الإصدار: 1996

دار النشر: مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت

هذا الكتاب

الأطروحة التي ينافح عنها الكتاب هي أن دولة إسرائيل المتفوقة عسكرياً وتقانياً وعلمياً، تشكو وهناً عريقاً ومقيماً في كيانها المعنوي، وأنها ملتقى لصراعات تليدة وجديدة، من كل جنس، تمزق وجودها، وتجعلها دوماً كياناً قابلاً للتفجر من داخله، وأن هذه الصراعات ليست عارضة أو طارئة، بل هي صراعات رافقت اليهودية عبر العصور، وواكبت الصهيونية قبل نشأتها وبعد نشأتها، وصبّت جميعها في دولة إسرائيل بعد ولادتها القسرية واستشرت. ولا شفاء منها بالتالي
إلا بالعدول عن منطلقات الصهيونية الملفقة، وأهواء النزعات الدينية المصطرعة والمزيفة، وأوهام الادعاءات الإثنية والعرقية المصطنعة.
ويبحث الكاتب في جذور هذه الصراعات جميعها، مشيراً إلى أبرز معالمها، مبيناً انعكاساتها على الكيان الإسرائيلي الحالي الممزق، وعلى ما يتوالد فيه من أحزاب وحركات دينية وسياسية محتربة، متريثاً عند ما يخلفه ذلك كله من تساؤلات حول مستقبل الوجود الصهيونية، وما يطرحه من مشكلات جديدة على مسألة السلام.
والكتاب بقلم مفكر عربي رائد، له في ميدان الفكر القومي، وفي ميدان التربية، عطاء واسع وفذّ، ومنشورات جمّة.

مدخل 7
الفصل الأول: التناقضات في صلب الديانة اليهودية عبر التاريخ 13
أولاً: اليهودية التقليدية 13
ثانياً: اليهودية بعد عصر «التنوير» وحتى بزوغ الصهيونية 19
الفصل الثاني: التناقضات في صلب الدعوة الصهيونية 27
أولاً: التناقض بين الصهيونية الثقافية والصهيونية السياسية 28
ثانياً: التناقض داخل الصهيونية حول أرض الدول اليهودية 30
ثالثاً: التناقض حول العلاقة بين الصهيونية والاشتراكية 36
رابعاً: التناقضات المتصلة باللغة 40
خامساً:التناقضات بين الدعوة الصهيونية والديانة اليهودية 42
سادساً: التناقضات بين الصهيونية عند مخاضها واليمين الصهيوني المتطرف 52
الفصل الثالث: التناقضات بعد ولادة إسرائيل وحتى اليوم 71
أولاً: الصراع بين اليهود الشرقيين واليهود الأوروبيين 74
ثانياً: الصراع داخل الحركات الدينية وبين هذه الحركات والاتجاهات العلمانية 76
1- الأحزاب الصهيونية الدينية الأرثوذكسية 77
2- الأحزاب الدينية «المسيحانية» المعارضة للصهيونية (أحزاب تكفير الدولة) 81
3- الأحزاب الدينية «المسيحانية» الاشكنازية 83
4- القوى الدينية «الحريدية غير الحزبية» المعارضة للصهيونية 86
ثالثاً: نتائج حرب عام 1967 وبروز حركة «الغوش إيمونيم» 95
الفصل الرابع: إسرائيل الممزّقة والمستقبل 111
أولاً: مدخل: إسرائيل والنظام العالمي 111
ثانياً: تمزق الهوية الإسرائيلية 114
ثالثاً: إسرائيل والسلام 127
الهوامش 139

يتريث العرب، في مألوف العادة، عند التفوق العسكري الإسرائيلي، سواء كان ذاتياً أو مجلوباً، بالإضافة إلى التفوق العلمي والتقاني. وقلما يتساءلون عن مدى تماسك العقيدة أو الإيديولوجيا الصهيونية التي يفترض أنها وراء هذا التفوق العسكري والتقاني، وعن مدى قدرتها، بعد أن تصدعت وتفرقت شيعاً وطرائق متنافرة منذ ولادتها حتى اليوم، على حماية كيانها من الانهيار المعنوي من جوفها وأعماقها.
وكثيراً ما يحسبون أن الصهيونية عقيدة جامعة مانعة، واضحة المعالم، بيّنة الأركان، تلتف حولها الكثرة الكاثرة من أبناء إسرائيل ومن يهود العالم، وأن اليهود كانوا دوماً في التاريخ القديم والحديث أمة واحدة، وإن تفرقت بهم الديار، يجتمعون دوماً، بفضل الإرث الثقافي الديني بوجه خاص، على كلمة سواء بينهم، مهما اختلفت مشاربهم ومنازلهم،
ولا يفترقون طرائق وشيعاً إلا ليأتلفوا من جديد، ولا يتنابذون
إلا ليركنوا إلى الوئام.
في مقابل هذا، كثيراً ما ينسى الكثير من العرب ومن سائر الأمم أن العقيدة الصهيونية كانت وما تزال تشكو من تناقضات كبيرة في صلبها، وأن العقيدة الدينية لدى اليهود كانت وما تزال حائرة وقُلَّباً وضالّة، تلعب بها الأهواء، وتلعب هي بالأهواء، وأن الجمع بين الصهيونية والدين أمر أعقد من ذنب الضبّ، وهمُّ أقضّ مضجع اليهود وما يزال، وفرّقهم شيعاً وعصائب، قبل ولادة الصهيونية وبعدها، وقبل ولادة دولة إسرائيل وبعدها، وأنه قمين بأن يزعزع أركان الدولة في إسرائيل في أي حين.
ولا نغلو إذا قلنا إن السؤال الذي شاع وذاع دوماً نعني: من هو اليهودي؟ وما هي هوية دولة إسرائيل؟ سؤال أزلي أبدي، أجاب عنه اليهود دوماً بطمسه، وأجابت عنه إسرائيل بالهروب منه أو تزييف النقاش حوله، وتلقى من الأجوبة المتكاثرة والمتناقضة ما يندّ عن الحصر. وما يزال هذا السؤال بلا جواب حق حتى اليوم، لأن الجواب الحق قمين بأن يضع موضع التساؤل الصهيونيةَ وتعددَ منطلقاتها وتناقض أصولها، فضلاً عما صاحبها من تزييف ومراوغة وكذب على الواقع، وأن يفضح بالتالي التهافت المعنوي للوجود الإسرائيلي، وهو تهافت كفيل بأن يقضي على ذلك الوجود في وقت عاجل أو آجل.
والأطروحة التي نود أن نخلص إليها في هذه الكلمة هي أن دولة إسرائيل ملتقى لصراعات قديمة وحديثة، من كل نوع، تمزّق وجودها وتجعلها دوماً كياناً قابلاً للتفجر من داخله، وأن هذه الصراعات ليست عارضة أو طارئة، بل هي كما يقول الفلاسفة «محايثةٌ» لليهودية والصهيونية ودولة إسرائيل، تقيم في صلبها جميعها. إنها صراعات باطنية (intrinséque) وخِلْقية (إن أردنا أن نستخدم تعبيراً طبياً)
لا يجدي فيه العلاج، ولا شفاء منها إلا بالعدول عن منطلقات الصهيونية ومنطلقات النزعات الدينية المزيفة، ومنطلقات الادعاءات الإثنية والعرقية والقومية المصطنعة.
وبتعبير آخر، ما نود أن نقوله هو أن حل المسألة اليهودية
لا يكون إلا بالنكوص عن محاولة اعتبار اليهودية نمطاً فريداً هو نسيجُ وحده بين ديانات العالم، والانخراطِ بالتالي في مسيرة التطور الإنساني الذي يرفض أن تكون الديانات أساس حياة الشعوب وكياناتهم، ناهيكم عن أن تدّعي ديانة معينة (ومن ورائها شعب معين) الحق في أن تحكم سواها وفي أن تتحكم في العالم. وبتعبير آخر، إن تخلص إسرائيل واليهودية من آفاتها المقيمة وتناقضاتها المميتة، وتخليص الإنسانية بالتالي من شرور تلك الآفات والتناقضات، ومما تثيره في العالم كله من فتن واحتراب، يشترطان أولاً، وقبل كل شيء، التخلي عن الشعارات اليهودية الشوفينية والعرقية التي تجعل من الشعب اليهودي شعب الله المختار الذي ينبغي أن تدين له الشعوب، وأن يصاغ العالم لمرضاته وخدمته وعلى غراره.
ولا شك في أننا لا نستطيع أن نتوقع من إسرائيل ومن معظم يهود العالم أن يضطلعوا بهذه المهمة، مهمة التخلي عن ادعاءاتهم وغرورهم وتسخير العالم لهم. ومن هنا كان من واجب المفكرين في العالم، وعلى رأسهم الصادقون من اليهود، وهم قلة، أن يكشفوا عن التناقض والزيف الكامنين في صلب الكيان الإسرائيلي، وفي صلب الاتجاهات الدينية والصهيونية التي أدت إلى خلق هذا الكيان، بعون من الدول الكبرى، وأن يقدموا للعالم كله الحقيقة عارية، في منأى عن أكاذيب إسرائيل ومن وراءها. أَوَلَم يكتب لوثر نفسه منذ القرن السادس عشر، قبل ثلاث سنوات من وفاته، كتاباً بكامله عنوانه اليهود وأكاذيبهم على الرغم من أنه كان في مطلع حياته من المدافعين عن اليهود؟ أَوَلَم يتساءل تساؤلاً إنكارياً وزير المعارف ووزير الثقافة الإسرائيلي أمنون روبنشتاين في كتاب له شهير صدر حديثاً وترجم إلى العربية تحت عنوان مراجع الحلم الصهيوني: هل يعتبر وضع إسرائيل بين الأمم مقرراً بأمر إلهي، يجعلها متميزة من سائر أمم الأرض؟(1).
ولا شك في أن من العسير، في مثل هذا المقام، أن نتحدث، ولو بإيجاز شديد، عن التناقضات الأصلية، التليدة والطريفة، التي رافقت الحركة الدينية اليهودية منذ ولادتها، ومنذ بدايات القرن الثامن عشر بوجه خاص، والتي رافقت الصهيونية منذ مخاضها حوالي عام 1850، ولا سيما بعد ظهور كتاب دولة اليهود عام 1896 بقلم هرتزل، والتي اشتدت وازدادت تناقضاً وشقاقاً بعد ظهور الدعوة الصهيونية، وقبل ولادة دولة إسرائيل، والتي حمي وطيسها خلال العقود الثلاثة التي سبقت قيام إسرائيل، وصبت كلها أخيراً في الكيان الصهيوني المصطنع الذي
لم يستطع حتى اليوم أن يمتص تلك التناقضات، بل ازدادت فيه حدة واشتد أوارها بعد قيام دولة إسرائيل عام 1948، وبعد حرب حزيران عام 1967 بوجه خاص، وبعد حرب تشرين الأول عام 1973، وما تزال نارها مشتعلة قبل مفاوضات السلام وبعدها، الأمر الذي يدل على أنها تناقضات صميمية أزلية لا تزول إلا بزوال مسبباتها.
من هنا كان علينا أن نكتفي بإشارات سريعة إلى جذور تلك التناقضات ومعالمها البارزة، مصطنعين لغة أشبه ما تكون بلغة البرقيات.
وفي وسعنا منذ البداية، أن نلملم أطراف الموضوع بالإشارة الخاطفة إلى أبرز عناوين التناقضات الذاتية اللدّنية التي حملتها المسألة اليهودية عبر تاريخها الطويل، وعبر المراحل الأساسية التي أشرنا إليها منذ حين، والتي ما تزال حالّة في صلب كيانها الذي ولد ولادة قيصرية حاملاً معه حصاد تناقضات المذاهب اليهودية عبر القرون. وتتلخص هذه التناقضات في رأينا في العناوين الكبرى الآتية:
– التناقضات في صلب الديانة اليهودية عبر التاريخ.
– التناقضات في صلب الدعوة الصهيونية.
– التناقضات بعد ولادة دولة إسرائيل وحتى اليوم.
ولا حاجة إلى القول إن هذا التقسيم الثلاثي للتناقضات يهدف إلى تبسيط دراسة المشكلة. فبين التناقضات التي أتينا على ذكرها تداخل كبير وأخذ وعطاء متبادل، وجميعها تأتلف وتلتقي في خاتمة المطاف لتكون القنبلة الموقوتة التي قد تؤدي إلى انفجار الكيان الإسرائيلي.