الإصدار:كانون الثاني/ يناير 2000
دار النشر: دار الطليعة – بيروت

صراع اليهودية مع القومية الصهيونية
– لقد فرضت القومية الصهيونية نفسها بشتى الوسائل – وعلى رأسها دعم الدول الكبرى – على الوجود اليهودي في الشتات عنوّةَ وقسراً. واستمر الصراع بين اليهودية والصهيونية حتى بعد قيام الكيان الصهيوني عام 1948.
– وقد أخذ هذا الصراع في العقود الأخيرة أشكالاً جديدة في إسرائيل، وضعت «هوية» إسرائيل نفسها موضع التساؤل. وبرزت بعض الاتجاهات التي عرَّت الطبيعة العدوانية للكيان الإسرائيلي الصهيوني، وكشفت عن تزييفه للحقائق. وعلا صوت أصحاب هذه الاتجاهات المعارضة والناقدة بعد فتح أرشيفات وزارة الخارجية الإسرائيلية بدءاً من نهاية السبعينات، وما كشفت عنه حركة جديدة هامّة، عرفت ذيوعاً كبيراً في إسرائيل كما لقيت قبولاً واسعاً في الغرب، نعني بها حركة «المؤرخين الجُدد».
– انطلاقاً من هذه الحقائق جميعها، يخلص الكتاب الذي بين يدينا إلى حقيقة واحدة وحاسمة وأساسية: وهي أن الصهيونية هي أصل الداء، وهي «الخطيئة الأولى» كما يقول كثير من اليهود اليوم في إسرائيل والعالم. ولا حلّ للصراع العربي-الإسرائيليّ، ولا نجاة لشعب إسرائيل نفسه، ولا نجاح لمحاولات إقامة سلام صامد باقٍ، ما دامت المنطلقات الصهيونية قائمة.
– والكتاب بقلم مفكّر عربي رائد له عطاؤه الواسع والفذّ في مجال الفكر القومي والتربية العربية والثقافة العالمية.
الناشر
تصدير 5
مدخل 10
الفصل الأول: القومية الصهيونية والشتات اليهودي 12
الفصل الثاني: الصراع داخل الحركة الصهيونية الناشئة 15
الفصل الثالث: صراع القومية الصهيونية عند نشأتها مع المذاهب الدينية اليهودية 23
1- صراعها مع اليهودية الأرثوذكسية (الأصولية) 24
2- صراعها مع اليهودية الإصلاحية (المجددة) 26
3- صراعها مع اليهودية العلمانية الإنسانية 27
4- موقف الصهيونية من الدين اليهودي 28
الفصل الرابع: الصراع بين اليهودية والقومية الصهيونية بعد ولادة إسرائيل 30
الفصل الخامس: الصراع بين اليهودية والصهيونية اليوم وحركة «المؤرخين الجدد» 34
1- نشأة «المؤرخين الجدد» لإسرائيل 34
2- المعركة حول تاريخ إسرائيل 35
3- «المؤرخون الجدد» وتهجير الفلسطينيين 36
4- «المؤرخون الجدد» والأدباء وعلماء الاجتماع 37
5- نظرة تحليلية ونقدية لحركة «المؤرخين الجدد» وأبرز أصحابها 39
6- خاتمة 48
الفصل السادس: المواقف الدينية وواقع مسألة الهوية في إسرائيل اليوم 50
1- الاتجاهات السائدة في إسرائيل من حيث الموقف من الدين 50
2- الصراع حول الهوية بين الاتجاهات السائدة في إسرائيل 52
– الهوية العلمانية 53
– الهوية الدينية: «الصهيونية الجديدة» 58
– هل من فريق ثالث؟ 60
الفصل السابع: نظرة إجمالية إلى الصراع حول الهوية في إسرائيل 61
الفصل الثامن: الصهيونية وحركات السلام في إسرائيل 72
الفصل التاسع: الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة والصراع حول هوية إسرائيل 83
خاتمة 93
هوامش الكتاب 98
قد لا نعدو أن نفتح أبواباً مفتوحة، وأن نطرق دروباً نفضها الأدلّة والباحثون وطوتها الصحف والأقلام، إنْ نحن قلنا إن صراعنا مع العدو الصهيوني صراع ذو بعدين: بُعدٌ عربي وبُعدٌ إسرائيلي.
غير أن تحصيل الحاصل هذا يكتسب بعض المعنى إنْ نحن أضفنا إليه أن كلاً من البُعدين لا تحدّده بنيته الساكنة بل تحدده ديناميته وحركته المتجهة إلى المستقبل.
ودينامية الوجود العربي – في توجهّها نحو المستقبل – تتأثّر بعوامل كثيرة، ولكنها – في هذا المجال – لا بد أن تحدّد معالمها دينامية الوجود المضاد لها، نعني: الوجود الإسرائيلي.
ومن هنا كان لا بد من تحليل الوجود الإسرائيلي تحليلاً دقيقاً، من أجل معرفته حقّ المعرفة، ومن أجل اكتساب القدرة على مقاومته بالتالي، ما دامت المعرفة – على حدّ تعبير عالم الاجتماع الفرنسي: أوغست كونت Auguste Comte – هي القوة.
ومعرفة الوجود الإسرائيلي معرفة عميقة وافية ليست بالأمر السهل. فهذا الوجود القائم اليوم وريث مائة سنة على الأقل من العمل الصهيوني الدائب. وقد انضافت إلى أصوله الصهيونية على نحو ما حددّها هرتزل وصحبه جهودٌ موصولة يشدّ بعضها أزر بعض أحياناً، ويناقض بعضها بعضها الآخر في معظم الأحيان. ولبست منطلقات الصهيونية البديئة هذه لبوساً جديداً بعد ولادة الدولة الصهيونية، وما طففت تتغيّر في بنيتها وأهدافها وطرائقها يوماً بعد يوم.
وقد عانت هذه الدولة الصهيونية منذ نشأتها من صراعات داخلية عميقة، تتزايد دوماً، كادت توصل هذه الدولة إلى شفا الحرب الأهلية (ثقافية كانت أو سياسية). هذه الصراعات المزمنة التي عرفها الكيان الصهيوني، والتي يشتد أوارها يوماً بعد يوم، هي التي نود الكشف عنها وعن جذورها وعما آلت إليه اليوم، في هذا الكتاب الذي نقدّمه للقراء في هذه الفترة الحسَّاسة من الصراع العربي – الإسرائيلي، ليكون ذلك هادياً وعوناً لنا ولسياستنا ولعملنا العربي المشترك في مواجهة الخطر المحدق بنا جميعاً.
2- والأطروحة التي ينطلق منها الكتاب في وصفه لتلك الصراعات التليدة والجديدة هي أن مصدر تلك الصراعات كلها هو الدعوة الصهيونية التي أطلقها هرتزل وصحبه، لدوافع مختلفة على رأسها الدوافع الإمبريالية الاستيطانية، والتي فرضها هؤلاء على اليهود فرضاً وعنوةً، وجرّوا إليها فريقاً من هذا الشتات عن طريق الخدعة والتزييف، ووفروا لها النجاح عن طريق الاعتماد على الإمبريالية الغربية والاستجابة لمصالحها، وعلى رأسها بريطانيا في البداية، والولايات المتحدة بعد ذلك.
2-1- وهكذا يتحدّث الكتاب الذي بين أيدينا عن صراع دُعاة الصهيونية في كثرتهم الكاثرة مع يهود الشتات في البداية، ومع معظم المذاهب الدينية اليهودية التي كانت قائمة في ذلك الحين، بل حتى مع الزعماء الصهاينة الذين كانوا يعارضون صهيونية هرتزل، ولا سيما فيما يتصل بالعودة إلى «أرض الميعاد» كما يقولون.
على أن الكتاب لم يتريث عند هذه الصراعات الأولى بين الحركة القومية الصهيونية الناشئة وبين الشتات اليهودي – ولا سيما فيما يتصل بالوطن القومي اليهودي في فلسطين – إلا ليُبيّن الأشكال الجديدة التي لبستها هذه الصراعات بعد ولادة الكيان الصهيوني، ثم في الواقع الإسرائيلي اليوم.
2-2- ومن هنا يتريث الكتاب عند الصراع بين اليهودية والقومية الصهيونية بعد ولادة الكيان الصهيوني، مبيّناً كيف أصبح المجتمع الذي أراد الآباء المؤسِّسون في زعمهم أن يكون بوتقة صهر للثقافات واللغات والإثنيات، مجتمعاً متعدد الأعراق ومتضارب الثقافات ومتعدّد الطوائف، وكيف تغيّرت وتفتتت الصورة الأسطورية المأمولة لتحلّ محلها صور أخرى عديدة لكل منها شرعيتها، يحكمها الصراع بين اليهودي والعربي، وبين السفاردي والإشكنازي، وبين «الصبرا» والقادمين الجدد إلى إسرائيل، وبين المهاجرين الروس وسواهم، وبين فلاشة الحبشة ومن عداهم، وبين الاشتراكيين والقوميين، وبين العلمانيين والمتدينين، وبين المتشددين دينياً (الحريديم) والقوميين الدينيين الصهاينة (وعلى رأسهم جماعة «غوش إيمونيم») الخ… على نحو ما برز جلياً في معركة الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة (17 أيار/ مايو 1999).
2-3- على أن الكتاب لا يكتفي بالحديث عن هذه الصراعات التي ولّدتها القومية الصهيونية، بل يمضي إلى أبعد من ذلك، حين يوجّه عناية خاصة للحركات الجديدة التي ذَرّ قَرْنُها في العقدين الأخيرين في إسرائيل، والتي يُطلق عليها اسم حركات «ما بعد الصهيونية». وهي حركات مضت بعيداً في الكشف عن العورات الأساسية للصهيونية، مبيّنة أنها وراء الكوارث التي تتعرّض لها إسرائيل، ووراء ما يسودها من تفتت وتفكك، ومشيرةً بوجه خاص إلى أنّها أوصلت إسرائيل إلى طريق مسدود، لا مخرج منه إلاّ بالعدول عن المنطلقات الصهيونية.
ومن بين هذه الحركات الداعية إلى زوال الصهيونية، يقف الكتاب بوجه خاص عند حركة المؤرِّخين الذين عرفوا باسم «المؤرِّخين الجُدد». وعند من اتبع سيرتهم من الأدباء وعلماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والفلاسفة وسواهم.
فلقد كشف هؤلاء «المؤرّخون الجدد»، من خلال وثائق الدولة الرسمية والأرشيفات التي أُفرج عنها – بدءاً من السبعينيات – حقائق كثيرة كانت قد أخفتها عن أعين معظم الإسرائيليين أكاذيب الإعلام الرسمي. وأهم هذه الحقائق:
– ما رافق قيام دولة إسرائيل عام 1948 من خداع وطرد لأهالي البلاد وتخريب للمدن والقرى.
– لجوء الصهاينة – من أجل تعبئة الشعب اليهودي – إلى تزوير تاريخ اليهود، وإلى إعادة تأويله تأويلاً غائياً يجعله في خدمة القضية الصهيونية.
– اصطناع صورة مشرقة عن تاريخ لدولة إسرائيل، يتحدّث عن بطولات «الهاغانا» وسواها، ويقدّم تاريخاً جميلاً بطولياً مجيداً ليست فيه أخطاء، هو تاريخ الأخيار ضد الأشرار!
وهكذا دعا «المؤرّخون الجدد» هؤلاء ومن تبعهم إلى إعادة صياغة المجتمع الإسرائيلي، بل إلى وضعه كله موضع التساؤل والشك.
2-4- ومن هنا أدى هذا النقد الجذري العميق الذي قام به «المؤرّخون الجدد» ومن والاهم، مفنّدين مزاعم الصهيونية وتزويرها لتاريخ اليهود ولتاريخ ولادة دولة إسرائيل، إلى مسألة أساسية ضخمة، لطالما ثار حولها الجدل، وهي: مسألة هوية إسرائيل. ولذلك أفردنا فصلاً خاصاً للحديث عن مواقف الإسرائيليين، على اختلاف منازعهم، من مسألة الهوية هذه. وأشرنا بهذا الصدد إلى مواقف الفئات الدينية تجاه هذه المعضلة وإلى تباينها، وإلى مواقف الفئات العلمانية منها. وانتهينا إلى الحديث عن هذا الصراع القائم حول الهوية بين تيارين أساسيين متصارعين يكادان يحتلاّن الموقف الحالي في إسرائيل بهذا الصدد: تيار الهوية العلمانية، والتيار الديني المتشدد الذي نجده بوجه خاص لدى أنصار ما يُدعى بالهوية الدينية الصهيونية الجديدة (والذي تمثله بوجه خاص جماعة «غوش إيمونيم» والمستوطنون وأنصارهم من الأحزاب الدينية، كالمفدال ويهدوت هتوراه وجماعة شاس إلى حد ما).
3- وهذا كله قادنا في خاتمة المطاف إلى الحديث عن الهدف الأساسي من بحثنا، نعني التساؤل عن انعكاسات الصراع القائم في إسرائيل اليوم بين أصحاب الاتجاهات المختلفة (بين الاتجاه العلماني والاتجاه الديني الصهيوني بوجه خاص) – وما يلحق بها من صراعات حول هوية دولة إسرائيل – على مستقبل المواجهة بين العرب وإسرائيل، وعلى عملية السلام بوجه خاص.
وللإجابة على هذا التساؤل، انطلقنا من جملة من الحقائق استخلصناها من بحثنا، يمكننا إيجازها فيما يأتي:
3-1- مما لا شك فيه أن الكيان الإسرائيلي يشكو عللاً متزايدة من التمزّق والتفكك الإيديولوجي، مصدرها الأساسي الصراع القديم الجديد بين من يريدون أن يتنكّروا للصهيونية ومبادئها، وعلى رأسها حق إسرائيل في «أرض الميعاد» المزعومة، وبين من يعتبرون تلك المبادئ الصهيونية قوام دولة إسرائيل ومبرّر وجودها وقوام بقائها.
3-2- هنالك في إسرائيل نموّ متزايد للأفكار الداعية إلى تجاوز المنطلقات الصهيونية، والمشكّكة في هوية الكيان الإسرائيلي القائم، والداعية إلى بناء دولة ديموقراطية حديثة، تكون دولة لجميع المواطنين لا لفريق منهم، والمؤكِّدة على أن السؤال الذي ينبغي أن يُطرح فيما يتصل بهوية إسرائيل هو الآتي: «من هو الإسرائيلي»؟ بدلاً من السؤال التقليدي الذي لم يجد – ولن يجد – جواباً، نعني: «من هو اليهودي؟».
3-3- ومع ذلك كله، وعلى الرغم من التمزق الداخلي الذي تعاني منه إسرائيل والذي يتسع الخرق فيه على الراقع يوماً بعد يوم – فإنه ليس من المحتوم أن يؤدي هذا التمزق مهما تزايد إلى تقويض الكيان الإسرائيلي من داخله. فكثير من الدول قد تُعاني من صراعات إيديولوجية داخلها من دون أن يؤدي ذلك إلى تفككها وزوالها. ولا بد أن نسعف التمزق الداخلي عوامل خارجية تؤدي إلى تفجره.
3-4- ولسوء الطالع، وُجِدَت إسرائيل واستمرت وقد تستمر بفضل العون الخارجي، وعلى رأسه العون الإمبريالي الغربي، بوجهيه: العون الاقتصادي والمالي، والعون العسكري. ومن غير المتوقع أن تتغيّر أطراف هذه المعادلة عما قريب.
3-5- ومن هنا، فإن العامل الخارجي الأساسي الذي يستطيع أن يوصل التمزق الإسرائيلي إلى نهايته، نعني الانفجار، يظل هو العامل العربي، نعني: إحكام الطوق على إسرائيل، في شتى المجالات، وعلى رأسها المجال الاقتصادي، وتعبئة الموارد والإمكانات العربية تعبئة كاملة من أجل ذلك.
3-6- ومن أهم أدوات التعبئة العربية في مقاومة الصلف الصهيوني الذي لا يزال مسيطراً، عقد حوار متصل مع الدول الغربية، ولا سيما أوروبا، انطلاقاً من الآراء التي ذاعت في إسرائيل – والتي أذاعها تيار «ما بعد الصهيونية»، وتيار «المؤرخين الجدد» بوجه خاص – حول ما اقترفته الصهيونية من آثام ضد العرب، وحول التزييف الذي قامت به للحقائق. ومن حُسن الطالع أن هذه الأفكار الجديدة لقيت وتلقى اهتماماً كبيراً ورواجاً واسعاً في الأوساط الغربية. ومن هنا، فالحوار حولها مع الغرب، ينبغي أن يكون جزءاً من الجهود الدبلوماسية والسياسية والثقافية التي يخاطب بها العرب المجتمع الغربي.
3-7- وينجم عن هذا كله أن مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل، ينبغي أن تنطلق من حقيقة واحدة وهي: تخلي إسرائيل عن منطلقاتها الصهيونية، ولا سيما فيما يتصل بالأراضي المحتلة وفيما يتعلق بحقوق الشعب الفلسطيني كاملة، وعزمها على أن تكون كسائر الدول الديموقراطية في العالم، لا أكثر ولا أقل.
وأسوأ ما يمكن أن تُمنى به مفاوضات السلام أن يقبل العرب – بضغط من الولايات المتحدة أو سواها – بان يسهِّلوا مهمة إسرائيل ويسعفوها تجاه ما تتعرض له من صراعات داخلية، وذلك عن طريق تقديم تنازلات تُوصف بأنها لا بد منها. ومن سخرية الدهر أن تُطلب التضحية من الضحية، بدلاً من أن تُطلب من الغاصب والجلاد.
تلك هي أهم الدروس التي يُمكن استخلاصها من الكتاب الذي بين أيدينا. إنها دروس تكشف لنا عن الزيف الذي مارسته وتمارسه القومية الصهيونية، كما تبيّن لنا أن هذا الزيف غدا مفضوحاً لدى الكثير من الإسرائيليين ولدى الكثير من المفكّرين الغربيّين من يهود وغير يهود، وأن القضاء عليه هو وحده السبيل الجَدَد من أجل معالجة مشكلة الصراع العربي – الإسرائيلي. وعلى رأس ما تهدينا إليه هذه الدراسة أن إزالة الزيف وإزالة آثار الجريمة هما الطريقان الوحيدان للوصول إلى سلام حقيقي وباق، وأن في ذلك إنقاذاً لإسرائيل وإنقاذاً للعرب من الضياع في متاهة المحادثات الملتوية التي لا يحكمها ضابط.
ونوجز في الختام ما نريد أن نخلص إليه في هذا الكتاب في عبارة واحدة:
إن حرص العرب على انتزاع حقهم كاملاً غير منقوص من براثن الصهيونية، والعمل على بلوغه بسعيهم وتضامنهم وكدهم المشترك في شتى الميادين، وإصرارهم على ذلك إصراراً لا يقبل اللين، هي المواقف التي من شأنها أن تنقذ إسرائيل وأن تنقذ العرب في آن واحد.
دمشق وباريس، عبد الله عبد الدائم
أيلول/ سبتمبر 1999
مدخـل نقول منذ البداية – دفعاً لأي لبس – إن صراع الصهيونية مع اليهودية – على نحو ما نعنيه – لا يقتصر على صراعها مع الديانة اليهودية، بل يشمل الصراع بين الصهيونية والوجود اليهودي بكامله، نعني: الشعب اليهودي جملةً على اختلاف منازعه. فالصهيونية إيديولوجية سياسية هزّت الشعب اليهودي بأسره، وتصدى لها منذ البداية الوجود اليهودي في الشتات بقواه المختلفة، ثم في إسرائيل بعد ولادتها. ولا نغلو إذا قلنا إنها قسرت الوجود اليهودي قسراً ودخلته عنوة وإغواء وزيفاً، وحاولت صناعته وصياغته على غرارها، بوسائل مختلفة سوف نتحدث عنها مطولاً في كتابنا هذا. فلقد كان الهدف المعلن للإيديولوجية الصهيونية – كما نعلم – توفير إطار قومي للشعب اليهودي المشتت. ولكن الشعب اليهودي في كثرته الكاثرة آنذاك كان قد تجاوز إلى حد بعيد – كما سنرى – مرحلة الشعور بالغربة حيث كان يقيم، وكان قد أخذ يحقق الاندماج التدريجي داخل معظم البلدان التي كان يقطنها. يُضاف إلى هذا، أن معظم المذاهب الدينية اليهودية كانت معادية آنذاك للعودة إلى فلسطين، «أرض إسرائيل» المزعومة التي كانت تعمل لها الصهيونية منذ المؤتمر الصهيوني الأول في بال في 29 آب/ أغسطس 1897 بل قبله. بل إن الكثيرين من أنصار المبادئ الصهيونية أنفسهم قد أنكروا على الصهيونية دعوتها إلى العودة إلى الأرض المقدسة لأسباب سنتوقف عندها. وفوق هذا وذاك، فإن قيام دولة إسرائيل تحقيقاً للدعوة وللنبوءة الصهيونية، قد وضع الصهيونية موضع الاختبار العملي، وطرح صراعات داخل إسرائيل بين التيارات الدينية المتنافرة، وبين هذه التيارات والتيارات العلمانية، وبين أبناء الأصول العرقية المتباينة، وبين اليهود والعرب داخل إسرائيل، ويبين الأجيال التي تعاقبت على أرض فلسطين وعلى رأسها جبل «الصبّاريم» (جيل الآباء الذي ولِد في فلسطين قبل ولادة الدولة) وبين الجيل الجديد الذي ولد بعد ذلك، … الخ. وفوق هذا وذاك، بل قبل هذا وذاك، أثار العنف الحاقد الذي مارسته الصهيونية ضد العرب من أجل توليد الكيان الإسرائيلي، ثم حروب إسرائيل المتعاقبة مع العرب، وحربها مع لبنان بعد ذلك، ومحاولات قمع الانتفاضة الفلسطينية، والممارسات القمعية النازية التي لجأت إليها الدولة الصهيونية ضد الفلسطينيين والعرب، مشكلات جذرية حول طبيعة الدولة ومستقبلها، طرحت على بساط البحث من جديد في إسرائيل والعالم أهداف الصهيونية وطبيعتها العدوانية وهوية الدولة الصهيونية. وقد بلغ الأمر بكثير من اليهود، أمام الجرائم الإنسانية، أن وصفوا الصهيونية، لا سيما بعد حرب لبنان، بأنها نازية جديدة كما فعل ليبوفتش، فيلسوف إسرائيل الشهير. وزاد في أوار هذا الصراع، ما تمَ عبر تقدّم المعلومات التاريخية مع الزمن – ولا سيما بعد فتح جانبٍ من الأرشيف الإسرائيلي منذ النصف الثاني من الثمانينيات – من كشفٍ عن حقائق كانت خافية عن معظم الإسرائيليين – بعد أن زيَّفها التاريخ الصهيوني الرسمي – حول وسائل العنف والاضطهاد والتزييف التي مارسها الصهاينة من أجل إقامة الدولة في فلسطين ومن أجل تهجير أبنائها. وسوف نتريّث عند هذه الأمور كلها واحداً بعد واحد في سياق كتابنا. وحسبنا أن نؤكِّد منذ الآن أن هدفنا الأساسي هو أن نبيّن – من خلال البحث التاريخي العلمي – أن أصول الصهاينة أصولٌ لا علاقة لها – في حقيقة الأمر – باليهودية وحاجاتها الواقعية، وأن الإيديولوجية الصهيونية أسطورة أراد «صانعوها» ومزيِّفوها من خلالها أن يُنشئوا «دولة سياسية» قومية واستعمارية انطلاقاً من نزعتين كانتا سائدتين عصر ذاك هما: النزعة القومية العدوانية التي كانت سائدة في أوروبا في القرن التاسع عشر، والنزعة الاستعمارية التي رافقت القومية وغذّتها واغتذت بها. ونحن نعلم كيف أن روّاد الصهيونية (وعلى رأسهم هرتزل ثم بن غوريون) كانوا ملحدين، سوى أنهم استخدموا اليهودية وزيَّفوا تاريخها ومبادئها وفسّروها أسوأ تفسير، ليتخذوا منها قناعاً لأهدافهم الحقيقية. لننتقل الآن مطمئنين، إذن، إلى الحديث عن جوانب الصراع المختلفة بين الصهيونية وبين اليهودية، متريثين كما ذكرنا عند الأمور الآتية: – صراعها مع يهود الشتات،؛ – صراعها مع الكثير من مفكّري اليهود من صهيونيين أو سواهم؛ – صراعها مع معظم المذاهب الدينية، التقليدية منها أو الإصلاحية أو الأرثوذكسية؛ – صراعها مع التيارات العلمانية، ولا سيما الحديثة، وبوجه خاص تلك التي يمثّلها «المؤرّخون الجدد» في إسرائيل والتي يُمثلها تيار «ما بعد الصهيونية».