فكر”نوفالس” وحبه

مجلة اليقظة العربية الصادرة عن دار اليقظة العربية
للتأليف والنشر بدمشق – السفر الرابع عام 1946
من الحب والمعرفة
فكر نوفالس وحبه(1)
للأستاذ عبد الله عبد الدائم
منذ أيام «ماكس شيلر» غدت مشكلة «الحب والمعرفة» مشكلة فلسفية هامة. فطفق الفلاسفة يبنون ما بين هذين المعنيين من صلات صميمة، ولُحمة وجودية عميقة. إلى أن جاء الفلاسفة الوجوديون، فخلعوا على هذه المشكلة دلالة خاصة، وجعلوا الأولوية للحب، إذ هو الذي يتصف بثراء وجودي، قادر على أن يفتق العرفان، ويفتح الفكر؛ وهو الذي تتم به عملية المعرفة على شكل أكمل إذ يعبر عن الذات العارفة ويحتويها، وهي الأصل في كل وجوده، كما يحصر الموضوعات الأخرى الخارجة عن الذات في إطار هذه الذات، فيكشفها ويعري معانيها.
غير أن دراسة هذه المشكلة بقيت مجردة، ولم تستعن كثيراً بنماذج حية تجسدت فيها هذه الصلة تجسداً واقعياً جعلها تتصل بينابيع المعرفة عن طريق الحب، وتعيش معاني الكون، وتفتح مجاليه، وترسم رؤاه، بلوينات حياتها العاطفية وفيضها الشعوري.
بينما تقضي روح الفلسفة الوجودية نفسها أن تكون الغلبة للوجود لا للماهيات، وأن تؤخذ المعاني في تحققها الواقعي. وهذا ما عبر عنه كبير الوجوديين «هايدجر» حين قرر أن ميتافيزيقى الواقع الإنساني ما هي ميتافيزيقى تدرس هذا الواقع فحسب، وإنما هي ميتافيزيقى تنتهي ضرورةً بأن تحقق كواقع. وهذا ما كان يجنح إليه «يسبرس Jaspres» أيضاً في فلسفته، إذ كان يرى أن واقع الفلسفة ووجودها الحقيقي متجسدان في الفرد من حيث هو وجود وكون، مما جعله يشير أحياناً إلى بعض الشخصيات الحية، التي عبرت عن معاني الفلسفة بوجودها، قبل أن تعبر عنها بأفكارها المجردة؛ على نحو ما يتضح هذا من استشهاده أحياناً بفان جوج Van Gogh.
وإذا كان الأمر كذلك، فأمامنا، في تاريخ الوجود الإنساني، أناس كثيرون أخذت لديهم هذه المشكلة، مشكلة الحب والمعرفة، شكلاً وجودياً واقعياً، فعاشوها وعاشت فيهم، وكانوا لها ثمرات طبيعية؛ وارتبعت حياتهم، وترعرعت فيهم ترعرعاً حقيقياً. فلدينا متصوفون، ولدينا شعراء ولدينا مفكرون رومانيتكيون ولدينا فلاسفة، كانوا في حياتهم نتاجاً صادقاً لهذا العطاء المتبادل بين الحب والمعرفة، وكان الفكر والعاطفة لديهم توأمين رضيعين. إلا أننا نريد أن نعني من بين هؤلاء جميعاً بالرومانتيكيين والفلاسفة لما يبدو، في ظاهر الأمر، من بعدهم عن حياة هذه المشكلة إذا قيسوا إلى المتصوفة. بينا المشكلة في نظرنا، لا تتخذ شكلاً فلسفياً عميقاً إلا لديهم، ولا تتصف بالتجريد الكافي إلا عندما تترك ميدان التصوف وتدخل ميدان الحياة النفسية المجردة.
لذا اخترنا لدراستنا هذه الشاعر والفيلسوف الرومانتيكي «نوفالس». وسنختار لدراسة تالية المفكر الفيلسوف الدانيماركي «كيركجارد Kierkegaard» وستطلعنا المقارنة بين الشكلين اللذين أخذتهما المشكلة عند كل منهما، على أن الصلة بين الحب والمعرفة تصطبغ بألوان عديدة، ولا تكتسي حلة وحيدة، وإنها صلة إبداع يتسع لشتى صبغ الحياة، وما هي صلة تركيب لا تنتج إلا شكلاً فريداً.
لنوفالس إذاً قصة في الحب أودت به إلى قصة في المعرفة، وقصة في المعرفة أذاقته أفانين الحب. وكان من نتاج هذا النسيج الوجودي لديه، أن خرج شخصية فريدة في فكرها ومشاعرها، لا ترضي كثيرين ممن يريدون منها أفكاراً منطقية وأقوالاًَ عاقلة؛ إلا أنها توقظ لدى كثير مشاعر وجودية حية، وتهز منهم أوتاراً كامنة وتنقلهم إلى أجواء فسيحة، إذا هم فهموها فهماً وجودياً، وساروا مع اندفاع موجتها.
ولعل أقوى مظهر تجلى فيه الطابع الحي لهذه الشخصية، وأبان عن المصدر العاطفي لدى صاحبها، هو انتهاؤه إلى الإيمان بالقدرة السحرية للنفس البشرية، إذ تصورها قادرة على أن تفعل في الأشياء فعل العصا السحرية، فترى ما تحب أن تراه، وتسمع ما تريد أن تسمع، وتحس ما تشاء أن تحس، بأي نسبة شاءت، وأي مقدار أرادت، فتغدو في كون هو لها ومن صُنعها، وتشحذ حواسها وجسدها، فتغيره وتغير الكون بوساطته، وتملؤه بالحرية، فينشط الكون كله إلى الحرية.
وهذا الإيمان السحري، الذي هو السمة القوية، في نظرنا، لمن عانى قدرة الحب الخلاقة، وعرف قوة العاطفة المطلقة، وجذورها اللانهائية، هو الذي خلقته لدى نوفالس تجربته مع «صوفيا فون كون Sophie Von Kühn» وهو الذي خلع على أكثر أفكاره سُدفة مبهمة؛ وجعله يعيش في ذلك العالم اللامرئي، الذي هو في نظره أوثق صلة بنا من العالم الذي ندعوه مرئياً؛ وهو الذي أحياه في ذلك المزيج من الحلم والواقع، من الأسطورة والتاريخ، حتى استطاع، كما يقول ميترلنك، «أن يلبس بعض شؤون هذه الأرض أثواباً صوفية، هي أهدأ ما يمكن أن نجده من أثواب، وأبعدها عن الكلفة، وأدناها من البكورة، وأن يبتسم للأشياء في لامبالاة حلوة، وينظر إلى العالم في فضول شارد، فضول الملك استولت عليه ذكريات طوال».
ويشاء بعض النقاد أن يرد أفكار نوفالس هذه و«مثاليته السحرية» كما يقولون، إلى تأثره بمن عرف من الفلاسفة والشعراء، من أمثال شيلر و«راينهولد Rein-hold» اللذين عرفهما حين قدم «يينا» عام 1790؛ ثم «فيشته» الذي عرفه عام 1979، فأشغل به، وانكب على مطالعة كتبه، وتأثر بفلسفته، التي هي قبل كل شيء إهابة بالجهد الشخصي والفعالية الذاتية، حتى سيطرت عليه نظريته في «الأنا» كل السيطرة، خلال فترة طويلة. كما يردون هذه الأفكار أيضاً، وما تتصف به من طابع عاطفي، إلى تأثره بجوته، الذي كان يوماً ما مثلاً أعلى، وكاهنا لعلم كلي شامل أخذ يحلم به، والذي بلغ الإعجاب بكتابه «فيلهلم مايستر Wilhelm Meister» أن عده النموذج الأعلى للشعر الرومانتيكي، والمحصلة لكل شعر، والصورة المثلى للرواية المطلقة.
ونحن لا ننكر هذه الآثار، بل نقر بما كان لهؤلاء جميعاً من أثر؛ وما كان لنا أن نؤمن بأن الإبداع وليد العدم. إلا أننا نرى أن اختيار نوفالس لمفكرين دون آخرين، وانتقاله الفكري من واحدهم إلى الآخر، وتركه عقل «فيشته» إلى عاطفة «جوته» حيناً، وتركه عاطفة جوته إلى صوفية «يعقوب بومه Jacob Bohme» حيناً آخر، ثم تركه هؤلاء جميعاً إلى ذاته هو، كل تلك كانت قبل كل شيء وليدة هذه التجربة الحية، تجربته مع خطيبته، التي جعلته يرتقي سلم المشاعر الوجودية، ويتقلب بين الفلاسفة، إلى أن ينتهي إلى نظرة تعبر عنه وحده، وتجيب مطالبه، وتكون صدى لما يعانيه. فينتهي، بعد إدراكه لحقيقة ذاته من خلال هذه المذاهب التي تردد عليها، إلى تفكير يعبر عن حياته هو، ويصور معاناته الواقعية لحب دله على المعرفة، ومعرفة أثْرَت لديه حبه. فإذا بنا أمام مفكر تهمس له روح الشاعر الثاوية فيه أننا لا نستطيع أن نفهم العالم إلا بما يوحيه إلينا وجودنا الباطن، وإننا إذا أوغلنا في أعماق أنفسنا، وجدنا نفساً مظلمة تتأبى على كل تعريف. فنسيج العالم الباطني لديه من الحلم وعدم التعين، وهو حميم إلينا، قريب منا قرباً يجعلناً لا نستطيع فهمه. والحقيقة أبعد من أن ينالها المنطق المجرد، لذا علينا أن نعمل على إيجاد علم نفس واقعي حي، لا يخضع لسلسلة الاستدلالات الضعيفة التي فرضها «فيشته» على الأنا.
أحب نوفالس صوفيا في الرابعة عشرة، وهي بعد فتاة ساذجة رقيقة قال عنها في «هنري أوفتردنجن»: «إنها زنبقة تنحني نحو مشرق الشمس». إلا أنها ما لبثت حتى ذوى غصنها الغض وهي ما تزال في الخامسة عشرة(1). فأثار موتها في نفسه مشاعر جديدة، وملأه بالمجهول، وأيقظ فيه معاني الخلود، ونقله إلى عالم آخر، عالم صوفيا، عالم الموت، عالم الأحلام. إذ غدت له هذه الفتاة بعد موتها إلهة شعر غامضة رائعة، متجهة شطر البعيد، وقذفت به في ميادين الحلم الساحر. ورؤى الكشف والموت… فقضى السنة التي أعقبت موتها وهو يعبدها عبادة منتظمة قاسية، حتى قال: «إن ما أحمله لصوفيا ما هو حب وإنما هو دين»، وحتى غدا شعاره «المسيح وصوفيا»، وطفق يتأهب للموت تأهبه لليلة زفاف. ومما يقوله صديقه «تيك Tieck»(2): «إن نوفالس طوال هذه المدة كلها، لم يعش إلا من ألمه. وغدا من الطبيعي لديه أن يعد العالم المرئي والعالم غير المرئي كوحدة وألا يفصل الحياة عن الموت».
ويتجلى الانقلاب الروحي الذي تركه موت هذه الفتاة لديه، في مذكراته التي ابتدأها بعد واحد وثلاثين يوماً من وفاتها، والتي تقتصر على وصف بضع شهور فقط من حياته (إذ تنتهي في 16 تشرين الأول سنة 1800. وبعد هذا بعشرة شهور، أي في 25 آذار سنة 1801، توفي نوفالس وهو في الثامنة والعشرين). وفي هذه المذكرات نجد جمعاً من التفصيلات اليومية، لا تخلو من ابتذال. بيد أن القارئ لا يلبث حتى يتبين تحت هذا الضباب الظاهري الذي يُظهر حياة نوفالس في مظهر الحياة الهادئة المنظمة، حياة أخرى، تشرق كنور يأتي من بعيد؛ حياة حالمة، تخلق في أرجائها أجنحة سرية من حب غريب. وما هذا الكتاب في حقيقته إلا كتاب من الألم المقهور بالإيمان، ومن الندامة الكبرى الباسمة المفتونة، ومن الحب الذي يتحرر من قيود الأرض، كيما ينطلق إلى السماء ويخلد في عالم غير مرئي.
وأهم ما يعنينا من هذه المذكرات، ما تبينه لنا من أن الانقلاب الذي تم في نفس نوفالس كان نتيجة لموت خطيبته، إذ انصرف بعد موتها لحياة فردية، استرسل فيها لمجرى أحلامه، وأخذ يتهيأ للموت، ويقوم برياضات عاطفية يحاول فيها استحضار روح حبيبته والتحدث إليها. والحق، إن هذه اليوميات نفسها توحي إلينا أن التحول الذي صار إليه، كان شيئاً قصده وأراده. فهو بالجهد الإرادي الدائم استطاع أن يتخلص من العالم الذي يحيط به، وأن يخلع على الحياة صورة صوفيا التي في نفسه. وقد استعان لهذه الغاية بنظام داخلي قاس، وبتحليل دقيق لأصغر الأفكار وأرهف الإحساسات، وعود نفسه على التفكير بما يريد والشعور بما يريد.
فما نقرؤه في اليوميات: «كلما خف ألمي لفراقها، ازداد حدادي الروحي، ونما في نفسي نوع من اليأس الهادئ، وغدا العالم في نظري غريباً، وأصبحت الأشياء التي تكتنفني لا تعنيني في شيء» ومما نقرؤه أيضاً: «عندما يفر المرء من الألم، فمعنى ذلك أنه غير راغب في الحب. فعلى من يحب أن يشعر دوماً بالفراغ الذي يحل به. وأسأل الله أن يحفظ لي دائماً هذا الألم العزيز وهذه الذكرى الأسيانة، وهذا الحنين المليء بالشجاعة، وهذا العزم القوي…». أما العزم القوي فهو عزمه على الموت. ولقد عقد نوفالس هذا العزم على قبر صوفيا حيث كان يذهب كل يوم ينتحب ويتأمل. ولا يعني هذا أنه فكر في الانتحار في لحظة من اللحظات، فالموت الذي كان يستدعيه هو الموت الذي يأتي عليه من نفسه. ولقد كان له ذلك فتوفي بعد أمد قصير.
هكذا كان لموت صوفيا أكبر الأثر في نظرته الكونية، وفي الارتفاع به إلى عوالم غير عالمنا المألوف، ينشد فيها روح صوفيا التي غدت عنده روح الكون كله، ويستقي منها حرارة صوفيته، وخصب حلمه، ونزعته الحية إلى الإبهام وعدم التعين: إلى أنشودة نغماتها انفعالات النفس وإيقاعها جريان الفكر. وهكذا فجرت هذه الفتاة لديه ألواناً من المعرفة جديدة، وخلقت فيه ذلك الإيمان السحري بقدرة الذات، وجعلته يؤمن بأن الحقيقية في الحلم، وأن الحياة أسطورة وأن اللغة، لغة الحلم والأسطورة، هي «دلف»، وهي الخليقة، وأن الطبيعة قيثارة إيولية، ينبغي أن نفهمها في ذاتها، بالوصف والقصة، دون أن نحتاج إلى شروح وتفاسير.
وهذه النزعة السحرية، كما ذكرنا هي المظهر الحقيقي لاتحاد الحب والمعرفة لديه. إذ جعله الحب يؤمن «أن كل لمس روحي، يشبه لمس العصا السحرية، وأن في قدرة كل شيء أن يغدو آلة سحرية. ومن اعتراه شك في ذلك، ورأى فيه أسطورة من نسج الخيال، فليتذكر في بساطة تامة أول لمسة ليد الحبيب، وأول نظرة من نظراتها المليئة بالمعنى، حيث تكون العصا السحرية شعاعاً من النور منكسراً من جفنها؛ وليتذكر أول قبلة وأول كلمة من كلمات الغرام، ثم ليتساءل بعد ذلك إن شاء، إذا كانت فتنة تلك اللحظات وسحرها ليست بالمثل شيئاً خيالياً وغريباً، شيئاً خالداً ومشكلة لا تحل».
فـ «كل هوى فتنة، والفتاة الفاتنة ساحرة سحراً حقيقياً أكثر مما يخيل إلينا»(1).
وانتهت به هذه النزعة إلى أن يفتح عالم المجهول، ويلج باب الموت: فـ «عالم الأرواح مفتوح أمامنا(2)، وظاهر دائماً لعياننا. ولو أننا غدونا مرنين فجأة، لرأينا أنفسنا وسط الأرواح. وتلك هي الوسائل الجديدة لشفاء نقائصنا(3)». «فالموت ظفر على الذات، من شأنه، ككل انتصار على الذات، أن يخلق حياة جديدة أكثر خفة». «وإن عقداً نعقده مع الموت لزواج يهيئ لنا زوجاً في الليل. فأجمل ما يكون الحب في الموت؛ والموت للعاشقين ليلة زفاف وسر مستغلق لا يمكن التعبير عنه»(5).
وعلى هذا النحو عرف نوفالس حبه وأحب معرفته وعاش في الأفكار التي يعيش فيها حبه وانتعش بالمعاني التي ينتعش معها غرامه، فراح إلى المجهول حيث فتاته، وآمن بسحر الذات. ليلقى بهذا السحر محبوبته، وآمن بوحدة الكون وأنكر انفصال أمور العالم، وسفح الأشياء على الأشياء فلم يميز بين ماديها وروحيها، ولم يقم حاجزاً بين طبيعة أو شعر، فكر أو بدن، لأن الطبيعة، في نظره، تكونت من فساد الروح، وغدت عادة وآلية. وعلى من أرهفت روحه ورقت نفسه في عالم الحب، أن يثقف الأرض والقمر، حتى يأتي يوم لا يبقى فيه أثر للطبيعة إذ تضمحل وتغيب في عالم الروح والفكر. فالعالم فكرة مكبلة، فلنحررها ولنطلق قيدها، وهي حلم مغلول، فلنحل غله، يَغْدُ كما بدأ، فكراً حراً، وحلماً صافياً بكراً.
«إن نظرية الحب هي أسمى علم وأعلاه، هي علم الطبيعة أو طبيعة العلم»
«الحب هو البنية النهائية للتاريخ العالم، وهو آمين العالم»(5).