أصولها، أسبابها وآثارها السياسية والفكرية والأدبية في الحياة العربية

الإصدار: تشرين الثاني/ نوفمبر 1998

دار النشر: دار الطليعة – بيروت

نكبة فلسطين عام 1948
التحدي العربي للمحنة بين الأمس واليوم

إن ثوابت الحركة الصهيونية التي أدّت إلى خلق الكيان الإسرائيلي هي هي ثوابتها كما نشهدها اليوم؛ وهي ثوابتها التي تعمل لها دوماً وأبداً، وهذه الثوابت الصهيونية – كما يوردها ويؤكدها هذا الكتاب – هي: إدّعاء الحقّ التاريخي الإلهي في أرض فلسطين – الاعتماد على عون الدول الغربية، ولا سيما الولايات المتحدة – اتخاذ العنف مطيّة لتحقيق أهداف الصهيونية – تفتيت الوجود العربي وتمزيقه…
وهكذا، فالكتاب الذي بين أيدينا ذكرى وتذكير للأجيال الجديدة التي لم تعش أيام النكبة، والتي قلّما تدرك الارتباط الوثيق بين ما جرى فيها وما جرى قبلها، وبين ما جرى ويجري بعدها. ولا شك أن إيقاظ وعي الجيل الناشئ، فضلاً عن تجديد وعي الجيل الذي عرف النكبة، حول مراحل هذه النكبة وخلفياتها وأحداثها الخطيرة، وما خلّفته من مآس، واجب قومي يتصدّر سواه في هذه المرحلة القلقة من حياة أمتنا العربية التي يسودها البُحران والضياع بدلاً من أن تسودها العزيمة وإرادة التحرير، ولا سيما بعد مرور خمسين عاماً على وقوع تلك النكبة.
كذلك، يقدم الكتاب شهادة على ما كان لنكبة فلسطين من آثار هامّة على الأوضاع السياسية العربية وعلى الحياة الفكرية والأدبية… مما يجعل منه مرجعاً شاملاً ومركّزاً عن قضية العرب الأولى، جديراً بالاقتناء والدرس؛ كما يجعل منه بمثابة مرشد لكل من يعنيهم وضع معركة الصراع العربي – الإسرائيلي على طريقها الصحيح، لا سيما وأن واضعه هو مفكّر عربي رائد، عاصر النكبة وعاشها بكل عقله وجوارحه.
الناشر

تصدير: بين الأمس واليوم 5
مقدمة الكتاب 31
الفصل الأول: تقييم عام لحرب عام 1948 33
أولاً- دور الاستعمار البريطاني 36
ثانياً- الولايات المتحدة ودورها 44
ثالثاً- الصهيونية ودورها 51
رابعاً- دور هيئة الأمم المتحدة 60
خامساً- العرب ومسؤوليتهم 65
نظرة إجمالية 74
الفصل الثاني: أثر الحرب على الشعب العربي الفلسطيني 76
أولاً- أثر الإرهاب الصهيوني في مأساة اللاجئين 76
ثانياً- مراحل تهجير العرب من فلسطين 79
ثالثاً- أعداد اللاجئين وفق تقارير وكالة الغوث الدولية 81
رابعاً- خسائر الفلسطينيين في الأراضي والممتلكات 82
خامساً- مسألة اللاجئين ووكالة الغوث الدولية 84
سادساً- السكان العرب في إسرائيل بعد حرب عام 1948 87
الفصل الثالث: أثر الحرب على الأوضاع السياسية العربية 91
أولاً- انتزاع السلطة من القيادات التقليدية 94
ثانياً- التحرّر من الاستعمار وإسقاط الأحلاف الاستعمارية 103
ثالثاً- تحقيق الوحدة بين مصر وسورية 107
رابعاً- التركيز على أهمية بناء الجيوش الوطنية 108
خاتمة 110
الفصل الرابع: أثر حرب 1948 في الأدب والفكر العربي قبل 1967 113
مقدمة 113
أولاً- أثر حرب عام 1948 في القصة والمسرحية 114
ثانياً- شعر النكبة 121
ثالثاً- أثر حرب 1948 في الفكر العربي 145
خاتمة 160
أهمّ المراجع 162

بين الأمس واليوم

1- الكتاب الذي نقدّمه اليوم إلى القرّاء، كُتب عام 1974، بتكليف من مركز الدراسات الفلسطينية، ليكون جزءاً من كتاب جامع شامل حول القضية الفلسطينية، يُشارك في إعداده عددٌ من الباحثين يتقاسمون أبوابه. وقد كان نصيبي أن أتولى إعداد دراسة عن «حرب عام 1948 وذيولها (السياسية والأدبية والفكرية) في الوطن العربي».
غير أن الكتاب المنشود لم يرَ النور لأسباب عديدة، أهمّها اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية منذ أوائل عام 1975. ولم أُعنَ بعد ذلك بنشر الدراسة التي أعددتها وإصدارها في كتاب مستقل، لانشغالي بأعمال فكرية كثيرة سواها، ولأنني لم أشعر في ذلك الحين بأن نشر مثل هذا الكتاب المنفرد عن حرب عام 1948 وذيولها، في تلك المرحلة الزمنية، عمل مقدَّم على سواه. ولا سيما أن ذكريات الناس عن تلك الحرب كانت لمّا تزلْ غضّة إلى حد ما، وأنهم كانوا لا يزالون يعيشون في غمرة ذيولها وآثارها المستمرة والمتكاثرة. بل لعلّي كنت أشعر أن أبناء الشعب العربي آنذاك لم يكونوا في حاجة إلى المزيد من إيقاظ مشاعرهم وتأجيج حماستهم لقضية فلسطين، فقد كانوا يعيشون تلك القضية بجوارحهم وأفعالهم ونضالهم.
2- أما اليوم، وبعد أن فعل الزمن فعلته، وبعد أن كادت وطأة الأحداث الماضية وحدّة الذكريات الأليمة تفقد الكثير من وزنها وحدّتها، لا سيما بعد أن جهدت محاولات فرض السلام للعمل من أجل فتح صفحة جديدة تطوي صفحة الماضي، وبعد أن تقادم العهد بين الجيل الجديد وبين أيام النكبة عام 1948، فإننا نشعر بأن نشر مثل هذا الكتاب عن النكبة وذيولها، واجب قومي وإسهام أساسي في تقويم ما أصاب بعض النفوس من عوج ونكران لدروس الماضي، وفي دحض المحاولات التي تودّ أن تئد هذا الماضي وأن تئد معه بالتالي الحاضر والمستقبل. هذا بالإضافة إلى ما لنشر مثل هذا الكتاب في هذه المرحلة من تجديد لذاكرة الأجيال الشابة، ومن تعزيز لمواقفها القومية الصادقة، ومن تسليح لنضالها ضد النسيان والخنوع والاستسلام بما في التاريخ القريب من دروسٍ ومعانٍ وحقائق جديرة بالتأمل، قمينة بأن تستخرَج منها النتائج العلمية الموضوعية التي تندرج تحتها.
3- والحق إن الأحداث التي سبقت ورافقت وتلت حرب عام 1948، كما هو واضح في الكتاب الذي بين أيديكم، تكاد تنطق بحقيقة واحدة تصرخ قائلة: ما أشبه اليوم بالبارحة! مع فارق أساسي وهو أن نكبة الأمس ولَّدت مقاومة عربية عنيدة شاملة ضدها، أخذت صوراً وأشكالاً عديدة، بينما يُراد لنكبة اليوم أن تتوِّج التراجع والخنوع، وأن تقدّس الهزيمة.
إن التحليل العلمي الموضوعي لنكبة عام 1948، على نحو ما نجده في هذا الكتاب وفي كثير سواه من المظان، يكشف على نحو بيّن عن ثوابت في السياسة الإسرائيلية وفي تعامل إسرائيل مع العرب، لم تتغيَّر بين عام 1948 وما قبله وما بعده، وبين عام 1990 وما بعده.
فلقد تمّ احتلال فلسطين وما سبقه من عمل تمهيدي طويل منذ ظهور كتاب هرتزل الدولة اليهودية عام 1896 على أقل تقدير – على نحو ما يستبين جلياً من الكتاب الذي بين أيديكم – انطلاقاً من ثوابت لا تزال ثوابت أساسية حتى اليوم (ولن تكون غير ذلك في الغد لأسباب موضوعية أساسية عديدة)، يمكن تلخيصها في الأمور التالية:
3-1- ادعاء الحق التاريخي الإلهي في أرض فلسطين: وهذا أمرٌ غدا بديهياً ولا مجال للحديث عنه ههنا. وحسبنا أن نذكر، ما دمنا في معرض الحديث عن حرب عام 1948، ما أعلنه الحاخام العسكري لإسرائيل موشيه غورن (بعد عام 1967) حين قال: «إن الحروب الثلاثة التي جرت بين إسرائيل والعرب خلال السنوات 1948 و1956 و1967، هي في منزلة «الحرب المقدسة». فأولها لتحرير أرض إسرائيل، والثانية لاستمرا دولة إسرائيل، أما الثالثة فقد كانت لتحقيق نبوءات أنبياء إسرائيل». ولا بد أن نضيف أن هذا الادعاء لا يزال راسخاً لدى مختلف الأحزاب الإسرائيلية، دينية كانت أو علمانية، ولدى الكثرة الكاثرة من أبناء إسرائيل ويهود العالم، وأنه بالتالي صلب السياسة الإسرائيلية وجوهرها. كذلك لا بد أن ننبّه إلى أن معظم أبناء الجيل الجديد في إسرائيل
– خلافاً لما يظن بعضهم – أشدّ تطرفاً في هذا المجال من الجيل القديم نفسه، وأشدّ نزوعاً إلى العنصرية، بعد أن تمت تعبئتهم تعبئة موصولة مطردة بالعداء ضد العرب، وبعد أن أنمى القادة القدامى لديهم على مرّ الزمن «القسوة الإسبرطية» الوحشية، من خلال اختبارات قاسية لقوة الاحتمال يخضعون لها فيما يُدعى بتدريبات «الجدناع» (أو كتائب الشباب)، وبعد أن أباح لهم ربيوّهم الدينيون وقادتهم السياسيون قتل العرب أنّى ثقفوهم. وما يُشاع عن حيرة بعض اليهود في إسرائيل بين الحرب والسلم، لا يشهد (إلاّ في حالات نادرة جداً) على تراجعهم عن ادعاءاتهم التاريخية، ولا عن نكوصهم عن أسلوبهم الوحشي في التعامل مع العرب، بل يصدر في حقيقة الأمر عن «حب السلامة» لا السلام، وتمنّي الخلاص من الحروب، ولكن عن طريق تعطيل الرفض العربي للوجود الإسرائيلي مع الإبقاء على السيطرة الإسرائيلية على الوجود العربي وتعزيزها وتدعيم الحقوق التاريخية المزعومة لإسرائيل. وبتعبير آخر إن مصدر هذه الحيرة، ما يسميه الفيلسوف هيغل في قول مأثور «عجز النصر»، ووقوع إسرائيل في مأزق أمام «بحر العداء العربي» كما يسمّيه بعضهم، والرغبة الطبيعية بالتالي في تعطيل هذا العداء مع الإبقاء على الأهداف والمطامع والسيطرة الإسرائيلية كاملةً غير منقوصة. ذلك أن إسرائيل أدركت منذ البداية – وأثبتت لها الأحداث بعد ذلك – أن الرفض العربي للوجود الصهيوني في الأرض العربية هو حجر العثرة في سبيل تحقيق الصهيونية لأهدافها الرئيسية، وأن «الملجأ الآمن» لليهود هو بالتالي المطلب الأساسي، وأن سبيل تحقيقه هو «تعطيل القدرة العربية» بشتى الوسائل، حرباً أو سلماً. ومن هنا ندرك من خلال أحداث اليوم وعبر ادّعاءات السلام الإسرائيلية وأعمالها العدوانية من أجل السلام لماذا تعمل إسرائيل على أن تحيل السلام حرباً، بعد أن عجزت عن أن تحيل الحرب سلاماً, فالسلام عندها حربٌ مستمرة متصلة ضد العرب في شتى الميادين، وهدفه الرئيسي «أمن إسرائيل» و«بسط سلطان إسرائيل» وتحقيق المنطلقات الإيديولوجية للكيان الصهيوني بأقل كلفة وأجزل فائدة.
3-2- وإلى جانب هذا الثابت الأول في السياسة الإسرائيلية، نعني تحقيق الادعاءات الدينية التاريخية، ينهض ثابت ثانٍ أساسي، هو الاعتماد الراسخ على عون الدول الغربية. لقد كان هذا الثابت واضحاً – كما نعلم وكما يوضّح الكتاب الذي بين أيديكم – منذ قيام الحركة الصهيونية ومنذ قيام دولة إسرائيل، وفي حرب عام 1948 ولدى إنشاء الكيان الصهيوني، كما أنه واضح اليوم قبل مسيرة محادثات السلام وبعدها. ولا حاجة إلى أن نذكّر بما كان لبريطانيا من دور في إنشاء الوطن اليهودي وفي تعزيزه عن طريق الهجرة وسواها أيام الانتداب البريطاني على فلسطين، وما قدمته من عون لإسرائيل أثناء الحرب العربية – الإسرائيلية عام 1948، وما تمّ من تيسيرها لقيام دولة إسرائيلية عن طريق جلاء قواتها عن فلسطين في الوقت الملائم،… إلخ. كذلك لا حاجة إلى التذكير بدور الولايات المتحدة في قيام دول إسرائيل. غير أن ما لا بد من ذكره أن تدخّل الولايات المتحدة الفعلي في القضية الفلسطينية قد بدأ منذ عام 1943، وذلك عندما طرحت قضية الأوروبيين الذي شردتهم الحرب، وكان بينهم ربع مليون يهودي. فلقد اقترح ترومان، رئيس الولايات المتحدة آنذاك، إرسال اليهود إلى فلسطين. كذلك لا بد من أن نذكر دور الولايات المتحدة في نسف الكتاب الأبيض الذي رفضه المؤتمر الصهيوني عام 1942 والذي نصّ بوجه خاص على تحديد الهجرة اليهودية إلى فلسطين. ولا بد أن نذكر أيضاً اعتراف الولايات المتحدة بدولة إسرائيل بعد إحدى عشرة دقيقة من قيامها (في 14 أيار/ مايو 1948). ومما يستحق الذكر – في إطار الشبه بين الأمس واليوم – أن الرئيس الأمريكي اتخذ قراره هذا بعد أن اجتمع بمستشاريه، من منطلق الرغبة في تأييد اليهود الأمريكيين له وللحزب الديمقراطي في الانتخابات التي كانت وشيكة.
والحديث عن هذا الثابت، نعني اعتماد الصهيونية منذ نشأتها واعتماد إسرائيل قبل قيامها وبعده على عون الدول الأجنبية (وعلى رأسها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية)، حديث ذو شجون. ويعنينا منه أن الحاضر والآتي في هذا المجال أشبه بالماضي من الماء بالماء، على حد تعبير ابن خلدون وحسبنا ما نشهده اليوم من عون غير محدود وغير مشروط لإسرائيل من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، من أجل الانتخابات الأمريكية وإنفاذاً للثوابت الأمريكية في هذا المجال. حسبنا أن نذكر كيف تحدّى الرئيس كلينتون الزمان والمكان، وخفّ إلى دعم بيريس ومواساة إسرائيل في «مؤتمر شرم الشيخ»، دون أن يهتزّ له جفن أمام «مجزرة قانا» في لبنان! وقارئ هذا الكتاب لا بد أن يعقد مقارنة بين ما تقوم به الولايات المتحدة من تأييد للعنف الإسرائيلي، وبين صمتها وصمت بريطانيا عام 1948 وما بعده أمام مجزرة دير ياسين وسائر الغارات الإرهابية التي قامت بها العصابات اليهودية في ناصر الدين (14/4/1948)، والكرمل (18/4/1948)، والقبو (1/5/1948)، وبيت فارس (3/5/1948)، وسعسع (14/2/1948)، وبيت الخوري (5/5/1948)، والزيتون (6/5/1948)، ووادي عربة (31/5/1950)، واللد (تموز/ يوليو 1948)، وغور الصافي (25/9/1915)، وقبية (14/10/1953)، وقلقيلية (10/10/1956)، وكفر قاسم (29/10/1956)، وسواها كثير (هذا إذا لم نذكر المذابح الحديثة وعلى رأسها مذبحة صبرا وشاتيلا ومذبحة المسجد الأقصى ومذبحة الحرم الإبراهيمي ومذبحة قانا).
3-3- والحق أن الثابت بين ثوابت إسرائيل السياسية هو «اتخاذ العنف» مطية للوصول إلى أهدافها، وذلك قبل ولادة دولة إسرائيل وفي أثناء ولادتها ولا سيما في حرب عام 1948، وبعد ولادتها حتى اليوم.
وكلنا يعلم أن أبرز وسائل الدور الصهيوني كان ولا يزال اعتماده على تنظيماته الإرهابية واتخاذه العنف وسيلة أولى وأساسية لتحقيق مطلبه الأول، نعني طرد العرب من ديارهم واستلام فلسطين خلوة من أبنائها. وكلنا يعلم كذلك – كما سنرى في الكتاب – أن اليهود استغلّوا قرب انسحاب الإنكليز من فلسطين من أجل «تنظيف» الأرض الفلسطينية وطرد سكانها قبل انسحاب الإنكليز (في 15 أيار/ مايو 1948). وقد أدى هذا العنف في تلك المرحلة وما بعدها إلى قتل العرب وتشريدهم ونشر الذعر بينهم بحيث بلغ عدد اللاجئين عام 1954
(حسب تقرير لوكالة الغوث الدولية) 887.058 لاجئاً موزعين بين الأردن وقطاع غزة ولبنان وسورية.
وههنا أيضاً يتجاوز الحديث عن العنف الصهيوني الإسرائيلي وجذوره التاريخية حدود هذا التصدير. وحسبنا أن نذكر عابرين أن الصهيونية وإسرائيل استلهمتا ولا تزالان روح العداء للشعوب الأخرى من التراث الديني اليهودي (في التوراة ثم في التلمود) على نحو ما زيّفه أحبار اليهود عبر الزمن. ومن أهمّ مصادر العنف في هذا التراث «العهد القديم» وما انطوى عليه من فلسفة الحرب، ومن الصلة بين «حرب إسرائيل» و«رب إسرائيل» الذي يغدو «رب الجنود» الذي يمهّد لبني إسرائيل السبيل لتحقيق مأربهم في الغزو والاحتلال وطرد الشعوب الأخرى. وتنسب المصادر الدينية اليهودية إلى موسى أنه وضع أسس التقاليد العسكرية لبني إسرائيل التي سار على هديها الأحفاد من بعده. كما تنسب إلى عبده وخادمه يشوع بن نون الذي تسلَّم القيادة من بعده وضع أسس التعامل مع البلدان المفتوحة، بعد أن تمكّن من دخول أريحا في ما تدّعي تلك المصادر، وبعد أن قتل مع جنوده «كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، وحتى البقر والغنم والحمير، بحد السيف» (سفر يشوع 6:
20-21). والنصوص التوراتية والتلمودية التي تغذّي الوجدان الإسرائيلي بمبررات العنف والقسوة والوحشية عديدة، وهي تدرَّس في المدارس الإسرائيلية دون أن تحظى بأي معالجة نقدية. وفي دير ياسين وغيرها من الأماكن كرَّر الإسرائيليون ما فعله يشوع بن نون عند دخوله أرض كنعان وفق ما ورد في التوراة.
والحروب التي شنتها إسرائيل على الدول العربية هي، في نظر الإسرائيليين، ملتزمة بقواعد الشريعة الدينية اليهودية (الهالاخا)، وهي حروب مقدّسة للدفاع عن الاستيطان اليهودي (اليشوف) في فلسطين ضد الجيوش العربية التي غزت أرض فلسطين لكي تبيد (ويا للهول!) الشعب المُدافع عن حريته(1). ويُضاف إلى هذه المقومات الدينية التقليدية للروح العدوانية لدى اليهود، ما سبق أن أشرنا إليه من نمو جيل جديد في إسرائيل، دُرّب على العنف والقسوة، وأصبحت الحرب جزءاً من حياته على حد تعبير آمنون روبنشتاين. بل إن ثمة من وصف المجتمع الإسرائيلي نتيجة لذلك بأنه «جنود في إجازة»، ومن وصف دولة إسرائيل بأنها «جيش له دولة» أو «سلاح طيران يملك دولة». وقد عبَّر الشاعر الإسرائيلي يعقوب باسار عن هذا المعنى في قصيدته «الحرب المقبلة» التي كتبها عام 1968، فقال:
«الحرب المقبلة… ننشئها… نربيها
ما بين حجرات النوم… وحجرات الأولاد»(2)
ومثل هذا ما قاله شاعر إسرائيلي آخر هو حانوخ لفين، في تلك الأغنية التي شاعت خلال حرب الاستنزاف (1969-1970)، ومن كلماتها:
«حين نتنزه نكون ثلاثة،
أنا وأنت والحرب القادمة.
وحينما ننام نكون ثلاثة،
أنا وأنت والحرب القادمة»(3)

وقد سبق أن قلنا إن مثل هذا الحديث عن الحرب لدى طائفة من أبناء الجيل الجديد لا ينبئ عن نزوع إلى السلام (إلاّ نادراً)، وإنما ينزع إلى تمنّي «السلامة». فالشخصية اليهودية الإسرائيلية، في مقوماتها الأساسية، تظل شخصية تختزن في داخلها مقومات العدوان والقسوة، وتؤمن أنهما السبيلان الوحيدان لضمان البقاء الإسرائيلي في قلب البحر العربي الرافض له. والحرب والعدوان والعنف تظل في نهاية الأمر الوسيلة الأساسية لتحقيق دوافع الحقد والعدوان العميقة، الحالّة في كيانه منذ أقدم عصور التاريخ، والتي زادتها الصهيونية ودولة إسرائيل تأججاً وضراوة.
وقد وفّرت الدول الكبرى، والولايات المتحدة بوجه خاص، لإسرائيل الوسائل العملية لتعزيز دوافع العنف والسيطرة عندها، حين أعلنت في أكثر من مناسبة، وبلغة صريحة لا تقيم أي وزن للعرب، أنها تضمن دوماً وأبداً لإسرائيل تفوقها العسكري على القوة العسكرية للعرب أجمع! وإن كنا نعجب لشيء فعجبنا اليوم من التناقض بين دعوة الولايات المتحدة العرب إلى إقامة السلام مع إسرائيل، وبين تزويد إسرائيل بكل ما يوفر لها سحق العرب متى شاءت، بما في ذلك الأسلحة النووية، فضلاً عن شبكة الصواريخ وشبكة الصواريخ المضادة، وبالإضافة إلى سلاح الطيران المتقدم! ومن حقنا، تجاه هذا كله، أن نتساءل: ماذا يعني السلام الذي تفرضه القوة؟ وهل يقوى على الصمود أمام ثورة الكرامة الجريح المهانة للشعب العربي عاجلاً أو آجلاً؟ وهل في وسع السلام الحقيقي أن يقوم إلا إذا سار مع العدالة جنباً إلى جنب؟ وهل ثمة أقوى وأخطر شأناً من الكرامة والعدالة إذا حملا السلاح؟
بل من حقنا أن نتساءل فوق هذا وقبل هذا، كيف ننتظر من إسرائيل أن تجنح إلى سلم حقيقي صادق بعد أن وفّرت لها القوة الذاتية والمجلوبة أدوات التحكّم والسيطرة والغطرسة؟
وهل من باب مداواة الداء بالداء أن تقدّم الولايات المتحدة للنزعة العدوانية الأصيلة لدى الصهاينة وأبناء إسرائيل ما يوفّر لها التفتح والانطلاق والفعالية؟ وهل من وسائل توليد النظام العالمي الجديد الذي يدّعونه والذي يزعمون أنهم يريدونه نظاماً ديمقراطياً حرّاً وعادلاً، أن تستثنى إسرائيل من هذا النظام، وأن يُباح لها من العنف ومن الفاشية ومن وأد الديمقراطية ما لا يُباح لسواها؟ ولعلّ الجواب الضمني لبعض الدول الكبرى على هذا التساؤل هو أن قيم العدالة والحرية هي في حقيقة الأمر سلعة تُباع للضعفاء ويُباح تجاوزها للأقوياء! والحق أن أبناء الوطن العربي، ومعهم الكثرة الكاثرة من أبناء الدول الأخرى، ولا سيما النامية، بل معهم بعض يهود العالم الصادقين، يطرحون دوماً وأبداً سؤالاً واحداً: إلى متى تظل إسرائيل دولة ليست كأي دولة في العالم، يُباح لها ما لا يُباح لغيرها، وتستبيح لنفسها تحطيم أي قيمة إنسانية؟
3-4- وإنْ ننسَ لا ننسَ الثابت الكبير في السياسة الإسرائيلية، نعني تمزيق العرب ومحاولة قلبهم دويلات تصطرع، وطوائف تحترب، ومذاهب تعترك. وقد عمل الصهاينة من أجل هذا الهدف منذ بداية الحركة الصهيونية، وتجلّى ذلك واضحاً في تجزئة الوطن العربي بعد الحرب العالمية الأولى، تحقيقاً للمآرب المشتركة للاستعمار وللصهيونية. ثم تجلّى في حرب عام 1948 نفسها وما وقع فيها من انقسام في الصف العربي المحارب نفسه. وتجلّى بوجه خاص في الجهود الجبَّارة التي بذلتها إسرائيل من أجل تحطيم وحدة مصر وسورية.
وقد بلغ هذا الهدف، هدف تفتيت البلدان العربية، ذروته اليوم من خلال «استفراد» الدول العربية في مساعي السلام، ومن خلال الإمعان في تمزيق الصف العربي باسم السلام. وحسب إسرائيل ومن وراءها أن يؤدي مركب السلام إلى ما نرى ونشهد من إمحاء أدنى درجات التعاون والتضامن العربي. فمن البديهي أن تحطيم التضامن العربي، عن طريق مخطط السلام المزيف على نحو ما رسمته إسرائيل ومَنْ وراءها، مفتاحٌ سحري في يد إسرائيل من أجل فرض السلام الذي تريده، نعني سلام الحرب، سلام الإذعان والخضوع للسيطرة الإسرائيلية بأشكالها المختلفة، العسكرية والاقتصادية والثقافية.
غير أن هذا الثابت الأساسي بين ثوابت السياسة الإسرائيلية، نعني تمزيق الكيان العربي الموحّد، ليس سهل المنال، كما قد يُظن. فالوجود العربي الموحّد، مهما يبدُ عليه من أمائر التخاذل والضعف في مرحلة من المراحل، وجود مكين، عميق الجذور في نفوس أبناء الشعب العربي. والقضاء عليه لا يتم إلاّ بالقضاء على الذات العربية والثقافة العربية الإسلامية والهوية العربية. ومثل هذا المطلب مطلب متعذر مناف لطبائع الأمور. وقد دلّت شواهد التاريخ القديم والحديث على أن هذا الشعور العربي المشترك الحالّ في أبناء الأمة العربية كأقوى ما يكون الشعور بالهوية لدى أي أمة أخرى، استطاع أن يتجاوز المحن والمؤامرات والحروب والقوى الاستعمارية التي تكالبت عليه، وما أكثرها! بل إن هذه المحن زادته صلابة وتماسكاً والتفافاً حول ذاته. ولا بد له أن ينتفض ويسترد عافيته ووحدته عاجلاً أو آجلاً، بعد أن تتكشف له على نحو صارخ الأهداف الحقيقية لمحنة المحن التي يواجهها اليوم، ونعني بها محاولة إسرائيل ومَنْ وراءها إلغاء دوره في عملية السلام، بل إلغاء ذاته ووجوده باسم سلام زائف، يتمّ عن طريق القوة ومآله الاحتراب لا محالة.
4- ولعل خير ما يشهد على قوة الشعور العربي الموحد ومتانته، ما حدث بعد حرب عام 1948 من تعبئة شاملة للطاقات العربية في شتى الميادين، ومن مراجعة كاملة لأسس المجتمع العربي والسياسات العربية التي كانت سائدة قبل ذلك، على نحو ما يبيّن الكتاب الذي بين أيديكم. فنكبة فلسطين عام 1948 كشفت عن مواطن الضعف في الجود العربي الذي سبقها وعن وهن الأسس التي يقوم عليها. وقد أدّى ذلك إلى مراجعة فكرية نقدية واسعة، تجلّت في الأدب والنتاج الفكري، كما أدى إلى ردود فعل صارخة على الأوضاع والنظم السياسية التقليدية التي كانت سائدة، والتي كانت من أهمّ أسباب النكبة.
4-1- وهكذا ظهرت حركات حزبية وانقلابات عسكرية وتحوّلات جذرية في الحكم في البلدان العربية، مثلّت إلى حد بعيد رد فعل الكيان العربي على النكبة وأسبابها. وتمّ التالي انتزاع السلطة في كثير من البلدان العربية من القيادات السياسية التقليدية، وسادت في الساحة العربية أحزاب وحركات تقدمية (كحزب البعث العربي الاشتراكي في أكثر من بلد عربي وكحركة الضباط الأحرار وما أعقبها من ثورة 23 تموز/ يوليو في مصر، وكحركة القوميين العرب). كما اشتدت في البلدان العربية جميعها نزعات التحرر من الاستعمار وإسقاط الأحلاف الاستعمارية. وكان من نتائج ذلك إلغاء اتفاقية الجلاء بين مصر وبريطانيا في كانون الثاني/ يناير 1957، وتحرر بلدان المغرب العربي واحداً تلو الآخر، واستقلال الجزائر بوجه خاص في 5 تموز/ يوليو 1962، وإجلاء القوات البريطانية عن اليمن الجنوبية في 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1967، وإعلان استقلال الكويت في حزيران/ يونيو 1961، وتصفية القواعد الأجنبية في ليبيا بعد ثورة الفاتح من أيلول/ سبتمبر 1969، وتحرر البحرين بعد نضال طويل ضد الاستعمار البريطاني، وتحرر عُمان بعد نضال طويل أيضاً، وتحرّر سائر البلدان العربية بعد ذلك.
كذلك كان من نتائج نكبة عام 1948 نضالّ عنيد ضد الأحلاف الاستعمارية، وعلى رأسها «حلف بغداد» (الذي قام في 12/1/1955) و«مشروع إيزنهاور» (منذ عام 1957). هذا بالإضافة إلى عقد «اتفاق الدفاع العربي المشترك»، وانتهاج سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز، وبالإضافة إلى وقفة الشعب العربي في مصر (ومن ورائه سائر الشعوب العربية) في مواجهة العدوان الثلاثي في عام 1956. وقد توجت هذا كله الوحدة المصرية – السورية التي مثّلت أوج الصعود في المدّ القومي العربي.
وفوق هذا وذاك كان من نتائج حرب 1948 التركيز على أهمية بناء الجيوش الوطنية وتدريبها وإعدادها للمعركة. وقد تمّ ذلك بوجه خاص بفضل التحرّر من حصار الأسلحة الذي كانت تفرضه الدول الغربية على البلدان العربية.
4-2- هذه الآثار السياسية التي خلفتها نكبة عام 1948، سارت معها جنباً إلى جنب حركات فكرية وأدبية تولّت نقد بنية الوجود العربي والكشف عن مواطن الضعف فيه ورسم سبل تطويره وتحديثه. وقد عبّرت عن ذلك طائفة من الكتب والدراسات والدواوين الشعرية أشار إلى أهمها الكتاب الذي بين أيديكم. وقد كان منطلق هذه الأعمال الفكرية والأدبية جميعها الشعور بأن الهزيمة لم تكن سوى نتيجة لأمراض لها جذورها وأصولها في أعماق الحياة العربية، وأنها تعبير عن أزمة حضارية يُعاني منها الوجود العربي بأكمله، وأن تجاوزها لن يكون إلاّ عن طريق تحقيق تغيير بل انقلاب شامل في بنية ذلك الوجود ينطلق من نظرة جديدة وفلسفة جديدة ورؤية مستقبلية واعية.
ومن هنا لعب الفكر والأدب دور المحرِّض والباعث على ولادة هذه النظرة الجديدة. وقد تخيّر الكتاب الذي بين أيديكم نماذج قليلة من ذلك الفكر والأدب، معبّرة عن جملة ذلك النتاج إلى حد كبير. وتريث لهذا الغرض، في ما يتصل بالأدب، عند القصة والمسرحية وأهمّ الموضوعات التي تمّت معالجتها فيهما. وهي موضوعات تكاد تشمل المشكلات الرئيسية التي أدّت إلى نكبة عام 1948 (دور بريطانيا – أعمال الصهاينة الوحشية – سلوك قواد الجيوش العربية – الأسلحة الناقصة أو الفاسدة… إلخ). هذا بالإضافة إلى وصف اللاجئين العرب وبؤسهم والتعبير عما يحملونه من مرارة وحقد، وبالإضافة إلى وصف الآمال العربية والتطلع إلى طريق الخلاص. وقد تريث هذا النتاج الأدبي كذلك عند موضوع أساسي هو موضوع «الحنين إلى الديار» و«الأمل في العودة» و«الدعوة إلى الكفاح»، وخضّ ذلك الموضوع بعناية بارزة.
أما النتاج الفكري الذي أفرزته النكبة فقد تحدّث الكتاب الذي بين أيديكم عن جانب منه، متريثاً عند الصُّوى التي تمثّل أهمّ معالمه وأبرزها: كتاب عبرة فلسطين لموسى العلمي (1949)، وفيه يدعو إلى تجديد شتى جوانب الحياة العربية. وكتاب معنى النكبة لقسطنطين زريق (1948) وفيه يدعو إلى الإصلاح التطوري في مختلف نواحي الحياة القومية، وإلى أهمية مبادرة القادة والصنعة الذين يدفعون الإصلاح دفعاً حين يمثّلون الفكر التقدمي بأوسع معانيه وأعمقها. وكتاب النكبة والبناء لوليد قمحاوي (1956)، وهو كتاب ضخم يبرز فيه دور النخبة القائدة، ويبين عناصر البناء الرئيسية (المواطن العربي – التغيير الاجتماعي – التطوير الاقتصادي وجوهره التوزيع الشامل العادل للثروة – التطوير العلمي، وقوامه بناء نظام تعليمي لا طبقية فيه ولا تمييز، ونشر الثقافة العامة، وتنشيط العقل – والتطوير السياسي، وقوامه إقامة دولة عربية واحدة أو دويلات عربية متحدة). ثم كتاب الفعالية الثورية في النكبة لنديم البيطار (1965)، وفيه يقوم بجهد تأليفي تركيبي من أجل تحليل النكبة ورسم سُبُل الخروج منها. ويتحدّث، في ما يتحدّث، عن عجز الفكر العربي أمام النكبة، ويرسم له السُبُل التي ينبغي له السير فيها، ويرى في خاتمة المطاف أن من اللازم أن يقوم «تجديد عقائدي يؤدي إلى تجديد نفسي وروحي»، وأن ذلك التجديد يتمّ «عند قيام فلسفة حياة جديدة»، أي إيديولوجية جديدة تقدّم حلولاً أساسية جذرية للوجود العربي.
5- وقد يكون من العسير في هذه المرحلة أن نعقد مقارنة بين الآثار التي خلّفتها نكبة عام 1948 في شتى جوانب الحياة العربية، وبين الآثار التي يخلّفها اليوم ـ ويمكن أن يخلّفه في الغد ـ تراجع المدّ القومي العربي، ولا سيما مسيرة السلام.
ومع ذلك في وسعنا أن نصف وصفاً ناقصاً دون شك أبرز معالم تلك الآثار:
5-1- وعلى رأس تلك الآثار بروز النزعة التي تسمّي نفسها «واقعية» مبرّرة بذلك وهنها وتخاذلها. وتأخذ هذه النزعة مظاهر متعددة: منها إنكار الإيديولوجيات (والانسياق مع التيار السائد في بعض الدول المتقدمة بهذا الشأن، رغم التباين الصارخ بين أوضاع تلك الدول وأوضاع البلدان العربية). ويتبع ذلك إنكار التفكير المثالي واعتباره تفكيراً خيالياً سحرياً، والقول بأن «زمن الفاتحين» (في شتى مجالات الحياة العربية) قد انتهى، وأن مهمة البلدان العربية تقتصر على حماية نفسها من «الفتح المضاد»، وأن دورها الأساسي هو «تقليص الخسائر» والقبول بالأمر الواقع، وأن المشاعر الإنسانية ينبغي أن تكون لها الغلبة على المشاعر القومية بل عليها أن تنفيها… إلى آخر هذه المعزوفة.
وفي غمرة هذا الانحسار في المدّ العربي، ينسى هؤلاء أن «الواقعية» تعني الاستناد إلى الواقع من أجل تغييره لا من أجل «تدويمه» إن صحّ التعبير، وأن علينا، كما يقول سائر المفكّرين في العالم، أن ننطلق من العالم على نحو ما هو عليه، ولكن علينا ألا نقبله كما هو عليه، أي أن علينا أن نرفض «الجبرية» في مجرى الأحداث. وكما يقول الرئيس الفرنسي الراحل ميتران، في جوابه على من سأله: هل سيكون للاشتراكية مكان في فرنسا في المستقبل: «إن هناك دوماً مستقبلاً لمن يفكر في المستقبل ويعزم على صنعه». ولنا في الصهيونية وأحلامها التي تحقّقت، رغم إنكار الكثيرين من قادة اليهود لها في البداية، مثال صارخ. أو لم يقل رائد الصهيونية هرتزل في إحدى رواياته (وعنوانها: الأرض القديمة: الأرض الجديدة) عبارة غدت محرك الأجيال الصهيونية من بعده، وذلك حين قال في الرد على من يصف أفكاره بأنها أحلام: «لن تكون حلماً إذا أنتم عزمتم على تحقيقها»؟
5-2- ومن بين آثار هذا الانحسار والنفق القومي المظلم، إنكار الوحدة العربية، بل إنكار وجود أمة عربية واحدة. والردّ على هذه الردة أمر يستغرق الصفحات الطوال(1)، وحسبنا أن نقول إن الحجة التي يقدمها أصحاب هذا المنزع هو ما يرون من تشتت الصف العربي وتصارعه أحياناً. والرد على هذه الحجة هو أن هذا التشتت «برهان بالخُلف» كما يقول المناطقة على أهمية العمل والنضال من أجل تعميق الوعي العربي المشترك. وبتعبير آخر، إن ما نشهد من فرقة وشتات هو نتيجة (وليس سبباً) لغياب العمل الجاد من أجل إذكاء الوعي العربي وتمتين الروابط بين أبناء البلدان العربية. ولا حاجة إلى القول إن الشعور القومي لدى أي أمة من الأمم، مهما يكن أصيلاً ومستنداً إلى عوامل موضوعية، يحتاج دوماً إلى إذكاء وتعبئة، وإن الوحدة القومية لا تتم من تلقاء ذاتها سهواً رهواً، بل لا بد من العمل اليومي الدائب في سبيلها، ولا بد من رسم الصور المرحلية التي ينبغي أن تأخذها عبر الزمن. فالقومية، شأنها شأن أي حركة اجتماعية، لا بد أن تمر بمراحل تطور مختلفة. وهذا التطور لا يتم من تلقاء ذاته ولا يُترك وشأنه، بل لا بد أن يهديه عمل فكري وسياسي منظَّم. ونجد – مع الأسف – في مسيرة القومية اليهودية نفسها (ولا سيما في مرحلة الفكر الصهيوني) مثالاً واضحاً على هذه الحقيقة(1). بل لنا في ولادة الولايات المتحدة الأمريكية نفسها وتكوينها دولة اتحادية، بعد أن كانت مجزأة إلى ثلاث عشرة ولاية مضطهدة ومستعمرَة، مثال بارز آخر، لا سيما أن تكوّن الدولة الاتحادية كان نتيجة نضال طويل وجهود مضنية قادها دعاة الاتحاد بوجه خاص، من أمثال هاملتون وماديسون وجي(2).
وفي الجملة، أفلا يحق لنا أن نقول عن الوحدة العربية ما قاله ميتران عن الوحدة الأوروبية: «إن فرنسا وطني ولكن أوروبا مستقبلي»؟ وهل من مستقبل للأمة العربية، في عصر الكتل الكبيرة وفي مواجهة المطامع الإسرائيلية وما وراءها، إلا التكتل العربي وتكوين كيان عربي متكامل فعّال؟
ونقول عابرين، في الرد على من يخال أن ثمة تناقضاً بين الدعوة القومية والدعوة الإنسانية، إن الدعوة القومية هي الدعوة الإنسانية الحقّة، وإن إبداع الإنسان إبداعاً مبتكراً من أجل أمته والإنسانية لا يكون إلاّ إذا انغمس في حياة أمته وشعبه، يعمل من خلالها من أجل وطنه ومن أجل الإنسانية. والمشاركة الحقة في العطاء العالمي والمغامرة العالمية لا يمكن أن تمم إلاّ بواسطة الأمة. وبدون ذلك، يصبح تاريخ الإنسانية صراعاً مستمراً بين الأمم. وفي داخل الوطن العربي، لا وقاية من الصراع بين الدول العربية إلاّ إذا قام كيان ناظم للعلاقات فيما بينها، على نحو ما جرى في الدول الاتحادية الأمريكية التي نظّمت الصلات بين الولايات المختلفة. فالجوار بين الدول، كما قال ماديسون، أبرز رواد الوحدة الأمريكية، يولّد الخصام لا الوئام. ولا ينقذ الدول المتجاورة من الخصام إلا وجود هيئة ناظمة للعلائق فيما بينها، لها سلطة فعلية عليها (كما حدث في الولايات المتحدة).
ولعل من المفيد، في مجال بيان العلاقة المتبادلة بين القومية والإنسانية، أن نذكر عبارة المفكّر الفرنسي الشهير ادغار موران في حديثه عن العلاقة بين الوحدة الأوروبية والعالم (وهي علاقة تصدق على أي كيان موحد، وتصدق على الكيان العربي بوجه خاص) في كتابه الشهير: التفكير في أوروبا الذي صدر عام 1987: «إن علينا أن نعيد تجذّرنا في أوروبا كي ننفتح على العالم، كما أن علينا أن ننفتح على العالم كي نعيد تجذّرنا في أوروبا». ذلك أن الانفتاح والعودة إلى استقاء الينابيع أمران مترابطان، كما يقول أيضاً.
5-3- ومن أبرز أمائر الفكر الذي يسود في مرحلة الانحسار القومي التي تمرّ بها الأمة العربية، ذعر بعض المفكّرين وسواهم من إسرائيل وسلطانها وسلطان مَنْ وراءها، الأمر الذي يبرر عندهم الانجراف مع التيار الذي تفرضه إسرائيل وقبول ما تمليه دون قيد أو شرط. وليس هنالك من ينكر قوة إسرائيل العسكرية والثقافية، وليس هنالك من يجهل دعم الولايات المتحدة وسواها من الدول الغربية لها دعماً لا حدود له، غير أن علينا أن نضع في مقابل هذا التفوق الإسرائيلي مواطن القوة عند العرب:
5-3-1- فالوطن العربي، إذا تآخذت أوصاله وكان كالجسم المرصوص، يملك طاقات مادية ومالية وبشرية وسياسية كبيرة، ويملك طاقات عسكرية واستراتيجية لا يُستهان بها، ويملك من ورائه قوى عالمية كثيرة يُمكن أن تكون إلى جانبه – هذا إنْ أحسن الإفادة من طاقاته المادية والاستراتيجية والدبلوماسية – ويملك رصيداً إسلامياً تتجاوز عدته مليار إنسان… إلخ.
5-3-2- ثم إن من الوهم الظن بأن الوجود الإسرائيلي قادر على التغلب على الوجود العربي، مهما يربح من معارك، بل العكس هو الصحيح: فهو مطوق بـ «البحر العربي»، وهذا الطوق إذا أُحكم ربطه يشدّ على خناقه. ولقد شكت إسرائيل وتشكو دوماً من «عجز النصر» كما سبق أن قلنا. فالنصر العسكري، مهما يكن حجمه، لن يخرجها من عزلتها ولن يتيح لها أن تسوق حياة طبيعية، وسوف يجعل منها دوماً، كما قلنا، مجرد «جهاز عسكري له دولة».
5-3-3- وفوق هذا وقبل هذا، يُقابل القوة العسكرية والثقافية لإسرائيل ضعف معنوي مقيم في كيانها، قوامه افتقارها إلى هوية صادقة حقة، واصطراع التيارات المختلفة فيها منذ قيام الصهيونية حتى اليوم صراعاً لا هوادة فيه حول معنى ومبرر وجودها وحدود ذلك الوجود. وقد برز هذا الصراع واضحاً جلياً في مقتل رابين. وهذا التمزق في «هوية إسرائيل» سوف يزداد خطره، ولا سيما في حال تحقيق السلام، وهو بمثابة قنبلة موقوتة يُمكن أن تفجّر الكيان الإسرائيلي، كما اجمع على ذلك عدد كبير من المحللين في داخل إسرائيل وفي الغرب، لا سيما عند البحث في مشكلة المستوطنات ومشكلة اللاجئين ومشكلة القدس(1). ويرجع هذا التمزق في هوية إسرائيل إلى علل عريقة في التاريخ اليهودي منذ أقدم العصور (وإلى التفسيرات المتباينة للتوراة والتلمود، والاجتهادات المتعددة بشأن الشريعة اليهودية – الهالاخا) وإلى العجز عن تعريف «اليهودي» واضطرار بن غوريون إلى تفسير الماء بالماء حين قال: «إن اليهودي هو الذي يشعر بأنه يهودي». كما يرجع إلى الصراعات الإيديولوجية التي رافقت ولادة الصهيونية، والتي رافقت مخاض دولة إسرائيل بعد ذلك، والتي ذرّ قرنها بعد قيام الدولة، واشتد أوارها بعد حرب عام 1967، بوجه خاص، والتي اشتعلت نارها وأخذت مظاهر صارخة بعد انطلاق محادثات السلام.
لقد أدى الضعف المعنوي والصراع الإيديولوجي في الاتحاد السوفياتي إلى انهياره رغم قوته العسكرية والتقانية الضخمة. ورغم الفارق بين الحالين، قد يؤدي الوهن المعنوي إلى انهيار إسرائيل رغم قوتها العسكرية والثقافية، لا سيما إذا أذكى هذا الوهن عملٌ عربي واع ومنظّم، أو الصراع المرتقب بين القوى الكبرى في العالم، أو ضيقّ العالم عاجلاً أو آجلاً بمناورات إسرائيل وألاعيبها ومطالبها. ويؤكّد هذا الاحتمال أن إسرائيل تكاد تفقد مبررات وجودها أمام الرأي العام العالمي. فلا هي استطاعت أن تجمع يهود الشتات، ولا هي استطاعت أن تحقّق رغبة الغرب – حين أوجدها – في أن يتخلص من أعباء الوجود اليهودي في دياره، وأن يجد حلاً نهائياً لمشكلة اليهود لا يؤرّقه بعده مؤرّق. فإسرائيل اليوم تحمّل الوجود الغربي من مشكلاتها وأعبائها ومستلزمات المحافظة عليها أكثر بكثير مما يمكن أن يحتمل من جراء وجود اليهود في دياره. بل إن هذا الوجود اليهودي في بلدان الغرب ازداد شراسة وانعزالاً وطغياناً على سواه وتحكّماً في مصير العالم بعد قيام دولة إسرائيل.
5-4- وأخيراً، يبرز تيار يرى أن السلام مع إسرائيل – أياً كانت صبغته – سوف يجلب الرخاء الاقتصادي والاجتماعي للمنطقة بأسرها (منطقة الشرق الأوسط). ومناقشة مثل هذا الرأي يلتهم الصفحات الطوال، وقد كُتب حوله الشيء الكثير. وحسبنا في الرد عليه أن نقول بلغة أشبه بلغة البرقيات: إن التفاعل الاقتصادي بين مجموعة من الدول يُمكن أن يؤدي إلى نمو اقتصادي في هذه البلدان جميعها، وأن يكون أشبه بالتفاعل الكيميائي الذي يخرج منه مركب جديد أفضل. ولكن هذا يشترط أن يقوم هذا التفاعل أصلاً انطلاقاً من هذا الهدف، أي أن يُصاغ بشكل يؤدّي إلى بلوغ هذا الهدف. فنحن لان نستخرج من الأشياء إلاّ ما نضعه فيها. ومن الواضح – في حال التفاعل الاقتصادي بين الدول العربية وإسرائيل – أن مثل هذا التفاعل لن يُرسَم لمصلحة الجميع، ومن أجل إجزال المردود الاقتصادي للمنطقة بكاملها، بل يتمّ رسمه – كما نرى ونشهد منذ اليوم – من خلال تحقيق الغلبة والهيمنة الاقتصادية لإسرائيل. إن الدول الأوروبية تحاول في سعيها إلى الوحدة الاقتصادية الواسعة ثم إلى الوحدة السياسية، أن تحقّق وحدة اقتصادية تعود عليها جميعها بالفائدة. ولكنها تفعل ذلك من خلال عمل دؤوب وطويل ومدروس يقوم به مجلس الوحدة الاقتصادية الأوروبية، وتلقى في ذلك عنتاً وتواجه صعاباً على الرغم مما بينها من أواصر القربى الحضارية والفكرية. أما الوحدة الاقتصادية التي يدعو لها أنصار الشرق الأوسط الجديد، فهي تقوم بين جبهتين متعاديتين، وتسير وفق الخطوات التي ترسمها إسرائيل ومَنْ وراءها. ولعلّها تريد في نهاية المطاف أن تحقّق ما قاله شمعون بيريس حين وزّع النشاط الاقتصادي المنشود بين التقانة الإسرائيلية واليد العاملة العربية وأموال النفط (ومياه تركيا أيضاً)، وذلك كله من أجل إسرائيل أولاً وآخراً. فالتقانة الإسرائيلية في حاجة إلى يد عاملة رخيصة (تأمل أن توفّرها من مصر بوجه خاص)، وأموال تستثمرها تقدّمها لها البلدان النفطية، ومياه ترويها تقدّمها لها تركيا بوجه خاص، فضلاً عن تقاسم المياه مع بلدان عربية أخرى (كالأردن ولبنان وسورية). وحسبنا أن نقرأ كتاب بيريس «الشرق الأوسط الجديد» لندرك أبعاد التعاون الاقتصادي كما تعنيه إسرائيل.
يُضاف إلى هذا أن تحقيق اكبر فائدة ممكنة من التفاعل الاقتصادي مع إسرائيل يفترض قام تنسيق اقتصادي وسياسي كامل ومتكامل فيما بين البلدان العربية. وهذا ما نجد عكسه حتى اليوم، في شتى المؤتمرات الاقتصادية التي عقدت تحت مظلة السلام، وفي شتى الاتفاقات التي قامت ـ قبل الأوان ـ بين بعض البلدان العربية وإسرائيل. والحقّ أن الوحدة الاقتصادية المجدية، حتى فيما بين البلدان العربية وحدها، ينبغي أن تكون رديفاً لوحدة العمل السياسي ونتيجة له، ولا يمكن أن تأتي قبلها أو بدونها.
ولا ننسَ أخيراً أن النظام الاقتصادي الشرق أوسطي، الذي يجري الحديث عنه، يتمّ في إطار الربط بينه وبين الاقتصاد العالمي وبين رؤوس الأموال الأجنبية ولا سيما رؤوس الأموال الأمريكية اليهودية وسواها. وهذا الانفتاح العالمي في أفضل أحواله هو دوماً في مصلحة الدول المتقدمة، وهدفه الأساسي في معظم الأحيان جعل الدول النامية سوقاً استهلاكية لبضائع الدول المتقدمة. فما بالنا عندما يتمّ هذا الانفتاح في إطار الانفتاح أو الغرق في خضم الاقتصاد الإسرائيلي واليهودي العالمي، وفي إطار سيطرة الشركات متعددة الجنسية، وفي إطار غلبة سوق المال في العالم كله على الاقتصاد، وخضوع الاقتصاد للمصارف والشركات المموّلة الكبرى التي تسيطر على 80% من حركة انتقال الأموال في العالم؟
6- وبعد، إن تذكّر نكبة عام 1948 والرجوع إلى ذيولها وآثارها السياسية والفكرية والأدبية، كما رأينا، يثير لدى المواطن العربي اليوم، الذي بعدت الشقة بينها وبينه، شجوناً كثيرة، ويُقدّم عبراً ودروساً قمينة بالتأمل:
لقد أدت نكبة عام 1948 ومن بعدها حرب الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967، إلى انتفاضة الكيان العربي بكامله، ينظر في النكبة ويحلّلها ويبيّن عواملها وأسبابها ويرسم سبل الخروج منها. وقد لا نغالي إذا قلنا إن نكبة عام 1948 وكارثة عام 1967 أدّتا إلى انتصار الفكر على السياسة، وإلى ظفر المثقفين على الساسة، إذ أتاحت لهؤلاء المثقفين حرية فسيحة أدّت إلى تعرية الوجود العربي واتهام كل ما فيه، إنْ لم نقلْ إنها أدّت إلى عملية «جَلد للذات». ومهما يكن من أمر، ففي وسعنا أن نقول إن الأمة العربية التي هُزمت في تينك المعركتين، شعرت شعوراً حادّاً بأنها خسرت المعارك ولكنها لم تخسر الحرب، وأنها لم تهزم بل غُلبت على أمرها إلى حين، لعوامل كان من الممكن اجتنابها، وأن عليها بالتالي أن تعبئ نفسها من جديد تعبئة أوعى وأقدر. وهذا ما تجلّى واضحاً في ذلك المؤتمر الذي عقدته «جمعية الخريجين الكويتية» حول «أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي» عام 1974، والذي شاركت في أعماله نخبة من كبار رجال الفكر في الوطن العربي(1). وهذا ما استبان أيضاً في سلسلة المحاضرات التي ألقيت في دار الندوة اللبنانية ببيروت عام 1968، تحت عنوان: «بعد الخامس من حزيران 1967»، والتي تولت إلقاءها نخبة من المفكّرين، وفي ما لا يحصى عدده من المؤتمرات والندوات والكتابات. ولعلّ حرب عام 1973 بعض نتائج تلك التعبئة القومية.

وقد لا يكون من السرف أن نقول إن ما جرى في البلدان العربية وما سرى في الفكر العربي والشعور العربي بعد تلك الحرب يمثّل انقطاعاً عن الروح التي أذكت تلك الحرب والتي سادت بعد الكارثتين، ولا يمثّل بالتالي امتداداً لها وإمعاناً فيها. ولعلّ النجاح النسبي الذي حقّقه العرب في معركة عام 1973 ولَّد لديهم ضرباً من الشعور بالطمأنينة. ولعلّ الشعور بالتكافؤ النسبي مع العدو ساعد على لأم الجراح، وأضعف «الحاجز النفسي» القوي الذي كان يقوم بين العرب وعدوهم.
على أن مشاعر النقمة والعداء والثورة استيقظت من جديد بعد احتلال إسرائيل للبنان عام 1982، ذلك الاحتلال الذي جعل فيلسوف إسرائيل الشهير ليبوفتش (وهو متديِّن وصهيوني) يصف إسرائيل بأنها «دولة يهودية نازية» (وقد صرح من قبل أن «حرب الأيام الستة كانت وبالاً على إسرائيل وكارثة تاريخية»)، والذي جعل الشاعر الإسرائيلي يهونتان غيفن يقول – بعد مذبحة صبرا وشاتيلا – : «للمرة الأولى في حياتي أشعر بالخجل لكوني مواطناً في دولة إسرائيل، تلك الدولة التي ينعدم فيها القلب والعقل وتبقى العضلات».
وعلى الرغم من النقمة التي خلّفتها حرب لبنان داخل إسرائيل وخارجها، وعلى الرغم مما أثارته في نفوس أبناء الأمة العربية من ثورة عارمة، وما أحدثته من جراح عميقة، فقد ظلّت مقصرة عن أن ترفع المد العربي إلى مستواه الواجب، لأسباب عديدة لا مجال للتفصيل فيها هنا، على رأسها انعزال مصر عن الصف العربي بعد اتفاقية كامب ديفيد.
ثم جاءت حرب الخليج الأولى وحرب الخليج الثانية وما رافقهما وتلاهما من تمزّق الكيان العربي وبُحرانه وضياعه، ومن سيطرة القوى الأجنبية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، على مقادير الأمور في معظم البلدان العربية. وأدّى ذلك كله إلى انتشار موجة من اليأس والقنوط لدى أبناء الأمة العربية حول مستقبل الأمة العربية.
ووسط هذا الجو من الانحسار القومي والشكوك والتساؤلات عن مصير العرب، أطلق الرئيس الأمريكي جورج بوش مبادرته من أجل عقد مفاوضات سلام بين العرب وإسرائيل! وقد صحّت توقعاته وتوقعات إسرائيل حين تم اختيارهما هذا التوقيت لبدء محادثات السلام، فازداد العِقد العربي انفراطاً، وتمّت المفاوضات وسط جو قاتم من التخاذل العربي، وقام العرب بعملية «انهزام إلى أمام»، فسارع بعضهم إلى الهزيمة خفافاً، وتسابقوا «على الإثم»، وأحجموا حتى عن استخدام «الأوراق الرابحة» التي في أيديهم والتي تمكّنهم من استخراج أفضل النتائج الممكنة من مساومة مع العدو سلّموا منذ البداية بأنهم فيها «الخاسرون».
وكان أخطر ما في هذه المفاوضات قبول بعض المعنيين بها بأن تكون مفاوضات منفردة، تتم مع كل طرف على حدة. وبهذا لم يضعفوا عملية التفاوض فحسب، بل وضعوا السلام منذ البداية على «قطار الفرقة العربية»، وحمّلوه، وهو وليد، أخطر معانيه، نعني تفتيت الأمة العربية والإحاطة بوجودها المتكامل الذي هو شرط بقائها في الحرب والسلم.
على أن الكثرة الكاثرة من أبناء الأمة العربية لا تزال على إيمانها الراسخ الذي يزيد في تأكيده وتعميقه ما يجري على الساحة العربية كل يوم، ولا تزال تحمل مشاعرها القومية التي تجلّت قبل نكبة عام 1948 وبعدها. وهي تنظر إلى مجرى عملية السلام من خلال مشاعر متعدّدة، فيها المرارة وفيها الرفض وفيها الأمل. غير أن التحليل الموضوعي لمواقفها يكشف في خاتمة المطاف عن أنها تقبل الانتظار والترقّب إلى حين، وتقبل بعض «الهدنة المفروضة»، ولكنها وراء ذلك كله تراقب وتحاسب وتؤيد المواقف الصلبة في سير المحادثات وتتمنى المزيد منها، ولا تقبل الهزيمة أمام إسرائيل باسم السلام، مهما يكن شكلها؛ وتنكر التفريط بأي شبر من الأرض العربية، تلك الأرض التي هي ملك الأجيال العربية الحاضرة والمقبلة؛ ولا تقبل التطويح بالوجود العربي الموحّد، مصدر القوة والعزّة، والركض وراء وهم خادع، وسراب سلام ليس فيه من السلام إلا الوجه الآخر للحرب، وهو وجه أدهى وأمرّ، وهدفه في خاتمة المطاف خلق «إسرائيل العظمى». ولعلها تردّد في أعماقها معنى كالذي عبّر عنه الشاعر القروي منذ عقود:
أتيناهم بإنجيل المسيح فجاؤونا بآيات الفتوح
بل لعلها تذكر بيته الشهير:
أما السلام فإننا أعداؤه حتى يدين بحبه أقوانا
بل لعل صفوتها تعيد إلى الأسماع بيت أبي العلاء المعري، بكل ما فيه من عمق الدلالة وبكل ما يعنيه وسط مجرى الأحداث اليوم:
إذا كان ذعري يورث الأمن فهو لي أحبّ من الأمن الذي يورث الذعرا

دمشق، 17/5/1996
عبد الله عبد الدائم