقتول في كتابيه «حكمة الإشراق» و«هياكل النور». وإليك ما ورد في دائرة المعارف الإسلامية تعريفاً بهذا المذهب: «حكمة الإشراق فلسفة روحانية، لها في نظرية المعرفة مذهب صوفي وتعبر عن الله وعن عالم العقول بالنور. والمعرفة الإنسانية في نظرها عبارة عن الإلهام من العالم الأعلى يصلنا بوساطة عقول الأفلاك»(3).
وإليك أيضاً ما يقوله صاحب كشف الظنون: أما حكمة الإشراق فهي من العلوم الفلسفية، بمنزلة التصوف من العلوم الإنسانية، كما أن الحكمة الطبيعية والإلهية منها بمنزلة الكلام منها. وبيان ذلك: أن السعادة العظمى والمرتبة العليا للنفس الناطقة هي معرفة الصانع بما له من صفات الكمال والتنزه عن النقصان، وبما صدر عنه من الآثار والأفعال في النشأة الأولى والآخرة، وبالجملة معرفة المبدأ والمعاد. والطريق إلى هذه المعرفة من وجهين: أحدهما طريق أهل النظر والاستدلال، وثانيهما طريق أهل الرياضة والمجاهدات. والسالكون للطريقة الأولى، إن التزموا ملة من ملل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهم المتكلمون، وإلا فهم الحكماء المشاؤون. والسالكون إلى الطريقة الثانية، إن وافقوا في رياضتهم أحكام الشرع فهم الصوفية، وإلا فهم الحكماء الإشراقيون. فلكل طريقة طائفتان»(1).
ومعنى هذا بصريح العبارة أن حكمة الإشراق مسلك في المعرفة يشبه في جوهره مسلك المتصوفة، سوى أنه قائم على أسس فلسفية لا دينية وهذا فارق أول. وإليك فارقٌ ثانٍ نستخرجه مما يذكره ابن طفيل في حي بن يقظان (وهو كتاب في أسرار الحكمة المشرقية كما يدعوه صاحبه) إذ يقول مخاطباً سائله الذي كتب له كتابه، فيما يروي: «وظهر بهذا القول أن مطلوبك لم يتعد أحد غرضين: إما أن تسأل عما يراه أصحاب المشاهدة والأذواق والحضور في طور الولاية، فهذا مما لا يمكن إثباته على حقيقة أمره في كتاب. ومتى حاول أحد ذلك وتكلفه بالقول أو الكتب، استحالت حقيقته وصار من قبيل القسم الآخر النظري؛ لأنه إذا كسي الحروف والأصوات، وقرب من عالم الشهادة، لم يبق على ما كان عليه بوجه ولا حال، واختلف العبارات فيه اختلافاً كثيراً..
والغرض الثاني من الغرضين اللذين قلنا أن سؤالك لن يتعدى أحدهما هو أن تبتغي التعريف بهذا الأمر على طريقة أهل النظر. وهذا أكرمك الله بولايته شيء يحتمل أن يوضع في الكتب وتتصرف به العبارات، ولكنه أعدم من الكبريت الأحمر، ولا سيما في هذا الصقع الذي نحن فيه؛ لأنه من الغرابة في حد لا يظفر باليسير منه إلا الفرد بعد الفرد؛ ومن ظفر بشيء منه لم يكلم الناس به إلا رمزاً، فإن الملة الحنيفية والشريعة المحمدية قد منعت من الخوض فيه وحذرت عنه..»(2).
وواضح أن ابن طفيل يقصد بالغرض الأول التصوف، أما الغرض الثاني فهو بعينه حكمة الإشراق التي ينزع إلى سلوك سبيلها، والتي لم يسلكها قبل في المغرب إلا قليلون على رأسهم أبو بكر ابن الصائغ (ابن باجة). ومن هذا نستخرج فارقاً ثانياً يفرق حكمة الإشراق عن التصوف، وهو إمكان التعبير عنها بألفاظ وعبارات، وعرضها عرضاً عقلياً.
وخلاصة هذا كله إذاً، أن التصوف وحكمة الإشراق يسلكان طريقاً واحدة هي طريق الكشف والوجدان، إلا أن الأول يسلكها لغاية دينية، بينما الثانية تسلكها لغاية فلسفية؛ ثم إن الحقائق التي يصل إليها الأول لا يمكن وضعها في عبارة ولا التدليل عليها بالعقل، وإنما تعرف بالذوق والمعاناة؛ بينما الحقائق التي تصل إليها الثانية يمكن الراسخين أن يعبروا عنها تعبيراً عقلياً نظرياً، وعرضها كما تعرض المعارف الفلسفية النظرية.
فإلى أي الفريقين ينتسب ابن عربي: أهو صاحب روية وفكر ونظرة فلسفية في الوجود، وصل إليها عن طريق الإلهام والكشف، وعبر عنها بطريق أهل النظر، حتى يعد من الحكماء الإشراقيين، أم هو صاحب رياضة وسلوك وصل بهما إلى الله وإلى توكيد حقائق الدين، حتى يعد من المتصوفة؟
أما أن يكون ابن عربي إشراقياً في كل شيء وأن يصدق عليه هذا الوصف بدقائقه، فتلك مغالاة غير جائزة. فابن عربي لم يتحدث عن النور ولا عن نور الأنوار، ولا عن الأنوار القاهرة والمدبرة كما فعل السهروردي وغيره من حكماء الإشراق الأصليين ولم يرجع الأشياء كلها إلى النور، كما رجعوا.
وأما أن يكون ابن عربي متصوفاً بالمعنى الأصلي لهذه الكلمة فذلك تعسف أكبر. فابن عربي صاحب أنظار عقلية أكثر منه صاحب أحوال صوفية. وابن عربي يفهم الكون فهماً فلسفياً قبل أن يفهمه فهماً دينياً. لذا كانت وحدته وحدة وجود لا وحدة شهود، أعني أنه آمن بوحدة الحق والخلق إيماناً عقلياً دائماً، لا إيماناً يعبر عما شعر به في حالات الوجد فقط. ولقد قال ما قال وهو في ملء وعيه، يصف رأياً عقلياً راسخاً يقدم الدليل بين يديه لا حالاً صوفية عاناها لا يسأل عن برهانها ولا يُسأل.
وأما أن يكون ابن عربي أقرب إلى الإشراق منه إلى التصوف. فهذا ما أراه واقعاً، وهذا ما يجيز لي أن أنعته بوصف الإشراق، لغلبته عليه، ولأنه يتصف بالصفات العامة التي رأينا أنها تميز الإشراق وهي (1) سلوك سبيل المشاهدة والوجدان (2) الوصول إلى حقائق فلسفية (3) يبرهن عليها برهاناً عقلياً ويعبر عنها باللفظ وتثبت بالدليل.
وهنا لابد لي من تنبيه. وهو أنني إذ أنعت ابن عربي بنعت الإشراق، لا أقصد بهذا أن بين التصوف والإشراق هوة لا تعبر، أو بوناً لا يدنو بل أرى أن بينهما خاصة وبين نتاج النفس الإنسانية عامة، وشائج قربى ما كان التقسيم المصطنع أن يمحوها. ولو خلي بيني وبين التعابير الطبيعية ولم يكن لزاماً علي وعلى كل من يتحدث بلغة المجتمع، أن أضع المعاني في أطرها المرسومة لقلت بألفاظ عادية أن ابن عربي صاحب فكر ورأي، ونظرة في الوجود أعتقد أنه وصل إليها عن طريق الإلهام والكشف أكثر منه صاحب رياضة ومجاهدة أوصلته إلى الاتصال والفناء في أصل الوجود.
وأياً كانت الحال فابن عربي حكيم إشراقي في نظري. قبل أن يكون متصوفاً لسببين إذاً:
الأول أنه يريد أن يبرهن على حقائق نظرية فلسفية، يرى أنه وصل إليها عن طريق المشاهدة والاتصال. والثاني إن أكثر أفكاره أفكار صادرة عن مصادر كمصادر الحكمة الإشراقية حيناً، وعن مصادر عقلية لا إيمانية حيناً آخر.
(1) فهو يبرهن عن حقائق فلسفية لا دينية، ولكنه يدعمها بأن يردها إلى طريق الإلهام: وكم يحكم العقل والنظر في أقواله، وكم تمتلئ نصوصه وفتوحاته بالأدلة النظرية، وكم في وحدة وجوده من براهين منطقية خالصة؟ إن الخلق في نظره مظهر من مظاهر الحق (الله) وتجل من تجلياته؛ والعالم إذا نظرنا إليه نظرة المحقق تجل لأسماء الله وفيض لأحكامه ومرآة صادقة لذاته: فما ثمة إلا حقيقة واحدة وما تلك المظاهر المتفرقة إلا تجليات لعين وحيدة. «فإنما هو أمر واحد ظهر في صور مختلفة»(1). «وصاحب التحقيق يرى الكثرة في الواحد، كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية، وإن اختلفت حقائقها وكثرت، إنها عين واحدة. فهذه كثرة معقولة في عين الواحد، فتكون في التجلي كثرة مشهودة في عين واحدة؛ كما أن الهيولى تؤخذ في كل صورة، وهي مع كثرة الصور واختلافها ترجع في الحقيقة إلى جوهر واحد» (فصوص 223) ولا يكتفي بهذا كله، بل يورد عليه الأمثلة العقلية الخالصة والتشبيهات، فيشبه هذا التجلي تارة بالتحلل وبالغذاء الروحي، وتارة أخرى بتجلي الصورة في المرآة وثالثة بالظل، ورابعة بالماء، وأخيراً بالإناء.
ولا يقف عند هذا الحد أيضاً، بل يبين الصلة الوثيقة بين الخلق والحق، وأن ليس لأحدهما تقدم على الآخر ولا سبق. فيقرر أن الاستعداد للوجود موجود في المخلوقات، وأن الحق «أوجد العالم كله وجود شبح سوى لا روح فيه، فكان كمرآة مجلوة؛ ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سوى محلاً إلا ولابد له أن يقبل روحاً إلهياً، عبر عنه بالنفخ فيه، وما هو إلا حصول الاستعداد من تلك الصورة لقبول الفيض المتجلي الدائم الذي لم يزل ولا يزال» (ف 16).
لهذا كان الخلق يحدد الحق ويعينه، وكان وجود الحق متصلاً بوجود الخلق. فالذات لو تعرت عن النسب لم تكن إلهاً. وهذه النسب أحدثتها أعيانناً فنحن جعلناها بألوهيتنا إلهاً؛ فلا يعرف حتى نعرف. قال عليه الصلاة والسلام: «من عرف نفسه فقد عرف ربه» (ف 105). فالخالق غذاء المخلوق بالوجود والمخلوق غذاء الخالق بالأحكام. «والأمر منه إليك، ومنك إليه، غير أنك تسمى مكلفاً، وما كلفك إلا بما قلت له كلفني بما لك وبما أنت عليه:
ويعبدني وأعبده
فيحمدني وأحمده

فعلمي بالحق إيجاد له، ولولا معرفتي إياه ما وجد. فالحكم للمخلوق في وجود الحق. وليس للحق إلا إفاضة الوجود عليه. أما الحكم فللمخلوق». «إن الحاكم في التحقيق، تابع لعين المسألة التي يحكم فيها بما تقتضيه ذاتها، والمحكوم عليه حاكم على الحاكم أن يحكم عليه بذلك»
(ف 235). فلا تحمد ولا تذم إلا نفسك، وما يبقى للحق إلا حمد إفاضة الوجود لأن ذلك له لا لك:
لمن له أنت عبد
فأنت عبد وأنت رب

لمن له في الخطاب عهد
وأنت رب وأنت عبد

ويأتي ابن عربي للتدليل على هذه الفكرة الأخيرة، بعدة تشبيهات أيضاً كمثال المرآة. والعدد الواحد، والقضاء والقدر؛ وكلها أمثلة وبراهين، كنت أود لو يتاح لي عرضها، تبياناً لما فيها من روح المناقشة العقلية.
ومذهب ابن عربي أوسع من أن أحيط به في مقال؛ وتكفيني هذه النماذج القليلة أبين فيها كيف كان ابن عربي صاحب رأي ونظر فلسفي. وكيف كان التفكير العقلي رائده دوماً وكيف أن مثل هذا المذهب لم يصدر عن أحوال صوفية، ولكنه عن غرض فلسفي. فابن عربي في فصوصه. وفي شطر كبير من فتوحاته. ينهج نهجاً عقلياً منطقياً ما في ذلك شك فيقسم ويحلل ويجزيء ويتحدث بلسان العقل كما شهدنا في ما أوردنا من «نصوصه» وكما في قوله في فتوحاته: «إن أحدية كل شيء معقولة، بحيث لا يمتري فيها من له مسكة عقل ونظر صحيح. وأنت إذا نظرت إلى هذا الواحد فلابد أن تحكم عليه بأن له رتبة يكون عليها في الوجود: فإما أن يكون مؤثراً، أو مؤثراً فيه، وإما أن يكون المجموع، فالمؤثر هو الفاعل، والمؤثر فيه محلل الانفعال، فما في الوجود إلا المجموع»(1).
إلا أن هذا الشرط وحده لا يكفي ليجعل منه حكيماً إشراقياً. فما كل من كان صاحب نظر وفكر، صاحب إشراق. ولكن ابن عربي يعتقد، كما يعتقد الحكيم الإشراقي، أن علومه، و هي على ما رأينا من صفات عقلية، ما هي بالعلوم التي تصدر عن روية وتبلغ بالفكر، وإنما هي علوم تأتيه عن طريق الإلهام. كأن يقول في الباب السادس والستين والثلاثمائة من الفتوحات: «وأعلم أن جميع ما أكتبه في تأليفي ليس هو عن روية وفكر، وإنما هو نفث في روعي على يد ملك الإلهام» أو أن يقول في الباب 373: «جميع ما كتبته وأكتبه في هذا الكتاب إنما هو من إملاء إلهي وإلقاء رباني، أو نفث روحاني في روح كياني؛ كل ذلك بحكم الإرث للأنبياء والتبعية لهم، لا بحكم الاستقلال». أو أن يقول أيضاً في الباب السابع بعد الأربعين: «أعلم أن علومنا وعلوم أصحابنا ليست من طريق الفكر وإنما هي من الفيض الإلهي».
مما يخولنا أن نقرر أن الشرط الأول من شروط حكمة الإشراق، وهو اعتقاد الوصول إلى المعرفة النظرية الفلسفية عن طريق الإلهام، متوافر لدى ابن عربي.
ولعلنا إذا أوردنا النص التالي وفه يتحدث ابن عربي عن مراتب العلوم، استطعنا أن ندرك موقفه في وضوح وجلاء، واستبان لنا أن علمه علم يتصرف فيه العقل وإن كان في نظره متصلاً بأمور فوق طور العقل. تبلغ عن طريق المشاهدة، يقول في فتوحاته (ص 28):
«إذ كانت العلوم على ثلاثة منازل: علم العقل، وهو كل علم يحصل لك ضرورة أو عقيب نظر في دليل، بشرط العثور على وجه ذلك الدليل وشبهه من جنسه في عالم الفكر الذي يجمع ويختص بهذا الفن من العلوم ولهذا يقولون في النظر: منه صحيح وفاسد. والعلم الثاني علم الأحوال، ولا سبيل إليها إلا بالذوق فلا يقدر عاقل على أن يحدها ولا أن يقيم على معرفتها دليلاً البتة. كالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع والعشق والوجد والشوق وما يشاكل هذا الصنف. فهذه علوم من المحال أن يعرف أحد حقيقتها إلا بأن يتصف بها ويذوقها أو شبهها من جنسها في عالم الذوق؛ كمن يغلب على محل طعمه المرة الصفراء فيجد العسل مراً وليس كذلك؛ فإن الذي باشر محل الطعم إنما هو المرة الصفراء. والعلم الثالث علم الأسرار وهو العلم الذي فوق طور العقل وهو علم نفث روح القدس في الروع، يختص به النبي والولي؛ وهو نوعان: نوع منه يدرك بالعقل كالعلم الأول من هذه الأقسام. لكن هذا العلم به لم يحصل عن نظر، ولكن مرتبة هذا العلم أعطت هذا. والنوع الآخر على ضربين الخ..».
وواضح أن ما يعنينا من هذا النص هو ما جاء فيه عن علم الأسرار. فابن عربي يرى أن هذا العلم فوق طور العقل؛ إلا أن منه نوعاً يمكن أن يدرك بالعقل وإن كان الوصول إليه لا يتم عن طريق النظر العقلي بل عن المرتبة التي يصل إليها صاحبه. وهذا العلم هو الذي اختاره ابن عربي؛ وهو الذي قصد إليه في تآليفه. ولعلنا ندرك في يسر ما بين أقواله هذه وأقوال ابن طفيل، في النص الذي أوردناه، من شبه بيّن. مما يؤكد من جديد أن موقفه كموقف ابن طفيل موقف الإشراقي. هذا الموقف الذي يتلخص في ما يأتي:
هو يريد أن يصل إلى معارف نظرية عقلية عالية، عن طريق التسامي إلى طور فوق طور العقل، طور تنكشف فيه الحقائق لطالبيها. وهكذا يصدق أن يوصف بأنه فيلسوف ذو مذهب في المعرفة إشراقي.
(2) أما السبب الثاني الذي يجعل من ابن عربي حكيماً ينزع إلى الإشراق أكثر مما ينزع إلى التصوف، وأعني به وحدة المصادر التي سقى منها هو والتي سقت منها حكمه الإشراق؛ فهذا ما لا أستطيع أن أوفيه البحث في مقال.
وحسبي أن أذكر أن ابن عربي تأثر بالأفلاطونية المحدثة كثيراً، كما تأثر الإشراقيون:
ولا أدل على ذلك من نظريته في الواحد والكثير وفي مراتب الوجود، تلك النظرية التي تأثر فيها بأفلوطين مع شيء من التحوير. إذ يعتقد أن الفيوضات أسماء لجهات مختلفة من الوحدة المطلقة أي الذات الإلهية التي لا تقبل التكثر بحال. فالواحد ليس سوى هذه الذات في إطلاقها وتجردها. والتكثر هو هذه الذات في ملابساتها. ولا أدل على ذلك أيضاً من أوجه الشبه العميقة التي نجدها بين نظرته إلى الكون وبين نظرة السهروردي المقتول في «هياكل النور» ولا سيما ما اتصل منها بالوحدة والكثرة أيضاً. إذ يرد السهروردي دعوى المشائين القائلة بأن الإنسانية في عقلها تنطوي على كثرة من الأفكار وأنها نموذج لما في الموجودات من مجرد ومشخص وأنها بالتالي غير قابلة للقياس وغير متجوهرة، بعكس ما عليه الأمر في الموجودات، ويبين، مخالفاً لهم، أن كل شيء يحتاج في وجوده إلى شيء يجعله مشاركاً في القدس (أي عالم القدس وهو هنا عالم الأفكار). فليس لرائحة المسك نموذج وللمسك نفسه نموذج؛ وإنما للنور القاهر في عالم النور المجرد قابليات نورية وقابليات للحب وللذة والسيطرة. وعندما يسقط ظله على هذا العالم، يكون صنمه المسك وعطره. والسكر وطعمه، أو الصورة البشرية واختلاف أعضائها وأفرادها(1).
وظاهر أن هذه النظرة تشبه نظرة ابن عربي، ونظرة المتأثرين بالأفلاطونية الجديدة عامة، لولا خلاف بينهما في المصطلحات.
أضف إلى هذا كله أن ابن عربي أخذ الشيء الكثير عن المتكلمين، ولا سيما الأشاعرة (في نظرية خلق الأفعال مثلاً)؛ كما أخذ أيضاً عن إخوان الصفا (في نظرته إلى الزمان وإلى النفس والإنسان والعالم الخ..) وكلا المتكلمين وإخوان الصفا أخذ عن مصادر أقل ما يقال فيها أنها عقلية، وما هي بالدينية الخالصة؛ وأنها بذلك تعد أساساً لحكمة إشراقية، أي لتصوف فلسفي لا لتصوف ديني.
وجملة القول أن التصوف، كما عرفناه، معرفة وجدانية، لا تلمس عن طريق الدليل بحقائق دينية لاهوتية. والإشراق معرفة تدرك بالدليل والبرهان، بعد حصولها عن طريق الإلهام بحقائق فلسفية عقلية. وابن عربي ما كان يلتمس معرفة تأتي عن وجدان، ولا ينفع فيها الدليل، وما كان يأتي بمعرفة تتصل بحقائق دينية، بل كانت معرفته معرفة عقلية، بأمور فلسفية لا تصل إليها العقول العادية؛ بل ترقى إليها النفوس المرتاضة حين تصل إلى طور فوق طور العقل. مما يجعل من ابن عربي حكيماً أميل إلى الإشراق منه إلى التصوف.
صحيح أن البرزخ بين الشيئين دقيق، إلا أنه أوضح على أي حال. وصحيح أن كثيراً من المتصوفة جنحوا إلى الصراط الثاني، وأضافوا إلى حقائقهم الدينية وأذواقهم الصوفية معارف ميتافيزيقية عقلية، وتأثروا بنظرات فلسفية غريبة. وخلط غلاتهم مسائل فنهم بمسائل الفلسفة وعلم الكلام، كما يقول ابن خلدون؛ إلا أنهم ظلوا مع ذلك أقرب إلى الذوق الصوفي منهم إلى البحث الفلسفي، وإلى المعرفة الوجدانية منهم إلى المعرفة العقلية. كما أن أكثرهم فاضوا بمعارفهم هذه، بما فيها من فلسفات ونظرات عقلية، في حالات وجدهم، وقلما التمسوا لها الدليل في غير هذه الحالات. فعدت من شطحاتهم ومما كان لهم في مقام الجمع والمشاهدة. أما ابن عربي، ففي صحوه ومحوه، في غيبوبته ووعيه، مؤمن بنظرته مقيم عليها، معتقد بوحدة الوجود اعتقاداً كالذي سنجده لدى أسبينوزا من بعده.
وبعد، هل لآثار ابن عربي أن تقرأ بعد اليوم تحت هذا الضوء الجديد، وهل من يقبل على عرضها وفق هذه الملامح الأولى، ملامح الحكيم الإشراقي لا ملامح المتصوّف العارف؟ إن لكل أثر فكري مدخلاً يدخل منه إليه يهدي إلى منعطفاته ومخارجه، بعد أن يتيه فيها من اقتحمها من غير بابها؛ فهل لنا بكشف هذه المداخل؟ إن همنا ألا تكون الصور التي نحملها لمفكرينا القدماء صوراً غائمة، تعلوها مسحة كثيفة من الضباب، وأن يعتاد فكرنا الوضوح في معارفه والدقة في علمه، عله بهذا يربى على الوضوح في إبداعه وحياته والدقة في سلوكه وفهمه. ورجاؤنا أن نجهد لإخراج بعض الوجوه على حقيقتها دون أن تصرفنا عن ذلك ابتسامة تتراءى وكأنها تتساءل عن جدوى هذه الأبحاث المغرقة في التنقيب. فلسنا ممن يؤمن بأن للفكر جوانب. وإيماننا دوماً أن الفكر الذي يتحرى الجد والصدق في معرفته. يتحراهما في عمله وأن الرسوخ في العلم أساس الرسوخ في السلوك؛ ولعل جو العذاب والجهد نبذلهما في علم نريده واضحاً صادقاً، هو خير جو نهذب فيه انحراف طباعنا، ونصلح به ما انحدرنا إليه من تطاول على كل شيء واستهانة بكل شيء، يأباهما التواضع في العلم والإخلاص للعلم.
عبد الله عبد الدائم