سنة الإصدار: 1960

دار النشر: دار الآداب – بيروت

تصدير 5
الفصل الأول: الاشتراكية والديمقراطية 13-58
الفصل الثاني: الديمقراطية وسيلة لتحقيق أهداف القومية العربية 59-97
الفصل الثالث: كيف تنقلب الوسائل الديمقراطية أعداء للديمقراطية 99-125
الفصل الرابع: التربية والديمقراطية 127-175

هذه بحوث ثلاثة، كتبت في فترات زمنية متباعدة بعض الشيء وفي ظروف بينها الكثير من التباين. فقد كتب أولها، نعني «الاشتراكية والديموقراطية» في هذه الأيام الأخيرة، بعد أن وقعت كارثة الانفصال (انفصال سورية عن مصر في 22 شباط/ فبراير 1962). وكتب ثانيها، نعني بحث «الديمقراطية وسيلة لتحقيق أهداف القومية العربية» قبل أشهر قليلة، وقدم إلى مؤتمر أسس التربية في العالم العربي الذي انعقد في القاهرة في حزيران وتموز من عام 1961. أما ثالثها، نعني «التربية والديمقراطية» فمحاضرة ندور حول وسيلة من أهم وسائل بناء الديمقراطية في مجتمعنا، نعني التربية.
ورغم تباعد الزمن، وتباين الظروف، تظل بين هذه الأبحاث الثلاثة لحمة أساسية تربط بينها أعمق الربط. بل إن شعورنا بالحاجة إلى الكتابة فيها في مثل هذه الفترات المتباينة، ليشهد بوضوح أن المسألة، مسألة الديموقراطية وصلتها بحياتنا العربية، مطروحة أبداً على مجتمعنا العربي المعاصر، وأنها قلب المسائل أو القضايا. والحق، ما من مشكلة تعاني منها الأمة العربية في عهدها الحديث، كمشكلة الديموقراطية، والإسهام في توضيحها وبيان أنماط تطبيقها إسهام في حل معضلة كبرى إليها يرجع ما نرى من تخبط وما نشهد من أخطاء وما نواجه من صعوبات يومية. حتى ان هدف العرب الأساسي، نعني الوحدة العربية، غدا، بعد تجارب عديدة، وبعد تجربة الجمهورية العربية المتحدة وثيق الارتباط بالحل الذي يقدم للديموقراطية ضمن هذا الهدف الكبير. ولا غرابة، فالديموقراطية في الأصل والجوهر مداخلة لمفهوم الوحدة العربية، لا معنى لها إلا به ولا يقوم بدونها.
والبحران السياسي الكبير الذي نجده في مختلف البلدان العربية، يرجع في واقع الأمر إلى رغبة مضمرة في الهرب من مواجهة هذه المشكلة الأساسية، مشكلة التنظيم العملي للديموقراطية تنظيماً يكفل أهدافها ويحفظ معناها. ذلك أن امتلاك فكرة مشرقة واضحة منظمة عن الديموقراطية في عالمنا العربي، هو نقطة الانطلاق في الواقع شطر كل عمل منتج، سواء في ميدان السياسة أو الاقتصاد أو التقدم الاجتماعي. وإذا لم تجلُ الأفكار والعقول هذا المعنى الكبير من معاني هذا الهدف الإنساني الكبير، وإذا لم تقبل على تحديد معالمه في جد وعناء، يظل كل عملي سياسي أو اقتصادي
أو اجتماعي عملاً في الظلام، وتخبطاً ومحاولة، وتهرباً من مواجهة الأصول. والتجربة العربية في السنوات التي أعقبت نكبة فلسطين خاصة تثبت أن قلب الداء في الكيان العربي هذا الغموض في مفهوم الديموقراطية في أذهان الفئة الموجهة خاصة وفي أذهان الشعب عامة، والابتعاد عن التصدي الصريح الواعي لأسس هذه المسألة الحيوية.
وواضح أن هذا الغموض يوقع الحياة العربية في دوامة لا تستطيع الخروج منها بيسر. ذلك أن صداه لا ينعكس فقط على الأزمات السياسية وعلى أزمات نظام الحكم، بل ينعكس خاصة على ميدان التربية القومية، ويؤدي إلى جيل بعيد عن مفاهيم الديموقراطية الصحيحة. وتكوّن مثل هذا الجيل خطر قومي كبير، يجعل مشكلة الديموقراطية تستشري مع الزمن وتزداد صعوبة بدلاً من أن يعمل الوعي التدريجي على الاقتراب من حلها حلاً سليماً. فنقطة الانطلاق التي يرتجى منها دوماً تقويم العوج والسير في الطريق الأَمَم، لا يمكن أن تكون إلا التربية التي تقدم لأجيال الشباب. وعندما تكون هذه التربية غير حاملة في ثناياها بذور فهم إيجابي صحيح للحياة الديموقراطية وبواعث معاناة صحيحة لها، يظل الأمل في الحل السليم أملاً خيالياً غير قائم على مقومات موضوعية له.
ولا نعني بالتربية الديموقراطية السليمة التي ينبغي أن يعدَّ لها جيل الشباب الاقتصار على التوضيح النظري لمفاهيم الديموقراطية ومبادئها. فمثل هذا التوضيح، على أهميته، ليس عصب الموضوع. والهام، وراء هذا كله، أن تشتمل التربية الديموقراطية للشباب على المعاناة العملية للديموقراطية السليمة منذ نعومة الأظفار، ضمن جو المدرسة وخارجها. ووسائل التربية الديموقراطية اليوم ضمن إطار المدرسة وخارجها، غدت في غير حاجة إلى فضل من تفصيل. غير أنها كلها تسقى من نبع أساسي هو قيام التربية على أساس تكوين الشخصية الفردية المستقلة القادرة على الحكم الذاتي، القمينة بالمسؤولية، المتمرسة بأساليب الحكم الديموقراطي في شتى المجالات، منذ ريعان الصبا.
إن الإيمان بالديموقراطية لا يمكن أن يكون مجرد إيمان خارجي يقتصر على الحماسة الفكرية النظرية. فمثل هذا الإيمان قصير النفَس معروض لتقلبات الطقس، غير قادر على الصمود أمام المشكلات الكثيرة التي تتعرض لها الديموقراطية. والإيمان العميق هو الإيمان الديموقراطي العضوي إن صح التعبير، الذي قرّ في كيان الفرد، عن طريق معاناة فعلية عملية للحياة الديموقراطية منذ طور مبكر، وتمرّس بنظمها ومواجهة لصعوباتها ومكاسبها. والإيمان الديموقراطي الذي يخيل إليه أن موضوع الديموقراطية موضوع يسير، وأنها هدف يمكن الوصول إليه بعصا سحرية، بالألفاظ والأقوال، إيمان مباين لجوهر الديموقراطية، الذي لا يريد أن يفهم الأفكار إلا أفكاراً حية يعيشها الناس ويصلون إليها بالعزم الواعي الحر الصادر عن تجارب موصولة ونضال طويل.
وتكوين هذا الإيمان الواعي الحي المنبثق من إدراك حقيقي للمشكلة في سائر وجوهها، والصادر عن معرفة الصعاب قبل معرفة المكاسب وعن معاناة عملية لكلتيهما هو الهدف الحق الذي ينبغي أن تهدف إليه التربية في الوطن العربي.
ونحن إذ نقدم للقراء هذه البحوث الثلاثة، لا نزعم أننا وفينا الديموقراطية جانباً من حقها. وجل ما قصدنا إليه أن نطرح الموضوع أمام العقول ليكون مجالاً لحوار فكري جادّ بين المفكرين، حسبنا أن نصل من ورائه إلى الخلاص مما تعرض له بحث الديموقراطية من إهمال وتهرب، بسبب النوايا الصادقة أو السيئة، وأن يكون من نتائجه أن يقود حركة الديموقراطية في العالم العربي أربابها الحقيقيون، نعني أصحاب الفكر، بعد أن سطا عليها غير أهلها، وزيفوها واتخذوها مطية للأغراض اليومية والنجاح العابر.
ولقد حرصنا من أجل هذا، أن يكون حديثنا عن الديموقراطية في هذه البحوث الثلاثة، حديثاً موضوعياً علمياً، وأردنا خاصة أن نربط بين الديموقراطية والمقوِّم الواقعي الفعلي لها، نعني التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، فجعلنا من الحديث عن الصلة بين الاشتراكية والديموقراطية هدفاً أساسياً من أهداف تعرضنا للديموقراطية في هذا الظرف بالذات. فلقد طرحت القوانين التي صدرت في الجمهورية العربية المتحدة قبل الانفصال والتي دعيت باسم القوانين الاشتراكية، مشكلات واقعية جديدة أمام الديموقراطية العربية. ولم يعد مجال البحث في الديموقراطية مجرد حديث عن مبادئها أو مجرد أغنية نرتل آلاءها أو مجرد تخيل للصلة التي يمكن أن تقوم بينها وبين النظام الاقتصادي والاجتماعي. وغدا البحث فيها على العكس بحثاً في مسألة فعلية عملية، مسألة الصلة بين الديموقراطية التي لا تكون اشتراكية بدونها، وبين الاشتراكية التي بدأت الجمهورية العربية المتحدة منذ حين برسم معالمها. وغدا لزاماً أن نسائل إلى أي حد تحقق هذه الاشتراكية التي انطلقت شطر التطبيق في مصر على الأقل، الأهداف السليمة للاشتراكية العربية، وهل تتحقق فيها اللحمة الحقيقية التي ينبغي أن تقوم بين الديموقراطية والاشتراكية كيما تتحقق السلامة لكلتيهما.
والذي نرجوه أن تثير هذه الأبحاث أقلام الكتاب في العالم العربي وأن تكون مناسبة لحركة فكرية واسعة النطاق تزيد في تعميق معاني المقومات الكبرى لحياتنا العربية، نعني الوحدة العربية والاشتراكية والديموقراطية ، وتنطلق من هذه الموضوعة الأساسية، وهي أن معركة العرب أفكار وقيم، وكل ما سوى ذلك ملحق وتابع.

عبد الله عبد الدائم

دمشق في 11/10/1961