الإصدار: أيار/ مايو 1998

دار النشر: دار الطليعة – بيروت

دور التربية والثقافة
في بناء حضارة إنسانية جديدة

– عالمنا، عالم البُحران والقلق وعدم التعيُّن والاحتمالات المعقّدة، كيف نعمل على قيادته وتوجيهه واستخراج أفضل طاقاته ومكنوناته؟
– والحضارة السائدة المشرفة على تخوم القرن الحادي والعشرين، الحضارة التي تنبثق فيها البربرية من صلب التقدم، ويُولد فيها الشر من الخير، ويُتاخم فيها الشقاء السعادةَ والرخاءَ، والتي يحمل فيها التقدم العلمي والثقافي والمادي الرائع خمائر انتحارها الذاتي واندثارها، ما السبيل إلى صياغتها صياغةً تلبي حاجات الإنسان الحقّة وتستجيب لقيمه العميقة؟
– و«العولمة» الوحشية السائبة، التي تتسع فيها شقة التفاوت بين الأفراد وبين المجتمعات والأمم، والتي تحمل في صميم منطلقاتها التفاوت وعدم المساواة والصراع وهيمنة القوي على الضعيف، كيف نعمل على تنظيمها وضبطها، وكيف نحيلها نزعةً «عالمية» إنسانية رائدها التعاون والتفاعل بين الأفراد وبين الثقافات وبين الأمم؟
– وما السبيل إلى وقف انحطاط الحضارة الإنسانية، في عالم تتهاوى فيه القيم، وتسوده عبادة اللّذة والنرجسية والأنانية والفردية، ويحكمه افتراس الإنسان للإنسان؟
– … هذه بعض الأسئلة التي يحاول أن يجيب عنها الكتاب الذي بين أيديكم، حين يدعو إلى استثمار طاقات الإنسان العقلية والروحية، تلك الطاقات التي ما تزال مجهولة إلى حد بعيد، وإلى دفع الإنسان – عن طريق الوعي والإرادة – إلى أن يتجاوز نفسه، وإلى أن يغالب فكرُه فكرَه.
– ومن أجل هذا الكشف والإغناء المتزايد للطاقات الإنسانية المبدعة الخيّرة، يتريث الكتاب ـ بوجه خاص – عند دور التربية ودور الثقافة، مبيّناً ما ينبغي أن يتوافر فيهما من أهداف ووسائل، موضّحاً بوجه أخصّ دور التربية العربية – بعد تحديثها – ودور الثقافة العربية الإسلامية – بعد إغنائها من خلال تفاعلها مع الثقافات العالمية الكبرى – في هذا السعي الدائب إلى توليد حضارة جديرة بالإنسان حقاً وفعلاً.
– وإنه ليسعد دار الطليعة أن تقدّم إلى قرّاء العربية هذا الكتاب الرائد في مجاله الذي وضعه واحد من أبرز المفكّرين والمربين في وطننا العربي.
الناشر

تصدير 5
الفصل الأول
المستقبل بين »العالمية« اللاّإنسانية والقوميّة الإنسانيّة 9
الفصل الثاني
في سبيل ثقافة عربية مستقبلية (العالم ومستقبل الثقافة العربية) 35
الفصل الثالث
التربية والقيم الإنسانية في عصر العلم والتقانة والمال 58
الفصل الرابع
دور التربية العربية المتغير مع دخول القرن الحادي والعشرين 97
الفصل الخامس
دور التربية العربية في بناء القيم الإنسانية 129
الفصل السادس
العرب والعالم بين صدام الثقافات وحوار الثقافات 144
الفصل السابع
التخلّف العربي والخوف من الغرب 162

لم يعرف العالم منذ قرون مثل هذا الفراغ الإيديولوجي والإنساني الذي يطوقه اليوم، والذي ينذر بكوارث متعاظمة، بل قد يقود إلى ما يشبه الانتحار الذاتي.
لقد بنى الغرب نفسه خلال ما يقرب من نصف قرن، متكئاً على »كبش فداء« اصطنعه، هو الخوف من الشيوعية. وبدلاً من أن يؤدي انتصاره على هذا الخصم إلى تثبيت أركانه وزيادة استقراره وطمأنينته، إذا به على العكس من ذلك يهدّم توازنه ويفضح طبيعته. وبهذا المعنى نستطيع أن نقول إن موت الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي هو في الوقت نفسه موت للاتجاهات والفلسفات والإيديولوجيات التي تبحث عن »النظام«، والتي تطمح إلى أن تبني العالم على قواعد وأسس مقبولة في المنطق والواقع. بل لا نغلو إذا قلنا إن موت تلك الاشتراكية يوجه سهماً قاتلاً إلى »الأمل« في بناء »نظام اجتماعي« أو »مشروع مجتمعي« وإلى الصبوة نحو حياة إنسانية مشتركة، داخل كل مجتمع وفيما بين المجتمعات المختلفة.
وهكذا فقدت الإيديولوجية الليبرالية السائدة في الغرب خير دعامة لها حين فقدت عدوها التقليدي، وانتقلت إلى مرحلة »فقدان الوزن«، مرحلة القلق والبحران وعدم التعيّن. ولم يعد أي إنسان اليوم يجرؤ على الإرهاص والتبشير بولادة مجتمع تقاني عقلاني، يستطيع العقل الإنساني أن ينظم عقده، وأن يوجهه شطر حاجات الإنسان الحقة من خلال قيم إنسانية تليدة أو محدثة. ولم يعد في وسع أي »منظِّر« أن يؤكد إمكان بناء تاريخ جديد للإنسانية، متسق وعقلاني وشامل وإنساني.
هذا العالم التائه في مهب الرياح، هو الذي تحاول الفصول التالية أن تحدّثنا عن أبرز سماته ومعالمه، وعن سبل الخروج من »متاهته«. وسنرى أننا في هذه الفصول نكشف عن وعود هذا العالم وحدوده. في آن، ونبيّن أن توجيهه توجيهاً يصحح مساره، أمرٌ ممكن وغير ممكن معاً، وأن المصير وقف على مدى إدراكنا لسمات هذا العالم ومخاطره، وعلى مدى عملنا للكشف عن احتمالات المستقبل وعلى مدى عزمنا على العمل من أجل اختيار أفضلها. ومنطلقنا في هذا أننا إن كنا لا نستطيع أن نستخرج من هذا النظام العالمي، ومن أي نظام سواه، »أفضل العوالم«، فإن في وسعنا أن نجعل منه، بالوعي والجهد الموصول، »عالماً أفضل«.
ومن أجل جلاء معالم عالمنا الذي ما يزال في مرحلة انتقال، من قديم لما يَزُلْ بعد إلى جديد ما يزال في المخاض، حاولنا في الفصول التالية أن نجلو أمهات المشكلات (الإنسانية بوجه خاص) التي يعاني منها هذا العالم. ثم بيّنا أهم معالم العالم الذي نرجوه وملامحه الإنسانية، وكشفنا بعد ذلك عن الوسائل والأساليب التي يمكن أن تسعفنا في بناء هذا العالم المنشود.
وفي معرض البحث عن مشكلات عالمنا وسوءاته – التي تكاد تكوّن الوجه الآخر القبيح لفضائله وخيراته – أشرنا بوجه خاص إلى رأس الداء، نعني أن النظام الاقتصادي – بل المالي – الحر السائب، وما يملكه من قوة الاختراق والسيطرة، بفضل التقنيات الإعلامية والمعلوماتية الجديدة بوجه خاص. كما أشرنا إلى ما تؤدي إليه هذه »الليبرالية« الاقتصادية الجامحة من »عولمة« ليست إلا صورة زائفة عن »النزعة العالمية« الحقيقية التي نؤمن بها جميعاً والتي تقوم على الحوار والتفاعل بين البلدان المختلفة، والتي تستخرج من الثقافات الإنسانية المتعددة فضائلها، بدلاً من أن تعمل على إئتكالها ومحوها كما تفعل »العولمة« الزائفة التي تزجها القدرة المالية وحدها. تلك »العولمة« التي تقسم العالم فريقين: فريق الأغنياء (ومن أجله تجري اللعبة كلها)، وفريق الفقراء وهم الكثرة الكاثرة التي تتجاوز 80% من سكان المعمورة (وهم خارج اللعبة، بل هم مجرد ضحايا لها)، والتي تؤدي إلى اصطراع الأفراد والدول من أجل الكسب والربح بدلاً من أن تؤدي إلى اتساق العالم وانسجامه، كما تدّعي وكما يوهم لفظها.
أما فيما يتصل بالبحث عن مستقبل العالم والغايات التي ينبغي أن توجه مسيرته، فقد تريثنا بوجه خاص عند أهمية بناء قيم إنسانية مشتركة تسقي بذورها من قيم الثقافات الإنسانية الكبرى، وعلى رأسها الثقافة العربية الإسلامية، وتنطلق من »شرعة حقوق الإنسان« وما تفرع عنها، وتحاول التأليف والتنسيق بين المبادئ الأساسية الكبرى التي تتضمنها هذه الشرعة، ونعني بها: مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها – ومبدأ السيادة – ومبدأ العدالة – ومبدأ المساواة – وعدم التمييز بين الأفراد وبين الشعوب – ومبدأ نصرة الحق. وذلك بالإضافة إلى التأكيد على مبادئ وقيم تتخذ شأناً خاصاً في عصر العلم والتقانة والمال: كمبدأ الحوار، ومبدأ المسؤولية، ومبدأ التضامن.
ومن أجل بناء القيم الإنسانية المشتركة، ومن أجل وقف التدهور الإنساني للعالم، ومن أجل محاولة بناء عالم إنساني أفضل وألصق بحاجات الإنسان، تريثنا في معظم فصول هذا الكتاب عند دور التربية التي لا يمكن أن يُبنى أي بناء إنساني بدونها، والتي تستطيع وحدها أن تفجر لدى الإنسان في كل مكان الوعي والإرادة، وعي الواقع ووعي الواجب وإرادة جرّ الواقع نحو الواجب، بل التي تستطيع وحدها أن تفجّر ما في العقل الإنساني من قدرات هائلة على التغيير (ما تزال مطموسة)، والتي تقوى على أن تجعل الإنسان »يفكر تفكيراً مغايراً لفكره«، ويغالب بالتالي الصخور الصلدة التي يواجهها في سعيه إلى تغيير معالم عالم قلق وشرير، غير أنه قادر ومتشبث وعنيد في دفاعه عن كيانه المادي وعن عبادته للعجل الذهبي ولصوقه بحمأة الأرض، دون أن يأبه لأي مثل أعلى.
ومن هنا وقفنا مطولاً عند مقومات التربية المرجوة، وعندما ينبغي أن يتوافر فيها من غايات محدثة، ومن أساليب فعّالة ناجمة، ومن تجديد شامل وجذري في البنى والمناهج والطرائق التربوية، ومن مرونة تستجيب لمسيرة العصر المغذّة في سيرها.
وقد كان من الطبيعي أن نتريث بوجه أخص عند التربية العربية، وأن نتحدث عن وعودها ومرتجياتها، وعما يتوجب عليها عمله من أجل بناء الإنسان العربي القادر على أن يسهم في بناء المجتمع العالمي المنشود، عن طريق التأليف العضوي الوثيق بينها وبين قيم الثقافة العربية الإسلامية من جانب، وبينها وبين القيم الثقافية العالمية المرجوة من جانب آخر.
وليس هدفنا في هذه المقدمة أن نوجز ما تحتويه فصول هذا الكتاب، وجلّ ما أردناه هو أن نطرح المشكلة، مشكلة عصرنا، وأن نشير إلى ما يواجه الإنسان فيه من ضياع وقلق، نتيجة لعوامل كثيرة، على رأسها سيطرة إمبراطورية الدول الرأسمالية الكبرى، وسيطرة أقواها، نعني الولايات المتحدة، تلك السيطرة التي تستمد نسغها وحياتها من الليبرالية الاقتصادية »الوحشية« كما سبق أن قلنا، ومن سيطرة »عالم المال« حتى على عالم الاقتصاد والمبادلات التجارية، والتي تحمل معها منازع الهيمنة والتسلط والإمبريالية التي تتنافى تنافياً مطلقاً وجوهرياً مع ادعاء الديمقراطية، والتي تجعل العالم نهباً لسلطة العملات والمصارف والمقايضات المالية والمضاربات والوساطات، مولّدة بذلك، على عكس ما تدعي في دفاعها عن هذا الطراز من العولمة، عالماً تتصارع فيه القوى الكبرى، وتصرع فيه القوى الكبرى المجتمعات الضعيفة، وتسرح فيه »الشركات المتعددة الجنسية« التي تكاد تقضي على سلطان »الدولة« وتحجمها وتبطل دورها الأساسي، دور الحامية والمنافحة عن الانسجام والاتساق الاجتماعي، وعن العدل وتكافؤ الفرص بالتالي. هذا فضلاً عما تؤدي إليه من تخريب للبيئة وتهديد للحياة على وجه الأرض، بل من تهديد الكرة الأرضية نفسها (بسبب سخونة الأرض بوجه خاص من جراء تكاثر الغازات المحيطة بها)، وفضلاً عما تؤدي إليه كذلك، لدى البلدان المتقدمة بوجه خاص، من شيوع الأنانية والفردية وعبادة اللذة، ومن انطواء وعزلة وأمراض نفسية، ومن غياب روح التضامن والتعاون داخل المجتمعات، ومن انتشار نزعات العدوان والإجرام والتخريب وكل ما يولّد ما يدعوه بعضهم باسم »البربرية الجديدة«.
على أن هدفنا الأساسي لم يكن مجرد تعرية هذا النظام العالمي السائد، بل البحث عن وسائل تغييره يجعله في خدمة حاجات الإنسان وقيمه الحقة، انطلاقاً من إيماننا بأن »اللعبة لم تنته«، وأن عقل الإنسان قادر دوماً على تجاوز ذاته وعلى توليد الممكن حتى فيما يبدو مستحيلاً، مؤكدين بالتالي على دور التربية بوجه خاص والثقافة بوجه عام في هذا كله.
ولئن كانت فصول هذا الكتاب قد كُتبت في أوقات مختلفة، بين عام 1991 وعام 1997، فإن ثمة لحمة تجمعها وتؤلِّف بينها، هي ما أشرنا إليه من توفرها على تحليل الواقع العالمي وتحديد مرتجياته واحتمالاته وبناء مستقبله. وهي تفعل ذلك من زوايا متعددة تلتقي جميعها حول خطوط رائدة وفكر موحّد، يسلط كل منها الضوء على بعض زواياه.
وقد يكون من حقنا أن نقول إن فصول هذا الكتاب تضم أحفل ما ضمّه الفكر العالمي والعربي من بحوث حول عالمنا ومستقبله منذ سقوط الاتحاد السوفياتي حتى اليوم، وأنها في هذا المجال سجلّ مكثف لتجربة الإنسان خلال العقد الحالي، ورؤية واضحة ـ من قلب الضباب الكثيف ـ لما يتوجب القيام به من أجل صلاح هذه التجربة وبنائها بناء جديراً بالإنسان ورسالته.
دمشق في 10/ 2/ 1998
عبد الله عبد الدائم