الإصدار: 1995
دار النشر: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (أليكسو) – تونس

- تقديم 5
أولاً: تصدير التقرير 7
ثانياً: مدخل: دواعي «مراجعة الاستراتيجية» 12
الفصل الأول: الواقع العالمي وآفاقه المستقبلية وانعكاساته على
الواقع العربي وتطلعاته 17
الفصل الثاني: الواقع العربي حاضراً ومستقبلاً وانعكاساته على
مسيرة التربية 39
– السكان والقوى العاملة 40
– الاقتصاد العربي ومشكلاته 43
– الوطن العربي وامتلاك القدرة العلمية والتقانية 53
– التقانة والثقافة العربية 58
الفصل الثالث: واقع التربية في الوطن العربية ومشكلاته 73
– أهمّ جوانب التطوّر الكمي للتعليم 73
– أهمّ جوانب التطوّر النوعي للتربية 86
الفصل الرابع: المشكلات الأساسية التي تعاني منها التربية
العربي وسبل معالجتها: عناصر الاستراتيجية 92
– الفلسفة التربوية والأهداف التربوية والسياسة التربوية (مع توصيات) 92
– تطوير التخطيط التربوي (مع توصيات) 98
– الإنفاق على التربية وتمويل التربية 102
– محو الأمية والتعليم الإلزامي (مع توصيات) 111
– التعليم الثانوي وتشعيبه (مع توصيات) 117
– التعليم العالي وتطوير العلم والتقانة (مع توصيات) 136
– ربط التعليم بحاجات القوى العاملة (مع توصيات) 151
– ربط التربية بالثقافة (مع توصيات) 161
الفصل الخامس: خلاصة التقرير – عود على بدء 172
الفصل السادس: سبل إنفاذ الاستراتيجية 191
الهوامش 197
- دواعي مراجعة «الاستراتيجية»-1 انطلقت «استراتيجية تطوير التربية العربية» (التي مضى على نشرها، كما سبق أن ذكرنا في التصدير، زهاء أربعة عشر عاماً) من واقع عالمي وعربي عرف تغيرات كبيرة منذ الحرب العالمية الثانية وبوجه خاص منذ الستينات يوم بدأت تزحف على العالم آثار الثورة العلمية التقانية (التي تعرف أحياناً باسم الثورة الصناعية الثالثة) ولا سيما آثار ثورة ما بعد الصناعة، التي أخذت الآلة المؤتمتة فيها تحلّ محلّ الإنسان بل محلّ الآلة التقليدية التي عرفها عصر الصناعة.
ولم تأل «الاستراتيجية» جهداً في وصف ذلك الواقع العالمي والعربي الذي ولد من رحم تلك الثورة العلمية التقانية، التي أطلق عليها الكاتب الأمريكي الشهير «توفلر Alvin Toffler» اسم «الموجة الثالثة». كما أنها استخلصت النتائج التربوية التي تلزم عن تلك الثورة، ولم تدخر وسعاً في هذا السبيل.
-2 ولكن، على الرغم من تدافع الأحداث على المستوى العالمي والعربي خلال تلك الفترة التي كتبت فيها «الاستراتيجية» وعلى الرغم من التغيرات المذهلة التي أتت بها الثورة العلمية والتقانية، ثورة ما بعد الصناعة، والتي انعكست على شتى ميادين الحياة، هزت العالم بعد ذلك، قبيل انتهاء الحرب الباردة وبعدها بوجه خاص، زلازل من التغيرات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية تملي معالجة جديدة لآثارها وانعكاساتها على ميادين الحياة المختلفة. كما دخل التقدّم العلمي والتقاني مرحلة جديدة تكاد تجبّ
ما قبلها، نعني بها مرحلة الثورة المعلوماتية وما رافقها من تغير في نظم الحياة جميعها، ولا سيما نظم المال والاقتصاد من جانب، ونظم التربية والثقافة وحياة المجتمعات من جانب آخر.
هذا بالإضافة إلى الثورة في عالم «التقانة الحيوية Biotechnology» التي أحدثت انقلاباً في التأثير على الطبيعة والإنسان، عن طريق التأثير في البنية الوراثية لموارد الأرض ولمن عليها.
-3 وسوف نتحدث عن هذا كله في الفصل الثاني. وقد سقناه ههنا موجزاً كي يستبين لنا كيف أن التغير الانفجاري الذي حدث بعد كتابة «تقرير الاستراتيجية» لا بد أن يملي نظرة جديدة كلّ الجدة إلى العالم وإلى الوطن العربي وإلى موضوع التنمية وإلى نتائج ذلك على التربية، ولا بد أن يفرض بالتالي «مراجعة» جذرية للاستراتيجية. وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال، أن البنية المتشابكة لثورة المعلومات والاتصال والثورة التقانية البيولوجية والثورة «الروبوتية» والثورة في ميدان هندسة النسل، تغيّر ترتيب الأسبقيات الحاكمة للعالم، نعني الثورة والقوة والمعرفة، فنجعل للمعرفة مقام الصدارة بينها وبل تجعلها الأداة الحاسمة في توليد كل من الثروة والقوة.
وهذا يعني، فيما يعني، عود التربية منتصرة، لتحتل مكان الصدارة في التنمية والتقدّم. وهذا هو الدرس الأساسي الذي استخلصه واضعو «استراتيجية التربية» لأمريكا عام 2000، وهذا ما نقرؤه صريحا واضحاً لا لبس فيه في أكثر من موضع من خطاب الرئيس بوش عند إعلان تلك الاستراتيجية عام 1991. ومما يقوله بهذا الصدد موجزاً: «إن المدارس الجديدة هي عالم جديد». ومما يقوله أيضاً: «إذا أردنا لأمريكا أن تبقى قائدة، فلا بد أن نقود الطريق في مجال التحديث والتجديد التربوي».
-4 وقد انعكست آثار الهزات الكبرى التي غيّرت وجه العالم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي على البلدان العربية كما انعكست على سواها. وعرف الوطن العربي أيضاً زلازل وهزات في أكثر من ميدان. وأخطر ما عرفه تشتت الصف العربي ووهن التضامن والتكافل والتكامل بين معظم أجزائه. مثل هذا المآل لا ييسّر تنفيذ أي استراتيجية قومية سواء في ميدان التربية أو العلوم والتقانة أو محو الأمية أو الأحوال الاجتماعية والاقتصادية أو سوى تلك من مجالات العمل العربي المشترك في ميادين التنمية المختلفة. وإذا نحن أعدنا إلى الذاكرة تلك الحقيقة التي أكدتها الدراسات وصدّقها الواقع، نعني فشل أي مشروع قطري في أي ميدان من ميادين التنمية في الوطن العربي، والحاجة العملية الماسة إلى التكامل والتعاون العربي من أجل نجاح أي مشروع تنموي، بحيث يكون اللقاء بين الموارد المتنوعة المنثورة في البلدان العربية، سواء كانت طبيعية أو مادية أو بشرية، الشرط اللازم الذي لا يفلح دونه البناء الحضاري المستقبلي للأمّة العربية، نقول إذا نحن فعلنا ذلك أدركنا الحاجة الماسة إلى رسم استراتيجية تربوية من خلال أفق جديد يكون همّها الأول البحث عن السبل والدروب التربوية التي إذا انضافت إلى جهود مماثلة في شتى ميادين الحياة أدّت إلى أوبة الأمة العربية إلى ذاتها، وإلى أخذها بمزيد من التضامن والتفاعل، وإلى سيرها الحازم في طريق الإمساك بمستقبلها ومصيرها. لا سيما أن مطلب التضامن هذا ليس مطلباً تنموياً فحسب بل هو مطلب أمني، يقي الأمة العربية مخاطر تمزيقها وضياعها وتداعي الأمم عليها، كما أنه مطلب ثقافي يحول دون استلابها ومحو هويتها العربية الإسلامية تمهيداً لمحو كيانها.
-5 وما يزال الوطن العربي يقف في مواجهة التغيرات الخاطفة الصاعقة التي تتمّ على الساحة العالمية في شتى الميادين، وفي ميدان التربية بوجه خاص، مستسلماً متلقياً ما تقذف به الحضارة العالمية، منفعلاً بما يجري قليل الفعل فيه. وقد نجد له بعض العذر إذا نحن أدركنا أن الحضارة التي تغزونا تتجه بقوّة في السنوات الأخيرة بوجه خاص إلى أن تكون «عالمية» شاملة، لا تقف في وجهها الحدود والسدود، تغزو بالمال والاقتصاد والفكر ملايين البشر في البلدان المتخلفة بل في البلدان المتقدمة إلى حد كبير. غير أن آثار هذه الهجمة العالمية خطيرة، ولا سيما بالقياس إلى الأمم الضعيفة والمتخلفة. والوطن العربي مدعوّ أمام هذا الواقع ذي البأس الشديد إلى أن يحدد موقفه، بحيث يملك زمام الانفتاح على العالم قبضاً وبسطاً وفقاً لمصالحه ومنطلقاته الثقافية وحاجاته الإنسانية الحقيقية، وبحيث يدرك حدود ذلك الانفتاح ومعاييره، مستمسكاً دوماً بذاته وهويته واستقلال قراره. ومثل هذا النهج هو دون شك من شأن الساسة وأرباب الاقتصاد وسدنة العالم والعارفين بالتقانة، ولكن نجاحهم يستلزم بناء نظام تربوي ملائم لما يرجون من أهداف جديدة في مواجهة العالم الجديد. لا سيما أن العالم لا يقذف علينا حمم تكالبه المالي وعبادته للاقتصاد فحسب، ولا يلقى علينا حصاد منتجاته التقانية وحدها، بل يغزو قيمنا وفلسفتنا وثروتنا الفكرية والروحية، لا سيما بعد الشأو الذي بلغته ثورة الاتصال والمعلومات.
وهذا كله مما سنعود إليه في الفصل الخاص بالتربية. وحسبنا ههنا أن ندرك من ورائه مدى الحاجة إلى القيام بمراجعة «لاستراتيجية تطوير التربية» في ضوء هذا الواقع العربي الحريص على ذاته وعطائه وسط هذا السيل العارم من منتجات النظام العالمي الذي يكاد يحمّل «العالمية» معنى واحداً، هو «عالمية اقتصاد السوق»، غافلاً بل مهملاً عن قصد معانيها الإنسانية المتصلة بصميم حياة الملايين من البشر وسعادتهم ومصيرهم.
-6 وإذا ما التفتنا إلى التربية على حدة، وإلى التربية العربية بوجه خاص، عثرنا على مبرر جديد من مبررات مراجعة «الاستراتيجية» ففي العالم كله، وفي البلاد العربية بالتالي، تساؤلات وشكوك ضخمة حول التربية ودورها والسبيل الأمثل للإفادة من هذا الدور:
هكذا يعترف العالم المتقدم نفسه بإخفاق النظم التربوية فيه وعجزها عن اللحاق بحاجات المجتمع الحقيقية. بل أن هنالك علامات استفهام كبيرة عن أفضل شكل للربط بين مخرجات التربية وبين حاجات العمالة، بعد أن فشلت كثير من النظم المطبقة في هذا المجال. وهنالك اعتراف أكبر بتقصير التربية (في شتى مراحل التعليم) في تطوير العلوم والتقانة، وتساؤل عن الشكل الأمثل لربط التربية بالعمل وبمواقع العمل. وثمة تجريح لتقصير التربية في دورها الأساسي، نعني تكوين الإنسان ثقافياً وخلقياً وفكرياً. وهنالك من النقد والتجريح للتربية حتى في أحدث صورها، مما سنعود إليه بتفصيل أكبر فيما بعد.
وفي البلدان العربية تساؤلات أدهى وأمر عن شأن العطاء التربوي: فهنالك تساؤل ضمني ومعلن عن عجز التربية إلى حدّ كبير، رغم ما بذل لها من إنفاق ضخم، عن الإسهام الجاد في تطوير المجتمع العربي علمياً وتقانياً واجتماعياً وفكرياً. وهنالك تبرّم مما يؤدي إليه التعليم في كثير من الأحيان من «بطالة مثقفة» تفوق في خطرها «البطالة الجاهلة» وعلى الرغم من أن كثيراً من نظم التعليم في البلدان العربية تأخذ بكل جديد، بل بجديد الجديد، في تجويد التعليم نوعاً وإدارة وخدمات تسري على الألسن تساؤلات حول أسباب ضعف ثمرات هذا كله وحول أسباب المستوى التحصيلي المنخفض للطلاب في معظم الأحيان، وحول ضآلة عطائهم للمجتمع وتقلص دورهم في تقدّمه وتنميته. وسنعود إلى هذا وإلى سواه فيما بعد. وحسبنا هنا أن ندرك أن مشكلة التربية في الوطن العربي ليست مشكلة فنية فحسب، وأن التوصية بتجويد التعليم كماً ونوعاً وبنية، كما فعلت الاستراتيجية، لا تكفي وأن مجرد إغداق الأموال عليه لا يجدي، ولا بد من التنقيب ملياً في الأعماق للكشف عن الأسباب الحقيقية لتردي نتائج التعليم في معظم البلدان العربية، على الرغم من الجهود الضخمة التي تبذل والأموال الطائلة التي تنفق. ولعل الأوضاع الثقافية والمجتمعية تأتي على رأس تلك الأسباب.
كذلك يتساءل الكثيرون في كثير من البلدان العربية عن مدى الآثار التي أحدثتها في واقع التربية توصيات المئات من المؤتمرات والحلقات والندوات، وتوجيهات الاستراتيجيات والخطط التربوية وسواها، بالإضافة إلى صيحات الآلاف من أرباب الفكر التربوي، ونداءات الأفكار، التي تحفل بها آلاف الكتب والمجلات التربوية العربية والأجنبية، وغير تلك من مصادر الفكر التربوي والتطوير التربوي. ولئن كان من الصحيح أن آثار مثل هذه التوصيات والاتجاهات والأفكار هي مما يخفى عن الأعين ويحتاج إلى بحث دقيق وصعب، كما يحتاج إلى مرحلة حضانة وإنضاج طويلة، فإن من الصحيح كذلك أن قليلها يجد طريقه إلى أنظمة التربية نفسها وينساب في عملياتها ويبلغ في خاتمة المطاف غرفة الصف والطالب ومن بعدهما الحياة والمجتمع بوجه خاص. وهذا ما تكشف عنه دراسات تندّ عن الحصر
ولا مجال لذكرها هنا.
لا بد إذن من طرح السؤال صريحاً قاسياً: أين تكمن العلّة؟ وأين الطريق المستقيم؟ ولماذا يقصّر العمل التربوي عن الفكر التربوي هذا التقصير الفاضح؟ وهل العلّة في ضعف الفكر التربوي نفسه وفي عدم إدراكه للواقع وعقباته وحاجاته، أم أن العمل هو الذي يعكر الفكر ويعقّده؟ هذا ما سنحاول الإجابة عنه فيما بعد. ويكفينا في سياق هذا المدخل أننا أومأنا بإصبعنا إلى مسوّغ تربوي آخر، يحملنا على معالجة استراتيجية التربية العربية من منظار جديد، منظار البون الشاسع بين الفكر والعمل في التربية في معظم الأقطار العربية.
-7 وليس هدفنا أو قصدنا بل ليس في مقدورنا، أن نحصي سائر الدواعي التي تسوّغ مراجعة «تقرير استراتيجية تطوير التربية العربية». وحسبنا ما ذكرنا من أمثلة محدودة كيما ندرك أن مثل هذه المراجعة أمر حتمي عندما نكون أمام واقع عالمي ما زالت الأمواج تتقاذفه في بحر لجّي، وما يزال يجهل وجهة سيره وإن يكن ما بدا من معالمها ينذر بمخاطر كثيرة تتهدد العالم كله وتتهدد البلدان النامية بوجه خاص. ومثل هذه المراجعة قدر مفروض مادامت البلدان المتقدمة تفرض على البلدان النامية نظاماً تريده في خدمتها ومن أجلها، وما دامت هذه الدول المتقدمة تجهد لكي تجعل البلدان العربية بوجه خاص نهباً لكل طارق وطامع، ولكي تفرض عليها أن تنسلخ من جلدتها الثقافية ومن كيانها الأصيل لتذوب في حمأة النزعة العالمية التي تنادي بها بعض الدول المتقدمة وكأنها الرديف للنزعة الإنسانية، بينما تكاد تكون وإياها على طرفي نقيض. وسفينة النجاة وسط هذا الواقع العالمي الضائع والمضيّع الأوبة إلى الذات عن طريق نظام تربوي يمكّن الأمة العربية من مخاطبة العالم عبر منبرها الأصيل ومن خلال عطائها المبدع، وييسر لها الانفتاح الطوعي على العالم من أجل دمج عطائه بالمقومات الأصيلة لعطائها، بحيث يصبح الانفتاح حواراً ومنحاً وعطاء متبادلاً بدلاً من أن يكون نهباً واجتياحاً.
وبإيجاز إن الواقع العالمي الرازح تحت أعاصير الهجمات المالية المسيطرة، والواقع العربي المرتقب بل المستسلم غالباً، والواقع التربوي في العالم وفي الوطن العربي الذي تعصف به رياح الشك، والمستقبل العربي الباحث عن مصير أفضل لمّا تستبنْ معالمه، دواع كافية لإجراء مراجعة أساسية لاستراتيجية تطوير التربية في البلاد العربية، ولرسم معالم تربوية جديدة تنطلق من المعالم الجديدة التي يتصف بها الواقع العالمي والعربي والتربوي، ومن آمال المستقبل العربي المستمدة من فهم ذلك الواقع وتفنيده وإدراك اتجاهاته الأساسية واحتمالات تطوّره.
-8 هل نفلح في هذه المهمة الصعبة؟ أو بتعبير أدق هل من الممكن تجديد نظم التربية في البلاد العربية تجديداً يمكّنها من الإجابة عن هذه التحديات؟ بل هل في وسع التربية أصلاً أن تفعل ما لا يفعله سواها، فتغيّر المجتمع الذي ولدها، وتؤثر تأثيراً مباشراً في العوامل الأخرى التي تصنع المجتمع، سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سوى ذلك؟ هذا ما ستحاول الصفحات المقبلة أن تجيب عنه، بل هذا هو هدف التقرير في جملته.