سنة الإصدار: 1963

دار النشر: دار الآداب – بيروت

تصدير: الموقف الثوري هو الموقف الإنساني 5

الباب الأول: مفهوم الثورة في الوطن العربي 23
الفصل الأول: الحرية والتحرير والثورة 25
الفصل الثاني: ثورية القومية العربية 79
الفصل الثالث: القومية العربية بين الشعور والعقل 94
الفصل الرابع: الحرية وحدودها (الأساس الفلسفي للحرية) 113
الفصل الخامس: الوحدة والزمن والثورة 127

الباب الثاني: الثورات العربية في الوطن العربي 145
الفصل الأول: الجمهورية العربية المتحدة 147
1- الثورة الكبرى: ولادة الجمهورية العربية المتحدة
2- العقل الانقلابي والجمهورية العربية المتحدة 157
الفصل الثاني: ثورة الجزائر
1- الإنسان وأزمة الجزائر 169
2- الجزائر المستقلة والثورة 181
الفصل الثالث: الإنسانية العربية وثورة اليمن 189
الفصل الرابع: ثورة الجماهير الشعبية في ثورة العراق 201
الفصل الخامس: ثورة 8 آذار في سورية:
1- أحداث سورية مرآة لهدف الوحدة 213
2- معاني الوحدة في مأساة الانفصال 225
الفصل السادس: الثورة العربية مع معركة التحرير العالمية 235
حول كتاب «عاصفة على السكر» لجان بول سارتر
خاتمة: معالم الثورة العربية 251

المَوقِف الثوْري هو الموْقِف الإنسَاني

هذه البحوث كتبت في أوقات ومناسبات متباعدة. على أنها جميعها تدور حول الظاهرة التي تكوِّن العصب المحرك للحياة العربية الحديثة، نعني الثورة. إنها أحاديث عن معنى الثورة والصلة بينها وبين الديمقراطية، وعن مقومات العمل الثوري من أجل الوحدة العربية، كما أنها تسجيل للثورات الكبرى التي قامت في الوطن العربي خلال السنوات الأخيرة بدءاً من ثورة مصر، إلى الثورة العميقة التي خطتها ولادة الجمهورية العربية المتحدة، إلى ثورة الجزائر وانتصارها، إلى ثورة اليمن، إلى ثورة العراق(1).
ومن حقنا اليوم، وقد كادت تكتمل حبات العقد الكبرى في الثورة العربية المنشودة، أن نقف وقفة جديدة عند هذه الأحداث كلها، وأن نستخلص بعد هذا الشوط الكبير الأساسي الذي قطعته الثورة العربية، أهم مقوماتها وصبواتها وخطوات مستقبلها.
والحق إن الذي يقرأ هذه الأبحاث التي كتبت في فترات متباينة، لم تكن فيها انتصارات الثورة العربية في مستوى واحد بل كثيراً ما كانت وليدة بعد، غير معجومة العود والبنيان، يخرج بنتيجة واضحة بدهية، وهي أن لا رهان على خط التاريخ العربي، فهو خط غدا واضح المعالم متين الأركان، وأن النظرة القومية التي بشرت بولادة المستقبل العربي المتحرر الاشتراكي الموحد منذ سنوات طويلة، يوم كانت القضية العربية قرزمات وهمسات، كانت دوماً وأبداً هي النظرة المطلة إطلالة عميقة على حقيقة الواقع العربي. المدركة إدراكاً علمياً واضحاً لحقيقة القوى التي حركته والتيارات التي تعصف في داخله.
ولم تكن هذه النظرة تنطلق من تفكير قدري، يعتمد على حتمية مغيبة أو على مجرد إيمان صوفي. لقد كانت تعتمد على حقيقتين كبيرتين: أولاهما تحليل الواقع العربي من خلال حاضره وماضيه، ذلك الواقع العربي الذي يشهد بعمق الإرادة العربية وعمق الوجود العربي الموحد. إنه واقع يحدثنا عن نضال الأمة العربية خلال قرون طويلة، ومنذ أيام الأتراك خاصة، من أجل تحقيق حضارة الأمة العربية الموحدة. وإنه واقع يشهد كأقوى ما تكون الشهادة بقوة العناصر والمقومات التي تجعل من كيان العرب كياناً موحداً. إنه يحدثنا حديثاً واضحاً بأنه ما اجتمع لأمة من الأمم من مقومات الوحدة مثل ما اجتمع للأمة العربية. فهذه المقومات ثاوية في تاريخ العرب وأرضهم ولغتهم ونضالهم المشترك وتكامل أجزاء وطنهم وضرورات وجودهم في العالم. إنها مقومات تجعل الوجود القومي العربي الموحد سابقاً على أي نظرية توضع وعل أي حركة تنهض. إنها الإطار الطبيعي الحي للنظرية القومية، منه تسقي هذه النظرية، ومن حرارته وعمقه يتخذ النضال العربي معناه ويلتمس قواه.
وثاني هاتين الحقيقتين اللتين استندت إليهما النظرية القومية حين بشرت بالكيان العربي الموحد، اعتمادها على ما يوحي به الشعور الحي القائم في نفوس جماهير الشعب الكبيرة في الوطن العربي، وارتباط هذا الكيان العربي الموحد بآمال الكتل الشعبية الكبيرة وبأهدافها ومصالحها. فلم تكن النظرية القومية، حين انطلقت في الوطن العربي، نظرية علية القوم وخاصتهم، كما حدث في بعض البلدان الأوروبية أيام بداية الحركات القومية قبل الثورة الفرنسية، بل كانت نظرية الجماهير، نظرية القوى الأساسية في المجتمع، والتعبير الصادق عن منازع هؤلاء ومصلحتهم. ومن هنا ارتبطت هذه النظرية منذ البداية بمعاني الاشتراكية والحرية. فهذه المعاني معانٍ شعبية أصيلة، تبيّن عمق التواصل بين النظرية القومية وبين إرادة الجماهير الشعبية ونزوعهم إلى حياة عادلة كريمة حرة. لقد انطلقت النظرية القومية من واقع حي عامر بالإمكانيات، قادر على التفجر والنماء المتزايد. ذلك الواقع هو أن القوى الفعالة التي تثوي فيها قدرات العطاء والخير والإبداع في الوطن العربي، هي قوى الجماهير العربية الواسعة التي يجمع بينها مصير واحد وهو كونها مستعبدة مكبلة، والتي تهدف بالتالي إلى غاية واحدة، هي أن تتحرر من قيود أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية السيئة. وهذه القوى الفعّالة التي هي أساس الوجود العربي، تعبّر بالتالي عن مطلبين كبيرين متآخذين: مطلب التحرر الاجتماعي، مطلب الاشتراكية، ثم مطلب الوحدة الذي يمنح هذه الاشتراكية كامل معناها ليضمن لها الحماية كما يضمن لها مزيداً من الإمكانيات المادية والبشرية حين تنطلق ضمن الكيان العربي المتكامل في ثرواته. وهكذا كان انطلاق الفكرة القومية من واقع هذه الكتل الشعبية يجعل من هذه الفكرة لا محالة فكرة اشتراكية ديمقراطية عربية موحدة. فحقيقة مصلحة هذه الكتل الشعبية تثوي في هذا العمل للتحرر الاجتماعي والاقتصادي ضمن إطار النضال العربي المشترك ومن أجل الكيان العربي الموحد الذي هو أكمل شروط الاشتراكية وأصدق وعاء لها.
من خلال هاتين الحقيقتين انطلقت الثورة القومية العربية ومن نسغهما اغتذت وتكاملت. وهي اليوم تستند إليهما مطمئنة واثقة من أجل بلوغ غايتها كاملة.
لقد أراد المشككون أن يشككوا في الحقيقة الأولى، نعني وجود الواقع العربي الموحد ووجود المقومات والعناصر التي تبرر القول بوحدة الكيان العربي. حاول هؤلاء المشككون، وعلى رأسهم قوى الاستعمار وقوى الشعوبية في البلاد العربية، أن يضخموا الفوارق بين أجزاء الأمة العربية وأن يبالغوا في تباين أوضاعها، وأن يجعلوا من الفوارق الصغيرة أسباباً ضخمة كافية لأن تجعل الوجود العربي وجوداً غير موحد. فكم تحدثوا عن وجود لهجات محلية تختلف من بقعة إلى بقعة، ليشككوا في وحدة اللغة! وكم تحدثوا عن وجود قوميات صغيرة غير عربية وعن وجود أديان مختلفة؟ وكم تفننوا في رسم شجرات النسب للبلاد العربية. فهذا بلد أقرب إلى الغرب منه إلى الشرق، وذاك قطر ينتمي إلى حضارة البحر الأبيض المتوسط قبل أن ينتمي إلى الحضارة العربية! وهذا جزء من الوطن تغوص أعماق أرضه لتتصل بأرض قبرص وكريت!! فعلوا هذا كله، وهم هم الذين عرفوا كيف قامت وحدة المملكة المتحدة من قوميات متباينة حقاً، كإنكلترا وبلاد الغال واسكتلندة وإيرلندا الشمالية! وهم هم الذين عرفوا ولادة الولايات المتحدة الأميركية من ولايات متباعدة جمعت بينها الرغبة في رد مكائد الأعداء وبناء كيان قومي قادر على الصمود. والشعوبيون من بينهم هم الذين يدينون بالولاء إلى الاتحاد السوفياتي المؤلف من قوميات متباعدة متباينة فيها عديد من اللغات والأديان والعروق البشرية، وهم الذين يعلمون كيف تكونت يوغوسلافيا وسط النضال الموحد المشترك من قوميات أكبرها ثلاث، ومن لغات أبرزها أربع، ومن ديانات تكاد تبلغ العشرين. لقد كان بدهياً عند هؤلاء المشككين أن تقوم وحدة سويسرا من لغات ثلاث وقوميات ثلاث، وأن تقوم وحدة بلجيكا من أمتين ولغتين، وأن تقوم وحدة الهند من شعوب وقوميات وأديان ولغات، وان توجد في كل أمة، مهما ادعت التماسك وصفاء الأصل، لغات وقوميات وعروق وأن يكون هذا التنوع هناك من عوامل الغنى والتكامل! أما في الوطن العربي، فالأمر مختلف! فكيف يكون هذا الوطن في نظرهم موحداً وفيه من يرطن بعامية مصرية ومن يرطن بعامية مغربية؟ وكيف يكون موحداً وفيه البلد المتطور والبلد المتخلف؟ وكيف يكون موحداً وفيه دينان غالباً؟ وكيف يكون موحداً وفيه أقليات قومية (وإن يكن معظم هذه الأقليات قد انصهر في الكيان العربي)؟
ويأتي الواقع ليصفع هذه الشكوك ويفضح أغراضها. وحسبنا من هذا الواقع شاهد واحد: حسبنا قصة الجزائر. لقد بلغ تشكيك المستعمرين في أمر هذا القطر العربي وفي أمر نسبه إلى الكيان العربي حداً جعلوا منه جزءاً من فرنسا. وظل الاستعمار حتى هذه اللحظة الأخيرة، يضرب عرب الجزائر ويحرقهم أحياء، ويردد في الوقت نفسه أنهم فرنسيون (على حد قول سارتر في مقدمته لكتاب الدكتور فانون). ومنذ عام 1930 ومنذ حملات بوجو «Bugeaud» ومؤامراته وما تلاها من مؤامرات سائر الاستعماريين، انتهج الاستعمار سياسة لا تهدف إلى إخضاع الجزائر لفرنسة فحسب، بل تهدف إلى فرنسة الجزائر وتغيير معالم حياتها القومية, ولم تسلم من ذلك اللغة العربية ولم يسلم الدين الإسلامي. ومع ذلك وبعد قرن ونيف من محاولات القضاء على معالم الوجود العربي في الجزائر، تنهض الجزائر حرة مستقلة، وتقف في الطليعة بين الدول العربية الداعية إلى وحدة الكيان العربي. فهل من حجة على الوجود العربي الموحد أقوى وأعنف من هذه الحجة الدامغة التي قدمتها الجزائر؟ لقد بزغ الوجود العربي فيها رائعاً قوياً مؤمناً، من وسط محاولات الفرنسة ووسط الاضطهاد ووسط كل الجهود التي بذلت للقضاء على مقومات الحياة العربية وفي ذلك البلد. وقامت الجزائر عربية أصيلة، وسكانها في معظمهم أُنسوا لغة قومهم، وحيل بينهم وبين أن يتعلموا حتى القرآن (إذ كان يُسمح بتلاوة القرآن دون فهمه). فأين أنصار الفوارق والألوان واللهجات واللغات المختلفة في الوطن العربي؟ أين هذه الفوارق التي حاولت جهود الاستعمار أن تخلقها في قرن ونيف، فإذا الواقع العربي يمجوها ويبددها في أيام؟
ويتحدث المشككون عن الفوارق في المستوى الثقافي والاجتماعي والاقتصادي بين البلدان العربية، ويصعب عليهم أن يتصوروا لقاء بين بلدان على هذا الحظ من التفاوت الحضاري. ولا نريد ههنا أن نفند أقوالهم وأن نذكر أن مثل هذه الفوارق الحضارية الكبرى غير قائمة وأنها إن كانت موجودة بمقدار فوجودها مبرر من مبررات الوحدة لا الفرقة. لا نريد الدخول في مناقشة نظرية، فحسبنا الواقع، الواقع البليغ. حسبنا اليمن: في اليمن، بلاد الحكم الوحشي والجهالة، تقوم ثورة تحررية كبرى، شعارها الاشتراكية والوحدة. وتحاول اليمن، وهي ما تزال تحارب للقضاء على الحكم الرجعي، أن تعوض في فترة قصيرة تخلف القرون والسنين وأن تمضي في سياسة اجتماعية واقتصادية بناءة تقدمية. فأين هذا الواقع الحي من حجج أولئك الذين يريدون أن يقروا التباعد في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، لا بين اليمن والدول العربية الأكثر تطوراً فحسب، بل بين سورية والعراق أو بين العراق ومصر؟ أين هؤلاء المناطقة الذين يلبسون ثوب التحليل العلمي المنطقي، فيمضون في التحليل المجرد المصطنع، وأمامهم منطق الحياة معبراً حاسماً؟
أما الحقيقة الثانية، نعني الأساس الشعبي الجماهيري للنظرة القومية واعتمادها على شعور الكتل الشعبية وإرادتها في العدالة الاجتماعية والوحدة، فقد قام مشككون بها أيضاً وما يزالون. وهؤلاء المشككون قد لا تظهر أخطار تشكيكهم كما تظهر أخطار تشكيك الفريق الأول. فهم في ظاهرهم دعاة وحدة. وهم مؤمنون بالوجود العربي الواحد. غير أن هذا الإيمان عندهم مشروط بشرطين: الأول أن يظل هذا الإيمان شعاراً وأن تظل الدعوة إلى الوحدة العربية أغنية عاطفية، وألا تنقلب إلى واقع فعلي! إنهم أنصار وحدة حتى الأعماق، ولكن على أن تكون هذه الوحدة مثلاً أعلى معلقاً بين الأرض والفضاء، وإنجيلاً للتقديس وصنماً يعبد! والشرط الثاني أن تكون أداة العمل للوحدة العربية، لا الجماهير وأهدافها الاشتراكية، بل القوى الرأسمالية والرجعية المسيطرة على الجماهير المستغلة لها، التي هي أحد العوامل الأساسية في بقاء التجزئة وبقاء الاستعمار!
وهذا الفريق المشكك ظل فترة من الزمن مدسوساً على القضية العربية، وظل مختلطاً بالعاملين لها. فلقد كان يقول بالوحدة وينادي بها من أغوار الحناجر، بل يحبها حباً جماً، ما دام يتخيل أنها ليست ذلك المطلب الذي يمكن أن يتحقق قريباً، وما دام يعتقد أنه حلم جميل وأمل مؤنس. حتى إذا تحققت أول تجربة للوحدة في الوطن العربي، وقامت وحدة الجمهورية العربية المتحدة، وصار الأمر جداً، كشف هذا الفريق عن حقيقة موقفه، حين أدرك مخاطر الوحدة على مصالحه الاستغلالية. وهكذا عمل مع الاستعمار والشعوبية من أجل تهديم الوحدة. ولما انفصلت الوحدة، واتته الفرصة الكبرى، فرصة العمر: فلا يعنيه في قليل أو كثير أن يبحث في أخطاء الوحدة وفي ثغراتها، وجل همه أن يتخذ من فشلها مناسبة لدفنها إلى الأبد. ولا يعنيه أن ينفضّ الناس عن أخطاء الوحدة وإنما يعنيه أن ينفضوا عن مبدأ الوحدة.
وههنا يأتي الواقع العربي فيدحض ويبرهن، ويمحو ويثبت. يأتي فيمحو الزيف ويبقي الأصل والجوهر. أراد أعداء الوحدة أن يتخذوا من الانفصال مناسبة لضرب مبدأ الوحدة، فإذا بمبدأ الوحدة يزداد قوة وضراوة ونشاطاً. ويخرج المبدأ من المعركة أكثر وضوحاً: يخرج وقد ارتبط بجذوره الحقيقية، الجذور الشعبية، وقد نضا عنه أعداءه المقنعين أو الدخلاء عليه. وتستبين الرابطة واضحة بين الفكرة القومية وبين إرادة الجماهير ومشاعر الجماهير. وتستقر معالم المعركة: إنها معركة الجماهير العربية الموحدة من أجل الأهداف الاشتراكية القومية الموحدة ضد الرجعية العربية والشعوبية الموحدة.
وتأتي ثورة العراق فتقدم الترجمة العملية لهذه المعركة. تأتي لتبين أن أي حركة تقدمية قومية لا يمكن أن تتخذ من فرقة الصف العربي المتحرر شعاراً، ولتفضح اللعبة الرجعية والشعوبية في هذا المجال. وتأتي لتبين أن القوى الحقيقية المنتصرة للوحدة وللاشتراكية هي قوى الجماهير الشعبية، وأن أداة الوحدة والاشتراكية هي هذه القوى بالدرجة الأولى. تأتي لتؤكد أن لا مجال للقاء بين الحركة الوحدوية والاشتراكية الحقة وبين الرجعية العربية. تأتي لتقول إن مخاطر الوحدة الحقيقية تكمن في تألب القوى الرجعية والحكومات الرجعية والعناصر الشعوبية. أما الأخطاء والنقائص في تطبيق الوحدة فأخطارها تأتي من الإصرار عليها، وزوالها يكون بتوضيحها والتغلب عليها، لا باتخاذها قدراً لا يمكن تغييره.
ويثبت الواقع العربي أنه أقوى من الزيف، ويثبت الوجود العربي أن جذوره عميقة، لا في الوجود الشعبي والعواطف الشعبية فحسب، بل في الوعي والفكر. فالرجعية والشيوعية تستخدم أقوى أوراقها من أجل تشويه المعركة، والصهيونية العالمية وإسرائيل والاستعمار تسهم في معركة التشويه أيما إسهام، وتريد أن تفيد من البلبلة والاضطراب الذي أحدثه الانفصال خاصة. وتضطرب المياه العربية قليلاً ويكاد يصفق أعداؤها، ويكادون يظنون أن لعبتهم هذه المرة قد نجحت. ولكنهم ما يلبثون حتى يدركوا أن الواقع العربي أقوى من الخداع، وأن في الوجود العربي حظاً من الأصالة والوعي جديراً بأن يزيل كل صدأ.
في هذه المرحلة من الوعي والتفتح نجد الثورة العربية اليوم. إنها تخرج من بين فكي الأسد منتصرة ظافرة، وتنهض وهي أكثر إدراكاً لطبيعة المعركة ولمخاطر الطريق ولما ينتظرها من ائتمار عليها وما تبيّت لهذا الائتمار من فشل.
وأهم ما تخلص إليه في هذا كله، من أجل تعميق انتصاراتها وضمان أهدافها، نتيجتان:
أما الأولى فهي أن الحركة العربية التحررية الظافرة لا بد أن تلتقي في مختلف الدول المتحررة من الوطن العربي، وإن إرادة الجماهير الشعبية في جميع أجزاء الوطن العربي لا بد أن تتحد وتسير في طريق نضالي مشترك. ولا بد أمام تكتل القوى الرجعية والشعوبية والصهيونية والاستعمارية، من العودة إلى الأصل والجوهر في العمل القومي، نعني النضال العربي المشترك، نضال الجماهير العربية أنى كانت، ومن ائتلاف الحكومات العربية المتحررة من أجل حماية هذا النضال.
أما الثانية فهي أن الجماهير الشعبية أصبحت أكثر وعياً لطريقها وأشد تضامناً وتراصاً في سبيل أهدافها. ولهذا فالاعتماد على هذه الجماهير هو أقصر طريق وأقوى طريق من أجل تحقيق الغد العربي المنشود.. وأهم ما في هذا الطريق، طريق الجماهير، أنه طريق ديمقراطي، وأنه أقدر الطرق على تحقيق أهداف الأمة العربية بأقل الصعوبات وأقل المآسي. إنه أقرب الطرق إلى الإنسانية وإلى الديمقراطية، لأنه طريق الكتلة الغالبة، طريق الإرادة الشعبية التي هي أساس كل إرادة، طريق الفكر والوعي والحرية. فالحل الحقيقي لمشكلة الديمقراطية يأتي عن طريق الجمع الوثيق بين أهداف الحرية الفردية وأهداف الحرية الاجتماعية. ولا يتم ذلك إلا عندما يصبح طريق المجتمع هو طريق الإرادة الشعبية الواعية المنظمة التي تستخلص، في حرية ووعي، حقيقة اتجاهات المجتمع وتعبر عن مصالح الأكثرية فيه. ولا يتم هذا الهدف كاملاً إذا كانت الثورة العربية معبرة عن إرادة الجماهير فحسب، بل لا بد أن تكون أيضاً ثورة تقوم على يد الجماهير، على يد المنظمات الشعبية المختلفة، نعني المؤسسات الديمقراطية، التي تستطيع وحدها أن تكشف عن حقيقة إرادة الجماهير وأن تظهر هذه الإرادة وأن تجعلها واعية مدركة منفتحة. إن الثورة في الوطن العربي تريد أن تكون ثورة إنسانية عميقة. وإن منطلقها هو تحرير الإنسان العربي من قيود أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية والفكرية. وحين تجعل هذه الثورة مضمونها العمل لتحقيق هذه الأهداف عن طريق الجماهير، تجمع الهدف القومي والإنساني جمعاً وثيقاً وتحقق نظرتها الأصيلة إلى الصلة بين هذين الهدفين. إنها ترى في الهدف القومي الإطار الطبيعي للهدف الإنساني، لأنه إطار تفتح الإنسان العربي وإفساح المجال أمام طاقاته وإمكانياته، وتحريره من عوامل الضغط والعبودية. ومن هنا كان الهدف القومي مرتبطاً عندها بالهدف الاشتراكي، وكان الهدف الاشتراكي بدوره أداة من أدوات تفتح الوجود القومي. وحين يتم هذا اللقاء بين تحقيق الكيان القومي وبين تحقق المضمون الاشتراكي لهذا الكيان، يتم اللقاء بطبيعة الحال بين الهدف القومي والهدف الإنساني.
إن الثورة القومية في البلاد العربية ليست مقصودة لذاتها، ولا هي مجرد مطلق صوفي نريد أن نهب له وجوداً متعالياً على الأشياء. إنها الأداة الأساسية لتحرير الإنسان العربي، ولإطلاق قوى الإبداع لديه في سبيل بناء حضارته والإسهام في حضارة الإنسان عامة. فالنظرية القومية العربية تنطلق من الحقيقة التالية: وهي أن الإنسان العربي لا يجد ذاته ولا تكتمل إمكانياته إلا عن طريق الوجود القومي الموحد. فهذا الوجود القومي شرط لوجوده، شرط لتفتح حضارته، شرط لوقوفه في وجه أعدائه عامة وفي وجه إسرائيل خاصة، شرط لاكتمال قوته، شرط لعودته إلى جوه الروحي الحضاري الأصيل. فشروط الحضارة العربية في ثرواتها المادية والبشرية تئوي في الكيان المتكامل. وعوامل البقاء والنماء في الأمة العربية قوامها وجودها العربي المتضامن المتآخذ. ومن هنا كان العمل لهذا الوجود العربي قضية حياة وبقاء. وفي العصر الذي نجد فيه البلدان المبتاعدة تتواصل وتتحد، وتقيم فيما بينها علاقات اقتصادية مشتركة وسوقاً أوروبية مشتركة، وفي الفترة التي نجد فيها الصهيونية العالمية بقواها الكبيرة المنثورة على سطح الأرض تتحد وتتكتل في سبيل أغراضها وفي سبيل القضاء على الكيان العربي الذي يقف في طريق مطامعها، لا يستطيع الفرد العربي الصادق مع نفسه ومع أمته أن يفهم وجود كيان عربي مجزأ مشتت، يضم دويلات لا يتجاوز سكان بعضها بضع آلاف، ويدور كل شيء فيه حول مصالح الفئات الحاكمة أو المستغلة لأوضاع التجزئة. ومن هنا كانت الثورة على الأوضاع المريضة أساس كل موقف قومي وإنساني يقفه الفرد العربي. ولا نغلو إذا قلنا إن الشعور بالإثم والخطيئة لا يمكن أن يبرح نفس الإنسان العربي المؤمن الصادق، إذا هو لم يقف موقف الثورة على تلك المظاهر من الوجود العربي التي تعمل على قتل هذا الوجود ودفنه وتعريضه لمخاطر أعدائه. وعلى رأس تلك المظاهر مظهر التجزئة والتفتت. والفرد العربي الذي يريد أن تكون له في مجتمعه وظيفة حقيقية منتجة مبدعة، وظيفة إنسانية، وظيفة لا يحيا فيها متطفلاً مغتذياً بآلام الآخرين وبؤس الآخرين مرتضعاً لبن الخيانة لشعبه وأمته، لا بد أن يكون فرداً ثائراً على الظروف الشاذة العجيبة التي توجد فيها البلاد العربية والتي تجعل كل إنسان فيها مشاركاً في الإثم ما لم يعمل على تغيير الواقع.
إن الشعور بالخجل والعار شعور ثوري كما يقول ماركس. وما أظن فرداً مخلصاً لقيم الإنسان الروحية، لا يراوده هذا الشعور بالعار أمام المخازي التي ترتكب بحق أمته العربية. يقول سارتر في مقدمته لكتاب الدكتور فانون، وفي معرض الحديث عن موقف فرنسا السابق من الجزائر: «الإنسان عندنا يعني شريكاً في الجريمة، لأن كل واحد منا قد أفاد من استغلال المستعمرات». ونستطيع أن نقول إن كل فرد عربي مشارك في الجريمة، لأنه يحيا على حساب الفساد والاستغلال، ما لم يعمل على تغييره. إن السكوت على الجرائم التي ترتكب في حق الوجود العربي وعلى تعريضه لمخاطر الضعف والهزال شيء
لا بد أن يحط من قيمة الفرد العربي أمام نفسه، ولا بد أن يقوده إلى تردّ إنساني عميق. وإن القيم الإنسانية التي هي مصير الإنسان الحقيقي ومعنى وجوده، ليست مجرد قيم أصنام تنقش على واجهات المباني وتسطر في الكتب، وإنما هي قوى ينبغي أن تنزل إلى المجتمع وإلى الواقع. وما لم يربط الإنسان العربي بين قيمه الإنسانية الخلقية التي طالما آمن بها وجعلها جوهر وجوده وبين رغبته في نشر هذه القيم ومدها إلى الواقع، يظل بين بني الإنسان دون مرتبة الإنسان.
فهل نغلو بعد هذا كله إن قلنا إنّ الموقف الثوري في بلادنا العربية هو الموقف الإنساني؟