تحرير وتقديم فهد الفانك

الإصدار: الأولى – 2002

دار النشر: دار طلاس – سورية

هذا الكتاب

مسألة الحوار بين الحضارة العربية – الإسلامية وبين الحضارة الغربية مسألة تليدة، تغيب عن الأنظار أحياناً وتبرزها الأحداث المتجددة أحياناً أخرى.
وتولي هذه المسألة اليوم مقام الصدارة الأحداثُ العالمية – بعجزها وبجرها – وما يسود عالم ما بعد الاتحاد السوفييتي من بحران وقلق وعدوان، وما تطرحه «العولمة» – في شكلها الحالي «الوحشي» – من علاقات جديدة مفروضة على الكيانات القومية، وما تنذر به من عدوان على الثقافات وصراع بين الحضارات.
والكتاب الذي بين يدينا يوضح انعكاس ذلك كله على العلاقات بين الحضارة العربية الإسلامية وبين الحضارة الغربية، مبيناً أسباب ترديها في الماضي والحاضر، والمسؤولية العربية – الغربية المشتركة عن ذلك. ويشير بالتالي إلى الجهود التي ينبغي أن تقوم بها كلتا الحضارتين من أجل توفير التربة النفسية والثقافية والسياسية اللازمة لجعل ذلك الحوار حواراً نزيهاً وخصيباً ومجدياً، يكوّن جزءاً لا يتجزأ من حوار شامل بين الحضارات العالمية، من أجل بناء عالم إنساني المنازع، يعلو فيه الشأن الإنساني على أي شان آخر، ويعلو فيه الحق على سواه.
والكتاب بقلم مفكر قومي كبير له في مجال الثقافة القومية والتربية عطاء فذٌّ وموصول.
دار طلاس

– مقدمة 7
– الفصل الأول:
التخلف العربي والخوف من الغرب 23
مدخل 25
أولاً- عود إلى الماضي 27
ثانياً- الدروس المستخلصة 41
ثالثاً- الخوف من الغرب وتجارب النهضة في البلدان النامية 49
خاتمة 54
– الفصل الثاني:
العرب والعالم بين صدام الثقافات وحوار الثقافات 59
مدخل 61
أولاً- العالم بعد سقوط الاتحاد السوفييتي 62
ثانياً- الواقع العالمي اليائس 64
ثالثاً- العداء للقومية 66
رابعاً- معاداة الإسلام 68
خامساً- مشكلة النظام العالمي ذات منشأ ثقافي 71
سادساً- مخاطر الدعوة إلى ثقافة عالمية وحيدة 74
سابعاً- تفاعل الثقافات هو المخرج 75
ثامناً- الدوائر الثقافية الثلاث 76
تاسعاً- شروط الحوار بين الثقافات 78
عاشراً- الغرب يبحث عن «كبش فداء» 80
حادي عشر- نتائج أساسية 81
ثاني عشر- القومية العربية والصراع الثقافي العالمي 87
ثالث عشر- الثقافة العربية الإسلامية والغرب 92
– الفصل الثالث:
مستقبل الثقافة العربية والتحديات التي تواجهها 95
أولاً- تعريفات لا بد منها 97
ثانياً- الثقافة في عالمنا اليوم 100
ثالثاُ- التحديث والتغريب 104
رابعاً- أفول الغرب 106
خامساً- الثقافة والعالم اليوم 109
سادساً- الثقافة العربية والعالم 110
سابعاً- الأزمة الذاتية للثقافة العربية 115
ثامناً- التحديات الخارجية التي تواجه الثقافة العربية 118
خاتمة 124

يضم الكتيب الذي بين يدينا أبحاثاً ثلاثة كتبت بين عام 1995 وعام 2000، ولكنها تتحلق جميعها حول موضوع واحد، هو موضوع الساعة أيامنا هذه، نعني موضوع العلاقة بين الثقافة العربية وبين ثقافة الغرب، وما يلحق بها من مشكلات الصراع والحوار والتواصل.
ومن هنا، لا نغلو إذا قلنا إن ما ورد في هذه الأبحاث الثلاثة قد طرح المشكلة – مشكلة العلاقة بين الغرب والشرق، بين حضارة الغرب والحضارة الإسلامية – طرحاً يلتقي التقاء كاملاً مع الطرح السائد اليوم، بل لعله يمثّل إرهاصاً بالمسائل التي قذفت بها حادةً حارة أحداثُ الحادي عشر من أيلول وما تلاها، كما يمثل في الوقت نفسه منطلقات سليمة للحلول التي ينبغي أن تتصدى لتلك المسائل.
ومن هنا حرصنا على إعادة نشرها.
ومع ذلك فما كنا نقوله من قبيل النبوءة بالأمس، قد أصبح اليوم واقعاً يثير القلق ويستلزم العلاج السريع.
ولنمضِ تواً إلى صلب الموضوع:
وصلب الموضوع اليوم: ما السبيل إلى تخليص العالم من محنته؟
-1 لقد قيل الكثير عن مسيرة العالم ومستقبله بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. ومنذ ذلك الحين نقرأ لمفكري العالم في شتى أرجائه وفي الغرب بوجه خاص قولاً واحداً قوامه أننا أصبحنا في عالم لا نعرف ما مآله وما مصيره، ولا نملك عنه من اليقين إلا عدم اليقين.
-2 وقد قيل الكثير وكتب ما هو أكثر عن نظام العولمة «الوحشية» الذي يتخذ سبيله إلى العالم كله سَرَباً، وعُقدت بعض الآمال على احتمال إقدام العالم على بناء «عولمة» إنسانية، بدلاً من العولمة «الوحشية» التي تعني – فيما تعني – سيطرة الأقوياء والأغنياء على المستضعفين والفقراء. بل ارتفعت الأصوات عالية تستنكر أن تصبح العولمة سبيلاً للسيطرة على ثقافات الشعوب ومحوها من أجل توليد ثقافة واحدة ووحيدة جامعة، هي ثقافة الدول القوية والغنية، بل ثقافة أقواها وأغناها.
-3 وفوق هذا وذاك، سُمعت صيحات متكاثرة، انطلقت من أرجاء العالم جميعها، ومن الغرب على نحو خاص، تبين مخاطر «الليبرالية» الاقتصادية الجديدة ومخاطر النظام الاقتصادي الذي لا تحكمه

إلا السوق الحرة. وقال في هذا من قال: «العالم ليس سلعة(1)». بل وجد من قال إن الليبرالية الجديدة المتطرفة ليست إلا وهماً اقتصادياً (يوتوبيا اقتصادية)، وأن مبدأ الربح الليبرالي ضرب من «العُصاب» بل ضرب من «الجنون»، ووحش كاسر يمارس ديكتاتوريته على البشرية كلها. ومن هنا فالعولمة المسيَّرة من قبل هذه الليبرالية الجديدة المتطرفة هي «شيطان العصر الحديث(2)».
-4 ومن هذه الليبرالية المتطرفة انبثقت من جديد، في رأي العديد من الكتاب، بذور القول بالتفوق الغربي، بل بذور النظرة إلى الآخر نظرة دونية، وما يلحق بذلك من نظرة إلى العربي المسلم ترى فيه متخلفاً ينبغي تمدينه بالعنف ومنعه من امتلاك أي قوة. ويمثل أصحاب هذه النظرة «هانتينغتون S. Huntington» في مقاله الذي نشره في مجلة وزارة الخارجية الأمريكية عام 1993، ثم في كتابه «صراع الحضارات» الذي صدر عام 1997 وترجم إلى العربية.
وقد انتهى به الأمر كما نعلم، إلى الدعوة لاجتناب خطر الثقافة الإسلامية (والكونفوشيوسية) ودعى منذ مقاله الأول (عام 1993) إلى وضع ما سماه بالردع الاستباقي (العسكري).
ولا يتسع المجال لمناقشة هذه الأفكار كلها، وقد قيل فيها وكتب عنها الشيء الكثير. وفي فصول كتابنا هذا أجوبة واضحة على الكثير منها.
-5 غير أننا نرى لزاماً علينا أن ندلي دلونا بين الدلاء، وأن نشير إلى ما تحمله الأحداث الأخيرة (أحداث 11 أيلول) من دروس عالمية وعربية.
لنترك جانباً مخاطر الليبرالية والعولمة المتوحشة على الشعوب الضعيفة بوجه خاص، وعلى الثقافات والقيم القومية، بل حتى على اقتصاد الدول المتقدمة نفسها.
-6 ولنتريث قليلاً عند المعاني العميقة لأحداث الحادي عشر من أيلول تلك الأحداث التي تستلزم إعادة نظر شاملة في حياة العالم، المتقدم منه والمتخلف.
ومن أجل هذا لا بدّ أن نذكّر بأن النظام الليبرالي المطلق الذي يحاول أن يسود العالم منذ سقوط الاتحاد السوفييتي بوجه خاص يؤدي – فيما يؤدي إليه – إلى غلبة ما هو اقتصادي على ما هو سياسي. وكلنا سمع ويسمع عن تضاؤل دور الدولة في مثل هذا النظام، أمام تحكم السوق والشركات المحلية والعالمية الكبرى.
وقد أصبح الحديث عن الدولة المصغّرة «Mini état» على كل شفة ولسان، كما أصبح شائعاً الحديث عن موت «الإيديولوجيات» وموت «المشروعات الاجتماعية الكبرى». فالسوق هناك ترسم وتحكم وتصحح نفسها بنفسها.
-7 ولكن أحداث الحادي عشر من أيلول أظهرت للعيان أن العالم الذي يمكن أن يتعرض للأخطار الكبرى، لا تقوى فيه الليبرالية الاقتصادية الجديدة على أن تحل محل الدولة ومحل السياسة في مواجهة تلك الأخطار. ويضرب أحد الكتاب الكبار(3) مثالاً على ذلك ما أدّت إليه «خصخصة» الأمن الجوّي في الولايات المتحدة. ويقول في هذا قولاً صريحاً واضحاً:
«إن صور نيويورك المخيفة تحمل رسالةً لم يتم حتى الآن توضيحها. وهي أن من الممكن لدولة أن تأخذ بالليبرالية حتى الموت».
والحق أن الليبرالية الجدية كانت تعد دوماً فلسفة صالحة لأيام اليسر والخير، وهي لا تعمل إلا شريطة ألا تنفجر أزمات أو صراعات مدويّة. وهكذا تجد نفسها في أيام الأزمات والمحن بدون غطاء سياسي يحميها.
ويختم «أولريخ» مقاله بنص نرى من المفيد أن ننقله بكامله:
«إن من الضروري الجمع بين العولمة الاقتصادية وبين سياسة عالمية شاملة. وفي مقبلات الأيام، لا بدّ أن تؤخذ بعين الاعتبار – في هذه السياسة العالمية – مطالب أساسية، مثل كرامة البشر، واحترام هوياتهم الثقافية، والتباين بين الثقافات …».
ثم يضيف قائلاً:
«في الحادي عشر من أيلول، امّحت المسافة بين العالم الذي يكسب ويربح بفضل العولمة وبين العالم الذي يرى أنه مهدد بها ومطعون في كرامته. وتقديم العون إلى المستبعدين عن العولمة وخيراتها لم يعد إذن واجباً إنسانياً فحسب، بل غدا المصلحة الحميمة للغرب ومفتاح أمنه الداخلي».
-8 وليس هدفنا أن نتريث طويلاً عند مثالب الليبرالية الغالية وما تفرضه من عولمة «وحشية» على الرغم من أن تلك المثالب هي الجرثومة الولود التي تغذّي صراع الحضارات، والتي ترد هذا الصراع إلى أكثر أشكاله بدائية، والتي تعيد عالم القرن الحادي والعشرين إلى عهود البربرية التي سادت في بعض حقب التاريخ القديم والحديث.
ولن نعود إلى سيرة «الإرهاب» الذي عرفته الإنسانية منذ القرن الأول للميلاد على يد «حملة الخناجر Sicaires» اليهود، أو إلى الإرهاب الذي عرفته أوروبا بوجه خاص أيام «محاكم التفتيش» التي ظهرت في القرن الثالث عشر وحكمت باسم الله، أو الذي عرفته فرنسا بعد الثورة الفرنسية في عهد روبسبيير «Robespierre» عام 1794 (وإلى تلك الحقبة ترجع ولادة لفظ «الإرهاب Terraur») الخ.

لن نرجع إلى أمثلة لا تُعدّ ولا تحصى في تاريخ الإنسانية كلها ولدى الشعوب جميعها.
-9 ويعنينا أكثر من هذا كله، في إطار حوار الحضارات، وفي إطار الحوار بين الحضارة العربية – الإسلامية والغرب، أن نذكّر بأن جانباً كبيراً من نظرة الغربي اليوم إلى العربي والمسلم تستقي جذورها من إطار ترسّخ في الذاكرة الجماعية الغربية وفي الوعي الجماعي الغربي، قوامه أن ثمة نموذجاً حضارياً هو النموذج الأمثل (ويمثله الغرب) وأن ثمة نموذجاً عربياً إسلامياً يتصف بالجهالة والعنف والتخلف.
وجذور هذه النظرة في المجتمع الغربي قديمة، نجد بواكيرها منذ كتب «رولان Roland» أنشودته (التي تعود إلى ما قبل الحروب الصليبية) والتي نجد أصداءها الواضحة لدى الكثير من الكتاب والأدباء والفلاسفة(4) الذين نادوا باستعمار البلدان العربية والإسلامية، منذ القرن الثامن عشر على أقل تقدير(5). هذا إذا لم نعد إلى الحروب الصليبية وما كان وراءها من أحقاد وما تلاها من صراعات.

وكلنا يعلم كيف سادت في القرون الحديثة فكرة «مركزية الغرب» ودوران كل شيء حوله كما تدور الكواكب حول الشمس.
-10 وليس هدفنا أن نغوص في شعاب العداء التاريخي القديم والحديث بين الحضارة الغربية والحضارة العربية الإسلامية.
ويعنينا قبل هذا أن ننظر في وسائل علاج هذا العداء القديم الحديث، وعن الخطى اللازمة بالتالي من أجل تحويل هذا العداء إلى حوار إيجابي من شأنه أن يبشر بولادة عالم إنساني جديد.
ومنطلقنا في هذا أن الطبيعة الإنسانية – أنى كانت – إذا ما أحسنّا توجيهها واستخراج كامل إمكاناتها طبيعة خيّرة. ولئن كانت السذاجة لا تبلغ بنا حدّ القول مع «روسو»: «كل ما خرج بين يدي الخالق حسنٌ خيّر وكل شيء يفسد بين يدي الناس»، فإننا
لا نجانب نتائج الكثير من الدراسات الاجتماعية التي تبين أن الحفاظ على الأخلاق والقيم الإنسانية قضية تقع على عاتق المجتمع وبنيته ونظامه، وأن الأخلاق «نظام وتنظيم» إلى حد بعيد.
وأياً كان الأمر، فإننا لا نستخرج من الأشياء إلا ما نضعه فيها. وعالمنا التائه لا بدّ أن نزرع فيه بذور الخلاص الحقيقي للإنسانية جمعاء، وأن نجنبه المصير الأسوأ، مصير «الانتحار الجماعي».
-11 ولن نقول في هذا قولة «ألكسيس كارل Alexis Carrel» منذ مطالع القرن الماضي حين بيّن (في كتابه الشهير: الإنسان ذلك المجهول) أن الحضارة الصناعية الحديثة لم تفصَّل على قد حاجات الإنسان البيولوجية والاجتماعية والنفسية وسواها، وليست إلا نتاج الصدفة التي ولدت في عقول بعض الباحثين وأصحاب الأموال وسواهم، وأدت إلى ولادة حضارة لم يخططوا لها تخطيطاً في مصلحة الإنسان، بل لم يخططوا لها البتة.
ولكن من حقنا أن نسائل: هل النظام العالمي الحالي نظام في خدمة الإنسان؟ ألا يحمل هذا النظام بذور تحويل العالم إلى عالمين: عالم المتخمين بالغنى (ولا تتجاوز نسبتهم 20% من سكان الأرض) وعالم البروليتاريا المهمّشة المحرومة؟
وأهم من هذا كله أوليس السلطان في هذا النظام العالمي الذي يدعونه جديداً هو للقوة ولمن يملكها؟ وتحضرني بهذه المناسبة وبمناسبة أحداث أيلول كلمة لم أعد أذكر اسم قائلها (وهو من بلد غربي): «لا تستطيع دولة قامت على العنف واستمرت عن طريق العنف أن تقضي على العنف الذي يتهددّها إلا إذا تخلّت عن العنف»!
-12 الحوار المنشود إذن بين الحضارات هو حوار على رأس أهدافه تحويل العولمة الوحشية إلى عولمة إنسانية. والثورات الكبرى التي ولدت منها العولمة (وعلى رأسها ثورة المعلومات والاتصالات) يمكن استخدامها من أجل بناء عالم متآخ متضامن، كما يمكن استخدامها من أجل بناء عالم متسلط أحادي المنازع.
-13 وهذا يفترض بوجه خاص التأكيد على التنوع الثقافي والحضاري، وهو تأكيد ورد في كثير من مواثيق الأمم المتحدة ومن توصيات المؤتمرات الدولية والعالمية العديدة. ومن بينها مؤخراً الدورة 103 للمؤتمر البرلماني الدولي الذي عقد بعمان في 5 أيار عام (2000)، وقد جاءت فيه التوصية الآتية: «دعوة البرلمانات إلى اتخاذ إجراءات فعالة للإبقاء والارتفاع بالتنوع الثقافي، على المستوى القومي والعالمي». كما ورد فيه تأكيد على دور التربية في احترام التنوع الثقافي والديني.
وهذا يفترض احترام «خصوصية الآخر» والعمل على تنمية ما هو مشترك بين الحضارات الإنسانية.
أما صراع الثقافات والحضارات، فيشتمل على نزعة عنصرية، تشكل خطراً على الغرب نفسه، إذ تؤدي إلى تغذية الصراعات الإثنية والدينية والطائفية داخل البلدان الغربية نفسها، بالإضافة إلى ما تؤدي إليه من كراهية متبادلة بين الحضارات المختلفة تكون بؤرة صالحة لنمو شتى أشكال الإرهاب، وتخلق الجو الأمثل لتبرير الكراهية والعنف.
ونقول عابرين إن الصراع الذي استشرى بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة في أفغانستان في الثمانينات، قد حمل الولايات المتحدة على استغلال أسوأ أنواع الصراع بين الحضارات، نعني الصراع بين الشيوعية السوفييتية وبين «الجهاد الإسلامي ضد الإلحاد الشيوعي».
-14 ولا شك أن الحضارة العربية الإسلامية مؤهلة بحكم منازعها لأن تسوق مع العالم ومع الحضارة الغربية بوجه خاص أخصب أنواع الحوار. بل لا نغلو إذا قلنا إن قيم الحضارة العربية الإسلامية تشتد الحاجة إليها في عصر ينزلق نحو إنكار القيم ويأخذ بالنزعة البراغماتية التي ابتدعتها الولايات المتحدة الأمريكية ووضع لها فلسفتها مفكرون أمثال «ويليام جيمس W. James» ومن بعده المربي «ديوي Dewey». وقوام هذه النزعة كما نعلم أن مقياس الحقيقة هو «النجاح» و«الكسب» وأن الصحيح من الأمر هو
«ما يربح Which Pays»(6).
غير أن الحضارة العربية الإسلامية – مولّدة القيم الخلقية والإنسانية الرائعة حتى في أدق تفاصيل حياة الإنسان اليومية – رانت عليها غشاوات كثيرة، وخضعت في بعض الأحيان لتفسيرات مشوهة جهّمت محياها، وسرى إليها تخلف المجتمع العربي والإسلامي فتخلفت معه. وعندنا أن المبادئ السامية التي جاء بها الدين الإسلامي تخلّفت في الفهم والتطبيق إلى حد كبير بسبب تخلف الديّانين بها، والعكس ليس صحيحاً كما يزعم بعضهم. فليس في مبادئ الإسلام – كما يقول المستشرق «رودنسون Rodinson» نفسه ما يحول دون التقدم ودون دخول الحداثة.
-15 ومن هنا فإن الحوار الذي يجب أن تسوقه الحضارة العربية الإسلامية مع العالم ومع الغرب بوجه خاص، ينبغي أن يرافقه أمران: أولهما تطهير الإسلام مما لحق به وما يلحق به من تخلف بسبب الفهم «الزيلوتي» للتراث على حد تعبير المؤرخ «توينبي Toynbee» (والزيلوتي عنده هو الإنسان المتزمت الذي يدفعه الخوف من المجهول إلى الاحتماء بالمألوف، وإن يكن متخلفاً، والذي يحمل بالتالي «نزعة ماضوية»).
أما الأمر الثاني الذي ينبغي أن يرافق الحوار بين الحضارة العربية الإسلامية وبين سواها (ولا سيما الحضارة الغربية) فهو توليد معالم جديدة لثقافة عربية إسلامية لا ترفض الآخر (كما يفعل الزيلوتيون) ولا تقلده وتقتدي به (كما يفعل «الهيرودوسيون» على حد تعبير «توينبي» أيضاً) بل يتم توليدها من قلب الثقافة العربية الإسلامية، وتُبنى فيها الحداثة من خلال التراث نفسه(7). وهذا ما فصّلنا الحديث عنه في الفصل الثالث من كتابنا هذا. فالهيرودوسية شعارها أن أفضل طريقة للدفاع عن التراث ضد المجهول هي اكتناه سرّه، وهي بالتالي لا تقدم حلاً صائباً لمسألة التحديث (على نحو ما تشهد على ذلك التجربة الكمالية في تركيا وتجربة محمد علي بمصر). ذلك أن قوامها هو التقليد والمحاكاة، في حين أن التحديث الحقيقي لا بدّ أن ينطلق من داخل النفوس والعقول المستوعبة للتراث والقادرة على أن تجعل منه طاقات خلاقة جديدة. ومن هنا فرقنا في الفصل الثالث من هذا الكتاب بين «التحديث» وبين «التغريب». فالتحديث الحقيقي لا يمكن أن يتم عن طريق «الاغتراب» وعن طريق المحاكاة الشكلية لنتاج حضارة الغرب، بل يتم عن طريق الانغماس في التراث وفي الحضارة الغربية من أجل توليد مركّب جديد، بفضل ما يتم من غوص في التراث وإحاطة بمنطق الحضارة الحديثة وكنهها وعوامل ولادتها وتقدمها.
-16 ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن الحوار بين الحضارة العربية الإسلامية والحضارة الغربية يستلزم – بالإضافة إلى ما ينبغي أن تقوم به الحضارة العربية الإسلامية من تجديد لذاتها – أن تقوم الحضارة الغربية بمراجعة صادقة لما استقر في ثقافتها عبر العصور من أفكار خاطئة ومضلّلة عن الإسلام والمسلمين، وما يزال الصبية في المدارس ينشَّأون عليها منذ نعومة الأظفار. ويكمل ذلك أن ينصرف الباحثون الغربيون إلى تحليل التراث العربي الإسلامي تحليلاً موضوعياً، يتريث بوجه خاص عندما يشتمل عليه من قيم إنسانية ومن دعوة إلى الحوار ومن تكريم للإنسان(8).
-17 ولسنا في حاجة ههنا إلى تقديم الأمثلة على إنسانية الإسلام ودعوته إلى الحوار بين بني البشر. وحسبنا، إن أردنا الرجوع إلى أصول الإسلام، أن نذكّر بالآية الكريمة: «ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن» (سورة النحل، آية 125). أو أن نذكر بآية كريمة أخرى (وما أكثر الآيات في هذا المجال): «ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم» (سورة فصلت،
آية 34).
وهل نحن في حاجة إلى أن نذكر الحديث الشريف الجامع المانع: «الخلق كلهم عيال الله، فاحبُّهم إليه أنفعهم لعياله»؟
وبعد ذلك، هل نحن في حاجة إلى أن نذكّر بما كان من أمر تمازج الثقافات منذ أيام الدولة الأموية، ثم أيام الدولة العباسية وما تلاها؟ هل ينكر مكابر التجربة الإنسانية الفذة التي حققها العرب في الأندلس، حيث أقاموا كياناً عالمياً امتزجت فيه أعمق امتزاج الثقافة العربية الإسلامية بالقوطية والمسيحية واليهودية والبربرية، في بوتقة خلاقة مبدعة مجددة انطلقت منها شرارة الحضارة الغربية؟
أما القتال في الإسلام – والحديث عنه لايتّسع له المقام – فتحدد إطاره الآية الكريمة: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم
ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين» (سورة البقرة، آية 190). وتوضحه الآية 194 التي وردت في سورة البقرة: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم».
-18 ومهما يكن من أمر، فإن أصل الداء ومنبع العدوان في العصر الحديث وما أعقبه من صراع بين الحضارة العربية الإسلامية وبين الحضارة الغربية، يرتد في خاتمة المطاق إلى الخطيئة القاتلة التي ارتكبها العالم الغربي حين يسرّ للصهيونية أن تغزو العرب والمسلمين وأن تطرد أهل فلسطين من ديارهم وأن تعيث في البلدان العربية والإسلامية فساداً. وسوف يظل الحوار المنشود بين الحضارة العربية الإسلامية وبين الحضارة الغربية عسيراً ما دامت عقدة الكيان الصهيوني قائمة. وعلى الرغم من أن العالم الغربي في كثرته الكاثرة يعرف أن هذه العقدة الصهيونية تنغّص عليه حياته وتحرمه من الاستمتاع بخيرات الوفاق مع العالم العربي الإسلامي، ومع العالم كله بالتالي، كما تحرمه من بناء عالم إنساني متعاون خيّر، فإن ما تعبئه الصهيونية العالمية من قوى الشر وما تحققه من سيطرة على اقتصاد الأرض وخيراته، ومراكز القوة فيه، يجعل الإنسان الغربي أسير أغراضها وينأى به عن تحقيق منازعه الإنسانية الكامنة.
-19 ومع ذلك فالحضارة العربية الإسلامية لا بدّ أن تصمّم – بحكم طبيعتها وحاجاتها – على ولوج شتى سبل الحوار بينها وبين الغرب، ولا بدّ أن ترى في هذا الحوار أفضل السبل لنقل رسالتها الإنسانية إلى العالم، إلى عالم حائر ضائع، تأمل أن يكون لها في تصحيح مسيرته شأن ونصيب، من أجل ذاتها ومن أجل الإنسانية جمعاء.
دمشق في 2002/2/17
د. عبد الله عبد الدائم