نظرة تاريخية عن حزب البعث العربي

مجلة العروة – 1947 نظرة تاريخية عن حزب البعث العربي:
نظرة تاريخية: نشأ حزب البعث العربي حين بدأ أفراد قلائل عام 1940 يدركون حاجة الأمة الملحة إلى فكرة قومية، تهب للعمل القومي معنى إيجابياً بعد معناه السلبي السائد. وكان نشاطهم في هذه الفترة مقصوراً على إيضاح هذه الفكرة، وعلى المساهمة في الحركات الوطنية العامة ضد الاستعمار، وتوجيهها عن طريق النشرات في أكثر الأحيان، وعلى تنظيم حركة الطلاب. وقد أخذ هذا النشاط مظهره العملي الأول يوم الثورة العراقية، حين سعى الحزب لتأليف جماعة «نصرة العراق» وتوجيه أنظار الشباب إلى العمل العربي الموحد، والمساهمة في تحرير الوطن العربي كله، وترك النظرة المحلية الضيقة.
وقد دامت هذه الفترة ما يقرب من ثلاث سنين. وكانت حوادث لبنان في تشرين عام 1943 ختاماً لها. إذ أرادت الحكومة في سوريا أن تجعل من هذا الاعتداء حادثاً محلياً لا ينبغي التدخل فيه. فقام أصحاب حركة البعث يفندون هذا الرأي ويطالبون بتضامن الجهود الشعبية والحكومية في سوريا ولبنان، وقيام نضال واحد، لإجلاء الفرنسيين عنهما.
وجاءت الحوادث من بعد مصدقة هذه النظرة التي لقيت آنذاك ألواناً من الضغط الحكومي، مما أتاح للحزب أن يتبين قدرته وإمكانياته ورأى أن الضرورة تقضي بالخروج من هذا النطاق التمهيدي البسيط إلى طور جديد هو طور التنظيم الحزبي، وتأليف حزب يرقب مشكلات العرب، ويجد لها الحلول الصادرة عن النظرة العربية الموحدة.
وقد أدرك الحزب خطورة المرحلة الهامة التي يجتازها العرب، لذا كان شديد الحذر، يجهد على تنبيه الشعب إلى شتى الأخطار التي تكتنفه، ويحاول أن يفضح الأعمال الخبيئة. وحدث أن كان الفرنسيون إذ ذاك يقومون باتصالات مع حكومة سوريا، يحاولون من ورائها توطيد أقدامهم في هذا الوطن، ومالت الحكومة إلى التفاهم معهم، وحاولت إبعاد الشعب وعزله عن قضيته، وعدم إشراكه في النضال، وإخفاء الأمر عليه. ثم أخذت من بعد تمهد لعقد معاهدة مما اضطرها إلى الحد من حريات الشعب المنكر لهذا العمل. فوقف حزب البعث العربي من دون ذلك، ناقداً سياسة الحكومة وتهاونها مع الأجنبي واستهتارها بإرادة الشعب. ولقي في سبيل ذلك كثيراً من الضغط الحكومي وازداد إيمانه بضرورة وجوده.
وتابع الحزب طريقه النضالية هذه، وأراد أن يعبر عنها تعبيراً أوفى، فأصدر صحيفته الحزبية في تموز عام 1946 وكان حدثاً هاماً في تاريخ الحزب عقده المؤتمر الأول في نيسان عام 1947، هذا المؤتمر الذي عبر عن عظم الآمال التي تحملها طليعة الشباب العربي وضرورة العمل الجدي المستمر. وفيه أقر دستور الحزب المفصل ونظامه الداخلي.
أهدافه وأسلوبه:
لا تختلف أهدافنا عن أهداف كل هيئة عربية قومية وهي تحرير الوطن العربي من الاستعمار بأشكاله المختلفة وتوحيده وبناء نهضته إلا أننا نختلف عن الهيئات الأخرى في نظرتنا إلى هذه الأهداف وفي الأسلوب الذي نتبعه لتحقيقها وهنا تبرز ملامح حزب البعث العربي ويظهر الفرق بينه وبين غيره. فالنهضة العربية في نظرنا لا تقوم على التطور البطيء بل على الانقلاب. نحن نرفض سياسة الترقيع في الإصلاح فأمراضنا أعصى من أن يشفيها دواء يعالجها معالجة جزئية بل تحتاج إلى تحقيق الانقلاب الشامل في جميع نواحي الحياة. والنظرة الانقلابية تتجلى في مجال السياسة في الحكم الشعبي الحر. لا يحكم الشعب نفسه اليوم إنما تحكمه فئات لا تفهم حاجاته ومطالبه لأنها بعيدة عنه، غريبة، تمثل طبقة استثمارية معينة. يجب أن يستلم الشعب قيادة نفسه، ويكون حراً في تقرير مصيره.
وتتجلى النظرة الانقلابية في مجال الاقتصاد بتحقيق نظام اشتراكي يعمل لمصلحة الشعب كله ويحطم السدود التي تقف في وجه تفتح إمكانيات الشعب وازدهارها.
إن نظرتنا الانقلابية تستتبع إعادة النظر في الأسلوب السائد حتى الآن في تحقيق الأهداف العربية. فالتحرر من الاستعمار وتوحيد أجزاء الوطن العربي لا يتحققان على الوجه الصحيح إلا إذا قام العمل من أجلهما على أساس شعبي نضالي حر. إننا نريد نضالاً شعبياً تنبعث قيادته من الشعب نفسه، نابذاً قيادة الطبقة الإقطاعية التي ما زالت حتى اليوم تمسك بزمامه. أن الطبقة الإقطاعية، زراعية كانت أم صناعية أم تجارية، غير قادرة على القيادة الصحيحة لتحقيق الأهداف، ذلك أنها تتميز بثلاث صفات تناقض المصلحة العربية والنظرة الانقلابية.. فهي تتميز، أول ما تتميز، بالعقلية الاستئثارية الاستبدادية. إنها تسعى أن تستأثر بالحكم لتحافظ على كيانها ولذلك فهي تستبد وتقاوم كل حركة من شأنها أن تجعل الشعب يستلم الحكم. وهي تتميز، ثانياً، بأنها ذات مصلحة طبقية استغلالية، ولذلك فهي تقيم في وجهه كل ما يعيق تحرره الاقتصادي والاجتماعي وكل ما يؤخر الانقلاب. وهي تتصف، ثالثاً، بأنها تفضل سياسة التفاهم والتساهل مع الاستعمار.
إن هذه الصفات الثلاثة التي تتميز بها الطبقة الإقطاعية تجعلنا نبعدها عن القيادة ونجعل أساس أسلوبنا في النضال شعبياً. تريد أن يساهم الشعب نفسه في البناء القومي وبهذا وحده يكون التحرر مضموناً والوحدة صحيحة، إذ لا شئ يجعل التحرر حقيقة إلا إذا كسبه بجهده ونضاله.
إن هذه النظرة الانقلابية تفرض موقفاً إيجابياً يقتضيه وضع الأمة الداخلي فالفساد الذي يشيع في جوانب الحياة العربية سمح لنوعين من الأحزاب والمنظمات أن يظهرا للوجود. فهناك حركات تستغل هذا الفساد وهي أكثر الأحزاب الحكومية وما شاكلها وهناك حركات هي رد فعل سلبي على الفساد كالحركات الإقليمية والحركة الشيوعية. فالألم من الأوضاع الحالية جعل كثيراً من الشباب ينضمون إلى هذه الحركات لمجرد كونها ضد الفساد. غير أن واقع العرب يقضي أن يجاوزوا هذه المرحلة وأن يكون لهم موقف إيجابي. أراد الحزب ألا يكون رداً سريعاً على أوضاع طارئة يزول بزوالها وأدرك أن الموقف الانقلابي وحده قادر على القضاء على مظاهر الفساد المختلفة من تجزئة واستعمار وضعف اجتماعي، وأنه وحده يستطيع أن يقف من الفساد موقفاً إيجابياً، فيحول بذلك دون انتشار المواقف السلبية التي تظل تستفيد من الألم الناجم عن الفساد لتغذية وجودها.
التنظيم الداخلي للحزب:
يضم حزب البعث العربي الهيئات الآتية:
1- الهيئة العامة.
2- مجلس الحزب.
3- الفروع ولجانها الإدارية.
4- اللجنة التنفيذية.
فالهيئة العامة في كل فرع ترسل ممثليها إلى مجلس الحزب.
ومجلس الحزب يضع سياسة الحزب العامة وينتخب اللجنة التنفيذية.
واللجان الإدارية للفروع تقوم بشؤون الفرع الإدارية والمالية والمحلية وتنفيذ قرارات اللجنة التنفيذية والتبشير بمبادئ الحزب والعمل على نموه.
واللجنة التنفيذية، وهي التي تمثل وحدة العمل والتوجيه في الحزب، تدير أعمال الحزب بشكل عام وتشرف على لجان الفروع الإدارية وتنفذ سياسة الحزب وقرارات مجلسه.
وإلى جانب هذه الهيئات المذكورة التي تقوم جميعها على مبدأ الانتخاب تحدث اللجنة التنفيذية مكاتب ولجان تساعدها في عملها منها:
المكتب الأساسي، والمكتب الثقافي، والمكتب الاقتصادي، ومكتب الإذاعة والنشر، والمكتب المالي، ولجان النشاط الحزبي وتشمل لجان الطلاب والعمال والفلاحين.
أما اللجنة التنفيذية فتتكون في الوقت الحاضر من:
العميد: ميشيل عفلق.
الأمين العام: صلاح الدين البيطار.
أعضاء: جلال السيد، الدكتور وهيب الغانم.
فروع الحزب:
ليس للحزب فروع رسمية في بقية الأقطار العربية إلا أن له أعضاء لم يجتمعوا بعد في شكل حزبي، في العراق ولبنان ومصر. وهو يعمل الآن على إنشاء هذه الفروع.
استعداد الحزب للاندماج أو التعاون مع الأحزاب الأخرى:
لا يقبل الحزب الاندماج مع أي حزب من الأحزاب القائمة في سوريا. إذ يرى متمشياً في ذلك مع أهدافه، إن الحركات التي ظهرت في البلاد، مازالت تحمل آثار الماضي. وتعبر عن مرحلة في حياة الأمة قد انتهت، تعبيراً غدا مقصراً عن حاجة الأمة العربية وطموحها.
فهناك الحركات الوطنية الاستقلالية القديمة، التي انعدمت فيها الحلول، وخلافه معها خلاف حول الأهداف. وهناك الحركات الأممية والإقليمية التي تستقي حلولها من فساد الوضع، ولا تقر بالقومية العربية كحقيقة نهائية خالدة، وخلافه معها خلاف حول المبدأ ذاته. وهناك الحركات القومية العربية، وهي تعني الحزب أكثر من غيرها، وخلافه معها خلاف حول الأسلوب. إذ ما زالت في نظره معتدلة خاسرة، لا تحمل روح الانقلاب والانفصال عن الأوضاع القديمة، ولم تقنع بعد قناعة عميقة بضرورة الانفصال النهائي عن الطبقة المستغلة للشعب، والاعتماد عليه وحده في تنظيم النضال العربي. كما أن عملها في اتجاهها مازال غير العمل العربي الموحد، ومازالت تواجه المشكلات بأسلوب محلي. لذا كانت، لفتورها في الاتجاه الجديد، تقدم مثلاً سلبياً سيئاً تستفيد منه الاتجاهات الإقليمية والشعوبية لتظهر فقدان الحيوية والإبداع في الحركة العربية.
أما تعاون الحزب مع الأحزاب الأخرى، فمقيد بجملة تحفظات وشروط تجعل مجال تطبيقه محصوراً في نطاق بعض الأحزاب، دون بعضها الآخر، ومقصوراً على بعض الحالات الهامة التي يكون فيها التعاون ضرورة قومية. وواضح أن الأحزاب التي يخرجها الحزب من نطاق التعاون هي الأحزاب التي تقوم في أساس تشكيلها على ارتباط أجنبي، وعلى فكرة مخالفة للقومية العربية تضاف إليها الأحزاب التي تمثل الفئات المستغلة في الحكم وخارجه، والتي لا تتفق غاياتها النفعية مع روح الحزب النضالية المعارضة للعهود القديمة وممثليها.
أما الأحزاب التي يرجح الحزب التعاون معها فهي أقرب الأحزاب في البلاد العربية إلى النضال الشعبي، وأكثرها عنفاً فيه، وأصدقها تمثيلاً للشعب.
الطبقة التي يتألف منها الحزب:
يضم الحزب أفراداً شعبيين ومثقفين، ومازالت الطبقة المثقفة هي الغالبة.
إلا أن الحزب أقر أخيراً ضرورة إنهاء المرحلة الأولى، مرحلة تكوين النواة المثقفة ، والدخول في صفوف الشعب مباشرة.
جريدته:
هي جريدة البعث التي بدأت صدورها في تموز عام 1946 وليس للحزب أعضاء في البرلمان الحالي.
بعض ما قام به من أعمال:
أ- دفاعه عن الدستور والحريات. وقد تجلى هذا الدفاع:
1- في الخطب والنشرات التي بدأ بها منذ أربع سنوات (أي منذ ابتداء هذا الدور النيابي في سوريا) وأهمها نشرة «حول خطاب رئيس الجمهورية» كان من نتائجها بالقياس إلى الحزب اعتقال الأستاذ صلاح الدين البيطار، وكان من نتائجها العامة انبراء النواب للدفاع عن الدستور وإحجام الحكومة عن التعاقد مع الفرنسيين.
2- في مقاومة الحزب للملاكات (خاصة المرسوم الاشتراعي رقم 50) وما جاء فيها من مخالفة للدستور. إذ دعا الهيئات وبعض النواب والأشخاص المستقلين لتشكيل «جبهة الدفاع عن الدستور والحريات العامة» التي انتهى عملها بالنجاح المعروف.
3- في عمله لتعديل قانون الانتخاب وجعله على درجة واحدة. إذ دعا الهيئات أيضاً إلى تشكيل «اللجنة الشعبية للدفاع عن حرية الانتخاب» وقد انتهى عملها بالنجاح.
ب- دعوته إلى تأليف الجامعة الشعبية، لإقامة العمل العربي والوحدة العربية على أساس شعبي متين. وقد تبنى هذه الدعوة بعد حين حزب الاستقلال العراقي إلا أن بعض الظروف حالت بينه وبين تحقيقها. ثم أرادت بعض الفئات، في مصر خاصة، أن تدعو إليها ومهدت لمؤتمر عام. غير أن عملها كان موصوماً بالنقص الذي نبه إليه حزب البعث منذ البداية، إذ لم تراع في دعوتها للهيئات والأشخاص الصفة الشعبية الصادقة، وأرادت أن تضم أشخاصاً لا يختلفون عن أشخاص الحكومات القائمة، وأكثرهم ممن يماشونها في تساهلها في الأهداف العربية، وابتعادها عن الروح الانقلابية الشعبية الصحيحة.
لذا فشلت محاولتها. ولذا سيقوم الحزب بنفسه بتحقيق هذا المشروع الذي كان أول من دعا إليه في نشرته عن الجامعة العربية في 14 كانون الأول عام 1945 وسيحاول أن يبني عمله على الأسس التي رسمها منذ البداية.
مدى استعداد الحزب لتحمل مسؤولية الحكم:
لا يقبل الحزب الاشتراك الجزئي في الحكم. ولا يتحمل مسؤوليته إلا عندما يؤلف فيه القوة الغالبة التي تستطيع أن تحقق أهداف الحزب وغايته الانقلابية. وهذا لا يتم إلا عندما يتوصل الحزب إلى الحصول على أكثرية من النواب في البرلمان. إذ الانقلاب لا يكون متيناً إلا إذا دعمته أكثرية من الشعب، وأسلوب الحزب النضالي هو الذي يسمح بتشكيل هذه الأكثرية، وتأليف رأي عام انقلابي يضمن نجاح العمل الحكومي.