سنة الإصدار: 1958
دار النشر: دار الآداب – بيروت

تصدير 5
في القومية العربية
الجيل العربي الجديد أمام مستقبله 13
معركتنا معركة القومية الجديدة 48
تزييف الفكرة القومية العربية 55
العربي الإنسان 60
خواطر حول الوحدة العربية 66
العقل الانقلابي والـ ج. ع. م. 73
الوحدة طريق الحرية 82
في القومية والشيوعية
إنسانية لا أممية 91
الشيوعية ومبدأ تقرير المصير 99
تلافي اللانهايتين 107
معركة العرب معركة الإنسانية 114
قضايا الوطن العربي
رسالة إلى فتى فرنسي في الجزائر 125
«مآثر» فرنسا في الجزائر 133
مأساة الجزائر 143
من حديث الفرنسيين عن الجزائر 156
الفكر والأدب في خدمة القومية
من رسالة الأدب القومية 161
الإبداع الذي نحتاج إليه 165
من رسالة الفكر الاجتماعية 179
صحة الفرد وصحة المجتمع 188
صراع العربي الإنسان في شعر القروي 209
الياس فرحات الشاعر الصادق 219
حركة انبعاث القومية العربية، ككل حركة انبعاث، كائن متآخذ المفاصل، ممتدّ الحلقات، متكامل القسمات. إنها تاريخ حافل بنضال المناضلين وتفكير المفكرين ورفد الأدباء وعطاء الثوار وبذل كل فرد عربي. ولقد استطاع هؤلاء جميعاً أن يضعوا في بناء هذا الانبعاث القومي حجارة متتالية متكاملة، وقدر لهم أن يبذروا على طريق الفكرة القومية العربية بذوراً خصيبة أخذت تؤتي ثمراتها وتعطي أكلها.
ولقد كان من الطبيعي أن يكون في طليعة بناة هذه الفكرة القومية أصحاب الأقلام على اختلاف ألوانهم. فالفكرة دوماً محرك كل عمل، وصدر كل نهضة ومهاد كل حركة. كما كان من الطبيعي أن يقوم تفاعل عميق بين هؤلاء الكتّاب وبين واقع مجتمعهم وأمتهم، وأن يكون ثمة اغتذاء متبادل، وعطاء مشترك.
لقد وجد هؤلاء الكتّاب مذ وجدوا، أمام مجتمع يناديهم من أعمق أعماقه، وفتحوا أعينهم على مرأى أمتهم الخارجة من ركود طويل، وذل عتيق؛ وشهدوا منذ نعومة أظفارهم صراع شعبهم الحي مع قوى الاستعمار المتكاثرة عليه؛ وشارك كثير منهم في هذا الصراع، ولما يشب عن الطوق بعد، وتابعه قطرة قطرة، وخطوة خطوة، وعاش معه لحظة لحظة، وراود فكره في الليل والنهار، وغذّى أحلامه أسىْ وثورة.
وعاش هؤلاء مع مآسي الاستعمار هذه، مآسي الفساد الاجتماعي، وتنقّلوا مع ابن الشعب في فقره وجهله، في استثمار المستثمرين له واستغلال المستغلين. وتراءى لهم مشرقاً، من خلال هذا البؤس الذي يحياه ابن شعبهم، ذلك الفيض من الخير والعطاء والإبداع الذي يرتجى من هذه الطبقة الكادحة المحرومة إذا هي تحررت من ثقل أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية السيئة، وإذا هي تحررت من الاستعمار الخارجي والاستثمار الداخلي. وكانوا يرمقون من وراء هذا الجمهور الشعبي الكبير المعذب والمحروم، أزاهير الحضارة العربية التي سوف يتضوع شذاها، عندما ينطلق المارد الكبير، مارد الشعب، يوم ينطلق من عقاله وينضو غلالته.
ومن منهم لم يعش حتى العروق والأعصاب حرمان شعبه واضطهاد شعبه والعقبات التي تقام دون تفتحه وانطلاقه؟ من منهم لم يعان بنفسه معاني الحرمان، وطعم القيود والأغلال؟. لقد كان كل واحد منهم مهدداً في حياته وفي ثقافته، في ذوقه وفكره. كان ارتياده للثقافة نضالاً ضد أشياء كثيرة. وكان تذوقه للحياة الفكرية مجهّماً بشتى المشوّهات والعقبات.
ومن قلب هذا الاستعمار الجاثم، والفساد القائم، كان هؤلاء الكتاب يذكرون صفحات أمتهم المجيدة، وينظرون إلى مزق تلك الصفحات، وإلى أشلائها المرتمية دولاً مقسمة مستعمرة. وكانوا يدركون أن هذه التجزئة التي آلت إليها الأمة العربية نتيجة وسبب في آن واحد: نتيجة لفساد أوضاعها الاجتماعية وحرمان الأكثرية الشعبية فيها من معاني الحياة، ونتيجة للاستعمار الجاثم فوقها، الممعن في تشتيتها وفرقتها. وسبب في الوقت نفسه للاستمرار في هذا الفساد والبقاء تحت نير الاستعمار. كانوا يشعرون كأعمق ما يكون الشعور، أن الخلاص من الاستعمار الخارجي والاستثمار الداخلي،
لا يمكن أن يتم بجهد كل دولة عربية ضمن حدودها وحدها. والسبيل الوحيد للخلاص من هذه الأدواء هو في قيام عمل عربي موحد، في نضال مشترك ضد الاستعمار والاستثمار.
وهكذا تبدت لهم الوحدة العربية حركة تتجاوز العاطفة التي تربط بين أبناء الأمة العربية، وتتجاوز نداء التاريخ وصوت القدر. تبدت لهم هذه الوحدة حركة مليئة بالخصب والثورة والنضال، حين رأوا فيها السبيل الوحيد الصادق للقضاء على الاستعمار ومآسيه وللتخلص من الأوضاع الاجتماعية الفاسدة وآثامها.
وبهذا أصبحت الدعوة للفكرة القومية العربية عند هذا الجيل من الكتاب دعوة إلى الحياة نفسها، دعوة تهدف أولاً وقبل كل شيء إلى تحرير المواطن العربي من ثقل أوضاعه الاجتماعية وأغلال مستعبديه في الداخل والخارج، وغدا العمل لها عملاً لمعنى إنساني عميق، هو إنقاذ الملايين من أبناء الشعب العربي، وتفتيح قواهم المبدعة وإطلاق شخصيتهم وشعورهم بوجودهم.
لقد آمن هذا الجيل أن الوحدة العربية هي الإطار الطبيعي الذي يستطيع أن يستوعب نضال الفرد العربي ويملأ وجوده ويشده ويدفعه. واستبان لهم أن الفكرة القومية، هي التربة الحية التي يستطيع أن يغتذي ضمنها نضال أبناء الشعب العربي، وأنها وحدها طريق إشعارهم بوجودهم الكامل وكيانهم التام. فبها يأخذ هذا النضال معنى واقعياً حياً، والبحث عنها وحدها، هي بالقياس إلى الفرد العربي، بحث عن الذات، بحث عن الهوية، بحث عن حقيقة الوجود.
من هذه المعاني كلها، ومن هذه الأحاسيس جميعها، انطلقت الفكرة العربية لدى كتّاب هذا الجيل. لقد غدت عندهم محمّلة بقوى هائلة جبارة: قوى الثورة على الفساد، وقوى الحقد على الاستعمار، وقوى التفاعل العميق مع الجماهير الشعبية المحرومة، والإطلالة من وراء ذلك إلى مستقبل العرب المشرق من خلال آمال هذه الجماهير. لقد أصبحت الفكرة القومية العربية عند ذلك الجيل جزءاً من بنيانهم، تداخل ذكرياتهم، وتداخل بحثهم عن ذاتهم، وتتسلل في كل خاطرة وومضة فكر. ومن هنا أصبحت غذاء حياً لفكرهم وثقافتهم نفسها. فالثقافة التي كانوا يستمتعون بها، مهما تكن مصادرها، كانت تحوم وتطوف لتجد مكانها ومعناها ضمن إطار الفكرة القومية والعمل للفكرة القومية. وكانت معاني الفكر العالمي الذي يغتذون به، ولمعات الحضارات الأخرى التي يتفيأون ظلال خبرها وإبداعها، تتلون سريعاً بلون الحاجات التي يجأر بها واقع أمتهم، وتغذي بالتالي نضالهم في سبيل انبعاث هذه الأمة.
لهذا كله كانت قصة حياة هؤلاء الكتّاب هي قصة حياة أمتهم في نضالها لبلوغ أهدافها. ولهذا كانت الصوى التي وضعها فكرهم على دروب القومية العربية، خلاصة حية لتاريخ انبعاث هذه القومية ومراحل اكتمالها ونمائها.
وعندما رغب إليّ بعض الأصدقاء أن أجمع بعض ما أسهمت فيه خلال المعركة القومية، لبيت الدعوة لسبب وحيد: هو أنني أعتبر ما خطه قلمي ملكاً لتاريخ هذا النضال المتصل المستمر الذي قام به جيل بكامله، ورمزاً لجهود لم أقم بها وحدي، ولم تكن من بنات أفكاري، وإنما كانت جهود جيل بأكمله، تفاعل وأعطى، وكنت له في بعض الأحيان جواباً وصدى.
وحين أطلق اليوم هذه الصفحات المتناثرة التي ألقيت بها مع الزمن، وعلى مرّ المعركة، أشعر وأنا أعود أدراج هذا الزمن، أن هذه الصفحات لم تعد ملكاً لزمان
أو مكان، ولم تعد من صنعي أو من صنع أفراد. إنني أقف أمامها وقوفي أمام نضال غدا لا ينتسب إلى ذات محددة، أو هوية معروفة، نضال غدا ملك المطلق، مطلق أمتنا ونضالها.
فإلى الذين ناضلوا في سبيل هذا المطلق، وإلى الذين قادوا معركة الجيل، إلى الذين جعلوا من العمل للفكرة القومية العربية عملاً للحياة نفسها، حياة كل فرد وحياة أمة جديرة بأن تعطي الحياة إبداعها وابتكارها – إلى هؤلاء تنتسب هذه الصفحات وإليهم أقدمها.
* * *
واليوم وقد بدأت الفكرة القومية تؤتي بعض ثمارها، وأخذت الأفكار تنقلب إلى واقع، بفضل قيادة بطل العروبة الرئيس جمال عبد الناصر، تشتد الحاجة إلى الاعتماد على الأساس الفكري للقومية العربية، ويقع على المفكرين واجب جديد، هو رفده هذه الانطلاقة القومية الكبرى بالزاد الدائم والوقود الفكري المستمر، لتكون دوماً في نفوس الجماهير إيماناً وطاقة. لقد ظل العمل للفكرة القومية، خلال حقبة من الزمن، عملاً فكرياً ونضالاً في سبيل نشر هذه الفكرة وتعميقها. وكان هذا العمل الفكري ينتظر أداته العملية، الأداة التي تيسّر تحقيقه وانقلابه إلى واقع. ولقد بدأ هذا اللقاء بين العمل الفكري والأداة السياسية قوياً خصيباً بفضل الجمهورية العربية المتحدة وثورتها. غير أن هذا العمل السياسي التحرري الذي تقوده الجمهورية لا يستطيع أن يعطي كل مداه إلا إذا أكمله العمل الفكري وغذّاه.
ومن هنا كان واجب الكتّاب أن يواكبوا الركب العربي من جديد وأن يكونوا له السند والدعامة المستمرة. ومن هنا يستبين مرة أخرى معنى هذه الصفحات التي نقدمها للقراء، ومكانها في تاريخ نضال أمتنا. وإذا استطاعت هذه الأفكار المتواضعة المنثورة فيها أن توقظ بعض الأقلام وتحرك العمل الفكري للقومية العربية، بلغتْ جل ما ترجو، وأدركت القصد.
عبد الله عبد الدائم