الإصدار: الأولى – آب/ أغسطس 1988

دار النشر: دار العلم للملايين – بيروت

هذا الكتاب

ضالة الكتاب البحث عن المعالم الأساسية للفلسفة التربوية العربية، القادرة على الإسهام الفعال في الخروج بالمجتمع العربي من تخلفه، وفي السير به في طريق بناء مشروعه الحضاري المأمول.
وهكذا يقدّم الكتاب دراسة تحليلية نقدية لأهم المنطلقات التي ينبغي أن تنطلق منها الفلسفة التربوية المنشودة. ويوجز تلك المنطلقات في منطلقين كبيرين أساسيين: أولهما الواقع العربي الذي يمد جذوره إلى التراث العربي الإسلامي، ويرنو ببصره إلى المستقبل العربي ومرتجياته. وثانيهما الواقع العالمي، بإنجازاته وفضائله، ويثغراته ومثالبه.
ومن خلال تحليل هذين الواقعين، يخلص إلى تحديد المفاصل الأساسية التي ينبغي أن تتحلق حولها الفلسفة التربوية، إن هي أرادت أن تستجيب لهذا كله. ثم يترجم هذه المعالم الأساسية للفلسفة التربوية إلى جملة من الغايات التربوية الكبرى يرى أنها تستحق مقام الصدارة، لما تنطوي عليه من استجابة لحاجات الواقع العربي، ومن طاقة محركة قادرة على بناء إنسان محمّل بشخصية ملتصقة بتطلعات المجتمع، تملك من طاقات الدفع والاندفاع والإبداع ما يجعلها قادرة على تغيير الوجود العربي وتجديده وتحديثه من خلال ذاته.
والكتاب يضم رؤى وتجارب علم كبير من أعلام التربية، له إسهامه الفذّ في تطوير التربية العربية فكراً وعملاً، وله مشاركته الواسعة في الجهود التربوية العالمية.

القسم الأول
لماذا الحديث عن فلسفة تربوية عربية؟
مدخل : فلسفة التربية وتغيير المجتمع 11
أسباب تأكيد المربين العرب على أهمية وضع فلسفة
عربية للتربية 12

الفصل الأول : فلسفة التربية وصراع المربين «حول دور التربية» 21
أولاً : التربية قادرة على تغيير المجتمع وإعادة بنائه 21
ثانياً : التربية عاجزة عن تغيير المجتمع، وهي له متبعة خاضعة 27
ثالثاً : الموقف التوفيقي: التربية تغير المجتمع والمجتمع يغير التربية 32

الفصل الثاني : دور التربية في بناء المجتمع من خلال دور فلسفة التربية:
فلسفة التربية بين «تربية الماهية» و«تربية الوجود» 43
أولاً : فلسفة التربية بين فلسفة الماهية وفلسفة الوجود 46
ثانياً : نظرة تاريخية إلى ترجح التربية وفلسفتها بين
الوجود والماهية 48

الفصل الثالث : كيف نفهم فلسفة التربية؟ وكيف نفهم دورها
في تغيير المجتمع؟ 59
أولاً : كيف نفهم فلسفة التربية؟ 59
ثانياً : دور التربية وفلسفتها في تغيير المجتمع 63

الفصل الرابع : تعريفات ومصطلحات: موقع فلسفة التربية من
جملة العملية التربوية 75
خاتمة القسم الأول 91

القسم الثاني
منطلقات الفلسفة التربوية العربية الواقع العالمي والواقع العربي
مدخل 99
الفصل الخامس : الواقع العالمي 103
أولاً : العالم المتغيّر 105
ثانياً : عالم القلق والضياع 107
ثالثاً : عالم الفوضى 113
رابعاً : هموم الشباب 121
خامساً : أهم معالم التغير عند تخوم القرن الحادي والعشرين 126
سادساً : المشكلات الإنسانية في عالم اليوم وأزمة القيم 141
سابعاً : حلول في الأفق 147
ثامناً : دلو بين الدلاء 155
تاسعاً : من «الغرب» إلى الشرق العربي 163

الفصل السادس : الواقع والمستقبل العربي 165
أولاً : أسباب التخلف والتقدم عامة في ضوء الدراسات الأجنبية 167
ثانياً : أسباب التخلف والتقدم في ضوء الدراسات الخاصة
بالوطن العربي 170
ثالثاً : نظرة شاملة 204
رابعاً : الواقع العربي وفلسفة التربية 213
القسم الثالث
الفلسفة التربوية العربية بين واقعها ومستقبلها
مدخل 225
الفصل السابع : واقع فلسفة التربية في البلدان العربية 229
أولاً : واقع الفلسفة التربوية في الوثائق الرسمية للدول العربية 229
ثانياً : نظرة تحليلية نقدية إلى واقع الفلسفة التربوية كما نجدها
في الوثائق الرسمية للدول العربية 249
ثالثاً : الفلسفة التربوية العربية من خلال حصاد العمل
العربي المشترك 257

الفصل الثامن : مصادر الفلسفة التربوية العربية المنشودة ومنطلقاتها 269
أولاً :المنطلقات العامة للفلسفة التربوية ومقاصدها 271
ثانياً : اتجاهات الواقع العربي والعالمي 278

الفصل التاسع : معالم الفلسفة التربوية العربية المنشودة 311
أولاً : معالم الفلسفة الاجتماعية العربية 313
ثانياً : معالم الفلسفة التربوية العربية المنشودة 316
ثالثاً : نظرة تأليفية شاملة 348
المراجع 357
فهرس 371

خلال العقدين الأخيرين بوجه خاص، كثر الحديث عن الحاجة إلى فلسفة تربوية عربية، وانطلقت على ألسنة المربين وسواهم الدعوة إلى توليد مثل هذه الفلسفة، بل كاد الكثيرون منهم يرون في رسم معالم هذه الفلسفة المطلب الأول الذي ينبغي أن تشد التربية الرحال إليه، والعمل البديء الذي ينبغي أن يتصدى له المربون والفلاسفة وسواهم من المفكرين والمنظّرين المعنيّين بمعالجة مشكلات الوجود العربي.
والذي يرقب الكثير من المؤتمرات والندوات والحلقات التربوية التي عقدت على الأرض العربية في السنوات الماضية، أو الذي يرصد حصاد ما أنتجته الأقلام خلال هذه الحقبة من بحوث وموضوعات ومؤلفات، يكاد يقع في معظم الأحيان على لحن واحد معاد: قوامه أن أي بحث في أي مسألة من مسائل التربية ينبغي أن يسبقه تساؤل أساسي هو: أيّ إنسان نود أن نكوِّن عن طريق التربية؟ وما هدف مناهج التربية وطرائقها وإدارتها وغير ذلك من مقوماتها، في ما يتصل بإعداد الإنسان؟ وهل يجوز البحث في الفروع قبل البحث في الأصول؟ هل يجوز البحث في علم التربية والفنون التربوية قبل التساؤل عن مستقرِّها وغايتها؟ وهل من الجائز إشادة مصنع لا ندري ما نتاجه، أو سفينة لا نعلم إن كانت شراعية أو بارجة أو حاملة للطائرات، أو سوى ذلك؟
ولقد عرف هذا اللحن أشكالاً مختلفة، ولبِس حللاً متباينة، ولكن جوهره ظل واحداً: إنه التأكيد على ضرورة البحث عن الغايات الكبرى للتربية قبل البحث في شكلها أو محتواها أو طرائقها أو سوى ذلك. إنه – بتعبير آخر ودون أن ندخل الآن في تحليل دقيق للمصطلحات – البحث عن فلسفة للتربية تهدي سبيل العمل التربوي وتوجِّه مسيرته نحو بناء إنسان من طراز معيّن، وتتغلغل في ثناياه وتنسلّ بحيث ينتظم ذلك العمل التربوي في كلٍّ منسَّق متكامل.

أسباب تأكيد المربّين العرب على أهمية وضع فلسفة عربية للتربية
أما أسباب هذا التأكيد – في السنوات الأخيرة بوجه خاص – على أهمية فلسفة التربية، ولا سيما في البلدان العربية، فعديدة ومتباينة. وفي وسعنا أن نلخِّصها في كثير من الإيجاز في الأمور التالية:
1- الأسباب التربوية
أول هذه الأسباب أسباب تربوية ترجع إلى ما سمِّي أحياناً باسم أزمة التربية في البلدان العربية. فالصعوبات التي تواجهها التربية في البلدان العربية هي، كما نعلم، صعوبات متعددة الوجوه، بعضها كمي والآخر كيفي نوعي. وليس المجال مجال تفصيل الحديث عن هذه الصعوبات، ولهذا الموضوع مظانه التي غدت متكاثرة(1). وحسبنا أن نشير إلى الجوانب المتعلقة بالصلة بينها وبين الشعور بالحاجة الماسة إلى توليد فلسفة تربوية عربية:
أ- في ما يتصل بالجوانب الكميّة لنظم التربية العربية، أدّى التزايد الكبير المتسارع في أعداد الطلاب في مختلف مراحل التعليم وأنواعه إلى طرح سؤال أساسي: ما هو مصير هذه الأعداد الكبيرة التي تتدافع على نظام التعليم والتي تتخرَّج منه؟ وهل أعدت حقاً ليكون لها دور فعّال في بناء المجتمع، وفي التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وسائر جوانب التنمية الشاملة أم أنها لا تعدو أن تكون جماهير متكاثرة ولكنها تائهة في معظم الأحيان، قلّما تملك الإعداد الفكري والعلمي والمهني اللازم لتضطلع بدورها في بناء المجتمع؟
وبتعبير آخر، بفضل ديمقراطية التعليم في البلدان العربية، أصبح التعليم مفتوحاً للجميع. – ولكن التعليم المفتوح للجميع يملي مهمات أعظم ويفرض أن يكون للخريجين أدوار أساسية جادةّ ومتنوعة يضطلعون بها. إنه يفرض، إذن، بالضرورة التساؤل عن طراز الإنسان الذي نعدّه عن طريق مثل هذا التعليم المتاح للجميع، بحيث تتّفق أغراض هذا التعليم مع ما يحتاج إليه المجتمع ومع ما يحتاج إليه الفرد. ومثل هذا التساؤل، كما نرى، تساؤل يتصل بغايات التربية؛ أي بفلسفتها.
ب- وقريب من ذلك ما أدّى إليه الإنفاق الكبير على التربية (بالقياس إلى الناتج الداخلي، وبالقياس إلى ميزانية الدولة) من تساؤل حول جدوى هذا الإنفاق الضخم، وجدوى هذه التربية، وعن مدى كونها حقاً توظيفاً مثمراً لرؤوس الأموال، لا مجرد خدمة استهلاكية. وههنا كان لابد من الانطلاق من الحقيقة الآتية: التربية التي تؤدي إلى التنمية الشاملة للمجتمع والفرد ليست أي نوع من التربية. والقول إن التربية توظيف مثمر للأموال وليست مجرد خدمة استهلاكية قول لا يصدق على أي طراز من التربية. وكم من تربيةٍ تسير في عكس اتجاه التنمية الشاملة! وكم من تربيةٍ لا تؤدي إلى أكثر من تخريج مثقفين عاطلين! وكم من تربيةٍ لا تقذف إلى الحياة إلا بنفوس ضامرة عاجزة عن مواجهة الحياة، فاقدة القدرة على أيّ إبداع أو عمل منتج. لابد إذن، ههنا أيضاً، من تحديد الغايات الأساسية للتربية وبثِّها في ثنايا الواقع التربوي إذا أردنا أن تكون التربية توظيفاً مثمراً. لابد، بتعبير آخر، من فلسفة للتربية تثمر وتمرع.
ج- البحث في محتوى التربية (من مناهج وطرائق وتقنيات ونشاطات وسوى ذلك) من أجل تجويده، يفترض وجود أهداف أو غايات كبرى للتربية تشتق منها أهداف المناهج وسواها. بتعبير آخر لابد من مرجع نرجع إليه في كل تجويد للمناهج وتطوير لمحتوى العملية التعليمية، وهذا المرجع هو الغايات الكبرى التي تؤدي دور الخيط الناظم لكلّ شيء. صحيح أن إعداد المناهج وتطويرها غدا علماً تربوياً له قواعده الفنية وأصوله. ولكن من الصحيح كذلك أن هذا العلم، شأن أيّ علم، لا يستطيع وحده الإجابة عن الأمور المتصلة بالغايات والأهداف والقيم، ومن هنا يأتي دور الفلسفة التربوية. وما يصدق على المناهج يصدق على أيّ جانب من جوانب العمل التربوي وعلى أيّ مقوّم من مقوّماته، سواء اتّصل ذلك بالمعلم وإعداده، أو بالامتحانات ووسائل التقويم، أو بالإدارة التربوية والمدرسية، أو بالنشاطات اللاصفية، أو بالخدمات المدرسية، بل حتى بالتقنيات التربوية. فهذه كلها في حاجة إلى مرشد ودليل، سواء في وضعها أو في تعديلها وتطويرها.
د- والمبرر السابق الذي أتينا على ذكره يقودنا إلى مبرر أعمّ وأهم، نعني ما يستلزمه التجويد النوعي للنظام التربوي بشكل عام من فلسفة تربوية هادية ناظمة. لقد شاع في البلدان العربية، كما نعلم، في السنوات الأخيرة ولا سيما بعد مؤتمر أبو ظبي(2) عام 1977، نعني مؤتمر وزراء التربية العرب و الوزراء المسؤولين عن التخطيط الاقتصادي في الدول العربية الذي عقد بدعوة من منظمة اليونسكو، التأكيد على ضرورة توجيه عناية خاصة لكيف التعليم ونوعه، لا سيما بعد أن تزايد كمّه تزايداً يعرّض ذلك الكيف للأخطار. ومن هنا انطلق شعار «تجويد التعليم» وسارت فيه معظم البلدان العربية خطوات إلى أمام. ولكن التجويد يفترض معياراً أو مقياساً يقاس به مدى ذلك التجويد. صحيح أن هنالك مقاييس ومعايير علمية (مشتقة من علوم التربية ومن علم النفس وعلم الاجتماع وسواها) يمكن أن تكون منطلقاً للتجويد. ولكن ههنا أيضاً، لا يقوى العلم وحده على توجيه عمل إنساني خطير كالتربية دون أن تسعفه أهداف وغايات يتم الاتفاق عليها. فهنالك تجويد وتجويد. وهنالك تجويد يقبله المجتمع وآخر يرفضه. وهنالك تجويد تسمح به ظروف المجتمع الاقتصادية والمالية، وآخر لا تسمح به. وهنالك تجويد يصحّ في مرحلة من مراحل حياة المجتمع ولا يصح في سواها. لابد إذن من الاتفاق على معايير التجويد ومنطلقاته، لابد من غايات وأهداف كبرى تربوية يتم الوفاق حولها، وتندرج تحتها أهداف خاصة، وتُشتق منها بعد ذلك مرام محدَّدة، وتُرسم استناداً إليها خطط وبرامج ومشروعات، كما سنرى، في ما بعد، عند حديثنا عن تدرج مستويات العمل التربوي، بدءاً بالفلسفة والسياسة التربوية وانتهاءً بما يجري في غرف الصف.
هـ- ولكن إلى جانب شعار التجويد، بل فوقه، انطلق في العقدين الأخيرين بوجه خاص شعار التجديد، وهو مفهوم لا يتجاوز التجويد كمّاً ودرجةً فحسب، بل يتجاوزه طبيعةً ونوعاً. والحركات التجديدية التي ذرّ قرنها في العالم منذ الستينيات، لا سيما على إثر الحركات الطلابية هنا وهناك، لا تكتفي، كما نعلم، بإصلاح النظام التربوية وتطويره، بل تضع موضع التساؤل كثيراً من الأمور المتصلة ببنيته ومحتواه وتقنياته وإدارته وسوى ذلك. وكلنا يعلم أن بعضها يضع موضع التساؤل المدرسة نفسها وينادي بمجتمع بلا مدرسة، كما نجد عند إيليش (Illich)(3) وبولو فريري (Paulo Freire) وريمر (Everett Reimer). على أنها تكاد جميعها تضع موضع التساؤل الإطار التقليدي للتعليم (نعني الصف والمعلم والسبّورة) وتنادي بتحطيم جدران الصف واللجوء إلى التقنيات الحديثة سواء في التعليم أو سواه، وبإلغاء الانتقال التدريجي من صف إلى صف (Non graded school)، وبالتعليم عن طريق فريق من المعلمين (Team-teaching)، والمدرسة في الهواء الطلق، وبالتعليم عن بعد،.. الخ. ولا شك أن مثل هذا التجديد التربوي يستلزم توافر قيم يستند إليها، وعلى رأس أهدافه تحرير الطالب وتحرير الإنسان بوجه أعم، عن طريق اتباع وسائل وأساليب جديدة. ومعنى هذا أنه ليس مجرد تجديد علمي أو فني، كما أنه ليس حيادياً في ما يتصل بالتعامل مع طبيعة الإنسان وأساليب تحريره ونموّه، بل يحمل فلسفة كاملة وراءه، وهي في جزء كبير منها حصاد التقدم العلمي التقاني في العصر الحديث، مع ما يحمله من نظرة إلى الإنسان.
2- الأسباب الراجعة إلى أزمة الحياة العربية جملةً
على أن، فوق هذه الأسباب التربوية التي أملت على المربين والمفكرين العرب الشعور بأهمية البحث عن فلسفة تربوية عربية، سبباً أساسياً آخر، نعني به أزمة الحياة العربية جملةً، تلك الأزمة التي حملت على الاعتقاد بأن التربية ينبغي أن تلعب دوراً بارزاً في التغلب عليها، شريطة أن تكون تربية لها من الغايات والأهداف ما هو قادر على الاستجابة لحاجات تجاوز تلك الأزمة. والحق، أن الفلسفات التربوية الجديدة كانت تظهر دوماً في التاريخ في فترات القلق والاضطراب والتخبّط الفكري والاجتماعي. ففي مثل هذه الفترات يلتفت الناس إلى التربية بشكل خاص، يسألونها أن تقدم لهم العلاج مما يشكون، ويطلبون إليها أن تكوّن
(أو أن تسهم على الأقل في تكوين) المجتمع الجديد المنشود. وفي البلدان العربية يلتفت القوم أيضاً إلى التربية يحمّلونها ما تحتمل وما لا تحتمل من معالجة أمراض المجتمع ومشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ويزداد لديهم اليقين يوماً بعد يوم بأن أزمة المجتمع العربي ترتد إلى أزمة التربية أولاً، وأن أزمة التربية ترتد إلى عجزها عن تكوين الإنسان المنشود، وبأن من اللازم، إذن، أن تضطلع بهذا الدور عن طريق بناء فلسفة تربوية ملتحمة بالفلسفة الاجتماعية المنشودة. ولنا على هذا الموقف ملاحظات سنوردها مع سواها عندما نتحدث عن الأثر الحقيقي لفلسفة التربية. وأيّاً كان الأمر، فإن هذا الموقف يتخذ أشكالاً عديدة، نذكر بعضها:
آ- أول ما يقوله أصحاب هذا الموقف هو أن النظم التربوية العربية القائمة نظم مجلوبة وهجينة، وليست نظماً منبثقة، حقاً، من طبيعة المجتمع العربي وحاجاته. ومن هنا كان لابد من فلسفة تربوية عربية جديدة، أصيلة وحديثة معاً، تقضي على ما ترسّب في النظم التربوية العربية من مخلَّفات الاستعمار، وترفض الأخذ بالقوالب التربوية الجاهزة المجلوبة من الغرب بوجه خاص.
ب- ويمعن آخرون في استخلاص النتائج التي تلزم عن الموقف السابق، فيرون أن الحاجة ماسة إلى العود إلى الأصول أولاً، أصول الفكر العربي الإسلامي وأصول التربية الإسلامية، وينادون، بالتالي، بالقيام بجهد فريد لازب يستهدف جلاء أصول الفلسفة التربوية العربية الإسلامية واستخراجها من منابعها المختلفة ومصادرها الأساسية، واتخاذها بعد ذلك منطلقاً للفلسفة التربوية المنشودة. وقد قامت جهود كثيرة قديمة وحديثة للبحث عن مبادئ التربية الإسلامية(4)، لا مجال إلى الحديث عنها هنا. غير أنه ما يزال يعوزها، في نظرنا، في معظم الأحيان، الاستخلاص العلمي الواضح لمعالم الفلسفة التربوية العربية الإسلامية كما عرفها التاريخ، وبوجه خاص لمعالم الفلسفة التربوية المنشودة. وما قيل ويقال، لا يعدو أن يكون غالباً اتجاهات عامة لم تبلغ بعد مرحلة الرؤية العلمية الواضحة، كما لا تكوّن دليلاً فلسفياً هادياً.
ج- وثمة تأكيد على أهمية الفلسفة التربوية في معالجة أزمة الحياة العربية، انطلاقاً من مشكلات العصر التي ينعكس الكثير منها على مشكلات المجتمع العربي، سلباً وإيجاباً. والحديث عن مشكلات العصر ملأ الصحف والأجواء في الغرب والشرق، وهو في كل يوم يلبس حلّة جديدة. وليس المجال مجال التفصيل في هذا الشأن. وحسبنا أن نشير – بلغة برقية – إلى المشكلات الأكثر صلة بالتربية وفلسفتها:
– نزوع الحضارة الصناعية إلى أن يتجاوز الإنتاج فيها حاجات المجتمع والأفراد الحقيقية، وولادة مجتمع الاستهلاك، المجتمع الذي يصبح شعاره الاستهلاك في سبيل مزيد من الاستهلاك، وما ينجم عنه من آفات اقتصادية واجتماعية ونفسية، وما يقود إليه من تشويه لحاجات الإنسان ومطالبه وصبواته.
– الوضع الضائع المنعزل للإنسان في العالم الحديث، إذ يبحث عن سند لدى المجتمع، فلا يجد إلا كتلة من الأفراد الفرادى، وجمهوراً مغفلاً أنانياً وحاسداً وغضوباً. إنه الإنسان المرمي في العالم، على حد تعبير هايدغر.
– بُعْدُ الحضارة الحديثة عن حاجات الإنسان الحقيقية، وحاجتها الماسة إلى قيادة إنسانية للتقدم (لجعله في خدمة الإنسان)، لا إلى مجرد قيادة مالية أو بيروقراطية. ويتبع هذا عجز الحضارة الحديثة عن قيادة التقدم العلمي والتقاني قيادة رشيدة، وعن السيطرة الإنسانية على ما يتيحه هذا التقدم من إمكانات هائلة في عالم الذرّة والنواة، وفي عالم هندسة النسل وتوليد الحياة، وفي عالم البيولوجيا وصياغة الإنسان والتأثير فيه، وفي عالم البيئة الطبيعية والمحيطات والفضاء،.. الخ.
– أزمات القلق النفسي التي تعصف بالشباب، في مجتمع يراوح بين البطالة والفراغ من جانب، وبين العمل المرهق من جانب آخر، وفي بيئة اجتماعية تتضاءل فيها الحماية العائلية، بل تتضاءل مقومات الكيان العائلي وتسود فيها الحرية الجنسية حتى لتكاد تحل محل الأسرة الزوجية، وتأفل فيها تدريجياً صورة «الأب»، نعني صورة «الأنا العليا» والقيم الإنسانية، لتحل محلها قيم النجع والفعالية والكسب والنجاح، إن صحت تسميتها قِيَماً.
– سيطرة روح التحكُّم والتسلُّط ونمو الروح العدوانية وما يتبعها من عدوان الأفراد على الأفراد والدول على الدول، وما يرافقها من حروب ضيقة أو واسعة. وذلك كله من منطلق التسابق على الريح والكسب.
– المصير الغامض القلق لأبناء الدول النامية، وما يلحق به من اختلال التوازن بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية في مجال الاقتصاد والإعلام والثقافة وسائر المجالات، وما يصاحبه من نزعات الاستعلاء والعرقية والاستغلال.
– وفي الجملة، أبرز ثغرات حضارة العصر، من حيث انعكاسها المباشر على التربية، هي أنها حضارة لم تستطع أن تجعل محور اهتمامها الإنسان وحريته وقيمه.
وهذا المآل الذي آلت إليه الحضارة الحديثة هو الذي يحمل الكثير من المربين وسواهم على البحث عن سبيل النجاة والخلاص، في تربية توجِّه الفرد والمجتمع شطر أقرانه من بني الإنسان، وشطر القيم الإنسانية العليا، بدلاً من توجيهه شطر النجاح بأي ثمن، وشطر الغلبة والتحكُّم. وهذا عندهم مبرر أساسي من مبررات وضع فلسفة تربوية تستجيب لهذه المطالب، ويكون الإنسان غايتها ومستقرها. ولنا وقفة ومفصلة عند هذا الجانب المتَّصل بأزمة العصر، أثناء حديثنا عن معالم الفلسفة التربوية العربية المنشودة.
3- التطلع إلى مستقبل جديد سبب آخر من أسباب اهتمام المربين العرب بفلسفة التربية
وإلى جانب الأسباب التربوية والأسباب الراجعة إلى أزمة الحياة العربية، يتريث بعض المربين والمفكرين العرب عند سبب آخر يحملهم على الدعوة إلى بناء فلسفة تربوية عربية، ونعني به تطلعهم إلى بناء مستقبل جديد للوجود العربي، يُسقطون عليه آمالهم وأفكارهم وأنظارهم. وقد ذاع هذا الاتجاه بوجه خاص بعد ولادة علم المستقبل والدراسات المستقبلية(5)، وبعد أن شاع في العقود الثلاثة الأخيرة ذلك النزوع إلى السيطرة على المستقبل، في شتى مجالاته، وإلى الإمساك بزمامه، وبالتالي إلى أن يقود الإنسانُ مصيرَه بيده ويخطَّ تاريخ مستقبله بنبوءاته وتحسبه (Prospective) وإسقاطاته. والدراسات المستقبلية هذه، رغم كونها لا تزعم لنفسها صفة العلم الدقيق، لها كما نعلم أصولها ومبادئها التي تتطور يوماً بعد يوم،
لا سيما بفضل ما تتيحه الأجيال الجديدة من الحاسبات الإلكترونية من طاقات. وهي بذلك تساعد على استشراف المستقبل، وترسم «المشاهد» الممكنة والأكثر احتمالاً، وتزيد بالتالي من قدرة الإنسان على التحكم في تلك «المشاهد» وعلى التأثير في المستقبل وبنائه.
وقد شاع هذا المنهج كما نعلم في شتى ميادين الحياة الاقتصادية والعسكرية والإدارية والاجتماعية والثقافية وسواها، وامتد أثره منذ وقت مبكر إلى ميدان التربية. وهو في هذا المجال ليس مجرد شكل من أشكال التخطيط البعيد المدى أو نمط من أنماط الاستراتيجية، بل هو أوسع من هذا وأشمل، وإن يكن أقل دقّةً وإحكاماً. ولعله، بحكم طبيعته، أكثر ارتباطاً بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية. ومن هنا يتلقف هذا المنهج المربون الذين يؤمنون بأن صورة الحاضر والمستقبل القريب، في ميدان التربية وسواها، ينبغي أن تُرسم انطلاقاً من تصور المستقبل البعيد وأهدافه ومرتجياته. ومعنى هذا أن يكون تصور هذا المستقبل تصوراً واضحاً، وأن ينطلق من مبادئ وأسس تشتق من تقرّي حاجات هذا المستقبل والكشف عنها. وفي ميدان التربية لابد من تصور واضح لحاجات المستقبل في ميدان التربية في صلته بالميادين الأخرى، أي لابد، بالتالي، أن يشتمل هذا التصور على مبادئ وأسس وغايات تربوية تهدي العمل التربوي منذ اليوم، بحيث يتم بلوغ الصورة المستقبلية المنشودة في الغد.
* * *
وفي الجملة نستطيع أن نقول، في ما يتصل بسائر المبررات التي تسير بها ألسن المربين والمفكرين في البلدان العربية، من أجل تقديم الحجة على ضرورة وضع فلسفة تربوية عربية، إن التربية، بوجيز العبارة، مدعوة، في عصرنا ومصرنا (وفي سواه)، إلى الاضطلاع بمهمات كبرى. وهذه المهمات تختلف عن مهماتها في الماضي اختلافاً أساسياً. فبينما كان دورها في الماضي نقل غايات المجتمع على نحو ما رسمها ذلك المجتمع، عليها اليوم أن تسهم على أقل تقدير في صياغة تلك الغايات. وعليها أن تسهم في تلك الصياغة لأنها لازمة من أجل مواجهة مشكلات التربية في البلدان العربية سواء أكانت كمية أم نوعية، ولأنها شرط لازب لمعالجة أزمات الوجود العربي وما يسري إليه من أزمات الوجود العالمي، ولأنها أمام تحدٍّ كبير، هو بناء إنسان عربي لصيق بحضارته وتراثه وثقافته، متفاعل مع عصره تفاعل أخذ وتحليل ونقد، عامل لبناء مجتمعه في شتى جوانبه، مطل على مستقبل يرجوه أفضل وأكثر إشراقاً. وفوق هذا وذاك، هذه التربية العربية المرجوة تواجه التحدي الأكبر، الذي تواجهه سائر النظم التربوية في العالم، نعني كيف تسهم في بناء الإنسان من أجل حضارة إنسانية جديرة بالإنسان، وكيف تسهم في بناء الحضارة القمينة بالإنسان وتطلعاته وقيمه من أجل بناء الإنسان(6).
مَهمَّة كأداء تواجه العاملين، وحلم جميل يراود المنظّرين، ولكن دون ذلك خَرْق القَتاد، ووراءه تساؤلات تخفي مشكلات شائكة وأهوالاً عاتية:
هل تستطيع التربية حقاً أن تضطلع بمثل هذه المهمات أو أن تسهم فيها؟ وما وعودها وما حدودها بهذا الشأن؟
وإذا كان للتربية دور في الاضطلاع بهذه المهمات، فهل فلسفة التربية هي مفتاح هذا الدور؟ وهل من السهل أن نتخيل تغيير البلاد والعباد عن طريق مبادئ وأنظار فلسفية، مهما يكن شأوها؟ وما السبيل إذن إلى مواجهة هذا الموقف؟
للإجابة عن هذه التساؤلات وأمثالها، لابد من جولة حرة بعض الشيء في دروب الفكر التربوي العالمي. ولابد من نظرة نافذة إلى حصاده، تهدينا في سعينا إلى بيان دور الفلسفة التربوية العربية المنشودة في بناء التربية التي يستلزمها حاضرنا ومستقبلنا. وهذا هو موضوع الفصل التالي.