سنة الإصدار: الإصدار: الأولى حزيران/ يونيو 1957 الثالثة – حزيران/ يونيو 1960
دار النشر: دار الآداب – بيروت

5 تمهيد
7 مقدمة الطبعة الثانية
17 مقدمة: حقيقة القومية والإنسانية
21 الفصل الأول: نشأة الفكرة القومية في البلاد الأجنبية
32 الفصل الثاني: الفكرة القومية العربية
45 الفصل الثالث: الاتجاهات القومية المعاصرة
54 الفصل الرابع: عصر القومية الإنسانية
نستطيع أن نقول أن الصراع بين القومية والإنسانية يلخص تاريخ الإنسان في خطوطه العريضة. فتاريخ الحروب هو تاريخ هذا الصراع، وتاريخ الحضارة نفسه ثمرة لهذا الصراع. والمذاهب السياسية، على اختلاف ألوانها، محاولات لحل هذا الصراع وتلمس لطريق الخروج من هذا المأزق.
هذا الواقع يقودنا إلى القول منذ البداية أن وجود الإنسان في أعماقه وصميمه يشتمل على جوهر مزدوج، إنساني وقومي في آن واحد. وهذا الازدواج في حقيقته ازدواج اتحاد وتمازج، لا ازدواج تناقض. غير أن وحدته العميقة هذه تحمل في ثناياها بذور فرقتها وانقلابها على ذاتها. وهكذا قد تقلب القومية للإنسانية ظهر المجن، فإذا بها تفقد قوميتها وإنسانيتها في آن واحد، وقد تتنكر الإنسانية للقومية فإذا بها تفقد الحسنيين أيضاً.
ذلك أن كل حقيقة وجودية لدى الإنسان تأخذ قيمتها ومعناها من شكل فهمنا ووعينا لها. وليست هنالك حقيقة أزلية أبدية تتفتح من تلقاء ذاتها تفتح الزهرة في أكمامها. وأي عنصر في كيان الإنسان، عنصر يحتاج إلى وعي عقلي يجلوه ويحدد معالمه، وإلا ظل مستغلقاً مبهماً، كما يحتاج إلى تجربة إنسانية تكشف قسماته وتنضو عنه ما قد يعلق به من علائق غريبة.
بل إن هذا الوعي الإنساني كثيراً ما يحمّل الأشياء غير طباعها، وكثيراً ما ينحرف بها عن مجراها. ولابد له من معاناة طويلة إذا أراد أن يضع الحقائق في نصابها. فهو شيء متكامل، لا كامل منذ البداية، يزداد إدراكاً لذاته، وجلاء للأمور، كلما ازدادت تجربته وعمقت خبرته.
ومن هنا كانت حقيقة القومية والإنسانية معروضة لتخبطات الوعي هذه، وكان فهمها خاضعاً لمد وجزر طويلين في تاريخ الإنسانية. ومن هنا أيضاً كان الكشف عنها تجربة مستمرة متصلة، وكان جلاؤها الفكري جلاء مستجداً ضرورة قائمة. ومن الخطأ أن نعتقد أنها حقيقة بيّنة بذاتها، واضحة من تلقاء نفسها، وأن من البدهي أن يكون الإنسان إنساناً وأن يكون ابن قومه وأمته. فالبداهة لم توجه دوماً تاريخ العقل، والأفكار الواضحة لم تكن دوماً واضحة في عقول صانعي التاريخ. ومن اللازب أن نقرر نهائياً أن كل حقيقة بناء وأن كل فكرة إنشاء. بل من الواجب أن نقول أن بناء الحقيقة نضال في سبيل الوصول إليها، وأن إنشاء الفكرة معاناة طويلة لنقائضها وأضدادها.
وفكرة «القومية والإنسانية» خاصة كانت مجالاً ثراً لهذه التجربة التاريخية التي عملت شيئاً بعد شيء على توضيح قسماتها ومعالمها، بعد مد وجزر، وبعد غربلة في المشية وتلكؤ في المقاصد. فلم يهتد الإنسان إلى وجوده القومي الإنساني معاً إلاّ بعد لأي وجهد، وما يزال حتى اليوم يسائل حول قيمة هذا الوجود وواقعه. لهذا يحسن بنا أن نعرض بادئ ذي بدء للخطوط الأولى من هذه التجربة الإنسانية المتصلة بالقومية والإنسانية.
دمشق حزيران /يونيو 1957
مُقَدّمَة الطبعَة الثانيَة يمضي على كتابة سطور هذا الكتاب الذي نقدم الطبعة الثانية منه للقراء عامان ونيف. ومن الجميل أن تمرّ يد الزمن على عمر الأفكار، وأن تتحداها الحوادث، لتضعها من جديد على محك البحث. وجميل خاصة أن تنقضي الأيام والسنون على ما يخطه الكتاب حول الفكرة القومية، إذ من مقومات هذه الفكرة كما يرسمها هؤلاء الكتّاب أنها فكرة مطلقة لا تفقد مع الزمن قيمتها وشأنها، بل يزيدها الزمن وضوحاً وإشراقاً، وتأتي الحوادث يوماً بعد يوم مصدقة للحدس الأصيل الذي نبعت منه. والحق إن الفكرة الأولى والأخيرة للكتاب الذي نعود لنضعه بين يدي القراء، هي أن القومية فكرة مطلقة، وأنها بالتالي غاية لا مرحلة، ولن يؤدي تطور الإنسانية إلى ما يتجاوزها. وما نقوله في الكتاب دوماً هو أن الانتقال من القومية إلى ما يجاوزها شيء مباين لطبيعة الوجود الإنساني ولطبائع الأشياء. وفكرة الدوائر المنداحة التي تكون في كثير من الأحيان مزلقاً من مزالق العقل الإنساني لا يمكن أن تصدق على الفكرة القومية. نعم لقد تم انتقال الإنسان في دوائر منداحة متسعة، من الحياة من أجل القبيلة، إلى الحياة من أجل المدينة، ومن الحياة من أجل المدينة إلى الحياة من أجل القوم والأمة. ومثل هذا الانتقال كان تدرجاً طبيعياً من الضيّق إلى الواسع. أما الانتقال من الحياة القومية إلى ما يجاوزها فلا يدخل ضمن هذا الإطار. فالفرق بين الحياة القبلية والحياة المدنية، أو بين الحياة المدنية والحياة القومية فرق في الدرجة. أما الفرق بين الحياة القومية والحياة اللاقومية التي يدعونها أممية، ففرق في الطبيعة، على حد تعبير الفيلسوف برغسون. ولا يتم الانتقال من الفكرة القومية إلى الفكرة الأممية عن طريق اتساع الفكرة القومية اتساعاً طبيعياً كما قد يظن، وإنما يتم في الواقع على حساب الفكرة القومية وعلى أنقاضها وأشلائها. هذا هو الحدس الأصلي الذي تنطلق منه الفكرة القومية. وهي تغذيه وتزيده غنى، حين تبين في الوقت نفسه أن كون الوجود القومي هو بعينه الوجود الإنساني الحق، وأن إنسانية الإنسان تتحقق كاملة في الكيان القومي وتتفتح فيه وتزدهر، في حين أنها تضل دعائمها وتظل بلا إطار أو مستند إذا هي خرجت عن هذا الإطار الواضح المفصل على قدّ الإنسان، إطار الأمة التي ينتسب إليها والتي تستطيع وحدها أن تجتذب حماسته للإبداع والعطاء. فالقومية هي غاية مطاف الإنسان لأنها غاية وجوده ولأنها تضعه في صحنه الطبيعي وتمتاح لديه أقصى قواه الإنسانية. والوجود الذي تتصوره القومية وجوداً مكوناً من قوميات متآخية متآزرة هو بعينه الوجود الإنساني. ولعل الأمر يغدو أوضح إن نحن قلنا إن الحياة الإنسانية البعيدة عن العدوان والغلبة، على نحو ما يحلم بها كل إنسان، هي عينها الحياة التي تبشر بها الفكرة القومية في مفهومها الصحيح، حين تدعو إلى كتلة إنسانية متعاونة متضامنة مؤلفة من وحدات قومية متكاملة. أو نحن بحاجة ههنا إلى أن نستعير تعبيراً من تعبيرات الصوفية، فنقول إن الجمع الحقيقي لا يكون إلا بعد الفرق، أو أن نستعير مصطلحات الفلاسفة فنقول إن الوحدة بطبعها وحدة متكثرة؟ هذا الحدس الأصلي الذي تنطلق منه الفكرة القومية يحمل في ثناياه مدلولاً عملياً غنياً هو أن السياسة العملية التي تتبع في الحقل الدولي واحدة من اثنتين لا ثالثة لهما: سياسة مؤمنة بالقومية مدركة لمعناها الإنساني، عاملة بالتالي على احترام حق تقرير المصير وعلى التعايش السلمي بين القوميات. وسياسة أخرى غير مؤمنة بالقومية، ولابدّ بالتالي أن تكون سياسة عدوانية لا تؤمن بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولا تعمل لتعايش إنساني صادق. ويأتي الزمن، وتأتي الحوادث، فتصدق هذا الحدس وتزيده إشراقاً. تأتي الحوادث اليومية، فتبين أن كل قول بالتعايش السلمي واحترام حقوق الشعوب قول زائف إن لم يغذه إيمان بالفكرة القومية الحرة، ويأتي الدليل يوماً بعد يوم على أن جوهر كل منزع إنساني إلى التعايش هو الإيمان بالفكرة القومية، لأنها هي التي تعني في نهاية الأمر حق الشعوب في تقرير مصيرها. وبذلك ينكشف الزيف الكامن في المذاهب التي تنادي بالتعايش السلمي دون أن يصحب هذا النداء إيمان بمدأ القومية: لقد أرادت الشيوعية خاصة أن تجاوز، بعد المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي وبعد وفاة ستالين، الأفكار التي قالت بها في البداية، والتي تتلخص في استحالة التعايش بين المعسكر الرأسمالي والمعسكر الشيوعي وتؤمن بالتالي بأن الصراع بين المعسكرين لابد واقع وأن الحرب قدر لا مفر منه. وقرر المؤتمر العشرون والقادة الجدد إمكان مبدأ التعايش مع المعسكر الرأسمالي بل أكدوا إمكان الوصول إلى الشيوعية بوسائل سلمية وبالطرائق البرلمانية نفسها. غير أن مثل هذا القرار ظل طبعاً ضمن إطار الفكرة الشيوعية التي تؤمن بالأممية العالمية وتؤمن بوحدة العالم ضمن نظام شيوعي شامل. ولهذا كان لزاماً على مثل هذا القرار أن يظل زائفاً عسير التطبيق. وهذا ما أكدته الحوادث العالمية وحوادث العراق بشكل خاص، إذ وجدنا المعسكر الشيوعي يخرج عن مبدأ حق تقرير المصير، ويفرض على الشعوب مصيرها. وبدت مبادئ الشيوعية من جديد، وعلى رأسها مبدأ التعايش السلمي، مبادئ مقيدة دوماً بنجاح الشيوعية العالمية. فبمقدار ما يتحقق لهذه الشيوعية العالمية النجاح والانتشار، يتم الأخذ بالتعايش ومبدأ تقرير المصير وغيرهما من المبادئ. وبمقدار ما تتعارض مثل هذه المبادئ مع مصلحة الشيوعية العالمية تغدو وسائل لا غايات ويستباح نقضها. وهكذا ترتد الشيوعية إلى مبدئها الأصيل الذي من شأنه أن يفسد كل مبدأ وأن يحطم كل قيمة: وهو أن أي فكرة فكرة تابعة وملحقة، تابعة لمنطق التطور التاريخي كما يفهمه الشيوعيون. ومن هنا نرى أن أي فكرة إنسانية تظل شوهاء معروضة للزيف والخداع، بل يمكن أن تكون طعماً للاقتناص والصيد، إن هي لم يصحبها إيمان بالفكرة القومية. ولا سبيل إلى صيانة الفكرة الإنسانية حقاً إلا عن طريق الإيمان بحق كل أمة في تقرير مصيرها، وبحق القوميات في بناء كيانها المستقل واختيار النظام الصالح لها. لقد أخذ لينين نفسه بمبدأ التقارب الحر بين القوميات، التقارب المبني على العواطف والمشاعر والإرادة المشتركة، ورفض أن تفرض السعادة فرضاً على أي شعب غريب، وأنكر امتداد الشيوعية عن طريق القوة وقال بوضوح: «إن حدود الدولة الاشتراكية سوف تحدد ديمقراطياً، أي استناداً إلى إرادة الشعب وميوله وعواطفه». بل قدم ستالين نفسه في مقال شهير بعنوان «الماركسية والمسألة القومية» تعريفاً للأمة قوامه أنها «جماعة مستقرة كوَّنها التاريخ تجمع بين أفرادها اللغة والأرض والحياة الاقتصادية والتكوين النفسي الذي يتجلى في الثقافة المشتركة». ولكن مثل هذه المبادئ الجميلة خضعت بحكم الضرورة لمنطق أسمى، منطق نجاح الحركة الشيوعية، فلم تأبه الشيوعية لحق الشعوب في تقرير المصير، ولم تقر في التطبيق تعريف ستالين للأمة. وكان ستالين أول من خالف ذلك، كما وقع في حوادث «جيئورجيا» الشهيرة التي كان لينين أول من أنكرها عليه. ومعنى هذه كله أن القول بمبدأ يجاوز القومية لابدّ أن يقضي على كل القيم الإنسانية ولا يمكن أن يصون الفكرة الإنسانية. والوسيلة الوحيدة لجعل الفكرة الإنسانية غاية لا وسيلة، هدفاً لا خطة، أن تكون مصحوبة بالإيمان بقوميات مستقلة متعايشة متآخية. والشيوعية ما تزال تعاني آثار التناقض الباطني الأصلي الثاوي في تقرير مبادئ إنسانية ضمن إطار يجاوز الوجود القومي، أي يجاوز الوجود الإنساني الحق، ويبيح لأمة أن تفرض نظرتها على أمة، ويتيح للإنسان أن يتخذ الإنسان وسيلة لا غاية. وإذا كان مسلك المعسكر الشيوعي خلال السنوات الأخيرة يثبت الفكرة القومية إثباتاً سلبياً، ففي الحوادث التي نعيش بين ظهرانيها ما يثبت هذه الفكرة إثباتاً إيجابياً. فها هي ذي القومية العربية ينطلق ماردها، وها هي ذي بذورها تنعقد بفضل ولادة الجمهورية العربية المتحدة، وهي منذ الفترات الأولى لولادتها تثبت للعالم يوماً بعد يوم ما تحمله الفكرة القومية عامة وفكرة القومية العربية خاصة من معاني إنسانية ومن دعوة إلى التعايش السلمي. والقومية العربية حين تتبنى شعار الحياد الإيجابي تقدم دليلاً جديداً على أن القوميات الصحيحة عامل أكيد في سبيل السلام العالمي وفي سبيل تحقيق حياة إنسانية متآخية. يضاف إلى هذا أن القومية العربية التي تتمثل في الجمهورية العربية المتحدة تحمل في الوقت نفسه معنى إنسانياً أصيلاً حين تجعل من اتجاهها القومي اتجاهاً اشتراكياً ديمقراطياً يهدف إلى أن يحرر الملايين المحرومة من أبناء الأمة العربية ويضع نصب عينيه أن يستخرج كامل طاقات الشعب العربي ويضعها في خدمة الإنشاء والبناء، في خدمة الحضارة والإنسانية. إن الجمهورية العربية المتحدة تثبت من جديد، عن طريق فكرتها القومية التي تؤمن بها، أن الإطار القومي هو الإطار الذي يحمي الإنسان من محاولات التوسع والسيطرة المادية والعقائدية، وهو الذي يمكنه من محاربة النزعات الاستعمارية على اختلاف ألوانها وأشكالها. والشعوب الصغيرة لا تجد درعاً يحميها من مطامع الدول الكبرى إلاّ درع القومية. هكذا تتخذ يوغوسلافيا مثلاً من العودة إلى ينابيع حياتها القومية رداء يقيها من أخطار روسيا. ولهذا نجدها تؤكد في وضوح كامل حق كل شعب في تقرير مصيره، وتأبى أن يفرض عليها حتى التفسير الروسي للماركسية، وترى أن من حق كل أمة أن تتبنى المذهب الذي يتلاءم مع أوضاعها وحاجاتها، وأن تفسره كما يتبدى لها من خلال تجربتها. أفنحن بحاجة بعد هذا إلى القول إن حقيقة المعركة الفكرية، إن أردناها معركة جدية منتجة للإنسانية، ينبغي ألا تقوم بين القومية واللاقومية، بل بين القومية والقومية نفسها، أي أن ينصب جهد الإنسان الحديث على أن يرفع القومية يوماً بعد يوم إلى مقام أسمى، يصبح فيه وجود الإنسان لنفسه وفي سبيل غيره بدلاً من أن يكون لنفسه ضد غيره؟ إن سبيل الإنسانية هي القومية، فلنحاول إذن أن نرقى بهذه الفكرة القومية إلى أسمى معارج الإنسانية.
دمشق ٣/١٢/١٩٥٩
عبد الله عبد الدائم