سنة الإصدار: 1983

دار النشر: دار الآداب – بيروت

هذا الكتاب

بناء الثقافة القومية الذاتية شعارٌ يحتلّ مقام الصدارة في الفكر العالمي والجهد الدولي اليوم. وهذا المطلب ليس مقصوداً لذاته فحسب – سعياً إلى تأكيد الهوية الخاصة لكل أمة، وتيسيراً للحوار الخصيب بين الثقافات – بل هو قبل هذا مطلب لازب من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية التي تسعى إليها كل أمة، فضلاً عن كون التنمية الثقافية في الوقت نفسه الهدف النهائي لأي تنمية.
ومثل هذا الهدف الكبير يستلزم توضيح العلاقة السليمة التي ينبغي أن تقوم بين هذه الثقافة العربية الذاتية الموعودة وبين التراث العربي الإسلامي، بحيث يغدو هذا التراث – بعد أن تتضح قيمه الأصيلة ومعالمه الإنسانية الكبرى، وبعد أن ننظر إليه بعين مجدّدة نفّاذة إلى معانيه الحقة، متجاوزةً ما أصابه من تشويه وتخلّف – مهاداً من القيم المتحرّكة الحيّة التي تؤدي إلى رؤية للثقافة طريفة وتليدة معاً.
وهذا الكتاب جهد أول في هذه الطريق المديدة. فبناء الثقافة العربية المرجوّة جهد لا تقوى عليه قدرة الفرد الواحد أو الأفراد المعدودين، بل لابدّ له من اجتماع القدرات الكثيرة سعياً وراء بناء صرحٍ ثقافي عربي جديد، أعمدتُه الكبرى التراث وقد جُدّد، والواقع العربي القائم وقد حُلّل ودُرس، والواقع العالمي وقد أُدرك، والمستقبل العربي وقد بانت مستلزماته وأشرقت أهدافه.

تصدير 5
مدخل: المبادئ الرائدة في تنمية الثقافة العربية الذاتية 21
1- ما هي الثقافة؟ 25
2- ما هي المسألة الثقافية في عصرنا؟ 28
الفصل الأول: أهداف التخطيط الشامل لبناء الثقافة العربية 39
1- تنمية الهوية الثقافية العربية الإسلامية وإحياؤها وتجديدها 39
2- توليد الثقافة القومية الذاتية التي تحول دون الاستلاب الثقافي والغزو الفكري السياسي 46
3- تنمية التفاعل بين مظاهر الثقافة العربية المتنوعة في البلدان العربية 51
4- تنمية التفاعل بين الثقافة العربية الإسلامية والثقافات العالمية الأخرى 54
5- تحقيق ديمقراطية الثقافة ومشاركة الجماهير الواسعة في بنائها واكتسابها 59
6- تحقيق التكامل والترابط بين التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية والاجتماعية 62
7- تنمية قوى الإبداع والخَلق لدى المواطن العربي 65

الفصل الثاني: وسائل التخطيط الشامل لبناء الثقافة العربية 73
1- حفظ التراث الثقافي القومي وإبراز قيمه 73
2- تأهيل الطاقات الثقافية البشرية 76
3- توفير المناخ اللازم للإبداع الثقافي 80
4- تعزيز التربية الفنية في المعاهد التعليمية وخارجها 84
5- ربط السياسة الثقافية بالسياسة الإعلامية 88
6- تطوير الصناعات الثقافية 93
7- تخطيط النشاطات الثقافية وإدارتها وتمويلها 98
خاتمة الفصل الأول والثاني 101
الفصل الثالث: التراث العربي الإسلامي 107
I تعريفات وموضوعات مبدئية: 114
1- ماذا نعني بالتراث العربي الإسلامي؟ 114
2- الإسلام والقومية العربية 118
3- التراث العربي الإسلامي تراث عالمي 121
II بعض قيم التراث العربي الإسلامي: 124
1- المسؤولية الفردية 127
2- التضامن الاجتماعي 129
3- الحرية 134
4- الشورى 138
5- العدالة والمساواة 141
6- تقديس العلم 144
7- تقديس العمل 149
III مسائل ملتبسة: 153
1- أصول التراث 155
2- التراث والمرأة 163
3- هل الإسلام دينٌ ودولة؟ 170
4- القضاء والقدر 175
5- التراث والفنون والآداب 178
IV قيمٌ وشمائل عربية جاهلية أكّدها التراث الإسلامي: 181
1- الكرم 183
2- الإباء والشمم 186
3- الوفاء 188
4- الحِلم 192
5- إغناء الحياة بالعمل الصالح 195
6- الشرف 199
خاتمة الكتاب 207
بعض المراجع 213

قولٌ معاد أن نؤكّد اليوم أن الثقافة، ثقافة أي شعب، شرط لازب للتنمية عامة وللتنمية الاقتصادية خاصة. ومع ذلك يراودنا الشعور بأن هذه الحقيقة ما تزال في حاجة إلى فضلٍ من بيان.
لقد أتى على المعنيّين بأمر النموّ والتقدم في العالم حينٌ من الدهر أبرزوا فيه دور الاقتصاد في تقدّم أي بلد، واعتبروا الهدف الأساسي للتنمية «نموّ الاقتصاد» وما يلحق به من زيادة في الدخل القومي. ثم ما لبثوا حتى أدركوا من خلال التجربة والواقع، أن رأس المال المادّي
لا يؤتي ثمراته في التنمية إن لم يصحبه نموّ في رأس المال البشري. وهكذا قامت الدراسات تترى، ولا سيما منذ الحرب العالمية الثانية، تحاول إثبات حقيقة غدت اليوم بدهيّة شائعة، نعني أن تنمية رأس المال البشري شرط لازم لتنمية رأس المال المادّي، وأن الأموال التي ننفقها في الموارد البشرية لها عائدات اقتصادية غير مباشرة ومردود اقتصادي كبير كشفت الدراسات الإحصائية عن وزنه ونسبة إسهامه الواسعة في نموّ الدخل القومي. ومن خلال ذلك كله، وُلدت تلك الفكرة التي ذاعت وشاعت، وهي أن التربية ووسائل الإعداد المختلفة للعنصر البشري ليست مجرد خدمة استهلاكية نقدمها لأغراض ثقافية واجتماعية وإنسانية، بل هي «توظيف مثمر» لرؤوس الأموال يؤتي أُكله الاقتصادية أضعافاً مضاعفة، فضلاً عن ثمراته الأخرى. ومن هنا ساد القول بأن الأموال التي ننفقها على التربية بأشكالها المختلفة، أموالٌ مثمرة اقتصادياً، وأن ثمراتها الاقتصادية تربو على الثمرات التي نجنيها من توظيف الأموال في أيّ مشروع اقتصاديّ، زراعيّ أو صناعي أو تجاري، بل تكوّن شرطاً لازباً للإفادة المثلى من أي «توظيف مالي» ننفقه في مثل هذه المشروعات الاقتصادية.
ومن هنا وُلدت فكرة التخطيط التربوي الذي اعتبر جزءاً مكملاً ضرورياً للتخطيط الاقتصادي، وقامت الجهود متكاثرة في سبيل الربط العضوي الوثيق بين تنمية التربية ووسائل الإعداد والتكوين وبين تنمية الاقتصاد. وبذلك أصبحت تنمية الموارد المادية وتنمية الموارد البشرية صنوين لا يفترقان، يسيران جنباً إلى جنب متآخذين مترابطين(1).
غير أن الدراسات ما لبثت، في العقد الأخير من هذا القرن خاصة، حتى خطت خطوة أخرى هامة. فلقد استبان لها أن التنمية الاقتصادية وما يرتبط بها من تنمية الموارد البشرية عن طريق التربية والإعداد،
لا تكتمل وتستوي على سوقها إلا إذا مدّت بصرها إلى ما هو أبعد من التربية والإعداد، نعني الثقافة بوجه عام. فالعقبات التي تواجه النموّ الاقتصادي وتواجه النمو التربوي، صنوه وخدينه، ترجع في خاتمة المطاف إلى قضية الثقافة بالمعنى الواسع للكلمة. ومعتقدات الناس ومواقفهم واتجاهاتهم وقيمهم وعاداتهم وأنماط سلوكهم وغير ذلك من مقوّمات الثقافة، لها دورها الأساسي في عملية التنمية. وليس الهامّ في التنمية أن نوظف أموالاً في مشروعات اقتصادية، ولا أن نعدّ عن طريق التربية المهارات والكفاءات الفنية اللازمة لإنفاذ هذه المشروعات، بل الهامّ فوق هذا أن تمتلك العناصر البشرية المسهمة فيها المواقف النفسية والفكرية والسلوكية التي تجعلهم يقبلون على المشاركة فيها مشاركة فعّالة مجدية.
وإذا أردنا أن نشير إلى شواهد قليلة على هذه الحقيقة الجديدة، أمكننا أن نذكر في مجال التربية والإعداد مثلاً، أن مجرد وضع خطّة لتوسيع التعليم الفني والمهني وتطوير وسائلهما ومؤسساتهما داخل النظام المدرسي وخارجه، شرط لا يكفي لبلوغ القصد. فكلنا يعلم أن إقبال الناس على العمل الفني والمهني في كثير من البلدان، وفي البلدان النامية خاصة، وفي البلدان العربية بوجه أخص، إقبالٌ محدود، بسبب الجذور الثقافية التي أبقت على تقاليد قديمة تَحْقِرُ العمل اليدوي والمهني، وتعتبر المهنة امتهاناً، وتعدّ الحرفة احترافاً، بل ترى في حياة الحضر احتضاراً. ومن هنا نرى خطط التربية في كثير من البلدان العربية تصطدم بهذه العقبة الثقافية الكأداء. فهي لا تستطيع أن تكون خططاً فعّالة مجدية محقِّقة للتنمية الاقتصادية والحضارية المطلوبة، إلا إذا انصرفت إلى توجيه التعليم نحو العمل والإنتاج، وإلا إذا ربطت بين التربية والعمل المنتج. ومن هنا تُرسم الخطوات اللازمة لتطوير التعليم المهني والفني ولإدخال التعليم المهني في التعليم العام ولإقامة «تربية مستمرة» من المهد إلى اللحد خارج النظام المدرسي من أجل تأهيل الأيدي العاملة الفنية والمهنية وتجديد إعدادها تبعاً لحاجات سوق العمل. غير أن ما تخطّط له وما ترسم يرتطم كما قلنا بهذه العقبة العاتية، نعني عزوف الآباء والأبناء عن العمل المهني والفني، واعتقاد الكثير من الناس أن الهدف من التعليم تجنيب الأولاد آفات العمل اليدوي والمهني ومتاعبه. وهكذا تجد كثير من البلدان العربية نفسها أمام شرّ لا تقوى على صدّه ونعني حاجتها المتزايدة إلى استيراد الأيدي العاملة الفنية والمهنية من بلدان أجنبية، على رأسها اليوم بلدان شرقي آسيا.
مثال آخر نضربه في ميدان التربية أيضاً، هو تعليم المرأة. فمما
لا شك فيه أن معدل انتساب المرأة إلى التعليم، بمراحله المختلفة في البلاد العربية، هو أدنى معدّل في العالم. الأمر الذي يجعل نسبة القوى العاملة الفعلية في البلاد العربية إلى مجموع السكان من أدنى النسب في العالم أيضاً (26% من مجموع السكان مقابل قرابة 50% في بعض بلدان العالم المتقدم). ومعنى هذا أن أقل من ثلث السكان يعيلون ما يربو على ثلثي السكان. ولا حاجة إلى القول إن ضعف انتساب المرأة إلى التعليم، رغم أن هذا الانتساب بدأ يخطو خطوات سريعة في العقدين الماضيين، مردُّه إلى بقايا بعض التقاليد الثقافية الاجتماعية الخاطئة.
وأهم من هذه الأمثلة الجزئية، وهي عديدة، أن نمضي إلى ما هو أبعد منها وأعمق:
ثمة جهود كبيرة، على مستوى كل قطر عربي وعلى مستوى الوطن العربي، من أجل تطوير الجانب النوعي الكيفي من التعليم، وعدم الاقتصار على تطوره الكمي. وهذه الجهود تنصبّ على أمور كثيرة تتناول مقومات التربية المختلفة: محتوى التربية، وطرائقها وتقنياتها الحديثة، وتجديد الإرادة التربوية، والعناية بإعداد المعلمين إعداداً أفضل، وفتح فروع واختصاصات جديدة في التعليم الثانوي وفي التعليم العالي خاصة، الخ.. غير أن هذه الجهود كلها ما تزال في حاجة، إن هي أرادت أن تعمل عن بيّنة ووعي، إلى الإجابة على السؤال الأساسي الذي ما يزال يفتقر إلى جوابه، نعني ما هي أهداف التعليم الكبرى، أو بتعبير أدق: ما هي غاياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟ أو لنقل بتعبير موجز: أيَّ إنسان نودّ أن نُعدّ عن طريق نظام التربية والإعداد؟ مثل هذا السؤال الكبير يضعنا وجهاً لوجه أمام الحاجة القاهرة إلى وضع فلسفة تربوية عربية متميزة. ومثل هذه الفلسفة التربوية لا نستطيع أن نضعها إن لم نعرف قبل ذلك ما هي الحضارة (أو الثقافة) المتميزة النوعية التي نود أن نبنيها. ما هي هويّتنا الثقافية التي ينبغي توكيدها وتوليدها؟ ما هي معالم الحضارة العربية المنشودة؟
والجواب على هذا السؤال الضخم، كما نرى، جواب ثقافي. إنه يستلزم أن نحدد هويتنا الثقافية ومعالم ثقافتنا المرجوة. وإذا لم نجب على هذا السؤال المبدئي، فقد نتخبط طويلاً في سعينا التربوي بل في سعينا الاقتصادي والاجتماعي عامة. بل قد يكون شأننا شأن من يجهد ويجهد دون أن يدرك الأقنية النهائية التي ينبغي أن تؤدي إليها جهوده، فِعْلَة النحلة تدأب من أجل ملء الخلية بالعسل، بينما قد تكون الخلية مثقوبة
لا تُبقي على شيء مما تصنع، أو لا تُبقي إلا على النزر اليسير.
وما يصدق على التربية يصدق على التنمية الاقتصادية ما دامتا متآخذتين متكاملتين. على أن التنمية الاقتصادية تطرح مشكلات ثقافية أبعد مدى:
كيف نحول دون التلوّث الثقافي والاستلاب الثقافي ونحن نعمل على تنمية الاقتصاد تنمية مجلوبة من بلاد أخرى؟ كيف يتأتّى لنا أن ننتقل من مرحلة استهلاك التكنولوجيا إلى مرحلة استيعابها ثم المشاركة في إبداعها؟ ما السبيل إلى تنمية اقتصادية مستقلة لا توجهها مصالح القوى الاقتصادية العالمية الكبرى، وعلى رأسها الشركات متعدّدة الجنسية؟ كيف نستطيع توجيه المواطنين نحو ضرب من التقشف أو الاعتدال في الاستهلاك، ونحو نبذهم الاستهلاك الذي لا حدّ له والذي ينميه «المجتمع الاستهلاكي» الحديث بوسائله وتقنياته الجبارة؟ كيف ننزع من نفوس الناس بواعث الاقتداء بالنموذج الغربي في الحياة، من أجل بناء نموذج خاص ملائم لحاجاتنا؟ كيف نقضي على الصراع النفسي الذي يخلقه لدى مواطنينا حرصهم على هويتهم الثقافية وغرقهم في الوقت نفسه في خضم الحاجات الصنعية التي ولّدها طغيان النموذج الغربي؟ كيف نولّد المواقف النفسية والشروط اللازمة لاستبقاء كفاءاتنا العلمية والفنية في بلادنا وللحيلولة دون هجرة الأدمغة؟ والشواهد أكثر من أن تحصى تشهد جميعها على الارتباط الوثيق بين أغراض التنمية وبين المواقف الثقافية.
بل نذهب إلى أبعد من هذا. ما السبيل إلى تحريك الإرادة القومية المشتركة من أجل تعبئة القوى في سبيل بناء حضارة عربية جديدة جديرة بأبنائها وبالعصر الذي نعيش فيه؟ فالتنمية الاقتصادية والحضارية
لا تكون إلا بإرادة مصمِّمة من قبل المدعوِّين إلى بنائها وصنعها. وليس يكفينا أن يكون لدينا علماء وفنّيون واختصاصيون، بل لابد أن يكون لدى هؤلاء عزمٌ ثقافي قومي عارم على أن يضعوا طاقاتهم كاملة في سبيل البناء والتغيير والتجديد. بل لابد أن تزول من نفوسنا ونفوسهم روح الهزيمة، الهزيمة أمام تفوّق الغرب، وما يصاحبها من شعور بالعجز
عن اللحاق بالركب. وإرادة البناء إرادة قومية، والإرادة القومية إرادة ثقافية، وموقف ثقافي.
وفوق هذا وذاك، ألا تفترض إرادةُ العمل البنّاء المنتج قيماً ثقافية قومية إنسانية، ترفض الأنانية والسعي من أجل المنفعة الذاتية المحضة، وتستمسك بقيم الغيرية والتضامن والتكافل الاجتماعي التي أكدها تراثنا الثقافي الأصيل، وكدنا نجانبها؟ أفلا تفترض وراء ذلك سيادة العدل والمساواة واحترام الإنسان واحترام العلم؟ المسألة الثقافية إذن أُمّ المسائل، والعديد من المشكلات المتّصلة بالتنمية الاقتصادية والتنمية التربوية مرتبطة بالقيم الثقافية التي يؤمن بها المجتمع. وتنمية هذه القيم شرط لازب لأي تنمية.
ومن هنا فإن الحديث عن تنمية الثقافية العربية ليس حديث شاعر
أو حالم. إنه حديث ينبع من لغة الاقتصاد نفسها ومن معطيات الواقع الاقتصادي. وتجاهل شأن الثقافة جهل ببنية التنمية ومقوماتها ومستلزماتها. وقد أصابت «المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم» صلب الموضوع وبيت القصيد حين عزمت أمرها على وضع «خطة شاملة لتنمية الثقافة العربية» بعد أن وضعت منذ أعوام «استراتيجية تطوير التربية العربية». وفي هذا العزم تنتقل الجهود العربية إلى نطاق من البحث والعمل شائك وأكثر تعقيداً من سواه، ولكن تعقيده مبرّر آخر للعناية به. فلا يجدي في شيء الهُروب من المسألة، فهي تلقانا ونصطدم بها في كل خطوة نخطوها من أجل التنمية الاقتصادية أو الاجتماعية
أو التربوية، بل والسياسية.
على أن فوق هذا الهدف التنموي للثقافة هدفاً أسمى لا يجوز أن نغفله، هو تنمية الإنسان بوصفه إنساناً. فالهدف النهائي لأي تنمية هو الإنسان، سعادته وكرامته وتفتّحه الإنساني بغير ما حدّ. ومن هنا فالتنمية الثقافية ليست شرطاً للتنمية عامة فحسب، بل هي أيضاً غاية التنمية. وأزمة التنمية في العصر الحديث أنها كادت تجعل الإنسان في خدمتها بدلاً من أن تكون في خدمة الإنسان وفي خدمة مطالبه وحاجاته الإنسانية العميقة. وهل غدا الإنسان، بسبب الحضارة الحديثة، أكثر سعادة، وأسمى إنسانية؟ وما هو التقدّم؟ أهو تقدم الآلة وسيطرتها على صانعها، أم هو تسخيرها لأهدافه الحقة؟ ومن هنا فإن الآلة، على حد تعبير برغسون في كتابه «منبعا الأخلاق والدين(1)» «تنادي الصوفية»، أي تنادي القيم الإنسانية العليا. وكلما تقدمت، وجب أن تتقدم سيطرة الإنسان عليها وتذليلها لغاياته. ومثل هذا يقال عن العلم. أو لسنا في حاجة إلى «تخطيط إنساني» لاقتصادنا وعلمنا وتقنياتنا، كما يقول «توفلر Toffler في كتابه «صدمة المستقبل»؟ أولسنا في حاجة إلى ضبط إنساني للعلم والتكنولوجيا، لا إلى مجرد ضبط فني أو بوروقراطي؟ أو لم تثر الدراسات العلمية الهامة في ميدان «علم النسل» وفي ميدان الطب، مشكلات إنسانية وخلقية هامة؟ أفنصبح مثل «فاوست Faust» الذي ربح الثروة والغنى، وكاد يفقد نفسه؟».
ومن أجدر من الثقافة العربية بالإسهام في خلق نظام عالمي جديد، مفصَّل على قدّ الإنسان، موجَّهٍ من أجل حاجاته الإنسانية العميقة؟ غير أن هذه الثقافة العربية التي نرجو خيرها لأبنائها وللإنسانية تكاد تقف اليوم موقف المطأطئ الحائر، أو المتمزِّق البائر.
من أجل هذا كله، وجدنا من واجبنا أن نطبع تلك الدراسة التي قدمناها للجنة التخطيط الشامل للثقافة العربية، حول أهداف هذا التخطيط، وأن نضيف إليها فصلاً هاماً عن التراث، بوصفه أحد أعمدة بناء هذه الثقافة العربية المأمولة.
ونحن نشعر، بعد إنجاز هذا المؤلف، أننا لم نوفّ الموضوع إلا جانباً من حقه. فهو موضوع تعجز عنه قدرة الواحد من البشر، غير أننا رسمنا فيه، فيما نعتقد، الخطوط الرائدة والإطار الكبير لبحث كبير.
قد يتفق معنا الكثيرون حول ما سنقوله في هذا المؤلف، وقد يختلف معنا سواهم. ولا ضير في ذلك، بل إننا نؤمن بأن عملنا لن يؤتي ثمراته المرجوة إلا إذا قام حوله حوار خصيب، وإلا إذا صوَّبت ما قد تكون فيه من أخطاء دراساتٌ وأبحاث تالية نرجو أن تكون عديدة مديدة.
الهامّ عندنا أن علينا جميعاً أن نقتحم هذا الموضوع الأساسي الشائك، موضوع بناء الثقافة العربية الذاتية وتوضيح معالمها المرجوة. إن أضعف الإيمان يأمرنا بذلك. وهل نجيز لأنفسنا الصمت الطويل المريب حول مسألة لها ما لها من أبعاد اقتصادية وتنموية، ولها ما لها من أبعاد قومية، وفيها ما فيها من مطالب إنسانية؟ بل هل نبيح لأنفسنا أن نشهد الفرقة تعصف بأبناء وطننا، وتكاد تحيلهم مذاهب تتصارع ومنازع تحترب وشيعاً تتكاثر، دون أن نحاول البدء بجهد فكري يطمح إلى خلق تيار موضوعي واقعي موحِّد حول أهداف الثقافة العربية ومنطلقاتها؟ إن الطفيليات والجراثيم لابد أن تتوالد في الماء الآسن. وعندما تغيب الوقدة الفكرية التي تنضو الصدأ وتقضي على ركام الجمود، تحتل الساحة أمراض القعود والترهّل.
ولسنا نذهب مذهباً خيالياً، فنزعم أن إجماع القوم على تيار ثقافي واحد، مهما يكن موضوعياً وواقعياً، أمرٌ ممكن. ولو كان ذلك ممكناً فما كان لنا أن نقبل به. إن ما نطمح إليه ونرتضيه غايةً وهدفاً أن يولد وفاق حول الخطوط الكبرى للثقافة العربية المرجوة وحول تيارها الأصيل الرئيس، وحول القوى الحية التي ينبغي أن تحركها. وبعد ذلك، لابد من تنوع الآراء في إطار التيار الجامع، لابد من التنوع في إطار الوحدة. والتنوع غير التعدُّد، وهو لا يفترض التعارض والصراع بل يبطلهما في رأينا.
ولو صدق القوم لوجدوا في أعماق أنفسهم جميعاً تياراً متقارباً في شأن الثقافة العربية المنشودة. وما سوى ذلك جهلٌ أو تعمد للجهل، لغايات ودوافع فردية أو أنانية. وما أظن أبناء البلاد العربية لا يجمعون إلى حد بعيد على دعوتنا إلى بناء ثقافة عربية جديدة أصولها أربعة: التراث والواقع العربي والواقع العالمي وحاجات المستقبل العربي. بل ما أظنهم يأبون الأخذ بمفهوم للتراث يريد أن يدركه حق إدراكه ليجدّده، بدءاً من منطلقاته الأصيلة، وليتجاوزه في ضوء ما تمليه الحاجات الجديدة في عصرنا هذا، ما دام التراث مفتوحاً أمام التجدد وما دام مبدؤه الأساسي ما فيه مصلحة الأمة.
أما قيم التراث على نحو ما جلونا بعضها، فهي في أصولها الكبرى ومنطلقاتها الإنسانية الأساسية، واضحة جليّة. وكل ما في الأمر أننا ما نزال في حاجة إلى مزيد من التقرّي لهذا التراث وإلى مزيد من معرفته حق المعرفة، وإلى مزيد من الحفر والتنقيب في قيمه الأساسية والفرعية. بل نحن في حاجة قبل هذا وفوق هذا إلى أن نُقبل على فهمه دون ما نظرة مبيَّتة، ودون ما فرضته عصور الانحطاط من جمود وتزييف. كذلك نحن في حاجة في الوقت نفسه إلى التحرر، عند دراستنا له، من أفكار تبدو حديثة، طرحها بعض المستشرقين وبعض مفكري الغرب، نتيجة لعجزهم عن الولوج إلى صلبه أو بسبب نزعاتهم المعادية له أحياناً التي تريد أن تحط من شأنه، متوقفةً عندما هو عابر وعارض وزائف، تاركة ما هو أصيل وسليم. وبوجيز العبارة: نحن في حاجة، عند دراستنا للتراث، إلى أن نستنطق النصوص لا أن نُنطقها ما نريد ونهوى، وإلى أن ندرك روحها ومعناها قبل لفظها ومبناها، وإلى أن نعي أغراضها من خلال الروح الكلية للتراث، وأن نفسّرها من خلال تلك الروح. ففي التراث مبادئ إنسانية كبرى، هي الأصل والجوهر، ولا يجوز أن نأخذ في مقابلها بتفسيرات فرعية لبعض جوانبه تتناقض وتلك المبادئ.
لقد آن الأوان لنطرح جانباً منهج الفهم المتمذهب للتراث، ومنهج الوصاية عليه من أي جانب، فهو ملك الجميع، وهو تراث العرب جميعاً، مسلمين وغير مسلمين، بل هو، بمعنى من المعاني، ملك الإنسانية كلها، وإن يكن العرب أولى الناس به.
كذلك آن الأوان للتخلي عن طرح التراث العربي طرحاً يُنقص من شأن سواه. فالفروق بين الثقافات فروق في الطبيعة لا في الدرجة، شأنها في ذلك شأن الفروق بين الطباع، كما سنقول، ووجود هويات ثقافية متميزة لا يعني الصراع بين الثقافات العالمية، بل يعني الحوار معها والتفاعل فيما بينها. زد على ذلك أننا لم نبنِ حتى الآن تراثنا الثقافي المرجو لحاضرنا ومستقبلنا. ومن الشطط أن نقرن تراثاً بُني وشيد في عصرنا، كما في الغرب، بتراث أشع في الماضي وأعطى ثم انقطعت به السبل ولم نحقق الوصلة اللازمة بينه وبين مستلزمات عصرنا. وفوق هذا وذاك حوى تراثنا الثقافي الماضي كثيراً من تراث الشعوب الأخرى التي امتزج بها، وهو في صيغته الجديدة المرجوة لابد أن يحتوي على الكثير من حصاد الثقافات العالمية الكبرى في عصرنا.
وبعد هذا، ينبغي ألا ننسى أن ثقافتنا الذاتية المرجوة ليست قيماً ومبادئ فحسب، وإن تكن القيم أعمدتها، وإنما هي أيضاً علم وفلسفة وفكر ولغة وأدب وفن وعمارة وغير ذلك. وهذا الجانب الذاتي من ثقافتنا لا يقل أهمية عن سواه، وفيه أيضاً نضع الكثير من نظرتنا الخاصة إلى الكون ومن مواهبنا وعبقريتنا الذاتية. ولو نظرنا في سلوك الناس في بلادنا لوجدنا أن هذا السلوك ليس مطبوعاً فقط بطابع القيم التراثية والروحية، بل هو أيضاً مطبوع بطابع ما ساد وذاع من تراث أدبي وشعري وفلسفي وفني وسواه يحمل أيضاً قيماً إنسانية جليلة. إن الحكم والأمثال مثلاً تلعب دوراً كبيراً في سلوكنا. ومثلها الأقوال السائرة والأشعار. وهل ننسى أن عامة الناس يسوقون في تعاملهم وحياتهم اليومية أشعاراً ذائعة لمثل المتنبي أو المعري أو سواهما وأنهم كثيراً ما يتأسّونها في الفعل والسلوك؟
نحن إذاً أمام مهمة كبيرة مفتوحة الأبواب واسعة الآفاق. وإن نعجب فعجبنا كبير من أن أفضل ما نقدم لطلابنا وأبنائنا من تحليل للتراث العربي، بأبعاده المختلفة، هو ما قام به بعض المستشرقين أو المفكرين الغربيين. أليس في هذا خير حافز للعقل العربي لكي يجهد في سبيل إدراك ثقافته وبنائها بسعيه الذاتي أولاً؟ أو ليس في هذا ما يبرر هذا الجهد المتواضع الذي أقدمنا عليه، ولسنا خير من يخوض في هذا الميدان؟ لقد كتبنا ما كتبنا ونحن في غربة عن وطننا العربي، والغربة قد تيسّر بعض النظرة الموضوعية. ولكن، أفلا نخشى، إن لم نجهد سراعاً. إلى توضيح معالم ثقافتنا الذاتية المرجوة، أن نصبح جميعاً في أوطاننا غرباء عنها؟
المطلب شاق، والمزار عسير، ولكن الهدف قمينٌ بأن تُذلَّل الصعابُ في سبيله. وهل من هدف أسمى من إنقاذ ثقافة عربية. تتعرض اليوم للبحران، ونأمل أن يكون بحراناً خصيباً نُلفي بعده الشاطئ الأمين.

باريس في ١/١/١٩٨٣
عبد الله عبد الدائم