الإصدار: الثانية – تموز/ يوليو 1995
دار النشر: دار العلم للملايين – بيروت

تقديم الترجمة العربية 5
مدخل: بين الاتباع والتطور والتحول في طرائق التعليم 27
القسم الأول
ما هي قيمة منهجنا في دراسة المسألة
الفصل الأول: في مدلول طرائق التعليم 45
الفصل الثاني: رسوخ النزعة الكارهة للتجديد 69
القسم الثاني
دواعي الجمود
الفصل الأول: أطرق فعالة عديدة أم طريقة فعالة وحيدة؟ 95
الفصل الثاني: الاهتمامات الطبيعية 120
الفصل الثالث: انعزال تقنيات «فرينيه» وتقوقعها 144
الفصل الرابع: معطلات البحث التربوي 171
الفصل الخامس: في بعض تفسيرات الجمود الخاطئة 194
الفصل السادس: لزوجة الوسائل وميوعة الغايات 218
القسم الثالث
الفن التعليمي والسياسة
الفصل الأول: الفلسفة والسياسة 249
الفصل الثاني: التربية الحديثة والديمقراطية الحرة 271
الفصل الثالث: التربية المؤسسية والثورة 298
الفصل الرابع: الطوبياء التربوية والنزعة الاجتماعية 323
الفصل الخامس: الطوبياء التربوية والثورة 349
الفصل السادس: المدرسة المؤتكلة 379
الفصل السابع: نحو وضع نماذج تحولية 402
القسم الرابع
نحو تحول في فن التعليم
الفصل الأول: موت المدرسة 431
الفصل الثاني: أتفريط في المدرسة أم إفراط فيها؟ 456
الفصل الثالث: نماذج أو لا نماذج 479
الفصل الرابع: بين تضخم المدرسة وتقلصها 501
الفصل الخامس: من ادعاءات التضخيم الأقصى إلى أوهام النزعة الاستقلالية 525
الفصل السادس: من صرامة التقلص إلى جلال التخصص 549
خاتمة: الإشادة بالفن التعليمي 573
المراجع 605
الثبات والتحول، السكون والحركة، أنقول إنهما في أصل الكون، وفي صلب منطق الحياة؟ أنقول مع ديكارت: «إيتوني المادة والحركة، وأنا زعيم بعد ذلك بأن أخلق لكم الكون؟» أم نمضي إلى فلاسفة يونان وإلى مذاهبهم المختلفة تحدثنا عن الثبات والتغير، عن الثابت في المتغير وعن المتغير في الثابت؟
والطريف والتليد، القديم والجديد، هل نقول فيهما قولة الشاعر العربي عنترة «هل غادر الشعراء من متردَّم» أم قولة ابن خلدون: «الآتي أشبه بالماضي من الماء بالماء»، أم نذهب مذهب الجاحظ حين نادى: «من قال ما ترك الأول للآخر فإنما لا يريد أن يفلح»؟
قد يكون في تطور الكون والحياة، وتقدم الإنسان عبر العصور، وتجدد المعارف والعلوم والتقنيات، ما يغنينا عن هذا كله، وما يحدثنا أبلغ حديث أن الجدة والحياة صنوان لا يفترقان، وأن الجديد مع ذلك وليد القديم دوماً وأبداً يحمل عبقه ويمتاح من معينه. ذلك أن الحقيقة، أني كانت، بناءٌ متراكم وليست يوماً اكتشافاً من عدم. ومستقبل الإنسان، هو بالتالي أمامه دوماً وليس وراءه، كالأفق يبتعد عنا كلما اقتربنا منه. وليس هنالك، على حد تعبير «جيمس»، حقيقة نكتشفها كما نكتشف الجوزة القابعة في قشرتها، بل هنالك حقيقة نبنيها ونشيدها خلفاً عن سلف وكابراً عن كابر.
تخلف التجديد في مجال التربية
على أن من الحق أن نستدرك فنقول إن التجديد لا يأتي سهواً رهواً، بل لابد فيه من معاناة وقصد، ومن هنا فإنه يعرف المد والجزر والإقبال والإدبار. والجهد في سبيله هو الذي يملّكنا ناصيته ويجعل لنا في صنع المستقبل شأن ونصيب. ومن الحق كذلك أن نقول إن التجديد كثيراً ما لا يخطو خطوات واحدة متماثلة في شتى جوانب الحياة، بل كثيراً ما يغذّ السير في ميدان ويقصر ويكبو في ميدان آخر. بل لعل من حقنا أن نقول إن التجديد في الميادين اللصيق بالإنسان، كثيراً ما يتخلف عن التجديد في الميادين اللصيق بالمادة، وفي هذا علة ما نشهد ونعاني من أزمات الحضارة الحديثة خاصة.
ومن أبرز ما يجأر أمام الأعين عندما نحلّل مسيرة الإنسانية في عصرنا، وعندما نطلّ على تجارب التجديد التي انطلقت جادة عنيدة في شتى جوانب الحياة في القرن العشرين، أن ميدان التربية، وهو الميدان القمين بأن يقود سائر الميادين ويطلق فيها شرارة الخلق والإبداع، ميدان ما يزال يسير نحو التجديد على مهل واستحياء، وكأنه في غمرة عطائه لغيره نسي نفسه ولم يلتفت إلى ذاته، وعجز عن تحقيق التقدم الذي ساقه لسواه.
ومن هنا ارتفعت الأصوات عالية منذ عقود كثيرة، وفي العقود الأخيرة خاصة، تفضح هذا الواقع وتنعي جمود التربية وتنكر حتى أطرها وبنيتها التي لم تتغير منذ مئات السنين. فالصف المدرسي هو الصف المدرسي، وإطار المدرسة الأساسي، إطار الصف ذي العدد المحدود من الطلاب الذي يعلمه معلم واحد، ثابت لا يكاد يَحول، وطرائق التربية ما تزال إلى حد كبير على عهدنا بها منذ تباشير الثورة الصناعية الأولى بل قبلها، وإن زعمنا في أفكارنا وأنظارنا أنها طرائق محدثة مباينة للطرائق التقليدية. ومحتوى التربية، بمناهجه وأبوابه وفروعه، يُدفع إلى التجديد دفعاً بحكم ضرورات التطور في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والعلمية دون أن يسيغ هذا التجديد فضلاً عن أن يكون فيه القائد والرائد.
وجملة القول إن ما نجده من تجديد في ميدان التربية، بنيةً وطرائق ومحتوى،
لا يعدو أن يكون قرزمات متلعثمة ومحاولات خجولة، تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، تمجد التجديد في الكتب والأسفار وتتنكر له في واقع الحياة المدرسية، وتثور على الواقع التعليمي ثورة شاعر دون أن تقوى على تغيير مسيرته الفعلية، بل دون أن تقوى على أن تمس دعوتها أعماق السرائر والضمائر.
ويصدق هذا على البلدان المتقدمة نفسها، وعلى البلدان النامية خاصة، تلك البلدان التي تتطلع إلى تجديد التربية من أجل تجديد جوانب حياتها الشتى، والتي ترجّي منها الأمل والغد المنشود، غير أنها ترجع خائبة حسيراً، ولا تدري في خاتمة المطاف من أين تبدأ: هل تبدأ بتجديد التربية، وهو عنها بعيد، من أجل تجديد حياتها، أم تبدأ بتجديد جوانب حياتها الأخرى، أملاً في تجديد التربية معها، والمطلب شاق والمزار عسير؟ وإذا هي أدركت بحق أن المسيرتين متآخذتان، وأن بينهما صلة دائرية لا أفقية، وجدت في أَرَن التربية وجمودها وإحجامها وبطء تحركها ما يجعلها حائرة مرة أخرى.
الفراق بين النظريات التربوية وبين الواقع المدرسي
ومع ذلك، قلنا ونقول، إن صيحات التجديد في التربية ليست بالقليل، وإن الفلسفات التربوية الداعية إلى التجديد ليست بالنزر اليسير، بل لعل تكاثرها المستمر أصدق شاهد على عجزها عن أن تنقلب إلى واقع.
ومن هنا فمن حقنا جميعاً أن نطرح هذا السؤال الأساسي الذي ندر أن يطرح رغم أن كل ما في الواقع يحدثنا عن ضرورته: لماذا لم تقو النظريات التربوية المجددة، على غزارتها وبلاغتها، على أن تتسرب إلى واقع الحياة المدرسية، لتغيرها وتخلقها خلقاً جديداً؟ وفيم هذا التباين الصارخ بين ما يدعى بنظريات التربية الحديثة، على اختلاف أشكالها، وبين ما هو قائم فعلاً في غرفة الصف وبين جدران المدرسة؟ ولماذا عجزت الأنظار التربوية المجددة عن أن تقتحم صلب الواقع؟ هل يرجع هذا إلى علة حالّة فيها وإلى نقص في منطلقاتها ومبادئها، أم يرجع إلى صلابة بنية الحياة المدرسية السائدة وإلى صعوبة اختراقها، أم يرجع إلى رفض المعلمين والمربين والإداريين لها وتأبّيهم على أي تغيير؟ أم مرد الأمر فوق هذا وذاك إلى الطبيعة المحافظة للتربية، وإلى كونها في أعماقها الضامنة للثبات، القيّمة على استمرار بقاء المؤسسات الاجتماعية، وإلى كون وظيفتها الأساسية إعادة توليد النظام الاجتماعي الذي أوكل إليها مهمة تربية الأجيال تربية تؤدي إلى الحفاظ على بنية المجتمع وقيمه وأهدافه؟
هذا السؤال الكبير، وما يتحلق حوله من أفكار وأنظار، هو الذي يطرحه الكتاب الذي بين أيدينا. وقد لا يكون طرح المسألة على هذا النحو جديداً كل الجدة، وقد يكون هنالك من طرحها عابراً دون أن يتريث عندها، وقد يكون الإحساس بأهمية هذا التساؤل إحساساً يخامر الكثير من النفوس وإن لم تفصح عنه. غير أن فضل كتابنا هذا يتجلّى في طرحه السؤال دون ما تورية أو إخفاء، بل يتجلى قبل هذا وفوق هذا في محاولته الإجابة عليه، وفي ركوبه في سبيل ذلك مركباً صعباً لم يجرؤ عليه أحد قبله، وذلك حين توسّل إلى إجابته بارتياد مظانّ التربية الحديثة جميعها واقتفاء أنظارها ومنطلقاتها، وتحليل مقاصدها والكشف عن ثغراتها.
وقد تجشم في سبيل هذه المهمة الشاقة عناء ما بعده عناء، فرصد وأحصى وجمع كل ما يتصل بمذاهب التربية الحديثة، ورجع إلى المئات من الأسفار والمقالات والأقوال، حرصاً منه على أن يحكم عن بيّنة وعلى أن يستنطق النصوص ويصغي إليها في موضوعية وأناة. حتى إذا تأتّى ذلك له عمد إلى التحليل، مسلحاً بمنطق صارم بارد، ومضى بعد ذلك إلى التأويل والاستنتاج، دون أن يحمّل الأمور أكثر مما تحتمل.
وقد لا نتفق مع الكاتب حول كل ما أتى به ووصل إليه، غير أن من حقه علينا أن نعرض أولاً حجته عرضاً أميناً، ليكون نقدنا له بعد ذلك نقداً سليماً.
النظرة النقدية إلى التجارب التربوية الجديدة
وأياً كانت النتائج التي يصل إليها، فإننا واجدون في كتابه ثروة فريدة من الدراسات التي تستعرض التربية الحديثة في مراحلها المختلفة وأشكالها المتعددة، وسفراً جامعاً لحصاد الأنظار التربوية، لا نعثر عليه في أي مكان آخر. كما أننا واجدون فيه تحليلاً عميقاً لمنطلقات هذه الأنظار التربوية، على نحو ما تطورت واغتنت عبر مسيرتها الطويلة، ونظرة نقدية فذة تضع هذه الأنظار في موضعها الصحيح وتكشف عن ثغراتها ونقاط الضعف فيها.
لقد عودنا المربون في كثير من الأحيان، ولا سيما في البلاد العربية، أن يشيروا إلى نظريات التربية الحديثة إشارة الواصف المادح، وقلما نعثر لديهم على تحليل نقدي لما أتى به أصحاب «المدرسة الفعالة» مثلاً أو أصحاب «التربية المؤسسية»
أو القائلون بموت المدرسة وفنائها أو الداعون إلى ربط التربية بحاجات المجتمع أو..
أما صاحب الكتاب، فيحاول أن يضع كل تيار من هذه التيارات في إطاره الصحيح، وأن يبين عوامل نشأته ومخاضه، وأن يصل من وراء هذا كله إلى الحكم عليه حكماً يبين مزاياه وحدوده وثغراته.
ومن هنا كان كتابه في نظرنا، إذ ننقله إلى قراء العربية، منعطفاً هاماً من منعطفات الفكر التربوي في بلادنا، ينقل الباحثين والدارسين من مرحلة الوصف إلى مرحلة النقد والتحليل، وينقل الناقدين من مربينا، على قلتهم، من مرحلة النقد الجزئي لأحد جوانب النظريات التربوية الحديثة، إلى مرحلة النقد الشامل المتكامل الذي يطّل عليها جميعها، ويدرك كلاً منها في سياق صويحباتها وأترابها، ويخرج من هذا كله بوعي عميق ورؤية مشرقة لجملة التجربة العالمية في ميدان التجديد التربوي.
حدود الكتاب
وقد يقال إن المؤلف خصّ بالحديث تجربة التربية الحديثة على نحو ما تمت في بلده فرنسة. وهذا قول صحيح، غير أنه في الواقع يقدم لنا من خلال التجربة الفرنسية التجربة العالمية في جملتها، لا سيما أن تجربة التربية الحديثة هي في طبيعتها ونشأتها تجربة عالمية مشتركة، وما يشْدَأُه منها بلد بعينه يمثّل اللقاء بين التيارات التي ظهرت في بلدان عديدة. بل إنه يشير في معظم المواضع إلى تجارب البلدان الأخرى، ومن بينها البلدان النامية.
وقد يقال بعد ذلك إن صاحب الكتاب يتحدث عن تجارب التربية الحديثة في التعليم الابتدائي خاصة. وهذا في رأينا موقف طبيعي، لأن التجديد في التربية يستهدف التعليم الابتدائي قبل سواه، ولأن المؤلف حرص على أن ينصب بحثه، كما سنرى، على طرائق التعليم بوجه خاص، وهذه الطرائق تجد لها مكاناً مفضلاً في التعليم الابتدائي. يضاف إلى هذا أنه تعرض، من خلال بحثه في التجديد في طرائق التعليم الابتدائي، إلى ما يتجاوز هذا التعليم في كثير من الأحيان. وفوق هذا وذاك ينبغي ألا ننسى أن حجر الزاوية في التجديد التربوي هو تجديد التعليم الابتدائي، هذا التعليم الذي يُعنى بالكائن الإنساني في أهم مرحلة من مراحل تكوينه، بل في المرحلة الحاسمة من هذا التكوين، والذي يشكل تطويره وإصلاحه الشرط اللازب لأي تجديد لاحق في أي مرحلة تعليمية تالية.
التربية العربية والتجديد
ويحمل الكتاب الذي نقدمه لقراء العربية معنى خاصاً في هذه المرحلة الهامة من مراحل تطور التربية في البلاد العربية. فالتعليم في البلاد العربية خطا خلال العقدين الأخيرين خاصة خطوات كبيرة، وتزايد عدد مرتاديه تزايداً واضحاً في مراحل التعليم المختلفة، وكاد يعمّ وينتشر في مرحلة التعليم الابتدائي. وعلى الرغم من أن هذا التوسع الكمي لم يزل مقصراً عن الشأو المطلوب، لا سيما في البلدان العربية الفقيرة، وعلى الرغم من أنه ما يزال متخلفاً في الأرياف ولدى الإناث، فإن جوهر المسألة لا يكمن في تقصير هذا التوسع الكمي عن مداه بل يكمن قبل هذا وفوق هذا في تقصير المستوى النوعي للتعليم الذي يتم تقديمه، وفي عجز بناه ومحتواه وطرائقه وتقنياته عن أن تخرّج الإنسان القادر على أن يكون له دور فعال في بناء التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفي توليد الحضارة العربية الذاتية الخلاقة.
ولا حاجة إلى القول إن الوطن العربي، رغم ثرواته وإمكاناته الوفيرة، ما يزال عاجزاً عن أن يحقق التنمية الذاتية المستقلة، وما يزال يشكو العوز في الكثير من نتاجه الزراعي والصناعي والتكنولوجي، وما يزال إلى حد بعيد عالة في ذلك على ما يستورده من البلاد الأجنبية. وهو يقبل على مشارف القرن الحادي والعشرين، ويقبل على نفاد ثروته البترولية، دون أن يعدّ العدة اللازمة لعصر ما بعد النفط، ودون أن ينطلق في طريقه بناء حضارة أصيلة وحديثة معاً، تتجاوز الأزمات المتزايدة التي يتعرض لها، وتسهم في علاج الأزمة التي يتعرض لها العالم كله
ولا سيما بلدان العالم الثالث.
ولئن كان الوصول إلى مثل هذا الهدف الكبير، هدف التنمية المستقلة وبناء الحضارة العربية المبدعة المتميزة، يستلزم تعبئة طاقات الأمة العربية جمعاء في شتى مجالات الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فإن رأس الحربة في هذه المعركة الكبرى لابد أن يكون نظام التربية وما يتصل به من تكوين الثروة البشرية.
ومن الخطأ أن يخيل إلينا أن مجرد التوسع الكمي في التعليم كفيلٌ بأن يعد الثروة البشرية اللازمة للتنمية الذاتية. ففتح أبواب التعليم على مصراعيها وتحقيق ديمقراطية التربية وقبول الأعداد المتزايدة في التعليم العالي والثانوي فضلاً عن التعليم الابتدائي أمورٌ لا تؤدي، على أهميتها، إلى توليد التربية القادرة على تنمية الثورة البشرية تنميةً تمكنها من أن تحقق التغيير الجذري المطلوب في شتى جوانب الحياة العربية.
وكثيراً ما ننسى في هذا المجال بدهية أساسية، وهي أن التعليم الذي يحقق مثل هذه التنمية الذاتية الجذرية ليس أي نوع من التعليم، بل لابد أن يكون تعليماً نضع في صلبه وفي بنيته ومحتواه وطرائقه ما يحقق مثل هذه التنمية.
ولا يتأتى ذلك إلا على طريق العناية خاصة بمستوى التعليم ونوعه لا بكمه واتساعه فحسب. ومثل هذا المطلب يستلزم تجديد محتوى التربية وطرائقها وبنيتها وتقنياتها.
ومن هنا كانت المسألة الأساسية المطروحة أمام البلدان العربية، وهي تسعى إلى تحقيق تنميتها المستقلة وحضارتها الذاتية، مسألة التجديد في التربية. لا سيما إذا ذكرنا أن التربية المبدعة الخلاقة هي وحدها القادرة على تكوين الإنسان العربي الذي يسهم في خلق العلم العربي والتكنولوجيا العربية والثقافة العربية. ومثل هذه التربية الإبداعية لا تتأتى إلا عن طريق التجديد لشتى جوانب العملية التربوية. وما دام الأمر كذلك، كان لزاماً على المربين العرب أن يوجهوا أنظارهم وأفكارهم نحو البحث في الصيغ اللازمة لتجديد التربية في البلدان العربية تجديداً من شأنه أن يحقق الأهداف التنموية والحضارية المنشودة.
ولا شك أن الكتاب الذي نتحدث عنه يقدم لهم منطلقاً هاماً في هذا المجال، إذ يطلعهم على حصاد التجربة العالمية في مجال تجديد التربية، ويكشف لهم عن جوانبها المشرقة والمظلمة، بحيث يمكّنهم، من خلال هذا الوعي الشامل المتكامل لتجربة التجديد في العالم، أن يختاروا تجربتهم التجديدية الملائمة.
ولئن كان صاحب الكتاب يتساءل، ومعه الكثيرون من المربين، عن الفراق بين الأنظار التربوية الحديثة المجددة وبين واقع الحياة المدرسية في مثل فرنسة، فإن هذا التساؤل أولى بأن نطرحه، نحن أبناء البلدان النامية عامة والبلدان العربية خاصة. فمنذ سنوات وسنوات بحّت أصوات المربين في دور المعلمين وكليات التربية عندنا منادية باصطناع النظريات التربوية الحديثة، مفيضة في الحديث عن سماتها ومعالمها، مطنبة في ذم التربية التقليدية وبيان تهافتها وبطلانها. ومع ذلك فالنظم التربوية السائدة لدينا لم يسر إليها من رياح التربية الحديثة إلا النزر اليسير، وخريجو معاهد التربية، وقد حُمّلوا من عشق النظريات الحديثة ما حُمّلوا، لا يجدون في الواقع المدرسي الذي يأوون إليه بعد تخرجهم ما يسعد آمالهم وصبواتهم، وما ييسّر لهم إنفاذ بعض ما شدأوا وعرفوا من منازع حديثة.
والصيحات العالمية التي تطلقها المنظمات الدولية والدول المتقدمة داعيةً إلى سلوك سبيل التجديد في التربية، تطرق أسماع المسؤولين عن التربية في بلادنا، وكثيراً ما تلامس نخوتهم وضمائرهم، غير أن محاولاتهم، وهي قليل، تصطدم ببنية تربوية صلدة تتأبى على التغيير. وكأنهم في سعيهم هذا، وأمام عقبات الواقع وصخوره العنيدة، ما يلبثون حتى يرتدوا على أعقابهم، مؤثرين الاحتماء بالقديم والعود إليه على المغامرة في طريق جديد يخافون مآله ويخشون بواره. فالقديم يألفه الناس ويعرفونه، مهما تكن علله ونقائصه، وقلما يحمّلون المسؤولين مسؤوليته؛ أما اقتراف الجديد فمجلبةٌ للنقد والتجريح والخصام. وركوب مركب المحاولات التربوية الجديدة، قبل أن تجرَّبْ وتُختبر، يثير شكوك المسؤولين والمربين والمعلمين، بل قد يشيع الذعر والقلق. وقلما يتذكر المشككون والخائفون في هذا المجال قولة المعرّي البليغة:
إذا كان ذعري يورث الأمن فهو لي أحب من الأمن الذي يورث الذعرا
ما السبيل إلى تجاوز الجمود التربوي؟
أمام هذا كله، لابد من التساؤل: ما هو المخرج من هذا البحران والضياع؟ وأين تكمن العلة في تعثّر المحاولات المجددة في التربية؟ وهل يكفي أن نتهم المسؤولين عن التربية والمربين أم أن الأمر أبعد من هذا وأعمق؟
إن الاطمئنان إلى النظريات التربوية الحديثة المجددة، وانتزاع الشكوك والمخاوف من نفوس المرتابين من نتائجها، أمورٌ لا يجدي فيها الوعظ والإرشاد كما لا تجدي الملامة. إنها مسؤولية النظريات نفسها، تلك النظريات التي يتوجب عليها أن تنقد ذاتها بحيث يخرج من هذا النقد تعرّف واضح على نقاط القوة والضعف فيها، وبحيث تستبين وسط جمهرتها تلك التي تثبت أمام النقد وأمام التجربة. كما يتوجب عليها فوق ذلك أن تجرَّب وتُختبر، قبل أن تنشر وتعمم، بحيث يقوى بعضها على أن يثبت من خلال الممارسة قيمته وصلاحه.
وبوجيز العبارة نحو مدعوون في هذا السبيل إلى ضربين من التجربة: تجربة عقلية منطقية تحلل النظريات الحديثة في أسسها ومنطلقاتها لتتعرف على ثغراتها ونقائصها ولتومئ إلى ما يثبت منها أمام النقد وما يبشر بالسلامة والسداد. وتجربة عملية، تجري على أرض واقع الحياة المدرسية، تروز هذه النظريات من خلال الخبرة والمعاناة، وتستبقي ما هو جدير منها بالبقاء.
والتجربتان في نظرنا، المنطقية والعملية، متآخذتان. على أن الأولى منهما، نعني التجربة الفكرية المنطقية، المؤيدة دون شك بدروس التجربة العملية، لابد أن تكون لها الصدارة.
عرض لأهم أفكار المؤلف
هذه التجربة المنطقية التي تحلل النظريات التربوية في أسسها ومبادئها دون أن تنسى أن تتخذ من التجربة العملية دليلاً لها في تحليلها، هي التي يسوقها الكتاب الذي بين يدينا. إن همّه كما قلنا ونقول أن يمعن في النظريات التربوية الحديثة نقداً وتحليلاً، كي يتمكن من الإجابة على هذا السؤال الكبير: لماذا يقوم الطلاق بين انطلاق الأبحاث والدراسات والنظريات المتصلة بتجديد التربية وبين واقع التربية؟ ولماذا هذا التعارض بين فورة النظريات التربوية الحديثة وبين جمود الطرائق التربوية المطبقة فعلاً في المدارس؟ ولماذا تشغل التربية الحديثة مكاناً في الأدب التربوي يتجاوز بكثير المكان الذي تشغله في الحياة المدرسية؟
فلنمض إذاً معه في تحليله، مدركين أننا لن نستطيع في هذه المقدمة الموجزة أن نقدم حججه وبراهينه مشرقة عميقة على نحو ما فعل، مقرّين بعجزنا عن أن نعكس في أمانة ودقة لُوينات أفكاره وتعرجات منطقه الخصيب. ولولا ذلك لآثرنا تلخيص الكتاب على ترجمته الكاملة:
1- يطرح الكاتب أولاً مفهوم الطريقة التربوية ومعناها، مبيناً أن الغموض الذي يكتنف هذا المفهوم هو أحد أسباب التشتت والضياع في النظريات التربوية الحديثة. ويتبنى في هذا السبيل، بعد تحليل متأن، التعريف التالي للطريقة التربوية: إنها عنده أسلوب، عام أو خاص بمادة مدرسية معينة، في تنظيم الحياة المدرسية، انطلاقاً من الغاية المنشودة، ومن بنية المواد التي نعلمها، ومن تصورنا لجهود الطالب. وهي بالتالي تضم متغيرات متعددة، وتضم فيما تضم الهدف الفلسفي الاجتماعي الكبير الذي نرسمه للنظام التربوي. وهكذا فهي ليست مجرد طائفة من التقنيات التي ننقل عن طريقها المعرفة، بل هي قبل هذا وفوق هذا أسلوب عام في التكوين يستهدف تكوين إنسان معيّن انطلاقاً من غاية محددة.
2- ويسوق الكاتب بعد ذلك تحليلاً للطريقة الفعّالة، التي تعتبر حجر الأساس في النظريات التربوية التي انتشرت منذ الربع الأول من هذا القرن. ويبيّن ههنا ما بين المربين من اختلاف حول تعريفها ومفهومها، منتهياً إلى القول إن ما حام حول معنى الطريقة الفعالة من شكوك ناجمة عن تباين آراء المربين حولها هو أيضاً سبب هام من أسباب التلكؤ في الأخذ بالتربية الحديثة وتطبيقها في أرض الواقع.
3- ويوغل المؤلف في تحليله هذا للطريقة الفعالة ولما اكتنفها من ضباب الآراء، مبيناً أن علم النفس الذي يثوي وراءها والذي كان المرجع الذي رجعت إليه، هو المسؤول إلى حد بعيد عما فيها من غموض وتعثر. ويعني بعلم النفس هذا علم النفس الموضوعي الذي يأخذ بما يدعى بالمنزع الطبيعي، والذي استقت منه الطريقة الفعالة نظرياتها الخاصة ببناء التربية استناداً إلى اهتمامات الطفل الطبيعية وميوله العفوية، دون أن تقوى على إعطاء هذه المفاهيم معنىً واضحاً دقيقاً.
4- ثم يخطو الكاتب خطوة أخرى، فيبين أنه إذا كان الغموض الذي اكتنف الطريقة الفعالة ومفاهيمها النفسية هو الذي حال دون تبنيها ونقلها إلى حيز الواقع، فمن الحق أن نسائل عما إذا لم تكن هنالك محاولات جدية تجاوزت الطريقة الفعالة، التي شاعت وذاعت حتى منتصف هذا القرن. ويتساءل وراء ذلك عما إذا كانت مثل هذه الجهود لتجاوز ما في التربية الحديثة على نحو ما سادت أيام الطريقة الفعالة من نقائص وثغرات تصلح بدورها لأن تكون منطلقاً لتربية حديثة أسلم وأدعى إلى الرجاء.
ومن هنا يتريث عند المربي الفرنسي «فرينيه Freinet» الذي يضعه الكثيرون اليوم على رأس من جدد التربية الحديثة وصحح مسيرتها.
وعلى الرغم من أنه يعترف بأن تقنيات «فرينيه» تركت أثراً طيباً في مسيرة التربية الحديثة، فإنه يبيّن في الوقت نفسه أنها أثارت وما تزال تثير الكثير من الشكوك لدى الكثرة من المربين الذين يخشون ما فيها من أفكار طوبائية خيالية.
وهكذا لم تستطع تجربة «فرينيه» في نظر المؤلف أن تخرج أزمة التربية الحديثة من مأزقها، والمشكلة بعده، كما كانت قبله، ما تزال قائمة بعينها: إنها مشكلة التشكك والحذر وعدم الاطمئنان لدى جمهرة المربين. إنها تجربة لم تستطع أن تجاوز عزلتها وتقوقعها، ولم تحظَ إلا بتطبيقات محدودة منثورة هنا وهناك، حين لم تتمكن من أن تثبت صدقها وصلاحها ومن أن تلفّ الآراء حولها.
5- ذلك أن هذه التجربة، شأنها في ذلك شأن الكثير من الاتجاهات التربوية الحديثة، لم يقيض لها تفحص علمي وتجريبي دقيق يقوّمها ويروز نتائجها. والتربية الحديثة في جملتها – وإن راق لها أن تطلق على نفسها اسم التربية العلمية – لم تخضع قط لمثل هذا التفحص والتقويم. وقد يقوم في الوهم أن الكثير من المربين يرفضون أن تساق مثل هذه التجارب التقويمية، ويجدون حرجاً في إخضاع الطلاب لتجارب قد تكون ضارة. لهذا يبحث الكاتب هذا الأمر ويتريث عنده متسائلاً عن حقيقة موقف الهيئة التعليمية من إمكان قيام بحث منهجي منظم يستهدف الوصول إلى نتائج مؤكدة حول صلاح بعض الطرائق التربوية الحديثة، تنفي الشك وتزيل الريبة. ويخلص من بحثه إلى نتيجة قد تبدو غريبة وهي أن هذا الافتراض، نعني الافتراض بأن تعلق الهيئة التعليمية بالطريقة التقليدية يرجع إلى أنها لا تجرؤ على قبول طرائق جديدة لم تثبت قيمتها، افتراض غير صحيح وعلينا أن نستبعده.
6- وتقوده هذه النتيجة إلى المضي قدماً في طريق البحث عن أسباب الجمود التربوي ورفض التجديد. ويقف أمام تفسير لهذا الجمود، هو التفسير الغالب الشائع، ليتفحص مدى صحته. ونعني بذلك التفسير إرجاع الجمود التربوي وسيطرة الطرائق التقليدية إلى ظروف العمل التي تسود المدرسة الرسمية، والتي تقف حائلاً دون التجديد. ومن هذه الظروف عدم توزيع الطلاب توزيعاً يستند إلى أساس نفسي سليم، والأشكال السائدة في المناهج وتوزيع الدروس، والعدد الكبير من الطلاب في معظم الصفوف، وعدم صلاح الأبنية المدرسية، والنقص في عدد أفراد الهيئة التعليمية وضعف تأهيلهم، ونظام الامتحانات وسوى ذلك.. ويسائل مرة أخرى هل مثل هذا التفسير مقبول حقاً رغم شيوعه؟ وينتهي من تحليله إلى نتيجة سلبية، ويبين أن هذه العوامل كلها، على شأنها، لا تكفي لتفسير الجمود وأنها في كثير من الأحيان ذريعة وحجة لاجتناب الحلول السليمة واكتشاف العلة الأساسية. ذلك أن العلة الأساسية في نظره تكمن في أن جمهرة المعلمين لم يجدوا بعد الحل البديل الذي يبدو لهم جديراً بأن يتبع. ومن هنا فإنهم يجدون أنفسهم مضطرين، طوعاً أو كرهاً، إلى التمسك بالأسلوب الشائع.
7- ولكن، لماذا هذا العجز عن إيجاد صيغة بديلة مبتكرة تجدد طرائق التربية؟ ولماذا هذا الإمّحاء للغايات التربوية التي كانت تسود في الماضي والتي كانت تحكم نشاط المعلمين، دون أن تحل محلها غايات جديدة قادرة على أن تعبئ قواهم؟
من خلال هذا التساؤل الهام، يخوض الكاتب في قلب تلك المشكلة الشائكة، مشكلة غايات المؤسسة المدرسية وأهدافها الكبرى. ويقوده هذا إلى تخصيص فصول برأسها لمسألة العلاقة بين السياسة والتربية.
ويتعرض في هذا المجال إلى الاتجاه الذي يرى أن سبيل إصلاح المجتمع هو إصلاح التربية. وهو اتجاه نجد على رأسه المنازع التي انبثقت من أنظار «روسو» التربوية ومن أفكار عالم الاجتماع «دروكهايم»، والذي عرف انبعاثاً له في صورة جديدة لدى أصحاب «التربية المؤسسية»، من أمثال «لوبرو Lobrot» و«روجرز Rogers».
وفي مقابل هذا الاتجاه يتحدث عن الاتجاه المعاكس الذي ساد في السنوات الأخيرة لدى عدد من علماء الاجتماع الذين ينكرون قدرة المدرسة على تغيير المجتمع تغييراً جذرياً، والذين يرون على العكس أن لا سبيل إلى إصلاح المدرسة
إلا عن طريق إحداث تغيير أساسي في بنية المجتمع نفسه. وعلى رأس هؤلاء «بورديو Bourdieu» و«باسرون Passeron». ويرى هؤلاء أن المدرسة في صيغتها الحالية ليست سوى شكل من أشكال «إعادة توليد المجتمع» القائم، وأنها مجعولة للحفاظ على البنية الاجتماعية التقليدية ولاستمرار بقائها.
وينقد الكاتب هذا الاتجاه الأخير، كما ينقد الاتجاه الأول، ويأبى أن يخلص إلى هذه النتيجة المتشائمة وهي أن تغيير المدرسة وتجديدها في إطار المجتمع القائم، ومن أجل تجديد هذا المجتمع، أمر مستحيل. ويبين أن دور المدرسة ليس «كل شيء
أو لا شيء»، وأن بين المنزلتين جهداً ممكناً ودوراً للمدرسة ينبغي أن تضطلع به.
8- ذلك أن هنالك قطاعاً تربوياً، يدعوه «هامشياً»، يجهد لتغيير التربية، وتطويرها رغم كل شيء، وأن هذا القطاع الذي ما يزال محدوداً يمكن أن ينمو ويشتد أثره. وكل ما في الأمر أن علينا أن نحلل هذا القطاع الهامشي وأن ندقق في النماذج التي تهدف إلى التغيير وإلى إحداث نقلة نوعية في دور المدرسة، من أجل أن نتبين أفضلها. ومن هنا يتعرض إلى النماذج التحولية العديدة التي تدعو إلى تغيير دور المدرسة. ويبدأ بأشدها تطرفاً، نعني النموذج الذي يدعو إلى موت المدرسة وزوالها، والذي نجد على رأسه المفكر الأمريكي «إيليش Illich» الذي يدعو إلى تخليص المجتمع من المدرسة، وإلى إقامة نظام من التربية والإعداد يتجاوز إطار المدرسة، ويتم عن طريق مؤسسات المجتمع المختلفة، لا عن طريق مؤسسة واحدة ووحيدة هي المدرسة.
ويبيّن أن هذا الاتجاه لا يخلو من خيال حالم، ما دام المجتمع لن يقبل بحال من الأحوال أن يتخلى عن المؤسسة المدرسية الضرورية لبقائه.
وفي مقابل ذلك يتحدث عن النزعة المتطرفة المعاكسة التي تدعو إلى تضخيم دور المدرسة بدلاً من إلغائه، والتي ترى أن من الواجب تأكيد دور المدرسة عن طريق إعطائها مهمات جديدة متزايدة.
وبين إلغاء المدرسة وتضخيم دورها يقوم اتجاه ثالث يدعو إلى تقليص دور المدرسة دون إلغائها، وإلى قصر دور المدرسة على المهمات التي لا يمكن أن يقوم بها سواها من المؤسسات الاجتماعية، مع ترك المهمات الأخرى للهيئات الاجتماعية الجديدة التي بدأت تبزغ في المجتمع الحديث. ويعني بالمهمات الأساسية التي يجدر بالمدرسة أن تضطلع بها، تلك المتصلة بتكوين المهارات اللغوية والمفاهيم العقلية وتقديم أدوات المعرفة الضرورية لأي إعداد لاحق.
ويتساءل هل يمكن التوفيق بين الاتجاهين الأخيرين، نعني الاتجاه الداعي إلى تضخيم دور المدرسة والاتجاه الداعي إلى تقليصه، ويخلص إلى نتيجة سلبية، ويبين في النهاية أنه لا بد من الخيار بين النموذجين.
ويرى، بعد التفحص والتمحيص، أن الاتجاه الثاني، الاتجاه المقلِّص، هو الذي يملك فيما يبدو الحظ الأكبر من النجاح، وأن الرهان ينبغي أن يقوم على أساس العمل على انتشاره وتأكيده. فهو عنده الاتجاه الذي يومئ إليه تطور المجتمع، وهو القمين بأن يخلّص المدرسة من مهمات لم تعد من شأنها وبأن يكرسها لخدمة مهمات لا يقوى عليها سواها، وعلى رأسها مهمة تكوين الفكر ومهمة تقديم أدوات المعرفة الأساسية اللازمة لأي رحلة عبر الحياة ولأي إعداد مهني متجدد دائم.
ومن هنا فإن المهمة الأساسية التي ينبغي أن يضطلع بها المربون تكمن بعد اليوم في تحديد معالم هذا الدور وفي البحث عن الطريقة التربوية الملائمة للقيام به. ويدعو الكاتب في سبيل ذلك إلى القيام بأبحاث تجريبية لاكتشاف الطريقة التربوية والفن التعليمي الملائمين لقيام المدرسة بهذا الدور الأساسي، دور تنمية القدرات اللفظية الفكرية وتقديم أدوات المعرفة الأساسية المتصلة بها.
أفكار المؤلف ووعودها
تلك صورة مقتضبة، قد تكون مخلّة، عن مسيرة فكر المؤلف عبر كتابه. إنه يبحث عن العلة في عجز التربية الحديثة عن أن تصير واقعاً حياً، ويبين أن جوهر هذه العلة هو عدم توافر النموذج التربوي الذي يقوى على أن يكون البديل عن التربية التقليدية. الأمر الذي يحمل المعلمين والمربين على الإحجام عن الأخذ بتجديد ما تزال صورته غائمة، وما تزال ثغراته ونقائصه مدعاة للشك وعدم الاطمئنان.
ويحاول هو أن يتبين، من خلال تطور التجارب التربوية الحديثة، ومن خلال تطور بنية المجتمع الحديث، بذور النموذج الذي تومئ معالمه بأنه النموذج المنشود الذي يمكن أن يقوم حوله إجماع المربين. ويرى أن هذا النموذج المرجو المبشر بالأمل هو النموذج الداعي إلى تقليص دور المدرسة بحيث تتفرغ للمهمات اللصيق بها والصادرة عن طبيعتها، نعني مهمات التكوين الفكري الذي من شأنه أن ينمي القدرات اللفظية التصورية وأن يعدّ الفكر إعداداً منطقياً حكيماً، ومهمات تقديم أدوات المعرفة بالتالي اللازمة لأي إعداد مهما يكن شكله ومهما تكن المؤسسة الاجتماعية التي تضطلع به.
ومن هنا ينبغي أن تكون مهمة المربين توضيح معالم هذا النموذج وإيجاد الطريقة التربوية الملائمة التي تحقق أهدافه.
والمؤلف في هذا يلتقي مع بعض منطلقات نظرية «التربية المستمرة»، التربية من المهد إلى اللحد كما عرفت في تراثنا، والتي شاعت في السنوات الأخيرة، والتي ترى أن ما ينبغي أن تقوم به المدرسة لا يعدو أن يكون جزءاً من تربية تستمر بعدها عن طريق تجديد الإعداد والتأهيل تجديداً مستمراً عبر الحياة، بوساطة مؤسسات المجتمع المهنية والإعلامية والثقافية المختلفة. إنه يؤكد تلك الحقيقة، وهي أن مجتمعنا الحديث، وهو المجتمع المتغير باستمرار الذي تتجدد فيه حاجات الإعداد والتدريب مع تجدد بنية العمل وضرورات التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لا يمكن أن تكون المدرسة وحدها هي المؤسسة التي تعد للعمل فيه إعداداً فعّالاً. ولم يعد من الممكن أن نتصور أن هنالك شكلاً واحداً ووحيداً من الإعداد، يتم مرة وإلى الأبد على مقاعد المدرسة النظامية بل لابد أن نرى في المدرسة النظامية مرحلة نحو إعداد متكامل متنام باستمرار، ليس الإعداد المدرسي إلا جانباً منه وشوطاً من أشواطه. وأمام هذه الحقيقة، لابد من تغيير دور المدرسة، بل لابد من تقليصه، بحيث لا يخيل إليها أن في وسعها أن تقدم كل معرفة وكل إعداد كاملاً منذ البداية، وبحيث تدرك أن ما تستطيع القيام به وما لا يقوى عليه سواها هو التكوين الفكري والمعرفي الأساسي الذي يزود الطالب بالقدرات اللفظية الفكرية وأدوات المعرفة الأساسية، لا بتفصيلات كل معرفة وجزئيات كل علم.
إن هذا المنطلق في نظرنا منطلق جذري من شأنه أن يعيد النظر على نحو أساسي في أهداف المدرسة وطرائقها وبنيتها ومحتوى تعليمها. وفي إطاره يمكن أن يجهد المربون لاكتشاف أفضل الطرائق والتقنيات الموصلة إلى هذه الغاية دون ما هدر وضياع للجهود.
على أن هذه النتيجة الهامة التي يصل إليها المؤلف ليست أفضل ما في سفره. فمن أجل الوصول إليها عرّج على مختلف الاتجاهات التربوية والتيارات التجديدية وقدم لنا عنها صورة واضحة أسعفها بنظرة نقدية محلّلة. ومثل هذا العرض لاتجاهات التربية ولمزاياها ونقائصها من شأنه في نظرنا أن يمكّن المربين عندنا من أن يجاوزوا حدود النتائج التي وصل إليها، وأن يبدعوا، من خلال هذه النظرة المتكاملة التي يزودهم بها الكتاب، منازع جديدة، وأن يولدوا بشكل خاص النموذج التربوي المنشود في إطار حياتنا العربية. ذلك أن المسألة التي يطرحها الكاتب، على كونها مسألة عالمية إلى حد بعيد، لابد أن تأخذ أبعاداً جديدة في إطار بلدان العالم النامي ولا سيما بلداننا العربية. وما قام به من جهد وعطاء يقدم لنا العنصر الأول اللازم لتوليد نموذجنا التربوي المنشود، نعني حصاد التجربة العالمية. غير أن هذا العنصر في حاجة إلى أن يكتمل عن طريق اللقاح بينه وبين واقعنا التربوي والاجتماعي.
ولا نريد في هذه العجالة أن ندلي بدلونا بين الدلاء، وأن نقدم بعض معالم الصيغة التربوية العربية التي يمكن أن تولد من هذا اللقاء الخصيب بين التجربة العالمية وتجربتنا. فلمثل هذا الطموح غير هذا المجال، وقد عرضنا لجانب من ذلك في بعض كتاباتنا السابقة(1). وجل قصدنا ونحن نقدم هذه الترجمة أن تكون محركاً لأفكار المربين، وأن تبعث لديهم المزيد من التساؤلات حول نظمنا التربوية، وأن تسعدهم بمنطلقات جديدة تغني سعيهم لتوليد نموذج تربوي عربي. لا سيما أن المحاولات، كما ذكرنا، قائمة تترى من أجل البحث عن نماذج تربوية جديدة وعن إشاعة أنماط من التجديد التربوي في سياق النظم التربوية القائمة في بلادنا.
وقد يكون من المفيد أن نذكّر أن العديد من اللقاءات العربية قد قامت في إطار إنشاء شبكة لتجديد التربية من أجل التنمية في البلاد العربية، أسهمت فيها منظمة اليونسكو وتولى الكثير منها مكتب اليونسكو الإقليمي في البلاد العربية. وقد يكون مثل هذا الكتاب مرجعاً هاماً من مراجع العاملين على إنشاء الشبكة خاصة وإطلاق التجديد التربوي في البلاد العربية عامة، يزودهم بالرؤية النقدية اللازمة لتوجيه جهودهم ومساعيهم.
التجديد التربوي في البلاد العربية أمام تحديات العصر
وبعد، إن التحديات التي تواجهها بلداننا العربية أمام التطور العصري المغذّ في سيره، وأمام حرصها على أن تسرع الخطى لاحقةً بالركب في إطار نموذج حضاري أصيل وحديث معاً تبنيه بقواها الذاتية ويفصح عن هويتها الثقافية والإيديولوجية الخاصة، لا تقبل الجهود المبعثرة والسير العشوائي ولا تسيغ إرجاء المشكلات
أو القبول بحلول آنية أدنى إلى ردود الفعل الطارئة المفروضة منها إلى الجهد المنظم المرسوم.
وقد لا نظلم أنفسنا إن قلنا إن جهودنا الفكرية العديدة، على كثرتها وغناها، من أجل توليد نموذجنا الثقافي الأصيل الذي يعطي لنفسه وللعالم، في حاجة إلى مزيد من الدأب والصحو والجدية. فمنذ سنوات وسنوات يتحدث المتحدثون عن ضرورة توليد هذا النموذج، ومنذ عقود وعقود يشير المربون خاصة إلى ضرورة تخليق النظام التربوي القادر على أن يلتحم مع الجهود الشاملة في ميدان الحياة الاقتصادية والاجتماعية، من أجل نقل مجتمعنا من مجتمع مستهلك للحضارة بشتى أبعادها إلى مجتمع مبدع لها. ومع ذلك فخطواتنا الجادة في هذا الطريق ما تزال معدودة. ذلك أن الحافز الأول وراء أي عمل جاد وضوح الهدف ووضوح الرؤية. ولا نقول جديداً إن قلنا إن هدف تجديد النظام التربوي من أجل تجديد المجتمع ما يزال هدفاً غائماً. والكتاب الذي بين أيدينا يمنحنا بعض العذر حين يبين أن مفهوم التجديد في التربية يعتوره أنى كان كثير من التعثر ويلفّعه قدر كبير من الغموض. على أن هذا الواقع قمين بأن يزيد في شحذ هممنا بدلاً من أن يبعث فيها الحيرة،
إذ من شأنه أن يبيّن لنا مرة أخرى أن المسألة المطروحة عندنا ليست مسألة نقل نموذج تجديدي تربوي معين، بل هي مسألة التعرف على النماذج التجديدية السائدة في العالم، من أجل أن نمضي في توليد نموذجنا الخاص على بيّنة، بحيث تتولد لدينا الطمأنينة اللازمة لاختيار نموذجنا الخاص.
إن الحوار حول النموذج التربوي الجديد الملائم للبلاد العربية حوارٌ غدا لازباً، ومطلب عاجل حاسم. ونأمل أن يكون هذا الحوار همَّ جميع المؤسسات التربوية في بلادنا، ولا سيما المؤسسة التربوية العربية الأم، نعني المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. ولا شك أن هذه المنظمة قد قامت مع سواها، بجهود عديدة في هذا السبيل. غير أننا في سباق مع الزمن، وأمام تحد عالمي كبير، بل أمام مطلب نبيل جدير بأن تعبأ من أجله الجهود كاملة فعالة، نعني مطلب مواجهة العالم بولادة حضارة عربية في مستوى الأمة العربية وتراثها وإمكاناتها وطاقاتها المادية والبشرية. بل نحن أمام أعين الأجيال العربية المقبلة، تنظر إلى سعينا وجهدنا، وترتقب منا
ألا نضيّع الفرصة الذهبية المتاحة لنا، والتي قد لا تتاح لنا من بعد، فرصة توافر القدرات المالية اللازمة لبناء المستقبل العربي، والإفادة من هذه القدرات كاملة من أجل بناء الغد العربي المنشود، وذلك عن طريق توظيفها في بناء الثروة البشرية الخلاقة المبدعة.
10/5/1981
عبد الله عبد الدائم