سنة الإصدار: 1961

دار النشر: دار الآداب – بيروت

القوة المبدعة لكل حضارة، هي الدفقة الروحية التي نجدها لدى الجيل الممثل للمستقبل في كل أمة.
وجوهر هذه الدفقة الوحدة الروحية التي يخلقها وضوح الأهداف الكبرى في نفوس هذا الجيل.
والجيل العربي الجديد الذي يتطلع إلى مستقبل الأمة العربية في كثير من التوثب والأمل، لا يحيل توثبه قوة خلاقةً منظمةً حافلة باليقين الذي لا يلين، إلا إذا غادر الانقسام الروحي الذي يعصف به ويهدر قواه.
وعلى رأس المسائل القمينة بأن تُستجلى خلاصاً من الانقسام حولها وتحقيقاً لوحدة روحية مشرقة مؤمنة، مسائل كالتالية: الصلة بين الماضي والحاضر، القومية والإنسانية، المادة والروح، الحرية والنظام.
مثل هذا الحديث عن مقومات القوة الروحية القادرة على خلق الغد العربي هو الذي يعني به كتاب «الجيل العربي الجديد» الذي نقدمه للقراء.
والكتاب بقلم الدكتور عبد اله عبد الدائم الأستاذ بجامعة دمشق. وقد عرف فيه الجيل الجديد وعرف فيه قراء العربية المفكر القومي الكبير الذي يعبر عن روح الطليعة ورسالتها.

المادة الإنسانية 7
1- الفرد والمجتمع 20
2- المجتمع والطليعة 32
3- المجتمع العربي والطليعة العربية 47
4- الحاضر والماضي 62
5- القومية والإنسانية 84
6- المادة والروح 117
7- الحرية والنظام (الديمقراطية) 185
خاتمة 191

المادة الإنسانية

الإنسان. كلمة نلفيها أنى بحثنا. وتطالعنا وراء كل مسألة أو موضوع. فهي بحق مسألة المسائل، وغاية المطاف لكل طواف.. وأزمة الحضارة هي دوماً أزمة الإنسان، أزمة صيانته واحترامه وبنائه.. وراء كل حضارة كبرى إنسان كان جديراً بحملها، ووراء كل حضارة عراها السقوط أو الانحلال إنسان قصّر عنها وأفسد قطافها. وكلما مضت العصور وخطت السنون استبان أكثر فأكثر شأن المادة الإنسانية في كل ما له علاقة بحياة المجتمعات ونمو الحضارات. وأنى اتجهنا في ميادين الحياة المعاصرة ألفينا العنصر الإنساني هو العامل الأول والأخير في النجاح أو الإخفاق.

1

يبحث الباحثون في شؤون العمل والصناعة، فينتهي بهم المطاف إلى اعتبار العنصر الإنساني أساس النجاح فيها وجوهر النتاج. هكذا قامت الدراسات تترى منذ سنوات عديدة تحاول أن تعنى بتنظيم العمل الصناعي تنظيماً يؤدي إلى تنظيم النتاج وزيادته في المصانع عن طريق فرض نظام في العمل يملى على العامل ليزيد من مردوده. فقرر أمثال «تايلور» الأميركي أن من الواجب أن نصل إلى أكبر مردود ممكن عن طريق أقل النفقات المادية الممكنة. ولبلوغ هذا المطلب ينبغي التوسل بوسائل ثلاث: الأولى أن نقسم العمل أجزاء يسهل القيام بها قياماً آلياً، وأن نجنب العامل بالتالي كل حركة زائدة لا فائدة منها. والثانية أن نفرض على العامل الحركات التي يستبين لنا، بعد أن نجيد تحليلها، أنها أكثر الحركات اقتصاداً. والثالثة أن ننظم سرعة العمل لدى العامل استناداً إلى التوقيت الزمني الذي نحصل عليه لدى أكثر الأشخاص سرعة. وقادت هذه المبادئ كما نعلم إلى نتائج خطيرة، على رأسها طرح العمال الذين لا يصلحون لمثل هذا التنظيم، أو الذين لا نصل إلى ترويضهم عليه. وهكذا جرَّ مثل هذا النظام إلى إهمال الإنسان، بل إلى امتهانه، فطرح كثيراً من العمال وألقى بهم إلى أقدارهم، بعد سنوات من العمل المضني الشاق المفروض عليهم، وبعد «اهترائهم» بنتيجة العمل على حد تعبير تايلون نفسه.
وأدرك الباحثون، وعلى رأسهم علماء النفس وعلماء الاجتماع، لدى تأملهم لنظام تايلور هذا، مواطن الضعف في مثل هذا التنظيم، حين لا يقيم وزناً للعامل ولا ينظر إليه نظرته إلى إنسان، وحين يعده جزءاً من الأجزاء المكونة للآلة، ما عليه إلاّ أن يسهم معها في إدارة عجلات الإنتاج، وأن يدفع بأقصى ما يستطيع من نتاج لأصحاب رؤوس الأموال. حتى إذا قصّر عن هذا انتُزع كما تنتزع الآلات القديمة البالية وأغفل أمره تماماً. أدرك علماء النفس وعلماء الاجتماع، مخاطر هذا النظام حين يقلب الأمور، فيجعل الإنسان مسخراً للآلة، بدلاً من أن تظل الآلة في خدمة الإنسان وسعادته، وحين يجعل الإنسان للآلة بلاً من أن تكون الآلة للإنسان. بل هم جاوزوا في دراستهم هذه الكشف عن مخاطر هذا النظام على الإنسان، وكشفوا عن جانب هام جديد، وهو أن نظام العمل الذي لا يقيم وزناً للإنسان وقدراته وحاجاته الجسدية والنفسية، على نحو ما يفعل نظام «تايلور» لا يؤدي إلى الإضرار بالعامل وحده، بل يؤدي إلى الإضرار بمصلحة العمل وإلى نقصان النتاج نفسه في المعامل. وهكذا قادت تلك البحوث التي أثارها مثل نظام «تايلور» والتي أرادت أن تكيف المادة الإنسانية وفق حاجات مادة الإنتاج، إلى إدراك المسألة إدراكاً أعمق، استبان من خلاله أن هذه المادة الإنسانية التي يراد تكييفها مادة لها قوانين، وإن معرفة هذه القوانين ينبغي أن تفرض على كل من لا يريد استخدام هذه المادة استخداماً غير منتج. وبهذا انطلق علماء النفس في طريق جديدة: فبينوا أن النتاج
لا يستقيم والغاية التي يرجوها رجال الصناعة لا تدرك، ما لم يقم وزن للفوارق القائمة بين البنى الفردية المختلفة، وللصلة الوثيقة بين الكائن وبين الجهد الذي يطلب منه، وما لم يقم وزن للقوانين العضوية والنفسية التي تحدد استجابات كل عمل وتنظم شكل هذه الاستجابات وطرازها وسرعتها.
وهكذا أخذ علماء النفس يحددون الشروط الإنسانية التي يتم فيها العمل، بغية الوصول إلى تحقيق التكيف بين هذه الشروط وشروط العمل نفسه. فدرسوا البنية الفيزيولوجية للعامل، ووقفوا عند التعب وآثاره وأسبابه، ورسموا الخطوط البيانية لسير العمل لدى الإنسان، وعنوا عناية خاصة بدراسة الشروط المادية والنفسية والاجتماعية التي ينبغي أن تتوافر ليكون نتاج العامل نتاجاً جيداً في كيفه وكمِّه. فبينوا مثلاً أثر الشرائط المادية الخارجية في زيادة النتاج أو نقصانه، وعلى رأسها الشروط الجوية من حرارة ورطوبة وتهوية وإضاءة وضجة. وكشفوا عن أثر الشروط النفسية: وأهمها أثر تكرار العمل على وتيرة واحدة، وأثر جو المصنع العام (من لون وموسيقى الخ..) كذلك وقفوا عند الشرائط الاجتماعية مبينين أثر العوامل العاطفية والمنزلية، متجاوزين هذا إلى أثر الأجور وأنظمة الترقي والمكافآت وغيرها من المشكلات الاقتصادية، معرّجين من وراء هذا كله إلى دور المشكلات الاقتصادية العامة كالثبات في العمل وفترات البطالة وتقلبات تكاليف الحياة. بل هم تعدوا هذا كله إلى اثر الصلات بين العمال المختلفين، ثم بين العمال وأرباب العمل
أو المعلمين، وإلى أثر إسهام العمال في إدارة المعمل وغير تلك من المشكلات الاجتماعية الهامة، التي استبان أثرها الكبير في حسن سير العمل وزيادة إنتاجه.
ولا حاجة بعد هذا إلى أن نشير إلى ما قاموا به من دراسة للعوامل النفسية والاجتماعية التي تؤدي إلى وقوع الكوارث، وما وصلوا إليه من ضرورة الأخذ بدراسة علمية لقابليات العمال قبل انخراطهم في العمل، بغية توجيههم شطر الأعمال التي هم لها أهيأ. فمن الأمور التي غدت بدهية، بعد وثبة دراسات علم النفس الصناعي، ما يلعبه التوجيه المهني من دور كبير في حياة العامل. وحسبنا أن نشير إلى أن هذا التوجيه المهني، حين يعنى بدراسة قابليات الأفراد بغية توجيههم نحو الأعمال التي تهيئهم لها هذه القابليات وحين يجعل كل إنسان ميسراً لما خلق له، يؤدي هدفين متلازمين: أولهما خدمة العامل نفسه عن طريق توجيهه شطر عمل يصيب فيه النجاح ويصيب فيه السعادة بالتالي، وثانيهما خدمة العمل والنتاج بفضل ما يؤدي إليه اختيار العمال المناسبين للأعمال المناسبة من اثر في تحسين مردود العمل كيفاً وكماً ومن اجتنابٍ للنتاج الرديء بل من تخفيف من عدد الكوارث.
وهكذا كشفت هذه الدراسات عن أمر أساسي فيه كل الصيد، وهو أن زيادة نتاج العمل في المصانع وغيرها لا يتم إلا إذا عنينا بالعامل، بالعنصر الإنساني. وبمقدار عنايتنا بهذه المادة البشرية نصل إلى تحقيق مصلحتها ومصلحة العمل في آن واحد. وليس ثمة انفصال بين العمل والعامل، ولا يمكن وضع أي تخطيط مجدٍ للعمل دون أن نأخذ بعين الاعتبار كيان العامل واحترام بنيته الجسدية والنفسية. فالعامل لا الآلة هو محور العمل وجوهره. وصيانتنا للعامل هي التي تؤدي إلى صيانة الآلة ونتاجها.

2

على أن الدراسات الحديثة لم تقف عند هذا الحد، ولم تصل إلى هذه النتائج وحدها فيما يتصل بالصلة الوثيقة بين العامل والعمل، وبأثر العنصر الإنساني في كل نتاج. لقد جاوزت الدراسات اليوم هذه الحدود، لتبين بياناً أوضح أثر هذه المادة الإنسانية ودورها الكبير في النتاج، وبالتالي في مستوى الدخل القومي وشأو الحياة الاقتصادية في بلد من البلدان. لقد أفصحت هذه الدراسات المحدثة عن أمر خطير ينعكس صداه في كل مجال من مجالات حياة الإنسان، ولا يقف عند حدود الإنتاج الاقتصادي. ذلك أنها كشفت عن أثر الروح المعنوية التي يحملها العامل، في زيادة إنتاجه:
وأبرز الدراسات التي تعرضت لهذا الموضوع الخطير الدراسات التي قامت في الولايات المتحدة الأميركية. لقد أدرك علماء النفس وعلماء الاجتماع والاقتصاديون وأرباب العمل، إن زيادة النتاج الصناعي يخضع لتقلبات جديرة بالعناية، وقمينة بأن تعرف أسبابها. وأدركوا خاصة أن فترات الحروب وفترات الأزمات القومية الكبرى، كانت تؤدي إلى زيادة في النتاج الصناعي. وقدروا بنتيجة هذا أن ارتفاع الروح المعنوية لدى العمال بسبب شعورهم بالإسهام في معركة قومية تعنيهم أهدافها، هو العامل الأساسي في مثل هذه الزيادة. ومن هنا قامت بحوث طويلة المدى للكشف عن أي العوامل هو الراجح في زيادة مردود العمل الصناعي وغيره. وجرت هذه الأبحاث تحت إشراف بعض المؤسسات الصناعية الكبرى من مثل مؤسسة «جنرال ماتيك» واستمرت حوالي سبعة عشر عاماً، استبان بعدها أن العامل الأساسي في زيادة مردود العمل، ما هو تحسين الظروف المادية أو النفسية للعمل، على نحو ما كان سائداً من قبل، ولا سيما بعد أبحاث علماء النفس الأولى التي أشرنا إليها، وإنما هو الروح المعنوية التي يملكها العامل، هذه الروح المعنوية التي ترتد إلى أسباب كثيرة، على رأسها إيمان العامل بأهداف الإنتاج، وربطه بين هذه الأهداف والأهداف القومية الكبرى التي يدين بها.
وهكذا استبانت بنتيجة الدراسة الطويلة، وبنتيجة الأرقام والإحصاءات الدقيقة، حقيقة كان يقدرها كل باحث من قبل، ومن السهل على أي إنسان أن يدرك خطورتها، وهي أن الروح المعنوية التي يملكها العامل هي التي تلعب الدور الجبار في مردوده، وأن الإيمان بالهدف، إيمان كل فرد بالهدف الذي يعمل له، يظل المقوم الأساسي لكل نتاج ولكل جهد.
ومن هنا تؤكد النتائج التي توصل إليها الباحثون في العمل الصناعي النتائج التي انتهت إليها الدراسات والملاحظات في كل ميدان من ميادين حياة الإنسان. إنها تقرر مرة أخرى، وبلغتها الخاصة، أن الإيمان بالهدف أساس كل نجاح، وأن الروح المعنوية لا تعبّاَ إلا بنتيجة إيمان كل إنسان بأهداف ما يعمل، وأن الأمم لا تقوى على أن تستخرج من أفرادها كامل طاقاتهم وتمام إبداعهم إلا إذا كانت لها أهدافها الكبرى التي يؤمن بها هؤلاء الأفراد ويعملون من أجلها.
لقد تحدث «دوستويفسكي» عن أسوأ ما يمنى به الإنسان، فبيّن أن أبشع مصير يفرض عليه أن يقوم بعمل لا غاية له أو لا يشعر بغايته، أن يقوم بعمل لا معنى له، عمل يراه ضرباً من العبث. وقد أشار إلى هذه الفكرة في معرض حديثه عما كان يتعرض له في السجن من أعمال
لا تهدف إلى غاية. فكان يطلب إليه مثلاً مع غيره من المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة أن ينقلوا حجارة من مكان إلى آخر، وأن يعودوا بها بعد ذلك إلى حيث كانت، وأن يكرروا هذا العمل الباطل مرات ومرات. ويصبح دوستويفسكي بأن أكبر امتهان للإنسان وأشد ما يفتك في إنسانيته ويقتلها، مثل هذه الأعمال العابثة التي تفرض عليه، وأن مثل هذا الامتهان قد لا يراوده لو أنه ينقل الحجارة مثلاً ليبني بها بيتاً. إن الإنسان كائن ذو قصد، وأعماله تمتاز بأنها أعمال هادفة، ومصير الإنسان أنه يبحث دوماً عن أهداف لأعماله وحياته، ومأساته أنه
لا يهتدي إلى مثل هذه الأهداف دوماً. أو لم يشر الكاتب الفرنسي «البير كامو» إلى مأساة الإنسان العميقة، حين يكتشف أن حياته عبث، وأن ما يقوم به أشبه بما كان يقوم به «سيزيف Sysiphe» فيما تروي الأسطورة اليونانية، يوم حكمت عليه الآلهة بأن ينقل حجارة من أسفل الجبل إلى أعلاه، حتى إذا قاربت الأحجار الذروة تدحرجت وعادت أدراجها ليعاود البائس التعيس نقلها من جديد كرة بعد كرة، وليدور في ضرب من الدور الفاسد الذي لا يعرف له حداً أو نهاية؟
أجل إن مأساة الإنسان الكبرى ألا يجد لحياته هدفاً وألا يجد لأعماله غاية. ومن هنا كانت نقطة البداية في احترام الإنسان وتحقيق سعادته، أن نستجيب لهذا المطلب الإنساني الأصيل لديه، مطلب الاتجاه نحو هدف والعمل في سبيل غاية.

3

وتلتقي نتائج هذه الدراسات التي قامت في حقل الصناعة مع الدراسات التي تمت في كل ميدان. تلتقي بالدراسات التي قامت مثلاً في ميدان علم النفس الحربي، والحرب النفسية. إذ تبيّن هذه الدراسات كرة أخرى أن أهم عوامل النجاح في الحرب النفسية هو العامل الإنساني، هو الروح المعنوية للجندي، وأن أبرز العناصر التي تلعب الدور الكبير في تعبئة الجندي وتزويده بعقيدة القتال والنضال، أن تتحق هذه الروح المعنوية العالية لديه، وذلك عن طريق أمرين أساسيين: أولهما الإيمان بالهدف، وثانيهما الإيمان بالقيادة. إنها توضح أن العوامل الأخرى من مادية ونفسية قد تلعب بعض الدور في المعارك، غير أن الدور الحاسم يظل دوماً وأبداً لهذين العاملين الكبيرين: الهدف والقيادة. فهما اللذان يجعلان المادة الإنسانية مادة فعالة قادرة على الإتيان بالمعجزات. وليس ثمة قوة تعدل تلك الطاقة الجبارة التي تثور في نفس الإنسان عندما يؤمن بعمله، وعندما ينقلب العمل عنده إلى رسالة، وعندما تقترن الرسالة بمعنى الحياة لديه وتغدو مبرر وجوده على الأرض.
وما يصدق على العامل والجندي، يصدق على كل فرد في أمة. وكل شيء في حياة الأمم ينطق بهذه الحقيقة الصارخة، وهي أن البنية النفسية للأفراد هي العامل الأول والأخير في حضارتها ونهضتها، وأن هذه البنية تشتد وتقوى عندما يتضح الهدف وتشرق الغاية ويتفجر الإيمان. وليس ثمة شيء يقود الأفراد في أمة من الأمم إلى عملٍ جبار دائم، كالإيمان بالهدف، وكالإيمان بالقيادة. والتاريخ يحدثنا عن هذه الحقيقة حديثاً لا يحتاج إلى فضل من قول. فالمعارك الكبرى في التاريخ ربحها أصحاب الرسالة المؤمنون بغايتهم المؤمنون بقيادتهم. والبناء الحضاري الشامخ في أي عصر أو مصر اضطلع به أناس آمنوا بالإنسان ورسالته وآمنوا بأمتهم ورسالتها. وهل بعد تاريخ العرب من حديث أفصح قيلاً؟ هل بعد رسالة الإسلام وما صحبها من إيمان بالهدف والقيادة من دليل يُقدّم على أثر الروح المعنوية السامية في حياة الأمم ونهضتها؟
أو نحن في حاجة بعد هذا إلى أن نشير إلى آراء مثل «توينبي» حول نشأة الحضارة ونموها وسقوطها وانحلالها مبينين معه أن التقدم الصناعي أو الاقتصادي أو غيره من ضروب التقدم التكنيكي، ليست هي العوامل الأساسية في نشأة الحضارات، وإنما هي نتائج لولادة الحضارات، هذه الولادة التي لا تتم إلا بفضل مخاض روحي عميق، بفضل عمل الإنسان الخلاق، بفضل «اعتكاف» فرد أو أفراد لتحقيق الصفاء الذاتي واستلهام الحق و«العودة» لهداية الاتباع وتوجيههم، على حد تعبيره؟
أو نحن في حاجة إلى أن نقرر معه أن من أهم أسباب السقوط الحضاري ضعف الإيمان بالقيادة نتيجة لضعف القوة الخلاقة فيها؟ يقول «توينبي»: «عندما تنحط الأقلية الخلاقة في تاريخ أي مجتمع من المجتمعات لتصير أقلية مسيطرة تحاول أن تحافظ بالقوة على مركز لم تعد تستأهله، يقع تبدل هام في طبيعة العنصر القائد الحاكم يحفز البروليتاريا (الأكثرية) على الانفصال عنه والتخلي عن تلقائيتها وحريتها في الانجذاب إليه ومحاكاته، ويدفعها استكراهها على طاعته والمنزلة الوضيعة الجافية التي أنزلها فيها إلى الارتداد عليه والثورة ضده.. » وهكذا يشكل سقوط الحضارة طبقة محاربة داخل مجتمع واحد لم يكن كيانه في دور النمو الحضاري منقسماً على ذاته انقسامات حادة ولا منفصلاً عن جيرانه بأبعاد لا يمكن عبورها(1). لسنا في حاجة إلى هذا كله لنؤكد ما قلناه من أن الأمم تحيا بشيئين: الإيمان بالهدف والإيمان بالقيادة، وتتداعى إذا تداعى هذا الإيمان المزدوج.
إن مدى بناء العنصر الإنساني في كل أمة، بنائه عن طريق الإيمان بالهدف والثقة ممن يقود الهدف إلى شاطئه، يظل المهمة الحضارية الأولى التي يقاس بها تقدم المجتمع وتوثبه وقدرته على حمل رسالة حضارية.