تمازج الثقافات

بحث أعده عبد الله عبد الدائم حين كان طالباً في الصف الأول (صف البكالوريا الأولى) الفرع الأدبي، وقدمه لأستاذ اللغة العربية المرحوم العلامة عز الدين التنوخي، بتاريخ السبت 23 شوال عام 1359 الموافق 23 تشرين الثاني عام 1940 وقد منحه الأستاذ علامة 17/20 وذيله بقوله: إنه بحث جدير بأن يلقى محاضرةً على إخوانك وقد رأى كاتبه أن يعاد نشره (على الموقع) لسببين: أولهما أنه من أوائل البحوث التي كتبها (وكان له من العمر ستة عشر عاماً) وثانيهما أن يطّلع المعنيون بموضوع حوار الحضارات اليوم (وما أكثرهم) على تباشير ما كتبته الأقلام العربية حول هذا الموضوع منذ نيّف وسبعين عاماً، وأن يدركوا سبق العرب لغيرهم من المبشّرين اليوم بحوار لحضارات – تبشيراً زائفاً في معظم الأحيان. تمازج الثقافات(1)
بقلم عبد الله عبد الدائم
عام 1940 م
تمهيد:
إذا جسنا خلال العصور وتصفحنا حوادث التاريخ وجب علينا أن نقبل هذه الحقيقة الحلوة المرة وأن نقر بجريانها ووجودها في كل عصر: تلك هي حقيقة الامتزاج، فهو جار شئنا أو أبينا، وليس هناك أمة ولا دولة إلا وقد أنارها شهاب قبس من جارتها أو من بعيدتها ولسعتها جذوة المدنيات الأخرى ونظمت بين عقود حضارتها وثقافتها عقداً من حضارة غيرها يكون لها لؤلؤاً حيناً وسماً ناقعاً حيناً آخر.
التمازح ضروري:
سعى إليه الإسكندر المكدوني منذ الزمن الغابر حين قام بحملته الكبرى على بلاد الشرق واستصحب معه كبار علماء اليونان وأدبائها وأخذ كثيراً من الكتب التي كانت في خزائن الفرس وغيرهم وتزوج بأميرة فارسية وأمر طائفة من قواده وجنوده أن يحذوا حذوه وينسجوا على منواله ففعلوا. أراد أن يجعل من ثقافة اليونان العلمية وحضارة الفرس والشرق الأدبية والفنية رمزاً مثالياً يجمع إلى تحليق الفن وسموه وخيال الأدب وفردوسه قوة العلم وسكينته ولهيبه وحقيقة الفلسفة وضياءها، رمزاً لا يعوزه الأدب الذي كان يعوز اليونان ولا العلم الذي كان يعوز الفرس. فقد نثر في طريقه من بلاد اليونان إلى الشرق بذور الحضارة الجديدة المنشودة فبنى المدن والأمصار وألقى عليها طابع الحضارة التي حلم بها. وقد سمى العلماء هذه الحضارة التي سعى إليها الاسكندر وكاد يحققها لولا أن عاجلته المنية وذوى وذهبت حينما ذوى غصنُه؛ سماها العلماء «الحضارة الهيلينية». وهو بعمله هذا قد أعاد إلى شعبه قسطاً من الهدوء الديني بعد أن هزّته يد الشك فأزعجته وعصفت به زلازل الفلسفة وزعزعته. فوجد اليونان في ديانة الشرق ما شفا غليلهم وأرجع طمأنينتهم. وقد اكتسب الفن شيئاً كثيراً من الرقة والسحر والترف وحلّق في جوٍ من النعومة تغذيه الأرستقراطية ويرفده النعيم.
وها هي ذي أوروبا لم تستطع أن تحل سلاسلها وقيودها وتخرج من ظلمة القرون الوسطى إلى نور العصر الحديث إلا عندما امتزجت بغيرها وقلبت طرفها في علوم اليونان، واستقت بشغف من ينبوع العربية سواء بوساطة التجارة أو بوساطة أولئك الكتاب والشعراء والعلماء العرب الذي كانوا في بلاد إمبراطور ألمانيا، أو بفضل الحضارة الأندلسية وسريانها في عروق أوروبا وعلى رأسها البابا سلفستر الثالث. لما هُيئ للأوروبيين كل ذلك تركوا حلاوة السبات وهجروا ناعم الأحلام وانكبوا على العلوم يدرسونها وعلى الآداب يلثمونها وعلى الفنون يقتبسون أنوارها وغدوا في عصر بعث ونهضة. أجل: إن التمازج بين الشعوب أمرٌ لا بد منه فالشعوب كالأفراد تتباين في عبقريتها ومواهبها وقد بين ذلك الجاحظ بقوله: «ميزة سكان الصين الصناعة فهم أصحاب السبك والصياغة والإفراغ والإذابة. واليونانيون يعرفون العلل ولا يباشرون العمل وميزتهم الحِكم والآداب. والعرب وجهوا قواهم إلى قول الشعر وبلاغة المنطق وتشقيق اللغة وتصاريف الكلام وقيافة البَشَر بعد قيافة الأَثَر وحفظ النسب الخ وميزة آل ساسان في الملك والسياسة والأترك في الحروب».
فاحتفاظ كل أمة بما اختصت به عثرة في سبيل الحضارة وعائق في طريق التقدم. نضرب مثلاً على ذلك تينك المدينتين اليونانيتين: اسبارطة وأثينة كيف انحلتا بعد قوة وهوتا بعد عزة. فقد وجد الاسبارطيون في الرياضة كل مقوّمات الحياة فبنوا عليها عظمتهم وشادوا على أسسها دولتهم فكانوا أمة عريقة بتاريخها الحربي(1). إذن فالتمازج ضروري ليكون عند كل شعب عبقرية جامعة ودائرة معارف لا يغرب عنها من نشاط الحضارة قليل أو كثير.
ولئن كان التمازج عاملاً في الحضارة فلا ينفي ذلك أن يكون معولاً على هامها، فليس التمازج كله مقبولاً كما أنه ليس من المستحسن أن نطلق لكتب الحضارة الأجنبية العنان، بل من الواجب علينا أن نأخذ ما يعوزنا بقدر معلوم لا يقضي على حضارتنا الأصيلة ولا يشوه صبغتها المقدسة. نستقي من الحضارات الأخرى ثم نصب ما استقيناه في بوتقة مدنيتنا القومية ونخرج بعد ذلك حضارة طريفة تدين لامها بالوجود وتحتوي على ميزاتها وصفاتها وتفوقها في الجمال والروعة.
هذا ما فعله الفينيقيون عندنا كانوا يصهرون في وعاء حضارتهم حضارة الأمم التي كانوا يُيمّنون سفنهم التجارية شطرها ثم يظهرون أمام الملأ حضارة خاصة بهم لا تؤدي شكرها إلا لهم ولا تنحني إلا أمام جلال قوميتهم. لقد اقتبسوا في العلوم واقتبسوا في الفنون واقتبسوا حتى في الكتابة إذ تعلموها من المصريين ثم أفرغوا عليها قالباً خاصاً ونقلوها إلى الغرب باسمهم الخاص. اقتبسوا كلَّ ذلك فلم يعكر صفاء مدنيتهم ولا انتقص من ثورة مجدهم. ولا يعد هذا انتحالاً وسرقة. فكما أن الشاعر إذا اقتبس من معاني غيره ثم صبها في كلماته الخاصة وأسلوبه الشعري الخاص لم يُعدَّ منتحلاً أو مقلداً، كذلك فرافع خميس المدنية لا يتهم باللصوصية إذا كان علمه الخفاق علم بلاده، ولو استعمل أسلحة وعتاداً استلبها أو ابتاعها من غيره. وهكذا كان شأن العرب فيما اقتبسوه وهكذا سيكون ما دام مِرجل العروبة لا يهدأ ولا يستقر.
أما أن تترك الأمة لغتها وتقاليدها وثقافتها وتتراطن بلغة غيرها وتعبد تقاليدهم وتبجلها وتستسيغ ثقافتهم وتنحني أمامها فإن أقل ما يقال أنها امة وحشية احتاجت إلى حضارة غيرها لمّا أعوزتها الحضارة، وقبلت تقليد الأجنبي لما أيقنت بفساد تقاليدها!!
استعداد العرب لتلقي الثقافة:
هل كان عند العرب استعداد للتمازج؟ هذا سؤال يجيبنا عنه في الجاهلية ما كان عند العرب من الاعتزاز بالنسب وشدة المحافظة على الرحم، ومن عصبية لا تقر لغيرها بفضل. فقد كان الجاهلي لا يعدل بناقته صافنات الجياد المطهمة ولا بصحرائه جنةً ونعيماً، ولا بواحاته استبرقاً وسلسبيلاً ولا بقبيلته جيوش قيصر أو كسرى. فكان لسانهم يلهج بقول الشاعر:
إنا من القوم الذين جيادهم
طلعت على عادٍ بريحٍ صرصر
وسلبنَ تاجيْ ملك قيصر بالقنا
واجتزن باب الدرب لاين الأصفر
أما في صدر الإسلام والدولة الأموية فيجيبنا عن هذا السؤال قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبَرَّه» وقوله عليه الصلاة والسلام: «اسمعوا وأطيعوا ولو أُمِر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة».
أما في العصر العباسي فيجيبنا عنه قول الأصمعي: «ما ضرب رؤوس الأبطال كابن الأعجمية» وولعُ الناس بالإماء وتفضيلهن على العربيات. فمن أقوالهم: «الأمة تشترى بالعين وتُرد بالعيب، والحرة غِلٌّ في عنق من صارت إليه» ومنها: «عجبت لمن لبس القصير كيف يلبس الطويل ولمن أحفى شعره كيف أعفاه. وعجباً لمن عرف الإماء كيف يقدم على الحرائر؟!» هذه الأقوال إن كانت لا تمثل العصر العباسي كل التمثيل كانت شائعة منذ القدم بين العرب فكان شاعرهم يتغنى ويقول:
فتىً لم تلده بنت عم قريبة
فيضوى وقد يضوى سليلُ الأقارب
وقد رُوي عن عمر بن الخطاب أنه نظر إلى قومٍ صغار الجسم فقال: ما لكم صغرتم؟ قالوا: قرب أمهاتنا من آبائنا، قال صدقتم فتزوجوا في البُعداء فأنجبوا. وقد روي عن الرسول الأعظم أنه قال: «اغتربوا لا تضووا». ويقولون: الغرائب أنجب والقرائب أضوى. أما قبول العرب لتلقي الثقافات من الناحية الفطرية الاستعدادية فهو أمر أثبته التاريخ فلم تعرف أمة كالعرب على استعداد لتلقي الثقافات الأجنبية بهذا الذكاء وهذه العبقرية النادرة. وحسبك دليلاً على ذلك تلك الوثبة المستعرة التي بلغوها تحت راية الإسلام إذ تراءى لهم في آفاق الحضارات الأخرى وميضُ نور. فالعربي مستعد بغريزته لقبول الحضارات بأجمعها وهذا ما يدعونا إلى الحذر من أن تسري في عروق العرب سموم ما فيها من المدنيات فتطمس على حضارتهم وتغشى ثقافتهم مغريةً إياهم بزخارفها الجذابة وابتساماتها الحلوة الساحرة «وتحت ابتسام الذئب أمضى الدواهيا».
هناك ثقافات ثلاث أثرت في الثقافات العربية وأثرت الثقافة العربية فيها وهي الفارسية واليونانية والهندية. أما الأدب اللاتيني فهو فرع والأدب اليوناني يقوم على تقليده ومحاكاته. كان هذا التأثير في عصور مختلفة أولها الجاهلي ثم يليه الإسلامي فالأموي وينتهي بانتهاء العصر العباسي وانطفاء آخر لهب منه.
لنشد الرحال إلى العصر الجاهلي ولندرس فيه كلاً من الثقافات الثلاث ولنطرق باب الحضارة الفارسية ليكون لنا ملجأ ومبدأ.
الفارسية في العصر الجاهلي:
كان اتصال الفرس بالعرب في جاهليتهم في الحيرة واليمن. ففي الحيرة كان ملوك العرب تحت سيطرة الأكاسرة، وفي اليمن كان الفرس قد أعانوا أهلها على إخراج الأحباش من أرضهم بسعي سيف بن ذي يزن لدى كسرى فكانوا مدينين في ذلك لهم وسموهم منذ ذلك الحين «أبناء الأحرار». ولقد عرض القرآن لاتصال العرب بالفرس والروم في سورة قريش «لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف» ومن المعلوم أن إحدى الرحلتين كانت إلى الشام حيث أكاسرة وأبّهة الدولة الإغريقية. وذكر في سورة الروم اهتمامهم ومؤازرتهم للروم: «غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله». فهذا العطف والحنان على الروم يدلنا على وجود علاقات ودّية ومصالح مشتركة بين الشعبين تجعل أحدهما يحنو على الآخر ويهتم بشؤونه ويحزن لانكساره كما يفرح ويستبشر لانتصاره. وهذا العطف لأن الروم نصارى وأهل الكتاب والفرس مجوس. وقد اتخذ الأكاسرة كتّاباً من العرب كلقيط بن يعمر الإيادي الشاعر فقد كان كاتباً في ديوان سابور ذي الأكتاف في القرن الرابع للميلاد وهو صاحب القصيدة التي يحذر بها قومه من غزو الفرس والتي منها قوله:
وقلدوا أمركم الله دركم
رحب النزاع بأمر الحرب مضطلعاً
وكعدي بن زيد العبادي الذي كان كاتباً في ديوان كسرى.
ولقد كان كثير من الفرس يعتبرون الجزيرة العربية منهلاً للأخلاق ومَشْرعاً للآداب. فقد روي أن أحد ملوكهم وهو «بهرام جور» (في أوائل القرن الخامس) أرسله أبوه وهو حدث إلى المنذر بن النعمان ملك الحيرة ليشرف على تهذيبه وتعليمه. فحضر له مؤدّبين علموه الكتابة والرمي، وأجاد العربية وظل في الحيرة حتى مات أبوه وكان له المنذر معيناً على تمليكه على الفرس.
وقد قال «كيكاوس» في كتاب ألّفه لتهذيب ابنه جميلات شاه واسمه قابوسنامه: «إذا كتبت رسائلك بالفارسية فلتكن مشوبة بالعربية فإن الفارسية الصرفة لا تعذب في المذاق». وقد أدخل اتصال العرب بالفرس طائفة من الكلمات الفارسية مثل حربا وبربط (بربت في الفارسية ومعناه العود) وإبريق (أبربز = يصب الماء) واستبرق (استبره ومعناه الديباج الغليظ) ويرندج (جلد أسود تعمل منه الخفاف) ذكره الشمّاخ في قوله:
ودوية قفر تمشي نعامها
كمشي النصارى في خفاف اليرندج
ودمقس (دمسه = الحرير الأبيض) وزنبق وغير ذلك. وقد ورد في القرآن كلمات فارسية معربة كسندس واستبرق وزنجبيل وأباريق وجهنّم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعمل كلمات فارسية على سبيل التلطف، قال أبو هريرة: هجر النبي صلى الله عليه وسلم فهجرت وصليت ثم جلست فالتفت إليّ وقال: شُكُم دُرُد؟ وفي رواية: «اشكنب درد» ومعنى ذلك هل وجعك بطنك فقلت نعم. فقال «قم فصلّ فإن في الصلاة شفاء». ولقد كثرت الكلمات الفارسية في شعر الأعشى صنّاجة العرب لأنه كان يَفِد على ملوك فارس. ولم يقتصر العلم على اللغة بل تعداها إلى العلم فطبيب العرب الحرث بن كلّدة الثقفي كان قد وصل إلى أرض فارس وأخذ الطب عن أهل تلك الديار من أهل جند سابور.
ولئن كانت بين العرب والفرس في جاهليتهم هذه العلاقات البسيطة فهذا لا يعني أنهم كانوا على اتصال دائم وفي تمازج مستمر. فالعرب في جاهليتهم يمثلون العروبة الخالصة: بدويةٌ متأصلة ولغة فخمة ومدنية صحراوية وحياة ساذجة لا يعرفون من نعيم الحياة وثير الدمقس ولا ناعم الاستبرق بل كانت حياتهم خشونة في خشونة. وهذا ما دعا الأستاذ «بروكلمن» عندما أراد أن يكتب ذلك الفصل عن الأدب العربي في دائرة المعارف الإسلامية أن يشبه ما كان عند العرب، قبل الإسلام بزمن بعيد، بهذه الآداب التي توجد عند الزنوج أو قاطني المحيط الهادئ.
وقد أراد الجاحظ أن يظهر الفرق بين شعر الترف واللذة وبين شعر أولئك الجاهليين الذي كان يبتدئ بوصف الأطلال وينتهي بوصف الناقة فقال: كم بين قول امرئ القيس:
تقول وقد مال الغبيط بنا معاً
عقرتَ بعيري يا امرأ القيس فانزل
وبين قول علي بن الجهم:
سقى الله ليلاً ضمنا بعد هجعةٍ
وأدنى فؤاداً من فؤاد معذب
فبتنا جميعاً لو تراق زجاجة
من الراح فيما بيننا لم تسرب
علي بن الجهم هذا هو الذي قال في مدح الخليفة قبل أن ترق حواشيه ويلطف جانبه:
أنت كالكلب في حفاظك للود
وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو لا عدمتك من دلو
كثير الخطايا قليل الذنوب
وهو الذي قال بعد أن رشف كأس النعيم في قصر الخليفة:
ما للهوى حتى الهوى يهواني
ويذيقني كأسي عنىً وهوان
حاولت أسباب الخلاص فلم أجد
بُداً وحب الغانيات سباني
الهندية في الجاهلية:
ولتجمح بنا الفرس الآن ولنقف على أكواخ الهند: كان اتصال العرب بالهنود بفضل التجارة، على أن هذا الاتصال لم يكن وثيقاً في هذا العصر ولم يكن للهنود فيه تأثير يذكر على الثقافة. وجل ما استفاد العرب كلمات هندية كالزنجبيل والكافور والآبنوس والببغاء والخيزران والفلفل والإهليلج. وهذه الكلمات دخلت العربية بدافع الحاجة والضرورة فهي أسماء لتوابل أو أخشاب أو طيور كان يجلبها العرب من الهند لخلو جزيرتهم منها.
اليونانية قبل الإسلام:
فإذا أغذذنا في السير الآن ووصلنا إلى جزيرة اليونان استطعنا أن نتصور الاسكندر فاتحاً في الشرق يبث حضارته فيه فتصل إلى الجزيرة العربية منذ القرن الثالث قبل الميلاد. كما استطعنا أن نعلم مبلغ تأثير اليونان منذ العصور الغابرة في بلاد الشرق، فإنه لم يمض القرن الثاني قبل الميلاد حتى كانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية للشرق الأدنى. ولم يكد يتقدم التاريخ المسيحي حتى كانت كل بلاد الشرق الأدنى قد عجّت بالمدارس اليونانية التي تعلم الفلسفة والأدب، كمدرسة عمورية والرها ونصيبين وقنّسرين وجنديسابور وحرّان والاسكندرية. وهذا الأمر هو الذي دعا الأستاذ طه حسين لأن يقرر أن التأثير اليوناني على العرب كان يفوق التأثير الفارسي وذلك لقدم عهد حضارة اليونان في الشرق. ولا ننسى تلك الفلسفات التي نشأت في الشرق بفضل هذا الفتح اليوناني، كالفلسفة الرواقية والاسكندرانية أو الأفلاطونية الحديثة والاحتمالية واللاأدرية وغيرها. فلئن كانت الثقافات الفارسية والهندية لم تؤثرا في العرب عملياً إلا بعد الإسلام فإن الثقافة اليونانية قد أثرت فيهم منذ العصور الأولى.
وهذا ما دعا بعض من استهوتهم العصبية وعصفت بهم زوبعة الحزبية إلى الادعاء بأن الحضارة التي قام بها الإسلام ونشرها وحمل رايتها إنما كانت مستقاة من الحضارة اليونانية. وأنا أترك التاريخ يردّ على هؤلاء ويثور عليهم ثورة يحمي وطيسها الحقيقة والواقع. وأكتفي بأن أقول بأن الحضارة الإسلامية كانت بفضل الإسلام والإسلام دين الله لا دين اليونان، وأن أذكرهم بقول المستشرق «نولدكه»: «إن الآداب اليونانية لم تمس من حياة الفرس إلا ظاهرها ولكن دين العرب وسننهم فنفذتْ إلى قلوبهم».
هذه لمحة موجزة عن الثقافات الثلاث في العصر الجاهلي. وقبل الانتقال يجب أن نقرّ هذه الحقيقة وهي أن هذه الثقافات وإن كانت لها نقاط تماس مع الثقافة العربية في الجاهلية لم تستطع أن تغير قطميراً من عادات العرب وثقافتهم وتقاليدهم في ذلك العصر. فالجاهلي بقي جاهلياً، والبدوي بقي بدوياً، والثقافة بقيت ثابتة حتى انبثق فجر الإسلام.
والآن لنطو صفحة العصر الجاهلي ولنقلب صفحة أخرى من صفحات التاريخ تشع في أعلاها كلمة الإسلام.
الثقافة الفارسية في الإسلام وفي الدولة الأموية:
جاء الإسلام بمبدأ المساواة فكان العرب يقبلون في صدره على رأي فارسي أو ثقافة فارسية. هكذا كان منهم الصحابيون والفقهاء والمحدّثون وزاد في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «لو كان العلم معلقاً بالثريا لتناوله قوم من أبناء فارس».
ولكن لم تكد تأتي الدولة الأموية حتى عاودت العرب نزعتهم القومية بعد أن عاودتهم نزعتهم القبلية. فها هو ذا جرير قد نزل بقوم من بني العنبر فلم يضيفوه فقال يهجوهم:
يا مالك بن طريف إن بيعكم
رِفد القِرى مفسد للدين والحسب
قالوا نبيعكم بيعاً فقلت لهم
بيعوا الموالي واستحيوا من العرب
ويظهر هذا الأثر أيضاً في السياسة التي اتبعها الحجاج ووصمه أيدي النبط بالمشراط. والقصة التالية تبين مدى احتقار العرب للموالي والفرس في هذا الدور: ذهب أعرابي إلى سوار القاضي وقال بأن أبي مات وتركني وأخاً لي، وخط خطين ناحية ثم قال: وهجينان ثم خط آخر ناحية، ثم قال كيف نقسم المال بيننا. فقال سوار: المال بينكم أثلاثاً إن لم يكن وارث غيركم. فقال له: لا أحسبك فهمت أنه تركني وأخي وهجيناً لنا. فقال سوار: المال بينكم سواء. فقال الأعرابي: يأخذ الهجين كما آخذ ويأخذ أخي. قال: أجل. فغضب الأعرابي وقال: تعلم والله أنك قليل الخالات بالدهناء.
ولم يترجم في زمن الدولة الأموية شيء من الكتب الفارسية ولم يكن هناك من الكتاب الفرس سوى عبد الحميد إن صحت نسبته إلى الفرس وأرجح عكس ذلك وأرى فيه رأي أبي هلال: «أنه كان يحسن الفارسية».
أما الفرس أنفسهم فقد أخلص الكثير منهم للّغة العربية وبلغ من إخلاص أمرائهم لها وللإسلام ما ذكره الأستاذ «براون» في تاريخ أدب الفرس عن عبد الله بن طاهر في نيسابور حيث أحرق كتاباً يحتوي على قصة وامق وعِذراء وحين أجاب حامله: «نحن قوم نتلو القرآن ولا حاجة لنا بمثل هذا الكتاب». ولقد كان الفارسي يمدح بإجادته العربية. قال المتنبي يمدح ابن العميد:
عربي لسانه فلسفي
رأيه فارسية أعياده
وقال أبو سعيد الرستمي: إذا نسبوني كنت من آل رستم، ولكن شعري من لؤيّ بن غالب. وقال الزمخشري في خطبة كتابه المفضل: «الله أحمد على أن جعلني من علماء العربية وجبلني على الغضب للعرب والعصبية الخ».
ونرى أن أبا مسلم الخراساني ألد أعداء العرب يصطنع لنفسه نسباً عربياً فيزعم أنه من نسل سليط بن عبد الله بن العباس. إذن كان العرب في العصر الأموي لا يعبأون بالفرس وظلت دولتهم عربية أعرابية كما يقول الجاحظ يغذيها معين العروبة ويحيطها جلال العربية وظل الأمويون حتى آخر عهدهم يقاومون تلك الشعوبية ويحذّرون العرب من نير الفرس كما قال نصر بن سيار يحذر اليمانية والنزارية:
أبلغ ربيعة في مروٍ وأخوتهم
ليغضبوا قبل أن لا ينفع الغضب
ولينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا
حرباً يُحرَّق في حافاتها بالحطب
إلى أن يقول: فمن يكن سائلاً عن أصل دينهم فإن دينهم أن تُقتَل العرب
الثقافة الهندية في هذين العصرين:
أما الثقافة الهندية فلم يكن حظها من الانتشار في صدر الإسلام والدولة الأموية بأجلّ من حظها أيام الجاهلية إلا أننا يجب أن نذكر اسم شاعر هندي من مخضرمي الدولة الأموية والعباسية هو أبو عطاء السندي. وهناك قصة يمكننا أن نستدل منها على شيء من التأثير الذي أحدثته الثقافة الهندية في هذا العصر. فقد رُويَ في أولية النحو عند الهنود أن أحد ملوكهم كان يوماً في حوض مع نسائه فقال لإحداهن: «ماود كندهي» أي لا ترشّي الماء علي فظنت أنه يقول «ودّ كندهي» أي احملي حلوى، فذهبت فأقبلت بها فأنكر الملك فعلها فخاشنته في الخطاب فاستوحش الملك لذلك وامتنع عن الطعام (كعادة الهنود) واحتجب إلى أن جاءه أحد علمائهم وسلّى عنه بأن وعده تعليم النحو والصرف. وذهب إلى «مهاديو» مصلياً مسبحاً وصائماً متضرعاً إلى أن ظهر له وأعطاه قوانين يسيرة. هذه القصة تذكرنا بقصة علي بن أبي طالب وأبو الأسود الدؤلي وقصته مع ابنته «ما أحسن السماء».
الثقافة اليونانية:
أما الثقافة اليونانية فقد وصلت العرب بفضل النساطرة واليعاقبة وبفضل تلك المدرسة التي كانت في الإسكندرية. فلقد اتصل بها المسلمون في هذا العصر. ويتضح لنا ذلك فيما نقل من اليونانية والقبطية إلى العربية بفضل خالد بن يزيد بن معاوية الذي طلب ذلك من «اصطفن» أحد علماء الإسكندرية. ولقد ساعد على انتشار الثقافة اليونانية بعض الانتشار ما بلغته الحركة الدينية في أواخر الدولة الأموية من القوة والاضطرام في المجادلة والمناقشة: فظهر قوم يتكلمون في القضاء والقدر وآخرون يرجحون عقيدة الجبر وآخرون يعتنقون عقيدة الاختيار ويدافعون عنها؛ كما حدثت مجادلات بين المسلمين والنصارى واليهود، وكان سلاح اليهود والنصارى المنطق اليوناني والفلسفة اليونانية واضطر المسلمون لأن يقرعوا الحجة بالحجة فدرسوا الفلسفة اليونانية وأشغفوا بها. ويحدّث المؤرخون أن عمر بن عبد العزيز تقدم إلى بعض الروم الذين كانوا في قصره والذين تعلموا العربية ليترجموا له شيئاً من كتب اليونان فترجموا له كتاباً في الطب ثم وضعه في المصلى واستخار الله أربعين يوماً إلى أن أخرجه للناس؛ هذه الرواية تدلنا على أن ابتداء الترجمة كان في عهد عمر بن عبد العزيز. وبصورة موجزة: ترجم في العصر الأموي كتب في الطب والعلوم العملية كالنجوم والصنعة (الكيمياء) وكانت الترجمة فردية في هذا الدور. أما في الأدب فلم يترجم شيء من كتب اليونان، ذلك أن العلوم العملية هي علوم عالمية تشترك فيها جميع الأمم ولا يلحق الأمة في اقتباسها وتناولها عار. أما في العلوم العقلية كالأدب والفلسفة والمنطق فهي علوم قومية كان يأباها العربي في العصر الأموي لتعصبه القومي وعزته العربية.
ولقد حاول الأستاذ طه حسين أن يثبت أن عبد الحميد الكاتب كان شديد الاتصال باليونان عالماً بلغتهم. وسرد على ذلك الأدلة من استعماله الحال في كتابته لتحديد معانيه، ومن تقسيمه موضوعه إلى أجزاء وفصول كل فصل مستقل بمعناه وفكرته وغير ذلك. وهذا الرأي على صحة ما فيه من المناقشة والاستنتاجات خاطئ في أساسه. وفي النهاية لا ننسى ما كان لدولة الأندلس الأموية من أثر في نقل الثقافة اللاتينية.
والآن لنودع هذه الدولة العربية وداع الوامق الكبد ولنمضِ إلى الدولة العباسية الخراسانية.
الثقافات في العصر العباسي:
هكذا انتهينا بعد سيرنا الحثيث إلى العصر العباسي، إلى تلك البوتقة التي انصهرت فيها الحضارات المتنوعة. وإن تحليل هذه الثقافات بعد انصهارها وتماسك أجزائها ليبدو عسيراً لأول وهلة ولا يكاد الباحث يحاول تجزئتها إلا ويجابه من بعض الصعوبات والعقبات الكأداء الشيء الكثير. إذا أراد الكاتب أن يكتب في التمازج الذي جرى في ذلك العصر أرعدت مفاصله وأربكت قلمه تلك الفوضى التي تغشاه والاضطراب الذي ينتابه. عليه أن ينتقل بخياله مغذاً من قصر السفاح إلى قصر المنصور فالرشيد فالأمين فالمأمون، ثم يغيّر وجهته فجأة فيدخل ديوان البرامكة ويبتسم للفضل بن سهل أو لسهل بن هارون أو ليحيى البرمكي، ثم ينقلب فجأة فيصغي إلى ابن المقفع وابن العميد وابن الرومي والجاحظ وغيرهم إلى أن يستقر في النهاية بين أقدام الشعب فيصغي إلى أنينه وشجاه ويسمع صوته وشكواه.
العصر العباسي عصر النزاع:
عصبية بين القبائل العربية من جهة وبين العرب والشعوبيين من جهة ثانية وبين العرب والأعاجم من جهة ثالثة. زوابع من التحزّب تفتّ في عضد الدولة وجرع من الأعجمية تسري في عروق العربية.
إزاء هذا البلبال تقف اللغة العربية موقف الحيادي حيناً فتعتز بجزالتها وفخامتها وبدويتها، وموقف الظمآن حيناً آخر فتروي عطشها من نعيم الحياة وتُطفئ غلتها على منهل الترف فترق وتدق وتسمو فتعانق عناق دغدغة لغة الفرس ولطفها وديانة الهند وحضارة اليونان وعلومهم. ولكنها لم تقف ولا تقف في أي ساعة موقف المقهور المغلوب الذي يطأطئ عنجهيته أمام لكنة الأعاجم. لم تستطع الحضارات أن تنزع منها صدى البدوية الداوي أو أن تجعل من شوق العربي المتفيهق فماً أعجمياً لا يكاد يفتر في كلامه بل لا يكاد يُبين. ولقد صافحت العربية الأعجمية مصافحة الأخوة وبثت إليها حديث الوداد ولكنها لم تنحن أمامها إجلالاً ولا سوّدتها عليها إكباراً.
تأثير الفرس:
ها هم الفرس تطأ أقدامهم بلاد العرب ويمدون أصابعهم إلى اللغة والحضارة العربية، فمنهم من نبغ فيها ومنهم من حمل عليها وقاومها كصاحبنا المتوكلي الذي يقول:
أنا ابن الأكارم من نَسْل جَمْ
وحائز إرث ملوك العجم
والذي ينتهي إلى قوله مخاطباً العرب والمسلمين:
فعودوا إلى أرضكم بالحجاز
لأكل الضباب ورعي الغنم
فإني سأعلو سرير الملوك
بحد الحسام وحرف القلم
ومنهم وهم جديرون بالثناء، من تلقاها برحابة الصدر إذ رأى فيها لغة القرآن ولسان نبيه وعزّ أمته. وإذا أردنا أن نذكر تأثير الفرس على العرب وجب علينا أن نجزّئ الموضوع ما استطعنا: لذلك نستطيع أن نقول أن الفرس قد أثروا في العرب من نواح ثلاث:
1 ً- أعاروا العربية رقة ورشاقة وساعدهم على ذلك حياة البذخ التي سادت في العصر العباسي. وهذا أمرٌ واضح. فالأعجمي الذي ينشأ في أحضان العربية ثم تساعده عبقريته على النبوغ فيها ويقدر له أن يغدو من كتّابها لن يستطيع أن يفصح عن آرائه بكلمات البداوة الصلدة(1) وأن يصيغ جمله بذلك القالب الصحراوي الذي لا يتزعزع والذي يترك في السمع دوياً يتردد فيه ويملأ الفم ويستولي على المشاعر فكأنه رحى تطحن قروناً. لن يستطيع الكاتب إلى هذا سبيلاً. أضف إلى ذلك ما يدخله في كتابته من طلاوة لغة وأخيلتها العذبة. ورب سائل يعترض بأنه من المحتمل أن يكون هذا الكاتب قد زاد في جزالة العربية بما أدخله من الكلمات الجزلة المتوافرة في لغته. هذا سؤال جوابه أن الكاتب أو الشاعر إذا كتب في غير لغته وأراد أن يدخل في كتابته شذرات من لغته الأصلية عمد إلى ما رقّ منها وما لطف وجمع من الأخيلة والتشابيه ما صنع من در الرشاقة والإبداع الخيالي، وأدخل من الوصف ما دق وما برزت ألوانه وازدانت صوره، وأدخل من الحكم ما طربتْ له النفوس واهتزت له ربابة القلوب، واختار من الغزل ما يلعب بالعواطف ويرقص مع المشاعر. فهو يختار من كل شيء ما يزين كتابته ويرصّع أسلوبه. ولنا في شعر أبي نواس والبحتري وابن الرومي، وفي كتابة ابن المقفع وابن العميد خير شاهد. ها هو ذا أبو نواس يريد أن يكون مجدداً، يريد أن ينزع من نفسه صدى الجاهلية ودوي البدوية فيبتكر برقته ويبدع بلطف تعبيره. ها هو ذا يعيب على الجاهلي استنطاقه ما لا ينطق وبكاءه أمام من لا يستطيع ذرف الدموع، ويدعوه أن يرتفق ذراع نديمه ويصطبح صهباء تفترس النفوس ولا تدع بها من الجراح إلا كلام السبات:
قل لمن يبكي على رسم درسٍ
واقفاً ما ضر لو كان جلس
تصف الربع ومن كان به
مثل سلمى ولبينى وخنس
اترك الربع وسلمى جانباً
واصطبح كرخيّة مثل القبس
وها هو ذا البحتري يترك التعقيد ويبرز شعره بصورة أحسن ما نصفها به أنها صورة شعرية: فيها الحس والشعور، فيها الانسجام والاتنساق وفيها مداعبة القلوب وتفكيه النفوس وترهيف الأسماع. رقة البحتري تتجلى لك في جميع شعره وهاك مثالاً عليها:
لي حبيب قد لحّ في الهجر جدا
وأعاد الصدود منه وأبدى
بربي حدثني أشعر قرأته أم نثر؟
وثنى على خده إليّ على خو
فٍ فقبّلت جلناراً وورداً
هذه رقة لم تصل إلى هذه الدرجة من النضج إلا في العصر العباسي. وعبث إنكارنا أنه لم يكن للفرس أثر فيها. فإن لم يكونوا قد أثروا بآدابهم فلقد أثروا بحضارتهم وبما نقلوه من الترف والنعيم بالشعر اللطيف المهلهل. وقد ذكرتُ قصة علي بن الجهم وما تدل عليه من تأثير النعيم في إبداع الشعر الرقراق الصفات. هذه حقيقة يجب أن نقبلها وقد قبلها اليونان واعترفوا بأن الحضارة الفارسية قد جعلت من فنهم فناً محلّقاً برقّته أيام فتح الاسكندر. ولن أذهب في حديثي اليوم إلى ذكر الشعراء العباسيين وما في شعرهم من آثار الفرس بل أكتفي بما ذكرت.
2 ً- أدخلوا في العربية أفكاراً وألفاظاً وتعابير فارسية. أما الألفاظ التي دخلت فلا يجهلها أحد منا حتى أن أبا العلاء دخل في شعره بعض ألفاظها كقوله:
إذا قيل لك اخشَ الله
مولاك فقل آرا (مدوّر)
وحتى قال أحد الشعراء يمدح مليكه:
يا أيها الملك الذي
في برده قمرٌ وشير
وأما الأفكار فهذا شأن كل أمة تختلط بأخرى. فامتزاج الأفكار لا تسلم منه دولتان قد انسلت كل منهما في صف الأخرى. ولقد يتضح لنا هذا الأثر بعض الوضوح إذا ذكرنا أن الشعر ربما نظم في أوزان الشعر الفارسية كالدوبيت والرباعية وربما تفنّن العربي في النشيط والترشيح والازدواج، ولكن الفرس لم يتورعوا أيضاً عن نظم أشعارهم في أوزان الشعر العربي وربما كانت معظم أشعارهم عربية الوزن. ولقد قُدِّر للمأمون أن يزور مدينة «مرو» وأن يسمع مدحاً فارسياً من شاعر فارسي اسمه عباس المروزي. وهذه أول قصيدة فارسية نظمت بعد الإسلام.
وأما التعابير الفارسية فقد انسلت في العربية انسلال تستر وخفاء: ها هو ذا أبو نواس يقدم لنا صورة جلية عن التعابير الجديدة التي دخلت العربية، قال:
تكلّ من إدراك تحصيله
عيون أوهام الضمايير
تنتسب الألسن من وصفه
إلى مدى عجز وتقصير
ويقول: تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها خَلقاً وخُلقاً كما قُدّ الشراكان
ويقول:
كمن الشنآن فيه لنا
ككمون النار في جحره
ويقول أبو تمام:
جهمية الأوصاف إلا أنهم
قد لقبّوها جوهر الأشياء
هذه كلها تعابير محدثة لا عهد للعربي البدوي بها.
3 ً- ترجمة بعض الكتب الفارسية: إلا أن هذا العدد الذي ترجم كان قليلاً بالنسبة لما ترجم من العربية إلى الفارسية. وعلى كل لا نستطيع أن ننكر أثر ما ترجم في اطلاع العرب على صبغة من الثقافة لم يعهدوها ونوع من التفكير لم يألفوه.
وترجمت كثير من الأمثال الفارسية وقد ذكر ابن دريد أنه اجتمع في ديوان صالح بن عبد القدوس ألف مَثَل للعرب وألف مَلَل للعجم. ولقد ترجم ابن المقفع كتاب تاريخ ملوك الفرس (خُداينامه) وكتاب (أربعين نامة) وكتاب كليلة ودمنة وكتاب (تردك) والأدب الكبير والأدب الصغير واليتيمة. وأخذ العرب عن الفرس كثيراً من الحكم الأخلاقية والمبادئ السياسية والنجوم والأقاصيص.
هذا أثر الفارسية في العربية أما أثر العربية في الفارسية فهو أعظم من أن يوصف، وإنه لمن الإطالة ذكر الإشادة به، إلا أننا يجب أن نذكر أن اللقاح الثقافي الفكري تكون الغلبة فيه للعنصر الذي لا يزال يحتفظ بنضارة شبابه واضطرام فتوته. فالعُنصر العربي الفتي على استعداد لأن يتلقى جميع الثقافات بصدر رحب دون أن يضيع من قوة دمه وغليان مزاجه.
تأثير اليونان:
كان لليونان حظ وافر في هذا العصر. ففيه ترجمت معظم المؤلفات اليونانية والرومانية، فهو أشبه من هذه الناحية بعصر النهضة في أوروبا. وانكبّ كثير من العلماء على التمحيص والإمعان في كتب اليونان وفلسفتهم وولعوا بذلك وأشغفوا بها حتى أبرزوا للأمة العربية صوراً صادقة عن أكبر الفلاسفة وأطولهم باعاً.
أول ما تذكر اليونان تتبادر للإنسان صورة العلم والحضارة العلمية، فكأن اليونان والعلم لفظان لا يستغني أحدهما عن أخيه، يُذكَر الثاني إذا ذكر الأول ويذكَر الأول إذا ذُكر الثاني. وفي الحقيقة لم يكن تأثير اليونان تأثير أدب وخيال أو تفنُّن بالأدب والجمال أو سياحة بين الغيوم السوداء والسماء الزرقاء والشهب اللألاءة والمروج الإلهامية والبحار الزاخرة. ولم يكن في وصف العيون النجلاء والقدود الميساء بل كان هذا التأثير تأثيراً علمياً وفلسفياً ومنطقياً.
اشتهر اليونان منذ القدم بفلاسفة وضعوا خطوطاً حاسمة في طريق الحضارة والعقل الإنساني وأوحوا إلى العالم أجمع أسس الفلسفة والنقد العلمي واستنطاق الطبيعة والاستلقاء في أحضانها. ليس هناك من يجهل أرسطو أو سقراط أو أفلاطون أو جالينوس أو ديموستينس أو فيثاغورس أو إقليدس.
هكذا غزت الحضارة العربية نفحات من فراديس العلم اليوناني:
ابتدأ عصر الترجمة من خلافة المنصور وانتهى مع ذبول زهرة الحضارة العربية وأفول نجم الدولة العباسية.أما الكتب التي ترجمت فكثيرة منها كتاب المجسطي في الفلك وكتب في الطب ترجمها حنين بن اسحق وإسحاق بن حنين، والحكم الذهبية لفيثاغورس وعدة كتب لجالينوس وأبقراط وكتاب النواميس وغير ذلك.
وقد كان للفلسفة اليونانية كما كان للهندية تأثير على الصوفية الإسلامية. فإن المبدأ الأساسي للصوفية وهو أن الإنسان إذا تجرد عن هذا العالم وابتعد عن لذاته وانسل عن شهواته استطاع أن يصل إلى الله وأن تعشق روحه الإله. هذا المبدأ يوناني الأصل يقوم على أن هناك عالماً مجرداً يماثل عالم المادة، منه أهبطت النفس وتستطيع أن تتصل به إذا صفا جوهرها بأخذها بأشد أنواع الحرمان.
ولنا في شعر المعري خير دليل على تأثره بالفلسفة اليونانية ومبادئها. لقد كثرت في فلسفته اصطلاحات الفلاسفة اليونانيين وعجّ ديوانه بأبيات من الفلسفة الطبيعية والرياضية. فلقد أخذ عن اليونان المبدأ الأساسي الذي يعتبر قوام فلسفتهم وهو مبدأ الثقة بالعقل وتحكيمه في كل نائبة:
يرتجي الناس أن يقوم إمام
ناطق في الكتيبة الخرساء
كذب الظن لا إمام سوى العقـ
ـل مشيراً في صبحه والمساء
فإذا ما أطعتَه جلب الرحـ
مة عند المسير والإرساء
وقال:
سأتبع من يدعو إلى الخير جاهداً
والعقل أولى بإكرام وتصديق
نكذب العقل في تصديق كاذبهم
والعقل أولى بإكرام وتصديق
وهو يرى كاليونانيين قدم المادة وخلودها:
نُرَدُّ إلى الأصول وكل حي
له في الأرجع القدم انتساب
وقد استمد من اليونان فلسفته الطبيعية إذ اعتقد بتناهي الأبعاد وخلود الزمان والمكان:
ولو طار جبريلٌ بقيّةَ عمره
من الدهر ما استطاع الخروج من الدهر
كذلك استمد فلسفته الرياضية منهم فنظر في النجوم نظرة الخلود والقدم:
وقد زعموا الأفلاك يدركها البلى
فإن كان حقاً فالنجاسة كالطهر
ولم يتورع كذلك عن أن يستمد قسماً من فلسفته الإلهية منهم وقد أيد نظرية الجبر التي أيدها بعضهم:
المرء يقدم دنياه على خطر
بالكره منه وينآها على سخط
يخيط إثماً إلى إثم فيلبسه
كأن مفرقه بالشيب لم يخط
وكذلك يرتأي في الروح رأي أفلاطون وهو أنه جوهر مجرّد قد أُهبط إلى هذا العالم ليُبتلى ثم هو عائد إلى العالم العقلي فمعذب أو منعم:
يا روح كم تحملين الجسم لاهية
أبليته فاطرحيه طالما لبسا
وكذلك في البعث فإنه ينكر كما ينكر الأفلاطونيون حشر الأجسام ويرى مثلهم خلود الروح:
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهةً
وحقَّ لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام حتى كأننا
زجاج ولكن لا يعاد له سبك
ويقول طه حسين أنه قد بنى قواعده الأخلاقية على القاعدة التي بناها عليها «ابيقور» وهي اللذة والسرور. ويضيف قائلاً: إنه إذ كانت اللذة في هذه الحياة إنما تؤول إلى ألم مضاعف فلا جَرَمَ أن ابيقور قد انتهى إلى رفضها لأنه لم يستطع أن يحصل عليها خالية من الألم. لذلك أنفق حياته في مثل حياة أبي العلاء من الزهد والتقشف والقناعة فكان لا يأكل إلا الشعير ولا يلبس إلا خشن الثياب.
هذا كله يبين لنا مبلغ تأثير اليونان في العصر العباسي. وقد كان لفرقة المعتزلة وعلى رأسها النظام تأثير واضح في جعل المنطق العربي يرفُل بالمنطق وعلم الكلام اليونانيين والفلسفة الإغريقية. أتَتْ هذه الفرقة تدافع عن رأيها وتجادل فيها بلسان تدعمه الحجة وتقيّمه الفلسفة. وقد كان للمأمون أثر كبير في هذا فهو الذي فتح باب المجادلة على مصراعيه وأرخى العنان لكل متكلم أو صاحب رأي فلم يعقل لسان فيلسوف ولم يكبل رأي كاتب، ووصل به الأمر إلى أنه لم يتورع عن المناقشة حتى في المسألة الدينية كخلق القرآن والقضاء والقدر وغير ذلك.
فتأثير اليونان إذن في الثقافة العربية كان في الناحية العلمية والفلسفية المنطقية. ولو أردنا أن نزيد في التفصيل لضللنا الطريق ولتُهنا في فيافي الحضارة الإغريقية. فلنصافح الثقافة اليونانية مصافحة المودع ولنطرق باب الثقافة الهندية ولنحلّ ضيوفاً على الهنود برهةً من الزمن.
تأثير الثقافة الهندية:
أنا على يقين أنه قد تراءى لك منذ أن ذكرتُ الثقافة الهندية أسرار الهنود الغامضة واصطلاحاتهم الدينية السرية واعتقاداتهم الخيالية وصوفيتهم المظلمة أو القاتمة: أسرار دسمة وصوفية هرمة وفلسفة مغذية ومتطرقة، هذه هي الصورة الرمزية للهند.
إذن نستطيع أن نفهم الآن بسهولة أن تأثير الهند لم يكن قوياً من الناحية الأدبية وإنما تظهر قوته المحتدمة في رواق الديانة والفلسفة الدينية.
لقد عُرف النهود منذ القديم بآراء خاصة في الروح والتناسخ والصوفية وتعظيم الأجداد تسمهم بسمة مستقلة. ولا أعتقد أن هناك من يجلب تلك الضوضاء والضجة التي تعالت إلى عنان السماء يوم أراد الإنكليز أن يمدوا الخطوط الحديدية في تلك البلاد وما كان من ادّعاء سكان البلاد بأن هذا العمل يزعج أرواح الأجداد ويقلق اطمئنانهم وهدوءهم. وكلنا يعرف ذلك المذهب البوذي الذي يروي اتحاد العالم بموجده وأنه يعود من حين إلى آخر كتلة مضطرمة من النار تتحرك حول نفسها. ولهم في ذلك أفكار عجيبة منها أن هذا العلم يتجدد في كلّ ألف سنة. فإذا كنت في هذه الساعة أكتب واجباً عربياً في مدرسة التجهيز فسأعود بعد ألف سنة في مثل هذه الساعة إلى كتابة الموضوع نفسه في المدرسة نفسها. ولقد كان لهذا المذهب شيء من التأثير على الصوفية الإسلامية. ولقد عرف عن نُسّاك الهند الأقدمين أنهم كانوا يمتنعون عن اللذات ويقيمون في الكهوف المظلمة واضعين الكمائم على أفواههم والصمامات في أنوفهم وأغشيةً على أبصارهم ليتصلوا بالإله وينصرفوا عن المادة. وهذا المذهب يعرف بمذهب الإشراق. وقد كان له أثره البين على المتصوفين الإسلاميين.
وللهنود مذهب يدعى مذهب «التناسخ» فيعتقدون بأن الروح تنتقل من جسم إلى آخر وتتجسد فيه. وقد هبت عاصفة هادئة منه بين المسلمين في العصر العباسي. وليس من يجهل سخافات «الحميري» وما كان من أمر قصة الناسك والفأرة التي تمثل هذا المذهب حتى نظمت شعراً:
أعجبني أمناً لصرف الليالي
حبلتْ أختنا سكينةُ فاره
فازجري هذه السنانير عنها
واتركيها وما تضم الفرارة
ولقد كان أبو مسلم الخراساني وأحمد بن حائط ومحمد بن زكريا الرازي والقرامطة من مؤيدي هذا المذهب، حتى أن أحمد بن حائط استشهد في إثباته بقوله تعالى: «يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك» وبقوله تعالى: «جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه».
واشتهر الهنود بإحراق موتاهم وقد ظهر تأثير هذا الرأي في الفلسفة العلائية كما يذكر طه حسين فقد استحسنه أبو العلاء وقال:
فاعجب لتحريق أهل الهند ميتهم
وذاك أروح من طول التباريح
إن حرّقوه فما يخشون من ضبع
تسري إليه ولا خَفي وتطريح
والنار أطيب من كافور ميتنا
غبّاً وأذهب للنكراء والريح
وأنا أوافق الدكتور طه حسين في نظريته هذه لأنه يبعد أن يستحسن رجل كأبي العلاء، عرف الإسلام وأصوله وعاش في بيئة بعيدة كل البعد عن هذه النظرية يأبي عليه طبعها ذلك ولا يستسيغه ذوقها وغريزتها، يبعد أن يستحسن مثل هذه العادة المتنافرة مع الطبع دون أن يكون قد تأثر بأقوال واضعيها ومؤسسيها.
وهناك تحريم الهنود لأكل الحيوان وما يخرج من الثمرات (كما ذكر الشهرستاني صاحب كتاب الملل والنحل). وقد حاول الأستاذ طه حسين أيضاً أن يثبت تأثير هذا المبدأ على أبي العلاء. أما أنا فلا أجزم بأن أبا العلاء اقتبس مبدأه هذا من الهنود كما أني لا أجزم بعكس ذلك؛ لأنه من الممكن أن يكون للهنود تأثير في ذلك كما أنه من الممكن أن يكون تحريم أبي العلاء أكل الحيوان وليد عاطفة رقيقة ترفق بالحيوان ويدفعها الحنان لأن تقول عند احتدام المرض عندما قدم لأبي العلاء ديكٌ ليتداوى به: «استضعفوك فوصفوك هلاّ وصفوا شبل الأسد». كما يدفعها لأن تحرّض الغراب في الجور والظلم: جُر يا غرابُ الخ الأبيات.
وإذا كنا قد قلنا أن تأثير الهند من الناحية الأدبية كان ضعيفاً فهذا لا يعني أنه كان منعدماً بل الأمر على عكس ذلك. فلقد كان للهنود تأثير في الأدب من نواح ثلاث:
1 ً- كلمات هندية عربية كالزنجبيل والكافور وغير ذلك.
2 ً- القصص الهندي. وليس هناك من يجهل كتاب «كليلة ودمنة» وغيره من الكتب كالسندباد وكتاب هابيل في الحكمة وكتاب الهند في قصة سقوط آدم وكتاب ديك الهند في الرجل والمرأة وكتاب شاناق في التدبير وكتاب ألف ليلة وبَيْدبا وغير ذلك.
3 ً- استقى العرب كثيراً من الحكم الهندية والتعابير وقد ظهر بعضها في شعر أبي نواس.
فإذا قرأنا قوله:
قل لزهير إذا حدا وشدا
أقلل وأكثر فأنت مهذار
سخنتَ من شدة البرودة حتى
صرت عندي كأنك النار
لا يعجب السامعون من صفتي
كذلك الثلج بارد حار
عرفنا المصدر الذي اقتبس تشبيهه هذا منه؛ فقد جاء في كتاب من كتب الهند: «لا ينبغي اللجاج في إسقاط ذي الهمة والرأي وإزالته فإنه أما شرس الطبع كالحية إن وطئت فلم تلسع لم يغترّ بها فيعاد لوطئها. وإما سمج الطبع كالصندل البارد إن أفرط في حكه عاد حاراً مؤذياً».
وتأثر أبو نواس بأقوال الهنود في الفلك فقال يصف الخمر:
تُحُيرتُ والنجوم وقّف
لم يتمكن بها المدار
خاتمة:
لقد حمي وطيس الثقافات الأجنبية وتكاتفت على الإغارة على الثقافة العربية فأصلتها نيرانها ولكن هذه النيران لم تكن لها إلا برداً وسلاماً.
يخيل للباحث حينما يراقب ما دخل الأمة العربية من الثقافات الأخرى وما هاجمها من العجمة، يخيل إليه أن اللغة العربية اضمحلّت أمام جلال تلك الثقافات وأصبحت هباءاً منثوراً. ولكنه لا يكاد يحكم البحث ويصرُّ في التدقيق والتمحيص حتى تعروه الدهشة وتسيطر عليه مفاجأة غريبة. حين يرى أن العربية بقيت ثابتة الأركان والدعائم لم تتزلزل ولم تتزعزع. عندئذ يرى نفسه مجبراً على الإقرار بأن اللغة العربية لغة خالدة متأصلة الجذور بلغت منذ القديم أوجها من الرقي وفاقت كل لغة بقوة أسرها وفتوتها، فهي لا تعبأ بالعواصف ولا تهتم بالزلازل.
بعد كل ما جرى وحدث وهزّ في أركان الدولة العباسية نرى المستشرق «نولدكه» يقر هذه الحقيقة: [إن الآداب اليونانية لم تمس من حياة الفرس إلا ظاهرها ولكن دين العرب وسننهم قد نفذ إلى قلوبهم]، ولم يقر بأن دين الفرس أو اليونان وسننهم قد نفذت إلى قلوب العرب.
بعد كل ما رأيناه من التمازج في العصر العباسي نرى الجاحظ يقول في وصف شعور الناس في عصره نحو الشعر والتراث الجاهلي: [إنهم يفضلونه على الشعر الإسلامي وهم به أكثر ولوعاً وأشد تقديراً].
إن رنين البادية وصداها كان لا يزال داوياً تخفق القلوب لأنينه كما تخفق لشجاه. فالعربي ابن البادية شاء أم أبى وهو خدين الصحراء وعاشق البيداء فيها يحلو له أن يرسل صوته فيسمع ترديده وأن يتغنى شعره فتُؤوّب معه الرمال، ولئن عاش في قصور الترف ففي نفسه غصة العصفور السجين وأنَّةُ الجريح الكليم. فلئن كان الناس في العصر العباسي يتبخترون في القصور ويتقلبون على مهاد النعيم فقد كانوا مع ذلك على اتصال قلبي محكم الأواصر مع رمال البادية.
إن صمود اللغة العربية أمام جميع الكوارث التي حلت بها لدليل ساطع على ما فيها من روح وثابة قوية لا تعرف النزع فكيف تعرف الموت؟
فلنمدّ بأيدينا إلى لغتنا ولنكفكف عنها دموع الأسى التي تَذْرفها لا يأساً وقنوطاً، بل إشفاقاً على أبنائها وحناناً.
أيتها اللغة العربية إن في نسماتك وشذاك ما يجبر الإنسان على أن ينقضّ لعناقك ويشبعك لثماً وضماً ويثوي في لهيب العناق يرشف كأس النعيم من صدرك الخفاق ويذوق طعم الحياة في جوانحك المعتزة ثم يبكي لإهماله إياك ويندب أمله الذي ألفاه يوم لقاك وقد ضله زمن فراقك.
عبد الله عبد الدائم
دمشق، ثانوية جودة الهاشمي عام 1940 م