مترجم عن برغسون بالاشتراك مع سامي الدروبي
الإصدار:الثانية – 1984
الناشر: دار العلم للملايين – بيروت

تصدير الطبعة الثانية 5
تصدير 18
الفصل الأول: الإلزام الأخلاقي
الطبيعة والمجتمع – الفرد في المجتمع – المجتمع في الفرد – الخضوع التلقائي – مقاومة المقاومة – الإلزام والحياة – المجتمع المغلق – نداء البطل – قوة الانفعال الدافعة – الانفعال والخلق – الانفعال والامتثال – تحرر النفس – المضي قدماً – الأخلاق المغلقة والأخلاق المفتوحة – احترام الذات – العدالة – في المذهب العقلي في الأخلاق – التربية الأخلاقية – الترويض والصوفية 33
الفصل الثاني: الدين السكوني
في اللامعقول لدى الكائن العاقل – الوظيفة الخرافية – الخرافة والحياة – معنى «الوثبة الحيوية» – الوظيفة الاجتماعية للخرافة – نماذج عامة من الخرافة المفيدة – الأمان من الفوضى – الأمان من الخور – الأمان من الطوارئ – في المصادفة – العقلية البدائية لدى المتحضر – التجسيد الجزئي للحادث – في السحر عامة – السحر والعلم – السحر والدين – إجلال الحيوانات – التوتمية – الاعتقاد بالآلهة – العبث الأسطوري – الوظيفة الخرافية والأدب – في وجود الآلهة – الوظيفة العامة للدين السكوني 121
الفصل الثالث: الدين الحركي
معنيا كلمة دين – لماذا نستعمل لفظة واحدة؟ – التصوف اليوناني – التصوف الشرقي – أنبياء بني إسرائيل – التصوف المسيحي – التصوف والتجديد – القيمة الفلسفية للتصوف – في وجود الله – طبيعة الله – الخلق والحب – مسألة الشر – البقاء بعد الموت – في التجربة والاحتمال في الميتافيزياء 221
الفصل الرابع: نظرات أخيرة – الآلية والصوفية
المجتمع المغلق والمجتمع المفتوح – بقاء الطبيعي – صفات المجتمع الطبيعي – المجتمع الطبيعي والديمقراطية – المجتمع الطبيعي والحرب – العصر الصناعي – تطور الميول – قانون الانقسام الثنائي – قانون الحميَّا المزدوجة – إمكان العودة إلى الحياة البسيطة – الآلية والصوفية 275
تقضّى على ظهور كتاب «منبعا الأخلاق والدين» (عام 1932) نصف قرن، ومضت على ترجمتنا العربية له قرابة أربعين عاماً.
ومع ذلك، ما تزال المشكلات التي طرحها برغسون في كتابه مشكلات حية، إن لم نقل إنها أصبحت اليوم، بعد أن أغذّ التطور العلمي والتكنولوجي في مسيرته حاملاً معه وعود الحضارة ومآسيها، أشد حرارة وقسوة.
لقد عالج «برغسون» في مؤلفاته الأولى مسائل فلسفية هامة، انطلاقاً من نظرته البيولوجية والميتافيزيقية المبتكرة الفذّة، ضمّنها بوجه خاص ما كتب عن «الزمان والحرية» (1889) و«المادة والذاكرة» (1896) و«التطور الخلاق» (1907). غير أنه لم يستخرج من هذه الأنظار التي بثها عبر عطائه المديد ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بأهم جانب من حياة الإنسان العملية الواقعية، نعني الحياة الأخلاقية والدينية.
حتى إذا داهمته الشيخوخة وآلامها وتساؤلاتها الممضّة، توّج نتاجه الغزير بهذا المؤلف اللصيق بهموم الإنسان والإنسانية، «منبعا الأخلاق والدين»، وخرج فيه من برج الفلسفة ومن تجارب البيولوجيا ومن شطحات الميتافيزياء إلى محطّ الرحال لأي فكر يتوق إلى أن يكون ذا أثر في واقع الحياة العملية، نعني رسالة الإنسان على الأرض ومصيره في هذا الكون ومسؤوليته عن قيادة هذا المصير.
ومن هنا وجد بعض النقاد والشراح لفلسفة برغسون أن ثمة انقطاعاً بين هذا الكتاب وبين مؤلفاته السابقة. والحق أن برغسون ظلّ في هذا الكتاب مخلصاً للمنطلقات الدائمة التي وجهت فلسفته، وظل أميناً لمنهجه في البحث، ذلك المنهج القائم على اعتماد التجربة الصادرة عن الحدس أساساً وعُدَّة. وكل ما في الأمر أنه صبّ هذا المنهج على مشكلات جديدة، طرحتها الشيخوخة وطرحتها خاصة طائفة من التجارب العملية التي مرّ بها: فلقد قُيض له أن قام بمهمات عديدة تتصل بالحرب العالمية الأولى قادته إلى لقاء الرئيس الأميركي «ويلسون Wilson» وقادته بعد ذلك إلى أن يترأس لجنة التعاون الدولي (عام 1922) التي كونتها «عصبة الأمم» آنذاك، كما أسهم إسهاماً فعالاً ومباشراً في الأعمال التحضيرية التي تمت لإصلاح التعليم في فرنسة في تلك الفترة نفسها. ولا شك أن هذه المشاركة الحية في نشاطات إنسانية ودولية وقومية بارزة، خلّفت آثاراً في فكره ولعلها صاغته صياغة جديدة.
والحق إن برغسون، في كتابه هذا، يتصدى لأدهى مسألة واجهت الإنسان منذ وجد وما تزال تواجهه متحدية صارخة حتى اليوم، نعني مسألة الأخلاق والدين وما يرتبط بهما من أمور الحياة السياسية، بل ما يتصل بهما من تأمل عميق في رسالة الإنسان ومصيره ودوره في صنع العالم الإنساني المنشود.
وليس غرضنا في هذا التصدير الموجز أن نقف عند أفكار برغسون حول هذه المسألة بكاملها، وقد لمسنا جانباً منها في مقدمتنا للطبعة الأولى من الترجمة. وحسبنا أن نشير – بلغة برقية – إلى أهم الصُّوى في تفكيره الأخلاقي والديني، لتكون عوناً لنا على وقفة أطول وأهم نريد أن نخصّ بها أنظاره حول مستقبل الإنسان ووعود الحضارة البشرية، ما دامت هذه المسألة الأخيرة قد أصبحت الهم الأول للباحثين في حضارة الإنسان أيامنا هذه، وما دام البحث فيها مقدماً في نظرنا على أي بحث آخر، لأنها تصيب صميم الأزمة التي يعانيها الإنسان المعاصر ويجهد للخروج منها.
يرى برغسون، بإيجاز، أن ثمة منبعين للأخلاق، الإلزام من جانب، والصبوة والتطلع من جانب آخر. أما الأول فنجده في المجتمعات «المغلقة»، في المجتمعات الصغيرة والقديمة، حيث يطوّق الفرد نطاقٌ من العادات والأوامر الاجتماعية الملزمة، التي ينفذها حرصاً على طمأنينته النفسية وائتلافه مع المجتمع دون أن يفكر فيها. وهو بهذا يسير في اتجاه الغريزة إلى حد كبير، ويجهد ويعمل كما تجهد خلية النحل، دون أن يتساءل عن مصير جهده.
وفي مقابل هذه الأخلاق السلبية الآلية الخانعة، يقوم منبع آخر للأخلاق، هو وليد اللحظات النادرة الخلاقة في تاريخ الإنسان، ومن نتاج أبطالٍ كبار يملكون من الطاقة الحيوية والانفعالية المجددة ما يمكّنهم أن يقودوا الناس ويسيروا بهم نحو عدالة جديدة وأخوة جديدة وفهم جديد لذاتهم ولواجباتهم. ومثل هؤلاء الأبطال هم وحدهم القادرون، بفضل طاقتهم الانفعالية المشعّة، على أن يحطموا جمود المجتمع، وأن يجمعوا الآخرين حولهم كما يجتمع الفراش على النور. وهكذا تولد الأخلاق «المفتوحة» وإن ظلت بينها وبين الأخلاق المغلقة صلات ومدّ وجذب.
ومثل هذه الثنائية التي يرسمها برغسون في ميدان الأخلاق، يجدها في ميدان الدين. فهناك الأديان البدائية القائمة على الخرافة والوهم والسحر وسواها، وهنالك الوثبة الصوفية التي تتجلى لدى كبار الأنبياء والمصلحين، والتي تجاوز المقاصد النفعية الضيقة للديانات الساكنة، وتُحل محلها ديانات ترقى إلى أعلى مراتب القيم الروحية والمحبة الإنسانية. وبين الديانتين فرق في الطبيعة لا في الدرجة. فالحب الذي يستحوذ على الصوفي ليس هو حب الإنسان لله فحسب، بل «هو حب الله لجميع البشر». و«من خلال الله وبالله يحب الإنسانية كلها حباً إلهياً». وهؤلاء الأنبياء الكبار، حين ينشرون في الجو عبق «التصوف» بالمعنى الواسع للكمة،
لا ينطلقون من عدم، بل ينطلقون من الديانات القائمة، من الأفكار التي طبعها فيهم الدين، سوى أنهم يرسمون تعاليم الدين ونصوص العقيدة «بأحرف من نار». وليست وظيفتهم في خاتمة المطاف سوى «إذكاء الدين بما يضطرم في نفوسهم من أُوار». إنهم يتفقون على أن «بالله حاجة إلينا كحاجتنا إليه»، وهو يحتاج إلينا ليحبنا ولنحبه ولنحب الإنسانية فيه.
والتجربة الصوفية، في رأي برغسون، هي المصدر العلمي التجريبي الوحيد الذي نملكه إذا نحن أردنا أن نستبين حقيقة الدين وندرك وجود الإله ونعي ما يطلبه من الإنسان. فمن رأى حجةٌ على من لم يرَ. والصوفي رأى وعانى التجربة وسار في طريق الوجد والاتصال. وما يحدثنا به عن ذلك كله تجربة نفسية حقة واقعة لابد أن نأخذها بعين الاعتبار، لا سيما إذا أدركنا أن كبار المتصوفة – وكل منهم عانى تجربته في معزل عن الآخر إلى حد بعيد – يلتقون على تأكيد تجارب واحدة مروا بها جميعاً. ولا يعني برغسون بالصوفي جمهور المتصوفة الذين عرفتهم الديانات المختلفة فحسب، بل يعني به أيضاً كل من عرف الوصول المباشر، وسقى من نبع الحياة الإلهية، وعلى رأسهم الأنبياء. ولا أدل عنده من اتصالهم بالحق والحقيقة، أن أحاسيسهم تهزّ منا أوتاراً وإن لم نرق إلى شأوهم، وتحرك فينا دفيناً يفصح عن أن هذه المنازع أصيلة كامنة في النفس الإنسانية، غير أنها لا تعي ذاتها دوماً، حتى إذا أثارها من هو أعمق اتصالاً وأغنى معاناة اهتزت لها حياتنا ورَبَت وأينعت.
وأهم ما نخلص إليه من هذا كله أن الأبطال والأنبياء وكبار المصلحين، يريدون أن ينقلوا إلى الإنسانية كلها سر الخلق وأغراضه وأن يبدلوا الإنسانية ويخلقوا النوع الإنساني خلقاً جديداً عن هذه الطريق.
وإذا أردنا ترجمة لهذا كله، بلغة العقل لا بلغة الدين، قلنا إن هؤلاء الأبطال الكبار يتصلون بعالم القيم الإنسانية الكبرى، ويملأونه بالحرارة والقوة، ليجعلوا منه رائداً للإنسانية في مسيرتها. أو قل، بتعبير آخر، إن في طبيعة الإنسان أوجهاً ثلاثة: وجه متصل بالغريزة وحاجاتها المباشرة، ووجه متصل بالمجتمع وأوامره وتقاليده، ووجه متصل بالتطلع إلى القيم الإنسانية الكبرى. والإنسان – رغم انطلاقه من واقع الغريزة وحاجته إلى امتصاص تجربة المجتمع – لا يكون إنساناً حقاً إلا إذا علا بعد ذلك فوق الغريزة وفوق المجتمع، ليصوغهما صياغة جديدة من خلال ذلك التطلع الطبيعي والأصيل عنده، تطلعه إلى القيم الإنسانية الكبرى، القادرة وحدها على توجيه حياة الإنسان وجهة سديدة.
من خلال هذه الترجمة العقلية، يمكن أن تأخذ فلسفة برغسون في الأخلاق والدين كامل معناها ومداها. فإذا كان التوثب إلى القيم الإنسانية الكبرى، قيم الحق والعدل والخير والجمال، توثباً طبيعياً فطرياً، شأنه في ذلك شأن الغريزة والتوافق مع بنيان المجتمع، كان أملنا في تقدم الإنسانية أملاً له منطلقه البيولوجي العلمي، وكان لتفاؤلنا بمستقبل الإنسان ما يؤيده ويسعده.
والحق أن برغسون، حين ينتقل إلى تطبيق نظريته في الأخلاق والدين على مشكلات الواقع السياسية وعلى مشكلات التقدم الإنساني والحضارة الإنسانية، يقدم حلاًّ قريباً مما تصورناه، في هذه الترجمة العقلية لأفكاره، فيما نعتقد:
ففي خاتمة كتابه (فيما سماه نظرات أخيرة)، يبيّن هذه العلاقة الجدلية بين منزعين كلاهما طبيعي «سارا في حُميّا ونزق»: أولهما أن الطبيعة – وهي عنده ثابتة واحدة منذ وجد الإنسان، وما سوى ذلك قشرة مكتسبة من خلال التجارب المكتسبة التي لا تنتقل بالوراثة – حين ركّبت الإنسان ركبت معه منازع عدوانية وأنانية وتسلطية. ومن هنا كانت الحروب وكان العسف والطغيان، وكان السيد والمسود، وكانت اللامساواة.. الخ.. لا سيما إذا ذكرنا كما يقول برغسون أن «أصل الحرب هو الملكية، فردية كانت أو جماعية. ولما كانت الملكية مقدرة على البشرية ببنيتها كانت الحرب طبيعية».
غير أن إلى جانب هذا المنزع منزعاً ثانياً مقابلاً، طبيعياً هو الآخر، هو الذي يكشف عنه ويحركه فينا كبار القادة الأخلاقيين والدينيين وسواهم، نعني التشوّف إلى السماء والمدخرات الروحية الكامنة، والتعلق بالقيم الجديرة بالإنسان، ورفض ما تمليه الغريزة وحدها والمصالح الفردية والاجتماعية وحدها. مثل هذا التشوف، ما إن يذيع بين البشر، بفضل الأبطال الأفذاذ، حتى يثير في النفس «إرادة قوية عجيبة». وعند ذلك يكفّ التسلط عن أن يغدو تسلطاً على البشر، ويصبح تسلطاً على الأشياء من أجل البشر. ويحجم الإنسان عن أن يكون «ذئباً على أخيه الإنسان» على حد تعبير «هوبس Hobbes» أو «رباً للإنسان».
لقد عرف العلم وعرفت التكنولوجيا تقدماً متسارعاً رائعاً ومخيفاً في الوقت نفسه. وأعطى العلم الكثير وما يزال يعطي. ومثله التكنولوجيا. وولدت حضارة «اصطناعية» شغلُها الشاغل نشدان الدعة والرفاهية، ولو على حساب أي شيء، وولدت «المجتمعات الاستهلاكية» كما نقول اليوم، وهي مجتمعاتٌ همُّها إثارة شهوة الاستهلاك – عن حاجة أو غير حاجة – وهدفها الاستهلاك من أجل الاستهلاك. ولكن ليس في العلم، من حيث الأصل والجوهر، ما يفرض على الناس حاجات ما تنفك تغدو اصطناعية. وليس من الصحيح القول إن روح الاختراع والاكتشاف العلمي تثير بالضرورة حاجات اصطناعية، والحق أن يقال إن الحاجة الاصطناعية هي التي غدت توجه الاختراع والاكتشاف، وههنا يكمن الضلال.
ولقد وُجدت الآلة. غير أنها – إلى جانب خدماتها الكبرى التي قدمتها للإنسان – كانت تستعبده، ووسّعت الشقة بين العامل وصاحب العمل، وبين رأس المال والعمل، وخلّفت العديد من المشكلات المتصلة بعلاقة العمل، وولدت فوق ذلك كله مشكلات اجتماعية سياسية عالمية ضخمة. وقد كان حرياً بالآلة، فيما يقول برغسون، أن تكون أداة تحرير للإنسان، لا وسيلة جديدة من وسائل العبودية،
إذ من شأنها، حين يُحسَن استخدامها، أن تمد طاقة الإنسان وتجنبه شطراً كبيراً من العمل الآلي الصرف الذي لم يخلق له، وأن تهيء له بالتالي من أوقات الفراغ ما يمكّنه من التوفر على الاهتمام بما هو ألصق بحاجاته الإنسانية، من فكر وفن وأدب وغير ذلك. ولا يتم ذلك إلا إذا حَكمت الآلة ووجّهتها صبواتٌ إنسانية حقة، تجعلها مخلوقة للإنسان ولإرواء حاجاته الحياتية والنفسية الأصيلة. ومن هنا فإن «الصوفية تنادي الآلية»، كما يقول برغسون، وإن الآلية في حاجة إلى صوفية، بالمعنى الواسع لهذه الكلمة. وليس هنالك، كما يظن، تناقض بين الصوفية من جانب، وبين العلم والآلية من جانب آخر، بل هما في جوهر الأمر متكاملان.
وبتعبير آخر، وباللغة التي يؤثرها برغسون نفسه: سبيل الحل من أجل بناء مستقبل الإنسانية هو أن نوقظ تلك «الحميّا» التي ترقى بنا إلى مستوى قيم الإنسان وحاجاته الإنسانية الحقة، وأن نحقق التوازن بين ضربين من «الحميّا» سارا كلاهما في اندفاع ونزق، ويستمدان كلاهما أصولهما ومدّخراتهما من طبيعة الإنسان: «حُميّا» تسخير الإنسان للعلم ومبدعاته، انطلاقاً من غرائز التسلط والحرب والعدوان والامتلاك والرفاهية المتباهية، وحّميّا تسخير العلم ومبدعاته لمصلحة الإنسان وقيمه وحاجاته.
قد نكون قد حرّفنا بعض الشيء منطوق ما أراد أن يقوله «برغسون» حول مستقبل الإنسانية. غير أننا لا نعتقد أننا حرّفنا بذلك روحه وأهدافه. وكل ما في الأمر أننا نقلنا أفكاره إلى لغة العصر، رغبةً منا في أن نطرحها في إطار المشكلات المطروحة اليوم:
لقد عرف التقدم العلمي والتكنولوجي، خلال نصف القرن الذي انقضى على تأليف برغسون كتابه، أشكالاً جديدة وبنى جديدة، أهمها دخول الإنسانية في الثورة الصناعية الثانية، أو في مجتمع «ما بعد الصناعة» كما يقال أحياناً، ونعني بها الثورة العلمية التكنولوجية القائمة على الأوتوماتية والسبرانية، والمختلفة، في نظر بعض الباحثين المحدثين، عن الثورة الصناعية الأولى في الطبيعة لا في الدرجة.
وقد كان مرجواً أن تؤدي هذه الثورة، كما رغب برغسون، إلى تحرير الإنسان من ربقة الآلة والعمل الآلي، وخلقِ مجتمع جديد «بعيد عن الصناعة» كما يرى «فوراستييه»(1)، قريب إلى مطالب الإنسان وصبواته.
غير أن شيئاً من هذا لم يحدث، بل زادت المشكلات الإنسانية تعقيداً وصعوبة بعد ظهور تباشير هذه الثورة الصناعية الثانية في بعض البلدان، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية. ويكفي للاقتناع بذلك أن نذكر كتاب «توفلر Toffler» الشهير «صدمة المستقبل»(1) إن صاحب هذا الكتاب يحدثنا أروع حديث وأقسى حديث عن التغيّر الجذري الذي حدث نتيجة للتقدم العلمي والتكنولوجي، ويحدثنا خاصة عن المخاطر التي تواجه التقدم العلمي إذا نحن لم نسيطر على هذا التغير السريع الهائل، الجليل في بعض جوانبه، المخيف في كثير من آثاره. وهو يلتقي في آرائه بهذا الصدد مع العديد من المفكرين العالميين الذين دقوا ناقوس الخطر، وأشاروا إلى مخاطر الدرب الذي انطلق فيه التقدم، والذي يقود الإنسان إلى مصير مجهول، مصير يهدد وجوده وحياته وحضارته. إنه يقول، في غير جمجمة، أن
لا أحد يعلم، ولو كان من ألمع العلماء اليوم – إلى أين يقذف بنا العلم(2). وهو يبيّن خاصة أننا حتى الآن لا نملك القدرة على اختيار التكنولوجيات الجديرة بأن تصوغ نموذج حضارتنا المقبلة. بل يزيد على ذلك كله فيقول في هَلَع: «لقد علّمنا أنفسنا أن نخلق أقوى أنواع التكنولوجيا وأن نؤلف بينها. غير أننا لم نكلف أنفسنا عناء البحث عن النتائج التي ستؤدي إليها. إن هذه النتائج، كما نشهدها اليوم، تهدد بالقضاء علينا وإفنائنا، وعلينا بالتالي أن نتعلم وأن نَعْلَم، وأن ننفر إلى ذلك خفافاً سراعاً»(3). وما يراه لازباً في هذا الشأن، هو «أن تُخضع عملية التقدم والتطور نفسها إلى قيادة الوعي البشري. فنحن أمام لحظة حاسمة، وأمام مفترق تاريخي خطير، إما أن نقوى فيه على السيطرة على عمليات التغير وإما أن نزول ونمضي «بَدَداً»(1). صحيح أن التغير قدر الإنسان وأمر لازب له، غير أن من الصحيح كذلك «أن التغير الزاحف الذي لا نمسك بزمامه، التغير الذي لا يطغى على القدرة الدفاعية للجسم الإنساني فحسب بل يطغى علي عمليات اتخاذ القرار لديه، تغيرٌ معادٍ للحياة»(2).
لقد آن الأوان عنده لأن «نخطط مستقبلنا تخطيطاً إنسانياً»(3)، وأن يكون لهذا التخطيط الإنساني انعكاسه على البنى السياسية نفسها. فالتطور ليس شأناً اقتصادياً فحسب، بل هو شأن يتجاوز الاقتصاد إلى السياسة وإلى السياسة التي ترسم مصير الإنسان. لقد آن الأوان أن نرفض بحزم أن «نحيا في مجتمع لا نراقبه ولا نضبطه»(4). والضبط والمراقبة لا يعنيان الضبط التقني والتكنوقراطي والاقتصادي، بل يعنيان الإمساك بزمام حضارتنا ومستقبلنا لنوجههما شطر المصير الجدير بالإنسان. أيَّ مجتمع نريد أن نبني وأيَّ إنسانية نود أن نخلق؟ ذلك هو السؤال الكبير. كيف نختار بين أنواع المستقبل الممكنة أفضلها، ومن يختار، وما هي معايير الاختيار، وكيف ننظّم عملية الاختيار؟ أسئلة لم تجد بعد جواباً. بل لعل اليأس بدأ يتسلل إلى نفوسنا حتى كدنا نعتقد أن المستقبل يفرّ من بين أيدينا وأننا غدونا عاجزين عن صياغته. وأي سلطة نملكها اليوم من أجل توجيه الأبحاث المتصلة بعلم النسل مثلاً، والتي تجهد لخلق «أنواع» جديدة، بل لتغيير كيان الإنسان الجسدي والمعنوي؟
على أن مما يَشْده البصر ما نلقى من تشابه بين أفكار برغسون حول مستقبل الإنسان وبين أفكار المفكر الفرنسي «روجيه غارودي Roger Garaudy»، ولا سيما في كتابة «نداء إلى الأحياء»(1) الذي ظهر عام 1979. إنه يشير إلى مأزق الحضارة الحديثة ويرى أنها لن تقود إلا إلى حتفنا أو إلى حتف أحفادنا على الأقل. وهو يرى أيضاً أن مصدر الشر فيها هو «نموذج النمو» القائم، ومجتمع الرفاهية والاستهلاك، والرغبة الشرهة في إرواء الرغائب. ويرى تبعاً لذلك أن العنف والانحطاط ما هما إلا نتائج لذلك النموذج الاستهلاكي الأعمى. أما سبيل الحل عنده فيلتقي أيضاً مع ما أرهص به برغسون. فالسياسة غير قادرة على تقديم الحل، لأنها في حاجة إلى أنبياء لا إلى محترفي السياسة. والكنائس الدينية عاجزة كذلك، لأنها في حاجة إلى متصوفة وأصحاب رؤى، لا إلى الإكليروس ومذاهبهم. والأنبياء وحدهم استطاعوا أن يومئوا إلى الحل، حين نادوا بسيطرة الحقيقة الروحية، ولأنهم أتوا بالأبعاد الإنسانية للتقدم، يعني التعالي والمحبة. ومن هنا يمضي في تحليل دروس الديانات الكبرى، من خلال نظراتها الصوفية خاصة، ويرى الخلاص في الحوار بينها من أجل إيجاد عالم جديد، محمَّل بالقيم الإنسانية. ومثل هذا يبيّنه بل يفصّل الحديث فيه في كتابه الحديث عن «وعود الإسلام»(2) حيث يقف وقفة خاصة عند تجارب المتصوفة المسلمين. وليس هدفنا أن نشرح أفكاره وأن ننقدها، وكل ما أردنا أن نشير إلى ذلك الشبه الكبير بينها وبين أفكار برغسون، وإن اختلف السياق الذي طُرحت فيه هذه وتلك.
وقد يمضي بنا الحديث بعيداً، وهو ذو شجون، إن نحن أمعنا في هذا الطريق، المطروق أبداً المجهول أبداً. ولم يكن قصدنا أن نضع بحثاً في مستقبل الحضارة، فلهذا موضع آخر، وجلّ قصدنا أن نومئ إلى المشكلات الكبرى التي تفتّقتها قراءة برغسون، رغم مضي خمسين عاماً على ظهوره، وأن نبيّن كيف استطاع، بحدسه المرهف، أن يُرهص بمشكلات اليوم، بل أن يضع بعض الصُّوى الهادية إلى حلّها.
أما نحن أبناء الوطن العربي، فالدروس التي نفيدها من قراءة هذا الكتاب عديدة مديدة. وحسبنا أن تكون لنا معالم تساعدنا على الجهد الذي بدأنا نبذله من أجل تبيُّن السمات الخاصة لحضارتنا المرجوة. ذلك أن هذه الحضارة المرجوة، فيما نرى، لابد لها، كيما تبنى بناءً سديداً، من إطلالة واسعة عميقة على حصاد التجربة العالمية والفكر العالمي، وأن تضع جهدها الذاتي لبناء حضارتها الخاصة بعد علم عميق بمشكلات التجربة الإنسانية أنى كانت. لا سيما أن الحضارة الذاتية التي نجهد لبنائها ليست اكتشافاً بل هي بناء. إنها «حضارة أخرى» وليست نقلاً حرفياً لحضارتنا الماضية. بل الأصح أن نقول إن حضارتنا المنشودة لابد أن تسقى من مصادر أربعة متآخذة: التراث العربي، والواقع العربي، والواقع العالمي، وحاجات المستقبل العربي. ومن اللقاح الخصيب بين هذه العناصر يمكن أن يبنى التصور السليم لحضارتنا العربية المرجوة.
وبعد، نقدم هذه الطبعة الجديدة من ترجمتنا لكتاب برغسون «منبعا الأخلاق والدين» وقد رحل عنا من أغناها بروحه وأسلوبه الرشيق الفذّ، المرحوم سامي الدروبي. والحديث عن ترجمتنا المشتركة لهذا الكتاب يثير شجوناً وشؤوناً. شابان في مقتبل العمر، ما يزالان على مقاعد الدراسة، يتوفران على فهم «برغسون» وفلسفته، ويتعشقان هذه الفلسفة، ويحققان تواصلاً فكرياً ونفسياً عميقاً من أجل ترجمة كتاب من أروع كتبه وأغناها، ويأنسان فيه، رغم شبابهما، إلى أنظار راودت المؤلف في أمسيات حياته، غير أنها راودتهما وهما في شرخ الشباب. لقد كانت المسألة الأخلاقية تقض مضجعهما ويلتمسان لها الحلول. وما كانت أنظار فلاسفة الأخلاق، ولا سيما أنظار «كنت»، قادرة على أن تروي لهما ظمأ. فوجدا في أفكار برغسون، التي جمعت بين دقة التجربة وصرامة العقل وشطحات الحدس، ما يثير اهتمامهما ويشفي بعض نهمهما.
فلعل جيل الشباب الجديد واجد فيه ما وجدا، ولعل الشيوخ الذين عانوا ما عانى برغسون من تجربة طويلة وعملية يجدون فيه صدىً لهمومهم وتساؤلاتهم وأجوبتهم، ولعل المكتبة العربية لا تحرم من كتاب غدا من الأمهات والأصول. وما أحوج هذه المكتبة إلى أن تضم بين جنباتها طرفاً من الينابيع الأصيلة التي غذت الفكر الحديث والحضارة الحديثة، وأن يمضي مرتادوها إلى أصول هذه الحضارة في «دفقتها الحيوية الأولى»، في نصوصها الأصيلة، حاملين معهم «البراكين التي فجّرت الثقافة العالمية في كمال عنفوانها وثورتها، بدلاً من الركون إلى معرفة غير مباشرة لما أبدعته هذه الثقافة، حين يكتفون بالاطلاع على ما كتب عنها، لا على ما خطّه مبدعوها، قانعين – وما الظن بهم – بالركام والرماد (1).
باريس في 18/12/1982
عبد الله عبد الدائم