سنة الإصدار: 1965

دار النشر: وزارة الثقافة والإرشاد القومي – دمشق

1- مدخل 5
آ- بناء الاشتراكية جهد طويل موصول
ب- الاشتراكية قدر البلدان المتخلفة والسائرة في طريق النمو2- الفصل الأول: في حتمية التجربة الاشتراكية 13
آ- خطأ المقارنة بين الدول المتخلفة اليوم وبين الدول المتقدمة بالأمس
ب- المشكلة السكانية في البلدان المتخلفة والنامية تجعل الاشتراكية طريقاً طبيعياً لها

3- الفصل الثاني: في شروط نجاح التجربة الاشتراكية 39
آ- أهمية الخطة الاقتصادية العلمية
ب- العناية بتكوين الطاقة العاملة الخبيرة
جـ- أهمية الإفادة من الخبرات والكفاءات القائمة
د- دور التوعية والإقناع
هـ- الأخذ بالحلول العميقة واستبعاد الحلول المستعجلة

و- المرونة في تطبيق المبادئ الاشتراكية ونقلها
ز- الطابع العربي الشامل للاشتراكية العربية

4- خاتمة 79
آ- الاشتراكية هي التخطيط
ب- التخطيط وتخير الأولويات
جـ- التخطيط معين على ديمقراطية التجربة الاشتراكية
د- لا بد من تخطيط للتخطيط

التحدي الكبير الذي يواجه الدول السائرة في طريق النمو، ومن بينها الدول العربية، هو تحقيق تجربة اشتراكية ناجحة، وإقامة البنيان الاشتراكي المتين القادر على تحقيق العدالة الاجتماعية من جانب وعلى توفير التنمية الاقتصادية وزيادة الثروة من جانب آخر.

بناء الاشتراكية جهد طويل موصول:
ولا نغلو إذا قلنا إن بناء الاشتراكية مهمة شاقة، وعمل دائب صبور، وجهد موصول، ونفس طويل، لا نزق فيه ولا تعمية. وإدراك أعباء هذا البناء، وتبين صعوباته، أمر لازب واجب، يلعب الدور الأكبر في نجاح التجربة الاشتراكية. فلا يجدي التجربة الاشتراكية في شيء أن تغمض عينيها أو أن يأخذها الاعتزاز وتنال منها المفاخرة. فالواقع أمامها، وهو واقع قاس صارم، يحتاج تغييره إلى إدراك واضح وتبين مشرق لصفحة الأشياء، وإيمان عميق بأن النظم الاجتماعية والاقتصادية نظم لها قوانينها، وأنها لا تغير بجرة قلم، بل لا بد في تغييرها من مجالدة طويلة ومغالبة بصيرة مزودة بالمعرفة. لا بد أولاً وقبل كل شيء من معرفة قوانين الواقع، قوانين الحياة الاقتصادية والاجتماعية، إذا نحن أردنا توجيهها وتغييرها. فالمعرفة هي القوة، وهي القوة الأساسية، والتغلب على قوانين الطبيعة، على حد قولة بيكون القديمة، يكون بإطاعتها أولاً، أي بمعرفتها، ثم بتشكيل ظروف جديدة تقوى على تحويل مجراها.
إن وعي القادة لواقع الحياة الاقتصادية والاجتماعية وإدراكهم لصعوبات التجربة الاشتراكية وعقباتها، هو الذي يجعلهم قادرين على اجتناب كثير من الجهد الضائع وعلى توفير أحسن الشروط واختيار أقصر الطرق المؤدية إلى الاشتراكية. وإن تبصير الرأي العام، بجميع طبقاته، بصعوبات الاشتراكية، ومصارحته بعقبات الطريق وأشواك المسير، هو الذي يعبئ إمكانياته وطاقاته ويجندها في سبيل عمل جماعي مشترك مؤمن، يجمع القادة والشعب في حلبة واحدة، حلبة الإيمان المشترك بالهدف وإدراك صعوباته والتشمير عن السواعد من أجل التغلب على تلك الصعوبات.
لقد زال في عصرنا الحديث – إلى غير رجعة – زمن الادعاء وتبسيط الأمور وتسهيلها على النفس وعلى الآخرين. ولم يعد مجدياً
– في اشتراكية الحرب والسلم – في التعبئة الاجتماعية والاقتصادية، وفي كل شيء – أن نعتبر المشكلات محلولة، وأن ندعي أن في يدنا عصا سحرية تغير الكون بين عشية وضحاها وتنقلنا إلى جنة عدن، بين صباح ومساء. وما هو أجدى وأبقى أن ندرك الصعاب – دون أن نهابها. وإدراك حقيقة المصاعب هو وحده الذي يدرأ الخوف منها. والجهل بالمصاعب – الجهل بمقاييسها وطبيعتها وقوانينها – هو الذي يخلق الخوف الحقيقي منها والجبن الفعلي أمامها. وأسرع الناس فراراً من ساحة الوغى هو الذي لم يخبر فنون الحرب ولم يتمرس بشدائدها.
إن بناء سعادة الإنسان عمل شاق طويل، عمل أمامنا وليس وراءنا، وجهد إنساني مشترك، ينبغي أن يسهم فيه كل إنسان، وهو مدرك أكمل الإدراك أن تحقيق حياة فضلى على سطح الأرض، رهين إرادة الإنسان وعزمه وتصميمه على بناء تلك الحياة، بعرقه ونصبه ودمائه. وإقامة النظام الاجتماعي القادر على صون كرامة الإنسان وحريته ومستواه الاقتصادي اللائق، مطلب جبار، يحتاج إلى تعبئة جهود المواطنين جميعاً، بل يحتاج إلى جهد الإنسانية جمعاء. ولن نكون مشككين إذا قلنا بأن الواقع، مهما نجد وندأب، سيظل مقصراً عن مثل هذا النظام في صورته الكاملة، وستظل أمامنا دوماً خطوات نخطوها، وسيظل النظام الكامل أبداً أمامنا، أمام بلدنا، أمام الإنسانية.
إن النظام الاشتراكي الكفيل بتحقيق سعادة المواطن في وطننا العربي، أو في أي بلد من بلدان العالم، ليس قالباً مصوغاً نصبه على الأشياء لتتخذ صورته، ولا هو إرادة قاهرة نمليها فتقول للواقع كن فيكون. وما هو بالآراء المبيتة والأفكار المرسومة نفرضها على الأشياء، وليس على الأشياء إلا أن تنصاع لها. إنه تصور للحياة الاجتماعية والاقتصادية يتخذ شكله وقلبه ومعناه من خلال سلسلة من الجهود المتواصلة وعمليات البناء الواعية، وكثيراً ما يتخذ ذلك الشكل والقالب من خلال مجموعة من الأخطاء والتعثرات. والأخطاء في بناء النظام الاشتراكي وفي بناء أي نظام طبيعية كالأمراض في الجسم، بل هي شاهد على الصحة في معظم الأحيان. غير أنها تغدو شاذة قاتلة عندما تهمل أو تنسى أو تستمر في غيها وضلالها.

الاشتراكية قدر البلدان المتخلفة والسائرة في طريق النمو:
إن البلدان الآخذة في طريق النمو التي ما تزال تشكو أمائر التخلف الاقتصادي والاجتماعي، موضوعة بقسوة أمام الإحراج التالي:
إن تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية فيها – فضلاً عن تحقيق العدالة – لا يمكن أن يتم عن طريق نظام الاقتصاد الرأسمالي، نظام الاقتصاد الحر. ولا بد لها – كما يكاد يجمع على ذلك علماء الاقتصاد في الشرق والغرب – من انتهاج الطري الاشتراكي إذا هي أرادت أن تتغلب على تخلفها وأن تلحق بالركب وتحقق التنمية والعدالة.
غير أن انتهاج الطريق الاشتراكي – وهذا هو القرن الثاني للإحراج كما يقول المناطقة – درب مليء بالأشواك والمصاعب. والوصول إلى غاية الطريق لا يكون إلا بعد عرق ونصب ومجالدة طويلة. وخلال الرحلة الاشتراكية، لا بد من مشاق.
أجل ضمن ظروف حياتنا الحالية، وضمن الأوضاع الدولية والمحلية التي توجد فيها البلدان المتخلفة والسائرة في طريق النمو، يلقى على هذه الدول قدر نبيل وعسير، قدر السير في الطريق الاشتراكي – من أجل عدالة الإنسان ورفاهية الإنسان وسعادة الإنسانية وكرامة الإنسان وقيم الإنسان – ولكنه سير مقدس رهيب على أرض غير مطمئنة، كثيراً ما تزل فيها الأقدام، وكثيراً ما تقصر فيها الأحلام والآمال عن مداها.
وعلى هذه الدول لا محالة أن تقتحم هذا القدر، وعليها أن تدرك أن السفينة لا بد أن تبحر إلى أمام، لا بد أن تركب الأمواج من أجل الوصول إلى شاطئ السلامة. غير أن عليها أن تدرك أولاً وقبل كل شيء أن اقتحام الطريق يغدو مغامرة بالنفس وبالآخرين، إن لم تسعفه الأسلحة اللازمة، أسلحة العلم والمعرفة والتبصر. إن عليها أن تدرك أن التراجع عن التجربة الاشتراكية ليس هو الحل، فمثل هذا التراجع يعني بالنسبة إلى هذه الدول مآسي ومصاعب وبؤساً تفوق بما لا يقاس كل ما يمكن أن تتعرض له التجربة الاشتراكية من متاعب مؤقتة. والحل كل الحل هو في تعبئة القوى جميعها – قوى الحكام والشعب، قوى الاقتصاديين والمثقفين، قوى الفنيين والأخصائيين، قوى العلم والصناعة والتكنيك الحديث – في سبيل اجتياز التجربة الاشتراكية بأقل ما يمكن من آلام ومتاعب وأخطاء. ولا تتم هذه التعبئة إلا إذا نهض وعي صريح جريء لدى القادة والشعب، وإلا إذا اعتبر المواطنون جميعاً أن التجربة تجربتهم وأنها تعنيهم جميعهم، وأنها ملكهم، وأن نجاحها رهين بمقدار ما يبذلون من جهود وأن فشلها سيرتد بؤساً وتعاسة على كل فرد وعلى الوطن. ومثل هذه القناعة لا تتكون لدى المواطنين إلا إذا قام حوار صادق مخلص حول التجربة، وإلا إذا قامت توعية حرة صريحة، ما هي بالدعاوة المذهبية ولكنها شرح وتوضيح وحوار فكري متبادل.
وأهم زاد يمكن أن تحمله التجربة الاشتراكية معها في هذا المجال أن تنطلق من نقطة أساسية وهي أن كثيراً من صعوباتها وأخطائها تتضاءل، عندما يكون التفاعل واسعاً يبنها وبين جمهور الشعب، وأنها على العكس معروضة للأخطاء تلو الأخطاء وللصعوبات تلو الصعوبات عندما تكون معزولة عن مناخها الطبيعي وأداتها الطبيعية، نعني الشعب. وأهم عقبة من عقبات الاشتراكية – نعني عقبة الإبقاء على الوسائل الديمقراطية جهد المستطاع في تطبيق الاشتراكية – تضمن إلى حد بعيد عندما يتم تحقيق التجربة الاشتراكية ضمن جو من التلاحم والتفاعل العميق بين الحكم وبين الجمهرة الكبرى من أبناء الشعب.
ويسعف هذا السلاح الأول الأكبر، سلاح التفاعل الشعبي، سلاح ثان أساسي، هو سلاح المعرفة والكفاءة، سلاح العلم والتكنيك، وبكلمة واحدة سلاح التخطيط الاقتصادي والاجتماعي القائم على أسس علمية وفنية سليمة، المزود بتجارب العلم والحياة. ومن بدهي القول أن نقرر أن الصعوبات التي لقيتها كثير من التجارب الاشتراكية الناشئة في العالم ترجع بالدرجة الأولى إلى انعدام التخطيط الاقتصادي الحصيف الخبير، وإلى التخبط بالتالي وسط تدابير اقتصادية واجتماعية سابقة لأوانها، غير مدركة لصفحة الواقع، فيها من الادعاء الجاهل أكثر مما فيها من المعرفة العلمية المطمئنة. وسنرى هذا بشيء من التفصيل فيما بعد.
تلكم هي المسألة إذن، وذالكم هو الإحراج، وتلكم هي الصعوبة:
لا بد للدول السائرة في الطريق الاشتراكي يغر أنه لا بد لها كيما تجتنب مخاطر الطريق وكيما تصل بالتجربة الاشتراكية إلى مستقرها، أن تسير في خطوات مطمئنة، مطمئنة إلى الشعب وفهمه ووعيه وإدراكه للصعوبات ومشاركته في حلها، مطمئنة إلى المعرفة ونورها والعلم ودروسه، مطمئنة إلى التخطيط الاقتصادي والاجتماعي الدقيق القائم على فهم الواقع ودراسته وتبين ظروفه، وعلى رسم المراحل المعقولة للتطور الاشتراكي.
ومهمتنا الأولى في وطننا العربي جلاء هذه المسألة وتوضيح معالمها من أجل بيان الشروط اللازمة لنجاح التجربة الاشتراكية، ومن أجل تقديم الوقود الفكري الدائم للتطبيق الاشتراكي وهو في حميا المعركة والعمل. فمثل هذا التطبيق قد يحجبه العمل عن النظر، وقد تبعده مشكلات الواقع المتكاثرة عن تبين هذا الواقع، وقد جعله قربه من المشكلة بعيداً عنها. وكلمتنا اليوم تطمح إلى أن تضطلع بجانب من هذه المهمة الملقاة على عاتق جميع أصحاب القلم والرأي في الوطن العربي. وهي لا تعدو أن تطرح الموضوع وتثير المشكلة ليتلقفها بعد ذلك أربابها من ذوي الخبرة، فيزيدوها جلاء ويقلّبوها على جنباتها المختلفة.