مترجم عن بارنس
الإصدار: 1964
دار النشر: المركز الإقليمي لتخطيط التربية وإداراتها في البلاد العربية – بيروت
مقدمة المترجم 3
الفصل الأول: المقدمة
رسم الخطط التربوية من أجل أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية 20
أهداف المشروع الإقليمي الخاص بالبحر الأبيض المتوسط 23
غرض هذه الدراسة وخطتها 24
تعريف الحاجة من التعليم 26
معايير تقدير الحاجات المدرسية 27
الفصل الثاني: تقدير الحاجات المقبلة من الطاقة العاملة
معنى قولنا »الحاجة من الطاقة العاملة« 32
طريقة دراسة الحاجات من الطاقة العاملة من أجل أغراض التخطيط المدرسي 34
حصر الطاقة العاملة الحالية 38
المعلومات الضرورية 38
نظام التصنيف تبعاً لفرع النشاط 40
نظام التصنيف تبعاً للمهن 41
أسس وضع حصر للطاقة العاملة الحالية 43
التنبؤ بالحجم الكلي للطاقة العاملة 46
التنبؤ بمستوى النشاط الكلي في فروع النشاط المختلفة 47
التقديرات المستندة إلى اتجاهات الاستخدام 49
تقدير الإنتاج الداخلي الخام وتكوينه 49
التقديرات المتصلة بالإنتاجية 52
التنبؤ بالبنية المهنية في مختلف فروع النشاط 53
الفصل الثالث: الحاجات والعروض من الطاقة العاملة المطلوبة
تقدير مصادر الطاقة العاملة المطلوبة حسب مستوى التعليم 58
طبيعة المسألة 58
الطرائق الأخرى 60
جدول الحاجات 62
تقدير العرض المقبل من الطاقة العاملة 64
مشكلات التنبؤ بالمعروض من الطاقة العاملة تبعاً للمهنة 65
التنبؤ بالمعروض من أعضاء هيئة التعليم 67
التنبؤات بالعروض تبعاً للمؤهلات التربوية 68
الفصل الرابع: حساب أهداف التعليم تبعاً لحاجات الطبقة العاملة
التوسع المطلوب في إنتاج نظام التعليم 74
الأعداد الواجب دخولها إلى المدرسة 76
الطريقة الثانية لحساب أهداف إنتاج التعليم 79
الأعداد التي ينبغي أن تدخل المدرسة 82
تقدير الحاجات من أفراد هيئة التعليم 86
الفصل الخامس: وجهة النظر الثقافية في تقدير الحاجات التعليمية
المسألة 90
المعلومات المطلوبة عن نظام التعليم 92
تقدير الأعداد المدرسية تبعاً لاتجاهات دخول المدرسة 94
قواعد المقارنة في حساب الأعداد المدرسية 95
الفصل السادس: الخطة التربوية
العناصر الكيفية في النظام المدرسي 98
التأليف بين الحاجات »الثقافية« وحاجات »الطاقة العاملة« 99
ملاحظة حول تقدير النفقات 100
تقدير النفقات الثابتة 101
تقدير النفقات الجارية 102
تقويم النفقات المقدرة 103
خاتمة 103
ذيول الكتاب 105
الكتاب الذي بين أيدينا ترجمة لدراسة قام بها السيد »بارنس« Parnes الخبير لدى »منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية O.C.D.E.« ونشرتها هذه المنظمة في تشرين الأول عام 1962.
وقد أعدت هذه الدراسة من أجل أغراض المشروع الذي عرف باسم »المشروع الإقليمي للبحر الأبيض المتوسط«. وقد قام المشروع المذكور بالتعاون بين »منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية« وبين ست دول هي: إسبانيا، اليونان، إيطاليا، البرتغال، تركيا، يوغوسلافيا. والهدف منه تقدير حاجات التربية في كل بلد من هذه البلدان في ضوء حاجات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ووضع خطة تربوية على هذا الأساس تمتد خمسة عشر عاماً (1960-1975).
ذلك أن التجربة أثبتت عند البدء بتطبيق هذا المشروع أن بلدان البحر الأبيض المتوسط المعنية بالمشروع تشكو، كما تشكو سائر الدول في العالم، من قلة عدد الخبراء في شؤون التخطيط التربوي. ولهذا رأت إدارة الأعمال العلمية في »منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية« أن قيام مثل هذا المشروع مناسبة طيبة لتكوين الخبرة اللازمة في هذا الميدان، وأن من الممكن أن يعتبر بمثابة »مختبر« ممتاز يتمرس فيه من يتمرس على شؤون التخطيط. ومن هنا عزمت المنظمة على عقد دورة تدريبية لإعداد الخبراء في تنمية الثروات البشرية. وانعقدت هذه الدورة في أيلول من عام 1961، في مدينة »فراسكاتي« Frascati الإيطالية، واشترك فيها عشرون موفداً للتدريب أوفدتهم الدول الست، كما اشترك فيها أعضاء من الفرق الست العاملة في مشروع البحر الأبيض المتوسط باسم كل بلد، واشترك كذلك أخصائيون في التخطيط التربوي سمتهم الحكومات الأعضاء.
والمؤلف الذي نقدم له هو أول المؤلفات التي ظهرت من حصاد هذه الدورة وحصاد المشروع. وقد تلته مؤلفات أخرى، من أشهرها ذلك السجل الذي حوى أهم المحاضرات التي ألقيت في الدورة المذكورة، والذي أصدرته »المنظمة« أيضاً حاملاً عنوان: التربية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية(1).
ويشتمل مؤلفنا على عرض لأهداف المشروع ومبرراته كما يشتمل خاصة على منهج علمي وضع ليستخدم في هذا المشروع. وهو لذلك يقدم تحليلاً مفصلاً لمختلف عناصر المسألة، مسألة التنبؤ بالحاجات المدرسية من أجل أغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية، التي هي بحق أم المسائل في التخطيط التربوي. وهو لهذا السبب لا يصلح لأغراض مشروع البحر الأبيض المتوسط فحسب وإنما يصلح لسائر الدول التي تعتزم القيام بدراسة مماثلة في ميدان التخطيط التربوي. ولا نغالي إذا قلنا إنه »سفر المخطط التربوي« الأول.
والكتاب في جملته ومن ورائه »المشروع الإقليمي للبحر الأبيض المتوسط«، مثال واضح عن الأعمال التي تستهدفها »منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية«.
فلقد أنشئت هذه المنظمة كما نعلم بعد الاتفاق الذي وقعه في باريس في الرابع عشر من كانون الأول من عام 1960، أعضاء »المنظمة الأوروبية للتعاون الاقتصادي O.E.C.E« كما وقعته كندا والولايات المتحدة، واستهدفت عند قيامها تحقيق التنمية الاقتصادية ورفع مستوى الحياة في الدول المشتركة فيها، والإسهام في التنمية الاقتصادية في العالم. ومن مستلزمات هذا الهدف العمل على توسيع التربية وتنميتها – ولا سيما التربية الفنية والعلمية – لدى الدول الأعضاء. ومن هنا ولد »المشروع الإقليمي للبحر الأبيض المتوسط«، تحقيقاً لهذه الغاية وانطلاقاً من الحقيقة التي غدت بدهية، حقيقة التواصل بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتنمية التربوية والتداخل الكامل فيما بينهما.
أما الدول المشتركة في المنظمة فهي: جمهورية ألمانيا الاتحادية، النمسا، بلجيكا، كندا، الدانمارك، إسبانيا، الولايات المتحدة، فرنسا، اليونان، أيرلندا، آيسلندا، إيطاليا، لوكسمبورغ، النرويج، هولندا، البرتغال، بريطانيا، السويد، سويسرا، تركيا.
والأصل الذي نقدم ترجمته يشتمل على مقدمة وخمسة فصول وذيول مؤلفة من أربعة ملحقات. وقد اعتمدنا في الترجمة على الأصل الإنجليزي وقرناه غالباً بالترجمة الفرنسية، زيادة في تبين المقاصد. ووجدنا أن الملحق الثالث للكتاب يشتمل على أمثلة تعرض بنية المهن في عدد من البلدان، موزعة على فروع النشاط، وأنه لا حاجة بالتالي لنقلها إلى العربية، وآثرنا أن نضع مكانها »دليل التصنيف المهني: الأقسام الرئيسية والأبواب والفصول« الذي أصدرته لجنة التخطيط القومي بالقاهرة في شباط من عام 1958(1). ذلك أن هذا الدليل ترجمة فيها شيء من التعديل »للتصنيف الدولي النموذجي للمهن« الذي وضعه مكتب العمل الدولي في جنيف عام 1958. وهذا التصنيف الدولي كما سنرى هام جداً، وهو نقطة الانطلاق في أي عمل تخطيطي يتناول الطاقة العاملة. وترجمته العربية هذه تيسر السبيل أمام الباحث العربي، وإثباتها بدلاً من الملحق الأصلي المشار إليه أوفى بأغراض التخطيط في البلاد العربية، وأدنى إلى فائدة المشتغلين به. يضاف إلى هذا أن كثيراً من الأمور الواردة في الكتاب الذي نقدم ترجمته ترد إلى هذا »التصنيف الدولي النموذجي للمهن« وتشير إليه ويتعذر بالتالي فهمها على القارئ العربي ما لم نضع في متناول يده التصنيف الدولي مترجماً.
* * *
وبعد، تعالج فصول الكتاب وذيوله مسألة أساسية من مسائل التخطيط التربوي، لعلها في القلب منه، نعني مسألة التنبؤ بالحاجات التعليمية في ضوء حاجات الطاقة العاملة.
فلقد غدا بدهياً بعد تطور الدراسات المتصلة بالتنمية الاقتصادية وبالتنمية التربوية على السواء أن الأولى لا تستطيع أن تحقق أهدافها إلا عن طريق الثانية، وأن الثانية لا تكون بالتالي مجدية وموضوعية إلا إذا بنيت بالدرجة الأولى على متطلبات التنمية الاقتصادية. ولن نعود ههنا إلى الدراسات العديدة التي شاعت وذاعت في السنوات الأخيرة، مبينة التداخل العميق بين أهداف التنمية الاقتصادية وأهداف التنمية التربوية، مظهرة أن التخطيط إما أن يكون تخطيطاً شاملاً – اقتصادياً واجتماعياً (وبالتالي تربوياً) – وإما ألا يكون، مشيرة إلى دور »رأس المال البشري« وإعداد رأس المال البشري عن طريق التربية في كل خطة اقتصادية واجتماعية، مؤكدة تلك الحقيقة التي طالما وقف عندها الباحثون المحدثون، نعني القول بأن التربية لا تمثل مجرد نفقة استهلاكية، وإنما هي استثمار وتوظيف مثمر لرؤوس الأموال، وأنها ذات مردود وعائدات، وأن توظيف الأموال فيها هو أنجع توظيف. لن نعود إلى هذه الأبحاث التي تكاثرت وتوالدت في هذه السنوات الأخيرة، مستهدفة جميعاً التركيز على موضوعة أساسية، هي أهمية رأس المال البشري ودوره الكبير في الإنتاج والتنمية الاقتصادية. والذي نريد أن نقف عنده خاصة هو ما يلزم عن هذه النظرة – نظرة التداخل والتكامل بين أهداف التنمية الاقتصادية والتربوية – من نتائج هي التي تعنينا ههنا، لأنها هي التي تبرر العناية بهذه المسألة الأساسية التي تتحلق حولها أبحاث هذا الكتاب، مسألة التوافق بين الحادات التربوية وحاجات الطاقة العاملة وتخطيط الأولى استناداً إلى الثانية. ذلك أن القول بالتواصل بين التنمية الاقتصادية والتنمية التربوية يستلزم شيئين في آن واحد: الأول أن تعنى خطة التنمية الاقتصادية بخطة التنمية التربوية وأن تهب لها المكان الأول – نظراً لأهمية رأس المال البشري والعنصر الإنساني في أي عملية إنتاج – . والثاني أن تكون خطة التنمية التربوية مستجيبة لأغراض خطة التنمية الاقتصادية، وأهم أشكال هذه الاستجابة أن تقوم التربية بإعداد الطاقة العاملة اللازمة لخطة التنمية الاقتصادية وأن تبني تنبؤاتها بالتالي على أساس حاجات هذه الطاقة العاملة من الفنيين والخبراء والاختصاصيين والعمال في جميع مستوياتهم. ومن هنا تبرز أهمية بناء التقديرات التي تضعها الخطة التربوية خلال مرحلة الخطة على أساس حاجات السوق الاقتصادية من الطاقة العاملة المدربة المؤهلة خلال هذه المرحلة. ومن هنا جاءت أهمية أبحاث الكتاب الذي بين يدينا التي تتحلق كلها حول هذه المسألة بالذات: كيف نبني تقديراتنا للحاجات التربوية المقبلة – خلال عدد من السنوات – في بلد من البلدان استناداً إلى ما تتطلبه السوق الاقتصادية من يد عاملة تسد حاجاتها وتوفر لها ما يلزمها من أشخاص مؤهلين في كل مجال من مجالات النشاط الاقتصادي وفي كل فرع من فروع المهن؟ كيف نجعل من خريجي المؤسسات التربوية المختلفة أناساً هيئوا ليسدوا مكاناً معيناً في سوق العمل والإنتاج، وفق خطة حققت التطابق بين ما يتطلبه سوق الاستخدام وبين ما يعده نظام التربية القائم في البلد في مختلف فروعه ومراحله؟ وسنرى بعد قليل أن هذه المسألة الأم تتضمن مسائل فرعية ثلاثاً، أو تستلزم مراحل ثلاثاً: الأولى أن نتنبأ بحاجات الطاقة العاملة خلال عدد من السنوات – هي سنوات الخطة (أي أن نقدر ما تحتاج إليه السوق الاقتصادية من طاقة عاملة في شتى فروع النشاط الاقتصادي وفي شتى أنواع المهن، خلال المرحلة المدروسة). والثانية أن نقلب هذه الحاجات المقبلة التي تنبأنا بها والمتصلة بالطاقة العاملة موزعة على فروع النشاط الاقتصادي وأنواع المهن، إلى حاجات تربوية، أي أن نبين معنى هذه الحاجات بلغة التربية، أو بتعبير آخر، أن نحول كل مهنة أو كل عمل إلى ما يعادلهما من إعداد تربوي لهذه المهنة أو لهذا العمل، وأن نترجم بالتالي الحاجات المقبلة من الطاقة العاملة إلى حاجات مقبلة من التربية والإعداد. والثالثة أن نقدر حاجاتنا التربوية في ضوء ما استبان في المرحلة الثانية السابقة، أي أن نضع خطة لنظام التعليم تمكنه من تكوين الأشخاص اللازمين خلال الفترة المحددة.
وسنرى أن الأمر ليس هيناً في هذا كله وأن ثمة صعوبات وعقبات تعترض الطريق، والكتاب الذي بين يدينا يدور كله حول تحليل هذه المراحل الثلاث وبيان مستلزماتها وشرح العقبات التي تقف في طريقها وتلمس الطرائق التي تساعد على تجاوز هذه العقبات. ولهذا لن نستبق ما فيه، ونترك للقارئ الاطلاع على التفصيلات التي يحتويها حول هذه المسائل كلها. غير أنه لابد لنا ههنا في هذا المدخل من نظرة شاملة إلى الموضوع، عرضاً له ونقداً.
* * *
ونقول أولاً أن الاهتمام بالتنبؤ بحاجات التربية المقبلة على ضوء حاجات الطاقة العاملة المقبلة يستند إلى جملة من المبررات، ذكرنا جوهرها فيما سبق ونذكر الآن أهم عناصر هذا الجوهر:
1- أن أي بلد يضع خطة للتنمية الاقتصادية أو ينزع إلى مثل هذه التنمية لا يستطيع أن يهمل إعداد الأفراد الذين سيكونون أداة الإنتاج والتنمية بالتالي. ولا فائدة مثلاً من إنشاء مصنع للفولاذ إذا لم نعد العدة في الوقت نفسه لتكوين العلماء والمهندسين والفنيين والإداريين والعمال المؤهلين والكتبة اللازمين لتسيير هذا المصنع.
2- لقد دخلت التربية مرحلة التنبؤ والتخطيط. ولابد أن يستند هذا التنبؤ إلى أساس موضوعي، ولابد أن تكون للتخطيط بالتالي أهداف تتفق مع أهداف الاقتصاد. ومن الصعب أن نجد صيغة محسوسة لاتفاق أهداف التخطيط التربوي مع أهداف الاقتصاد إلا في هذا المجال، مجال اتفاق أهداف التربية مع أهداف إعداد الطاقة العاملة اللازمة للاقتصاد والتي هي أهم عنصر فيه، بعد أن برز دور رأس المال البشري، أو العنصر البشري أو ما يعرف أحياناً باسم »العنصر الثالث« في كل إنتاج اقتصادي.
3- ذلك أن علماء الاقتصاد قد هجروا منذ زمن تلك الفرضية القديمة التي ترى أن المعروض من الأعمال في مجتمع من المجتمعات كاف دوماً في حجمه ونوعه لسد المطلوب من هذه الأعمال، وأن قوانين العرض والطلب قوانين تحقق التوازن المطلوب. ونتيجة لذلك أخذ هؤلاء العلماء بإفساح مجال هام للعنصر البشري (أو العنصر الثالث) وتكوينه، الأمر الذي يفترض أن تدرس حاجات الطاقة العاملة جنباً إلى جنب مع خطة التربية وما توفره هذه الخطة من تلبية لهذه الحاجات. وبتعبير آخر كانت أهم نتيجة للدراسات الاقتصادية الحديثة لنظريات التنمية الاقتصادية القول بأن التنمية الاقتصادية لا تتوافر لها تلقائياً – وفق قوانين العرض والطلب – حاجاتها في ميدان الأعمال والمهن المختلفة، ولابد لذلك من تنبؤ بهذه الحاجات ومن إعداد بعد ذلك للأشخاص الذين يسدون هذه الحاجات، أي لابد من خطة تربوية تستجيب لحاجات الطاقة العاملة المتنبأ بها.
4- وفي هذا الميدان، نجد أن أخصائيي الطاقة العاملة لم يعودوا يكتفون في تنبؤاتهم بتنبؤات قصيرة الأجل (لمدة سنة) أو متوسطة الأجل (2-5 سنوات) بل أخذوا يجنحون إلى تنبؤات طويلة الأجل
(10-20 سنة). ومثل هذا الأمر يقيم تلاقياً جديداً بين التربية وبين حاجات الطاقة العاملة، لأن من الممكن في حال التنبؤ طويل الأجل بالطاقة العاملة وضع الخطة التربوية اللازمة لسد حاجات هذه الطاقة المتنبأ بها، بينما يتعذر ذلك في حال التنبؤات قصيرة الأجل، ولا يأخذ شكله الكامل في حال التنبؤات متوسطة الأجل.
* * *
تلك هي مبررات اللقاء بين دراسة حاجات الطاقة العاملة ودراسة حاجات التربية. على أن هذه المبررات ليست في منجى من النقد والاعتراض، وثمة أمور كثيرة تحد من قيمتها، يرد الكثير منها في صلب الكتاب، ونورد بعضها ههنا. ولعلنا نستطيع رد هذه الاعتراضات على هذه المحاولة التي تقوم بالتنبؤ بحاجات التربية استناداً إلى حاجات الطاقة العاملة، إلى نوعين كبيرين من الاعتراضات: الأولى اعتراضات فكرية عقائدية إن صح التعبير، والثاني اعتراضات عملية فنية.
(1) أما فيما يتصل بالاعتراضات الأولى الفكرية، فكلنا يدرك أن ثمة تساؤلاً كبيراً يثار حول خضوع التربية لأهداف التنمية الاقتصادية وحول اعتبارها على هذا الأساس سلعة كغيرها من السلع وصناعة كغيرها من الصناعات. والأشخاص الذين يحرصون خاصة على القول بأن غاية التربية هي الإسهام في النمو الشخصي للفرد وفي تفتيح قابلياته، هم الذين يشق عليهم قبل سواهم أن يقبلوا بخطة تربوية تستهدف غايات الاقتصاد وحدها وتتخذ معياراً أساسياً لها حاجات المجتمع من »رأس المال البشري«. ولن نخوض طويلاً في هذه المسألة الدقيقة فهي جديرة ببحث خاص، ونكتفي بالقول أننا ممن يقولون جازمين بأن القرارات المتصلة بمدى الفسحة المعطاة للتربية وبنوعها وطبيعتها في بلد من البلدان لا يجوز بحال من الأحوال أن تكون مبنية على اعتبارات اقتصادية لا غير. فنظام التعليم في كل مجتمع يخدم أهدافاً اجتماعية وفردية عديدة، ينبغي أن تؤخذ جميعها بعين الاعتبار عند إقرار السياسة التعليمية. ومما لا شك فيه أن تفتيح الشخصية الفردية وتكوين الشخص الإنساني في أرقى مراتب رقيه من أهم أهداف التربية.
ويظل الهدف الأسمى لكل تربية دوماً وأبداً تكوين الإنسان الحر المستقل، وتظل الغاية النهائية لكل عمل تربوي الإنسان واستقلاله الروحي وتفتحه الإنساني. وإذا كان من الصحيح أن لا تربية إلا عن طريق المجتمع ومن أجل أغراض المجتمع، فمن الصحيح أيضاً أن التربية الحقة لا يمكن أن تكون مجرد تكامل مع المجتمع. ولا نغلو إذا قلنا أن مستقر مطاف كل تربية صحيحة للكائن الإنساني هو تحرير الذات والأوبة إلى الذات، أي تكوين الشخصية المستقلة، المتكاملة مع المجتمع وأهدافه تكاملاً حراً مبدعاً،
لا تكاملاً مقيداً متبعاً. غير أن هذا كله لا يجنح بنا إلى معالجة الموضوع ضمن إطار التفريق بين دور التربية: دورها في الإسهام في تنمية الفرد وتفتيح إمكانياته وتحرير شخصيته، ودورها في الاستجابة لحاجات المجتمع عامة ولحاجاته الاقتصادية خاصة. بل نحن ننظر إلى الموضوع من زاوية التكامل العضوي بين هذين الدورين، ولا نرى في النهاية قيام تناقض أصيل بينهما. فالتربية الحقة لابد أن تكون تربية اجتماعية ومجاوزة للمجتمع في آن واحد. والتربية إن كانت اجتماعية خالصة ولا شيء سوى ذلك لم تكن تربية حقة، كما أنها إن كانت تربية حق فلا يمكن أن تكون اجتماعية لا غير. والكائن الإنساني لا يكون من هو إلا إذا دخل المجتمع وتكامل معه وخدم أهدافه، ولكنه لا يكون من هو أيضاً إذا لم يجاوز المجتمع ويحقق موقفه المستقل ونظرته الشخصية، متصلاً بالقيم الحضارية والروحية المثلى، عن طريق المجتمع وعن طريق الارتفاع فوق المجتمع الخاص الذي يعطيها. ولن نخوض الآن في هذا الحديث الذي قد يسوقنا بعيداً إلى موضوعات من صلب فلسفة التربية. وحسبنا أن نستخلص من ذلك كله التداخل العميق بين أغراض الفرد وأغراض المجتمع، بين الأهداف الفردية والأهداف الاجتماعية للتربية. حسبنا أن نقول أن في كل من الدورين اللذين تضطلع بهما التربية – دور الإسهام في تنمية الفرد ودور الاستجابة لحاجات المجتمع ولحاجاته الاقتصادية خاصة – عنصراً اقتصادياً وعنصراً يجاوز الاقتصاد. وحتى حين نتبنى الرأي المتطرف القائل بأن غاية التربية الوحيدة تمكين الفرد من تحقيق تفتحه واكتمال ذاته، فإننا لا نستطيع أن ننسى أن هذا الهدف نفسه يستلزم منطقياً أن نأخذ في الاعتبار الأهداف المتصلة بالمهنة والعمل. ذلك أن إيجاد عمل مربح وجيد جزء لا يتجزأ من السعادة الفردية ولذة الحياة بالمعنى الواسع للكلمة، وجزء لا يتجزأ بالتالي من تكوين الفرد من أجل ذاته. كذلك أن نحن أخذنا بالموقف المتطرف الآخر، فاعتبرنا التربية مجعولة لخدمة الأغراض الاقتصادية للمجتمع، قادنا ذلك لا محالة إلى إدخال اعتبارات تجاوز الاعتبارات الاقتصادية المحضة، لأن هذه الاعتبارات الاقتصادية لا تتحقق كاملة إلا إذا توافرت للشخصية الفردية الشروط اللازمة لتفتحها ولإغنائها ولتفتيق قابلياتها وقدرتها على الخلق والعطاء. ولئن كان من الصحيح أن على التربية أن تصوغ الثروات البشرية صياغة تمكنها من التكيف مع حاجات جهاز الإنتاج، فمن الصحيح أيضاً أن هذه التربية تقدم للإنتاج والاقتصاد خدمات لا تقل عن هذه إن هي تعهدت مواطن الغد وأعدته إعداداً يمكنه من فهم عصره وزمنه ومجتمعه فهماً عميقاً، ولا يتم هذا الغرض إلا إذا تجاوز إعداد الفرد مجرد إعداده المهني، ليكون إعداداً كاملاً شاملاً، يلعب فيه الإعداد الإنساني العام دوراً أساسياً.
وبكلمة موجزة، أن القول بأن من الواجب أن نعنى بإعداد الطاقة العاملة وبحاجات هذه الطاقة عندما نضع خططاً تربوية، لا يعني بحال من الأحوال القول بأن الوظيفة الوحيدة أو الأساسية للتربية هي تيسير التنمية الاقتصادية. ولهذا نجد في الكتاب الذي بين يدينا جمعاً بين طريقتين، عند وضع الخطط التربوية، الأولى هي الطريقة التي يدعوها باسم «طريقة الطاقة العاملة» وهي المعتمدة على تحليل حاجات الطاقة العاملة المقبلة ووضع الحاجات التربوية على أساسها، والثانية هي الطريقة التي يدعوها باسم »الطريقة الثقافية«، وقوامها تحليل حاجات التربية وإمكانياتها أولاً والانطلاق من هذه الحاجات في معزل عن دراسة الطاقة العاملة. ولعل أهم ما في الكتاب أنه يبين في خاتمة المطاف أن الطريقتين لا تتناقضان ولا تنفي إحداهما الأخرى، بل سنرى أنه ينصح بالبدء بالطريقة الثقافية وبإكمالها بعد ذلك بطريقة الطاقة العاملة وتعديل كل منهما بالتالي وفقاً لمستلزمات الأخرى.
(2) هذا فيما يتصل بالاعتراض الأول، الاعتراض الذي وصفناه بأنه فكري عقائدي. على أن الصعوبة الكبرى تثوي في الاعتراض الثاني، نعني الاعتراض العملي الفني. ذلك أننا إذا قبلنا أن من الهام أن نتنبأ بحاجات الطاقة العاملة لنبني على أساسها حاجات التعليم، يظل من الصعب أن نؤكد أن مثل هذه التنبؤات يمكن أن تصل إلى قدر من الدقة والصحة يبرر لنا أن نقيم على أساسها خططنا التربوية. فهنالك دون شك حظ من الخطأ ينال عملية التنبؤ في كل خطوة من خطواتها العديدة: من مثل تقدير الدخل القومي الخام والتنبؤ به قبل 15 عاماً، وتوزيع هذا الدخل على مختلف قطاعات الاقتصاد وفروعه، وتقدير بنية الاستخدام المقبلة في كل من هذه الفروع، وتحديد المستويات التعليمية المعينة المطلوبة في كل مهنة. فهذه كلها مسائل معقدة سنرى من خلال سطور الكتاب أن من الوهم ادعاء الإجابة عليها بيسر ودقة.
ومن المتعذر أن نعرض جميع الحجج التي يوردها القائلون بمثل هذا الاعتراض وأن نفند هذه الحجج مبينين الموقف الصحيح. فمثل هذه المهمة تتطلب منا أن ندرس بالتفصيل مختلف مراحل عملية التنبؤ، وهذا ما سنراه في الكتاب. ومع ذلك نورد بعض الاعتبارات الهامة التي نجدها جديرة بالرعاية عندما نقدر ما تقدمه التنبؤات بالطاقة العاملة من إسهام في تخطيط التربية، والتي نجيب بها على ما يرد من اعتراضات.
(أ) إن هنالك واقعاً ينبغي أن نوضحه منذ الخطوة الأولى، وهو أننا إذا أقررنا أن الاعتبارات المتصلة بالطاقة العاملة ينبغي أن تكون عنصراً من العناصر التي تؤثر في قراراتنا التربوية، نجم عن ذلك أن هذه القرارات، إذا أرادت أن تكون مبنية على أسس سليمة، تتضمن دوماً وفي أية حال تنبؤات متصلة بالطاقة العاملة، مهما يكن شكل هذه التنبؤات، وسواء كانت هذه ظاهرة أو خفية. ولنضرب مثالاً على ذلك: إن تقرير زيادة إعداد الطلاب في كليات العلوم النظرية والتطبيقية مثلاً يتضمن الاعتقاد بأن عروض الاستخدام بالنسبة إلى خريجي هذه الكليات سوف تزداد زيادة أسرع من عروض الاستخدام الخاصة بخريجي كليات الحقوق مثلاً، أو هو يتضمن على أقل تقدير الاعتقاد بأن هذه الزيادة في عدد العاملين في حقل العلوم والهندسة سوف تكون أجدى على الاقتصاد من زيادة الحقوقيين. ومعنى هذا بوجيز العبارة، أن التنبؤات قائمة على أي حال في الخطة التربوية. والمسألة ليست أن نسائل هل من الواجب أن نقوم بتنبؤات – لأن هذه التنبؤات قائمة على صورة من الصور – وإنما أن نسائل إلى أي حد ينبغي أن تكون هذه التنبؤات منهجية ومستندة إلى معلومات دقيقة نجمعها. المسألة كلها أن نختار بين نبوءات عفوية تخمينية وبين نبوءات مبنية على أسس موضوعية ما أمكن، في وسعنا أن ندعوها علمية.
(ب) والأمر الثاني الهام الذي ينبغي أن نوضحه أيضاً هو أننا حين نقول بضرورة التنبؤات المتصلة بالطاقة العاملة وبناء حاجات التربية على أساسها فلا نعني بذلك، القول بأن هذه التنبؤات تنبؤات مطلقة غير مشروطة، لا يأتيها الباطل. وبتعبير آخر، أن هذه التنبؤات لا تتنبأ بما سوف يحدث في مجال الطاقة العاملة، بل تبين ما ينبغي أن يحدث أن نحن أردنا بلوغ بعض أهداف التنمية الاقتصادية. وهذا يقودنا إلى التفريق الوارد في الكتاب بين معنى »حاجات الطاقة العاملة« كما يستخدمها المخطط التربوي وبين معنى »المطلوب من الطاقة العاملة« كما يفهمها الاقتصاديون عادة. وأهم ما في هذا التفريق أن مخططي التربية يقصدون بمقدار الحاجة من الطاقة العاملة البنية الوظيفية (تبعاً لكل مهنة) للعمل وللطاقة العاملة، على نحو ما ينبغي أن تتحقق إذا أردنا أن نصل إلى بعض الأهداف الاجتماعية والاقتصادية.
(جـ) وأخيراً ينبغي أن نذكر أنه ليس من الضروري أن تكون التنبؤات بمقدار الحاجة إلى الطاقة العاملة مفصلة جداً حتى تؤدي الخدمات اللازمة للتخطيط التربوي. وأبرع الأخصائيين في تنبؤات الطاقة العاملة لن يبلغ به الادعاء حداً يزعم معه أن في وسعه أن يعلن قبل خمسة عشر عاماً أو عشرين عاماً وعلى وجه الدقة عدد الأشخاص الذين علينا أن نكونهم في كل مهنة من المهن. وحتى لو افترضنا أن من الممكن أن نتنبأ ببنية الحاجات تنبؤاً على حظ من الدقة، يظل من الصحيح أننا لا نملك المعلومات الكافية عن »انتقال« الطاقة العامة وتحركها من مهنة إلى أخرى خلال فترة التنبؤ، ولهذا الأمر ما له من أثر على مقدار العرض في كل مهنة من المهن. ومن حسن الطالع أن هذا القدر من التفصيل ليس لازماً في الواقع. ففي أسفل السلم المهني – حيث نجد العمال المؤهلين أو غير المؤهلين ولا سيما في مهن القطاع الثالث، قطاع الخدمات – ثمة مجال واسع للانتقال من مهنة إلى أخرى دون حرج. ومن الممكن بالتالي أن يكون الإعداد التربوي واحداً لكل هذه الزمرة الواسعة من المهن، ويكفي بنتيجة ذلك أن نتنبأ بعددها الإجمالي لا بعدد المشتغلين في كل فرع من فروعها. ولا حاجة إلى أي تمييز وتفصيل في داخلها. أما في أعلى السلم المهني – في المهن الاختصاصية العليا – فمن الصحيح أننا لا نستطيع أن نجري انتقالاً واسع النطاق، ولا نستطيع مثلاً أن نستبدل بمهندس البناء مهندساً كهربائياً أو أن نستبدل بعالم كيمياء عالم اقتصاد. ولكن من الصحيح أيضاً أن مجرد التمييز بين المهن التي تتطلب مستويات تربوية مختلفة ومجرد الفصل بين تلك التي تتطلب تكويناً ثقافياً أكاديمياً وتلك التي تتطلب تكويناً علمياً أو تقنياً، يكفي في هذا المجال لتوجيه توزيع الاعتمادات بين مختلف مراحل نظام التعليم وفروعه.
وبوجيز العبارة نقول، في خاتمة الحديث عن الاعتراضات العملية، إن التنبؤات بالطاقة العاملة على نحو ما وصفناها تنبؤات ممكنة وضرورية معاً لكل تخطيط تربوي مكين الأسس. صحيح أن هذه التنبؤات لا تعدو أن تكون مرشدة وهادية، ولكنها على أية حال أساسية إذا أردنا أن نصل إلى وضع بنية ملائمة للنفقات التي تنفق على التعليم. وهذا لا يعني أن نقع في الخيال والوهم فنحسب أن في وسعنا التنبؤ بدقة بتوزع الطاقة العاملة ضمن اقتصاد معين قبل خمسة عشر عاماً. ولكن لابد من القول أن كل عمل في ميدان التربية يستلزم القيام ببعض التخمينات والتقديرات حول نتائج التنمية الاقتصادية على توزع الأعمال والمهن. وما دام الأمر كذلك، بدا واضحاً أن من المستحسن أن تكون هذه التخمينات والتقديرات منهجية علمية ما أمكن وأن تستند إلى معلومات وبيانات واقعية. وهذا ما تحاول أن تقوم به الدراسات التي تتنبأ بحاجات الطاقة العاملة وبما يقابلها من حاجات تربوية، وهذا ما يحاوله الكتاب الذي بين يدينا، دون أن ينسى في أي لحظة صعوبة هذه الدراسات وحدودها، والإشارة إلى مواطن الضعف فيها.
* * *
بعد أن ذكرنا الاعتراضات العامة التي ترد على مسألة التنبؤ بالحاجات التربوية استناداً إلى حاجات الطاقة العاملة، وبعد أن أوردنا بعض ملاحظاتنا على هذه الاعتراضات، كان بودنا أن ندخل في المزيد من التفصيل فنتحدث عن كل مرحلة من المراحل الثلاث: التنبؤ بمقدار الحاجة من الطاقة العاملة خلال المرحلة المدروسة (مع توزيع هذه الحاجة على المهن والأعمال المختلفة وعلى فروع النشاط الاقتصادي العديدة)، وقلب هذه الحاجات إلى ما يعادلها من إعداد تربوي ومؤهلات تربوية، ووضع خطة التربية على أساس هذه الحاجات المتصلة بالطاقة العاملة بعد أن تم قلبها إلى ما يعادلها من إعداد تربوي. وكان بودنا أن نتحدث بشيء من التفصيل عن الصعوبات التي تثيرها كل مرحلة من المراحل: صعوبات التصنيف، صعوبات قلب المهن والأعمال إلى ما يعادلها من مستويات تربوية، صعوبات التنبؤ بالأعداد اللازمة من الطلاب في كل فرع من فروع الدراسة وفي كل مستوى من مستوياتها. غير أن الكتاب يكفينا مؤونة ذلك كله، إذ يتحدث عن هذه المراحل وعن صعوباتها وعن وسائل تجاوز هذه الصعوبات. على أننا نجد من الضروري أن نقف عند مسائل ثلاث هامة نجدها في حاجة إلى مزيد من شرح ونقد: أولاها مسألة تصنيف المهن والوسائل المتبعة في ذلك، وثانيها مسألة التنبؤ بالبنية المهنية المقبلة موزعة على فروع النشاط الاقتصادي ومختلف القطاعات، وثالثها مسألة الصلة بين المهن وبين مستوى التربية وإمكانية قلب التنبؤات المتصلة ببنية المهن إلى تنبؤات تبين المستويات التعليمية اللازمة لأفراد هذه المهن.
(1) ولا شك أن مسألة تصنيف المهن هي نقطة البدء في الموضوع كله، ولا يمكن الانطلاق انطلاقاً مطمئناً في معالجة المسائل الأخرى ما لم يكن البدء سليماً في هذه المسألة الأولى، مسألة تصنيف المهن. ولا شك أن الكتاب الذي بين يدينا يعالج هذه المسألة ويعنى بها. غير أننا وجدنا من المفيد أن نقدم تلخيصاً موجزاً لأهم جوانبها وأن نضيف بعض الملاحظات التي لا نجدها في الكتاب. وتبدو أهمية هذه المسألة إذا ذكرنا أن البلدان العربية التي تعتزم الانطلاق في طريق التخطيط لابد لها بادئ ذي بدء أن تعنى بتصنيف المهن وأن تجد السبيل السليم إلى ذلك. »والتصنيف الدولي النموذجي للمهن« يقدم دون شك عوناً كبيراً للبحث، وقد أثبتنا في هذا الكتاب ترجمته العربية. غير أنه لابد، من أجل فهم هذا التصنيف، من مزيد من الشرح والتوضيح هو الذي رأينا أن نقدمه:
(أ) وأول نقطة ينبغي أن نذكرها في هذا المجال هي ضرورة توضيح معنى »المهنة« قبل دراسة موضوع تصنيف المهن. فمن الهام جداً عند إقدام أي بلد على تصنيف المهن أن يتضح لديه المقصود بالمهنة أو بالطائفة المهنية.
ونقول في هذا أن من الممكن أن نعتبر المهنة جملة من الأعمال والمهمات والوظائف التي تقع على عاتق عامل ما، أي أنها تحدد عمله دون ما التفات إلى القطاع الاقتصادي أو المجال الذي يعمل فيه. فالضاربة على الآلة الكاتبة مثلاً يمكن أن تعمل في خدمة الدولة أو في خدمة مؤسسة تجارية أو مصنع. غير أنها من الوجهة المهنية تظل ضاربة على الآلة الكاتبة ما دامت تقوم بنفس النموذج من العمل. إن في وسعها دون شك أن تغير مهنتها – فتصبح مثلاً محاسبة أو مصححة لتجارب الطباعة – دون أن تغير رب العمل الذي تعمل عنده بل حتى دون أن تغير مكتبها. فهي بمجرد تغييرها للمهمات والأعمال التي نقوم بها تغييراً جوهرياً تغير مهنتها، ولو بقيت في مكانها في المؤسسة نفسها ولدى رب العمل نفسه.
إن هذا التمييز بين المهنة وبين القطاع الاقتصادي تمييز هام ينبغي أن يكون واضحاً في الأذهان.
ولا يجوز خاصة أن يقع أي غموض أو لبس نتيجة لكون بعض المهن تبدو وكأنها مرتبطة بصناعة معينة
أو بفرع معين من فروع النشاط الاقتصادي، أو تبدو على الأقل أكثر ذيوعاً وانتشاراً في بعض مجالات الاقتصاد منها في مجالات أخرى. هكذا نجد عمال الآجر مثلاً يستخدمون خاصة في صنعة البناء، ولكننا نجد عدداً منهم مع ذلك في قطاعات أخرى، من مثل شركات المناجم وشركات الفولاذ أو الإسمنت الخ..
وإذا كان هذا التفريق بين المهنة وبين قطاع النشاط الاقتصادي تفريقاً أساسياً، فمما لا يقل عنه شأناً أن نفرق تفريقاً آخر – ولعله أصعب – بين المهنة من جهة وبين الإعداد العام والإعداد الاختصاصي من جهة ثانية. ولنضرب مثلاً على ذلك: إن الرجل الذي تلقى إعداداً لمهنة الميكانيكي المختص في السيارات، والذي يعمل مع ذلك سائقاً لسيارة تاكسي، يعتبر من الوجهة المهنية سائق تاكسي، ولا يعتبر ميكانيكياً. فالمهمة الفعلية التي يقوم بها الفرد هي التي تحدد مهنته، ولا يحدد هذه المهنة الإعداد الذي تلقاه كما لا يحدد هذه المهنة ما يمكن أن يقوم به من عمل. إن الممرضة التي تلقت إعداداً اختصاصياً في هذه المهنة والتي تستخدم مع ذلك في مكتب من المكاتب لا تعد في عداد ممتهنات التمريض.
وقد يكون من المفيد أن نتفحص حالاً أمضى في التعقيد، ولكنها ذات شأن خاص وأهمية خاصة في هذا المجال. ونعني بهذه الحال طائفة أولئك الذين يطلقون عليهم في كثير من الغموض والتعتيم لقب المهندس. إن هذا اللقب يمكن أن يستخدم بمعنيين مختلفين تماماً: فمن الممكن أن يقصد بهذه الكلمة زمرة مهنية محددة من الأفراد الذي يقومون بمهمات خاصة من مثل وضع المشروعات والخطط، أو صنع بعض نماذج معينة من الآلات والتجهيزات الأخرى، أو وضع تصاميم البناء والإشراف عليه، أو صنع المكائن واستثمارها الخ.. ويمكن إذ ذاك أن يصنفوا تبعاً لطبيعة المهمة التي توكل إليهم، كأن يدعوا مهندسي مشروعات، أو مهندس إنتاج، أو مهندسي دراسات الأوقات والحركات، أو مهندسي بناء الخ.. وتلك هي مهنة المهندس. غير أن معظم الذين يمارسون هذه المهنة من جانب ثان (وهذا هو المعنى الثاني للكلمة) لابد أن يكونوا قد حصلوا على تعليم خاص وإعداد خاص ولابد أن يحملوا شهادة مهندس. والتعليم الذي حصلوا عليه يمكن أن يكون من مستويات متباينة في ارتفاعها، فقد يكون تعليماً جامعياً وقد يكون تعليماً ثانوياً. وفي معظم الحالات يتصل هذا التعليم خاصة بمجال تقني: كهرباء، ميكانيك، صناعة
كيمياوية الخ.. و الذين تلقوا تعليماً تقنياً من هذا النوع يدعون غالباً مهندسين مهما تكن المهنة التي يمارسونها. ولكن من الواجب أن نلاحظ في هذه الحال أن لقب المهندس يعبر عن نوع التعليم الذي تلقاه المهندسون، لا عن المهنة التي يمارسونها فعلاً.
من اللازم أن نتساءل الآن ما هي العلاقة بين المهندسين بحكم المهنة وبين المهندسين بحكم الإعداد؟ أننا إذا نظرنا إلى ما يعنيه أكثر الناس عندما يستخدمون كلمة مهندس، وقع في خاطرنا أن الشيئين شيء واحد وأن الزمرتين زمرة واحدة. وليس الأمر كذلك. فبعض الأشخاص الذين يشغلون مهنة مهندس
لا يملكون الإعداد اللازم لها. إنهم قد يحملون شهادة جامعية في الفيزياء أو الكيمياء أو الرياضيات، وقد يكونون أيضاً أناساً نشأوا في صفوف العمال المختصين ثم رقوا إلى عمل مهندس دون أن يكونوا قد حصلوا على أي تعليم إضافي أو إعداد منظم. كذلك من الشائع جداً أن نلقى في مهن مختلفة تماماً فيما بينها أشخاصاً تلقوا إعداد لمهنة المهندس: إذ نجدهم مثلاً في المكاتب التجارية أو الخدمات الشخصية
أو وظائف الإدارة أو في التدريس الخ..
لهذا كله، يحسن عندما نستخدم كلمة »مهندس« أن نحدد بوضوح تام فيما إذا كنا نتكلم عن زمرة مهنية أو زمرة محددة بالإعداد. ويمكن أن تنجم أخطاء خطيرة إذا نحن لم نضع هذا التفريق في ذهننا. ومثل هذا يقال عن زمر مهنية أخرى عديدة.
(ب) بعد هذا التوضيح المتصل بمعنى المهنة، يمكن أن ننطلق في الحديث عن تصنيف المهن، متخيرين أهم الجوانب التي تجدر الإشارة إليها في هذا المدخل، تاركين للكتاب مهمة تقديم فضل من تفصيل وبحث:
بدهي إن عدد المهن التي يمكن أن تميز كبير جداً بحيث يتعذر علينا أن نحدد الحاجة من الطاقة العاملة في كل مهنة إذا أخذناها »على انفراد« واعتبرناها أصغر وحدة مهنية. ولهذا كان من الضروري أن نصنف المهن في طوائف أوسع وأن نضع بالتالي نظاماً لتصنيف المهن. وقد وضعت معظم البلدان مثل هذه النظم، وبعضها يصلح تماماً للغرض المقصود، وبعضها لا يصلح لهذا الغرض.
على أن من الواجب هنا أن نعود فنذكر »بالتصنيف الدولي النموذجي للمهن« الذي وضعه »المكتب الدولي للعمل« والذي نشر عام 1958، بالإنكليزية والفرنسية والإسبانية. وهذا التصنيف يساعد دون شك جميع الدول على وضع التصنيفات الملائمة لأوضاعها.
والبلدان التي ترى من الضروري أن تملك تصنيفاً أحسن للمهن، يقدم لها هذا التصنيف الدولي مع ذلك مرشداً ثميناً يساعدها على وضع تصنيف قومي ملائم لظروفها القائمة. وقد قام العديد من الدول، سواء منها المتقدمة أو السائرة في طريق التقدم والنمو، بوضع نظم جديدة للتصنيف، مستندة إلى التصنيف الدولي النموذجي. ويمكن أن نذكر بين هذه الدول – بالإضافة إلى الجمهورية العربية المتحدة التي سبقت الإشارة إليها – الدانمارك وفنلندا والنرويج والسويد والهند.
ومن مزايا »التصنيف الدولي النموذجي للمهن« أنه يصنف المهن على أساس التشابه في العمل المؤدى، وأنه بالتالي بعيد عن التأثر بقطاعات النشاط الاقتصادي. يضاف إلى ذلك أن تبني تصنيف مطابق للتصنيف الدولي هذا يضمن إلى حد كبير إمكان إجراء مقارنات دولية، ولهذا أهمية كبرى، ولا سيما فيما يتصل بالتنبؤ ببنية الطاقة العاملة، إذ أن من طرائق هذا التنبؤ، كما سنرى في صلب الكتاب، اللجوء إلى المقارنات الدولية في هذا المجال.
ونجد في هذا التصنيف الدولي النموذجي حوالي 1500 مهنة مصنفة في مائتي زمرة أساسية تصنف بدورها في 75 زمرة فرعية وتجمع في النهاية في 10 طوائف كبرى.
(جـ) ومن الهام في حديثنا عن تصنيف المهن أن نشير إشارة عابرة إلى مدى التفصيل اللازم في هذا التصنيف. ذلك أن تعداد الحاجات من الطاقة العاملة مصنفة في طوائف مهنية وزمر مهنية ليس غاية المطاف في عملية التنبؤ التي نتحدث عنها. ومن اللازم لأغراض التخطيط التربوي أن نعبر عن هذه الحاجات بطوائف تعليمية لا بطوائف مهنية. ومشكلة الانتقال من الطوائف والزمر المهنية إلى زمر الأفراد الذين حصلوا على مستوى معين أو نوع معين من التعليم مشكلة يتعرض لها الكتاب مفصلاً كما ذكرنا وسنشير إليها بعد حين. غير أن من الهام أن نذكر هنا – ما دمنا في معرض الحديث عن التصنيف المهني – أن تقسيم المهن ينبغي أن يكون على قدر من التفصيل يسمح بوضع تقسيم على أساس طوائف التعليم يؤدي الأغراض المرجوة التي وضع من أجلها التنبؤ (كأن يكون الغرض من التنبؤ تخطيط نظام التعليم ووضع خطة تربوية). وهكذا نستطيع أن نقول أن المستوى الأمثل لتقسيم المهن وتفصيلها تحدده طبيعة النتائج التي نبحث عنها. غير أننا نضيف أن أغراض التخطيط التربوي – كما سبق أن ذكرنا – لا تستلزم قدراً كبيراً من التفصيل في تقسيم المهن – إن كان ضرورياً في التنبؤات القصيرة المدى (التنبؤ ببنية المهن خلال السنتين المقبلتين مثلاً) – فهو ليس ضرورياً بل ليس جائزاً في حال التنبؤات الطويلة المدى (التنبؤ بالبنية المهنية خلال فترة خمسة عشر عاماً مثلاً) – ولما كانت الخطط التربوية – بحكم طبيعة العمل التربوي الذي يتطلب انقضاء زمن معين حتى تتحقق نتائجه – خططاً بعيدة المدى، أو يحسن أن تكون كذلك، لم تكن هنالك إذن حاجة إلى المزيد في تفصيل المهن وتقسيمها عند التنبؤ بمقدار الحاجة من الطاقة العاملة وتقدير الحاجات التربوية على هذا الأساس.
هذا ما أردنا أن نقوله منذ البداية حول تصنيف المهن، إيضاحاً لأمور كثيرة سوف ترد في صلب الكتاب، وإجابة على تساؤلات عديدة قد تثور في ذهن القارئ عند قراءته.
(2) ونرى من المفيد بعد هذا، استكمالاً لما قصدناه من توضيح للإطار الذي ينطلق فيه الكتاب وللموضوعات التي يثيرها، أن نتحدث عن المسألة الثانية فنقول كلمة موجزة عن الطرائق المتبعة في التنبؤ بالبنية المهنية للطاقة العاملة، مبينين حدود هذه الطرائق، منتهين إلى نتيجة هامة تعنينا، هي أن خير طريقة هي الاعتماد على شتى الطرائق، وتأكيد نتائج بعضها بنتائج بعضها الآخر، واللجوء إلى ما يعرف في مناهج البحث باسم منهج »تصالب الطرائق«. ولعل هذا المنهج هو المنهج الصالح في كثير من الدراسات الإنسانية، ولا سيما دراسات علم النفس وعلم الاجتماع والتربية.
وفي هذه الطرائق المتبعة في التنبؤات بالبنية نقول: إن من الممكن أن نصنف الطرائق الذائعة الاستخدام في تقدير الحاجات المقبلة من الطاقة العاملة وبنيتها المهنية في أربع زمر رئيسية:
(أ) أولاها الطريقة المستندة إلى إسقاط الاتجاه القائم ومده إلى المستقبل. ولعلها أكثر الطرائق شيوعاً. وقوام هذه الطريقة أن نمد حتى المستقبل ونجري عليه التطور الماضي والحاضر للبنية المهنية للاستخدام. وتثير هذه الطريقة صعوبات كثيرة هامة. أولها صعوبة عملية هي أن المعلومات اللازمة لتحديد الاتجاهات السابقة تعوزنا هي نفسها في معظم الأحيان. وثانيها صعوبة نظرية ترجع إلى أن مد الاتجاهات السابقة والراهنة يعبر في الواقع عن اتجاهات العرض أكثر مما تعبر عن اتجاهات الطلب.
وفي مقابل هذه الاعتراضات على هذه الطريقة، نجد أن هذه الطريقة تكاد تكون الهيكل الأساسي لكل تنبؤ. فكل تقدير للمستقبل هو بالضرورة تقدير مستند إلى التجربة الماضية. ولهذا نستطيع أن نقول أن الأمر ليس أمر إبدال هذه الطريقة بغيرها، وإنما هو أمر إيجاد طرائق أخرى مكملة لها ومساعدة.
(ب) وثانية هذه الطرق الطريقة المستندة إلى المقارنات الدولية. ومن الممكن أن نستخدم هذه الطريقة على أشكال عديدة. وقوامها جميعها نظرية تقول إن بنية المهن في كل قطاع اقتصادي وبنية الطاقة العاملة الإجمالية أيضاً تختلفان باختلاف المستوى العام للنمو، وفق مخطط يكاد يكون واحداً في جميع أشكال الاقتصاد. ولن نناقش هنا هذه النظرية، ونكتفي بالقول إن فيها تعميماً مغالياً، وإن من الصعب تطبيقها. غير أن هذا لا يقودنا إلى الإقلال من شأن المقارنات الدولية، ولا سيما في مجال البنية المهنية، بل نحن نرى أن هذه المقارنات مفيدة في كثير من الأحيان، ولا سيما إذا أحسنا تأويلها واستخلاص النتائج الحصيفة منها. ونجد تفصيلاً لهذه الطريقة وحدودها في صلب الكتاب.
(جـ) وثالثة هذه الطرائق اللجوء إلى التحليل بمختلف أشكاله. وهذه الطريقة من خير الطرائق ومن أصلحها للتثبت من صحة نتائج الطرق الأخرى. وتحت عنوان »تحليل« يمكن أن نضع جميع الأبحاث الرئيسية المتصلة بالعوامل التي تؤدي إلى تغييرات في البنية المهنية في قطاع اقتصادي، كما يمكن أن نضع تحته أيضاً دراسات ذات طابع مختلف، كالدراسات التي تبحث مثلاً في أسباب اختلاف مستوى الإنتاج والقدرة الإنتاجية. فإذا كشفت لنا دراسة من الدراسات مثلاً أن قدراً معيناً من الزيادة في الإنتاجية يمكن أن يكون راجعاً، في قطاع معين، إلى اتساع أعمال البحث والنشاط العلمي، ساعدنا ذلك على أن نكون فكرة عما ينبغي أن تكون عليه الحاجات المقبلة »المعقولة« من الباحثين في هذا القطاع.
(د) ورابع هذه الطرائق وآخرها طريقة »التقدير المباشر« للحاجات المقبلة من الطاقة العاملة. ويتم ذلك عن طريق خبراء مختصين أو أرباب عمل يجيبون على استقصاء موضوع لهذا الغرض. ولهذه الطريقة نقائصها التي هي نقائص طريقة الاستقصاء والاستجواب إجمالاً.
هذه هي الطرائق الأربع المستخدمة إجمالاً في التنبؤ بحاجات الطاقة العاملة وبنيتها المقبلة. ولم نذكرها هنا لمجرد عرضها – ففي صلب هذا الكتاب ما يغني عن ذلك – ولكننا ذكرناها في هذا المدخل لهدفين أساسيين: الأول أننا نجدها في الكتاب مبعثرة ولا نجد عرضاً منظماً لها، وقد رأينا من المفيد تبويبها وعرضها ضمن هذا الإطار المبسط المستوعب. والثاني أننا أردنا نقدها وبيان حدودها، لا لننتهي من وراء ذلك النقد إلى موقف ريبي متشائم، يكاد ينكر إمكان الوصول إلى تنبؤ مقبول، بل لنؤكد الحقيقة التي ذكرناها منذ حين والتي نعود إليها كرة بعد كرة وهي أن الاعتماد على أي طريقة لوحدها لا يخلو من نقائص، وأن جمع هذه الطرائق وتقاطع نتائجها هو خير كاشف عن صحة النتائج التي نصل إليها.
(3) وننتقل أخيراً إلى المسألة الثالثة، وهي أم المسائل، لأنها هي التي تعني المربي في خاتمة المطاف، إذ هي التي تقلب المعلومات التي نحصل عليها فيما يتصل بالطاقة العاملة وتوزعها إلى معلومات معبر عنها بلغة التربية، وهي التي تكون بالتالي الجسر الذي نعبر عليه من ميدان الاقتصاد إلى ميدان التربية. ونعني بهذه المسألة الثالثة ما يلي: بعد أن عرفنا البنية المهنية للسكان العاملين التي ينبغي أن نبلغها في مرحلة معينة مقبلة، هل في مكنتنا أن نبين توزع هذه الطاقة العاملة على مختلف أنواع التعليم العام والمهني وعلى مختلف مراحلهما؟
(أ) ولنتبين طبيعة هذه المسألة بوضوح أكبر، لندرس الفرق القائم، من حيث التعريف، بين تصنيف قائم على أساس المهنة وتصنيف قائم على أساس مستويات التعليم. إن التصنيف الأول يقوم بالدرجة الأولى على أساس الوظيفة التي يضطلع بها العامل ضمن عملية الإنتاج، أي على الطبيعة الخاصة التي تتصف بها الأعمال والمهمات التي عليه أن ينفذها. أما التصنيف الثاني فيأخذ بعين الاعتبار، على العكس، مدى التعليم والإعداد أو نوع التعليم والإعداد الذي حصل عليه الفرد. وهذان مبدءان متقاربان دون شك، غير أنهما لا يكونان مع ذلك مبدءاً واحداً. ولنلاحظ أننا نجد وراء كليهما فرضية واحدة، وهي أن بعض أنواع التعليم العام المهني تهب للفرد مجموعة من المؤهلات والمعلومات اللازمة لقيامه بأعمال مهنية مقابلة لها. وهذه الصلة المفترضة بين مستوى التعليم وبين المهنة تجعلنا نتساءل إلى أي حد نستطيع، من حيث المبدأ، أن نحدد الإعداد الذي يلزم أن نعطيه لعامل ما من أجل أن نهيئه لممارسة مهنة معينة. ولو كانت مجموعة المؤهلات والمعلومات المطلوبة في مختلف المهن متجانسة تماماً، ولو كان من الممكن أن نحدد بالدقة »الطريق التربوية« المقابلة لهذه المجموعة، لأمكننا أن نقدر – استناداً إلى التنبؤات المتصلة ببنية المهن – العدد الأدنى من سنوات التعليم والإعداد (على اختلاف أنواعها) اللازمة لتلبية حاجات الاقتصاد المقبلة.. غير أن الأمر ليس على هذا النحو – مع الأسف – إلا في عدد محدود من المهن، هي المهن التي يتطلب معظمها امتلاك شهادة رسمية ولقب رسمي. وأبرز مثال عليها مهن الطب والتعليم. أما إذا خرجنا عن إطار هذه المهن القليلة العدد، فمن الصعب جداً أن نقيم علاقة متينة بين التعليم وبين المهنة. ويرجع هذا فيما يرجع إلى أننا لا نجد طائفة مهنية متجانسة تماماً فيما يتصل بمجموع المؤهلات والمعلومات المطلوبة. وللاقتناع بذلك يكفي أن نفكر في الطوائف المهنية الكبرى التي يضمها تصنيف المهن عادة، من مثل طائفة »العمال اليدويين المؤهلين« أو طائفة »عمال البيع والشراء« أو طائفة »مستخدمي المكاتب«. بل أننا ندرك أن التعبيرات الخاصة المحددة نفسها من مثل قولنا »إحصائي« أو »كيمياوي« أو »بناء« أو »نادل«، هي في الواقع تعبيرات مجردة يشتمل كل منها في حقيقة الأمر على أعمال مختلفة وتتصل بها وظائف ومهمات متباينة. والجدول التالي الخاص بالولايات المتحدة يبين لنا تباين المستويات التعليمية في المهنة الواحدة:
توزع العمال الذكور في بعض المهن (بالنسب المئوية) تبعاً لمدة دراستهم
(الولايات المتحدة 1950)
المهنة عدد الأشخاص
الذين جرى
عليهم
الاستقصاء مدة الدراسة
8 سنوات 9-11
سنة 12 سنة 13-15
سنة 16 سنة
أو أكثر
الكتاب 9780 7 ، 3 8 ، 5 15 2 ، 28 2 ، 47
المهندسون الميكانيكيون 107340 1 ، 9 2 ، 7 2 ، 16 17 5 ، 50
مدير المشروعات الصناعية 3749400 7 ، 14 1 ، 14 3 ، 29 9 ، 18 23
المصورون 43260 3 ، 14 18 8 ، 40 4 ، 18 5 ، 8
البائعون في المشروعات الصناعية 293190 5 ، 14 5 ، 15 6 ، 33 3 ، 20 16
أمناء صندوق المصارف 34380 4 ، 6 7 ، 11 1 ، 51 2 ، 22 6 ، 8
عمال الهياكل 9 ، 56 2 ، 21 4 ، 17 6 ، 3 9 ، 0
إن تأمل هذا الجدول يرينا أن نصف أفراد المهنتين الحرتين (الكتاب والمهندسين الميكانيكيين) قد قاموا بدراسات جامعية كاملة (16 سنة دراسية)، بينما لم يجاوز ربع الكتاب وثلث المهندسين تقريباً نهاية الدراسة الثانوية (12 سنة دراسية). كذلك يرينا أن معظم المصورين وأمناء صندوق المصارف لم يحصلوا على أكثر من الدراسة الثانوية، ومع ذلك فهنالك حوالي العشر بينهم أتموا الدراسات الجامعية وهنالك حوالي ثلث المصورين وأكثر من سدس أمناء الصندوق لم يتموا الدراسة الثانوية حتى نهايتها. كذلك يرينا أن أكثر من نصف عمال الهياكل لم يجاوزا مستوى الدراسة الابتدائية (ثماني سنوات دراسية) وأن خمسهم مع ذلك بدأ الدراسة الثانوية وأن خمسهم الآخر وصل حتى نهاية المرحلة الثانوية. ويبدو التباين أكبر في زمرة المديرين وزمرة الباعة في المشروعات الصناعية: فحوالي ربع المديرين يحملون شهادات جامعية وخمسهم تابع بعض الدروس الجامعية، غير أن هنالك حوالي الثلثين لم يحصلوا إلا على دراسة ثانوية ناقصة، وحوالي الثلث لم يجاوزوا مستوى التعليم الثانوي. وقريب من هذا يقال في الباعة.
صحيح أن الأرقام التي نشير إليها ليست أرقاماً حاسمة، لأنها تدل على مستوى التعليم الفعلي الذي نجده لدى الأشخاص الذين يمارسون هذه المهن، ولا تدل على المستوى المطلوب الذي ينبغي أن يتوافر فيهم. ولكن هذه الأرقام تشهد مع ذلك أنه حتى في داخل المهن المحددة بعض الشيء نجد العديد من الأعمال المتباينة التي تتطلب مؤهلات متباينة وبالتالي مستويات تعليم وإعداد متباينة.
ويرى بعض الباحثين أن هذه الصعوبة تزول أو تفقد أهميتها، إذا توصلنا إلى تصنيف المهن ضمن طوائف أكثر تجانساً، تشتمل كل طائفة منها على مستويات عديدة. ولا شك أن في هذا القول جانباً من الصحة، ولكن المسألة حين تطرح على هذا النحو لا تعدو أن تكون مسألة نظرية خالصة لأننا لا نملك في الواقع أي وسيلة تمكننا من أن نحصل في مجموع النشاط الاقتصادي على معلومات مهنية تتصف بهذا القدر من التحديد والدقة.
النتيجة التي نستخلصها من هذا كله أن من المتعذر أن نصنف المهن تبعاً لمستويات التعليم المطلوبة. وإذا كان الأمر كذلك، نتج عنه أن مسألة قلب التقديرات المهنية إلى تقديرات تبين عدد الأشخاص الذين تتوافر فيهم مستويات تعليمية معينة، مسألة ترتد في النهاية إلى ما يلي: أن نقدر ضمن أي نسبة ينبغي أن يمتلك أعضاء كل طائفة مهنية هذا المستوى من التعليم أو هذا النوع من التعليم. وهنا نسائل ما هي الطريقة التي توصلنا إلى هذه الغاية؟ والكتاب يكفينا مؤونة التفصيل في الطرائق المتبعة لهذه الغاية، ومع ذلك نرى من المفيد أن نلقي عليها نظرة نقدية سريعة (وهي في معظمها شبيهة بالطرائق المتبعة في التنبؤ بمقدار الحاجة من الطاقة العاملة التي سبق الحديث عنها):
(1) من الممكن دون شك أن ندرس التوزع الراهن لأفراد كل طائفة مهنية على مستويات التعليم، ونطبق بعد ذلك النسب المئوية التي نحصل عليها على التنبؤ بحاجاتنا المقبلة. فإذا كان ثلاثة أرباع المهندسين الآن يحملون شهادات من معاهد صناعية ثانوية، قلنا – وفقاً لهذه الطريقة – إن عدد المهندسين المطلوبين في سنة من سنوات التنبؤ يتكون من 75% من حملة الشهادات الجامعية و25% من حملة شهادات المعاهد الصناعية الثانوية. وهكذا..
وواضح أن أكبر نقيصة في هذه الطريقة هي أنها تفترض أن الطاقة العاملة الحالية تملك قدراً من التعليم هو أحسن قدر ملائم للمهنة. ولهذا فهي قد تؤدي إلى تخليد فقدان التوازن القائم بين البنية المهنية وبين مستوى التعليم. على أن علينا أن نلاحظ مع ذلك أن فقدان التوازن هذا يمكن أن يكون ذا حدين: ففي مجال الزراعة – وهو قطاع هام جداً في معظم البلدان المتخلفة أو السائرة في طريق النمو – من الخطأ دون شك أن نعتقد أن مستوى التعليم الذي تبلغه الطاقة العاملة الحالية في هذه البلدان مستوى كاف، ومن الخطأ بالتالي أن نبني تنبؤاتنا المقبلة على أساسه. فهنالك أسباب عديدة تجعلنا نعتقد أن الطاقة الإنتاجية الزراعية يمكن أن تزداد إذا امتلك المستثمرون الصغار حظاً أوفر من الإعداد الفني.
غير أننا نجد – من جهة ثانية – أن ثمة »فائضاً في التعليم« في بعض المهن بسبب القيمة المفرطة التي تهبها نظم التعليم الجامعية في الكثير من البلاد المتخلفة للدراسة النظرية الأكاديمية. وهنا يأخذ فقدان التوازن شكل زيادة لا شكل نقصان، وأخذه بعين الاعتبار في التنبؤات المقبلة مفيد دون شك. ومع ذلك، ومهما تكن نقائص هذه الطريقة، يظل من الهام جداً أن نجمع المعلومات عن المستوى الحالي في طوائف المهن المختلفة. فهذه المعلومات – وإن عجزت عن أن تقدم لنا فكرة صحيحة عما »ينبغي أن يكون« – تظل ضرورية من أجل اكتشاف النقائص القائمة والثغرات الموجودة في الإعداد المهني الحالي.
(2) كذلك من الممكن لعقد صلة بين المهنة وبين مستوى التعليم أن نستخدم المعلومات التي نجدها بهذا الصدد في بلدان أخرى يفترض أنها أكثر تقدماً من البلد الذي يضع الخطة. ومن الأمثلة على هذه الطريقة الدراسة التي قامت بها »بورتوريكو« لتتنبأ بالحاجات من الطاقة العاملة ومن التعليم عام 1975. فقد انطلق الباحثون هنالك من فرضية قوامها أن معظم الصناعات في بورتوريكو سوف يكون مستوى إنتاجيتها عام 1975 مشابها لمستوى إنتاجية الصناعات في الولايات المتحدة عام 1950. وقد سبق أن أشرنا إلى طريقة المقارنة الدولية هذه، وهي طريقة لها صعوباتها ونقائصها كما سنرى في صلب الكتاب، وخلاصة هذه الصعوبات أننا لا نستطيع أن نتأكد من أن مستوى التعليم الحالي القائم في مختلف الطوائف المهنية يقابل تماماً مستوى التعليم المطلوب. على أن طريقة المقارنة الدولية هذه بين المستويات التعليمية المختلفة المقابلة لمختلف الطوائف المهنية يمكن أن تقدم لنا، رغم الصعوبات جميعها، معلومات مفيدة لتحديد حاجات التعليم وفقاً لحاجات البنية المهنية. غير أن ما يتوافر من معلومات في هذا المجال ما يزال قليلاً. والبلدان التي تملك معلومات تبين توزع الطوائف المهنية تبعاً لمستوى التعليم ونوعه وتبعاً للإعداد المهني، ما تزال نادرة. ونجد في الملحق مثالاً على معلومات موفورة بهذا الصدد في عدد من البلدان هي: كندا، إنكلترا، بلاد الغال، فرنسا، الهند، إيطاليا.
(3) ومن الممكن كذلك أن نلجأ في هذا إلى طريقة ثالثة قوامها استخدام المعلومات المبنية على »تحليل العمل المهني«. وقد جرت محاولة هامة لهذه الغاية، تستهدف تحديد أهمية الإعداد العام والمهني المطلوب في بعض الأعمال. وقام بهذه المحاولة مكتب »التأمينات العمالية في الولايات المتحدة«. ونجد وصفاً لهذه المحاولة في صلب الكتاب.
وهذه الطريقة التي تستهدف تقدير حاجات التعليم استناداً إلى البنية المهنية، تؤدي إلى نتائج تلقى العديد من الاعتراضات. وأهم هذه الاعتراضات أن التقديرات المتصلة بالمستوى العام من التربية والإعداد المهني المطلوب في مهنة من المهن، لا يعكس إلا رأي الباحثين الذين يقومون بالتحليل.
(4) من الممكن كذلك اللجوء إلى طرائق أخرى نجد وصفاً لبعضها في الكتاب، من مثل الطريقة التي يلجأ إليها الأستاذ إيكاوس Eckaus حين يحلل الحاجات التعليمية تبعاً لكل فرع من فروع النشاط، أو من مثل الطريقة التي تلجأ إلى الاستقصاء وإلى سؤال عينة من أرباب العمل. ولن نقف عند هذه الطرائق جميعها، والذي نريد أن ننتهي إليه من وراء هذا كله شيء واحد هو أن قلب حاجات الطاقة العاملة إلى حاجات تبين الأعداد المطلوبة في مختلفة مستويات وأنواع التعليم ليس أمراً هيناً. غير أننا نضيف إلى هذه النتيجة في الوقت نفسه نتيجة أخرى وهي أن المهمة – رغم كل الصعوبات – ليست مهمة مستحيلة، وأن تعاون الطرائق وتصالبها يمكن أن يقتربا بنا من الهدف المنشود. ويظل من الصحيح، بعد هذا كله وفوق هذا كله، أن عدداً من المهن التي نجدها في رأس السلم – ولا سيما في القطاعات العلمية والتقنية – تتطلب مستويات تعليمية يمكن تحديدها تحديداً دقيقاً إلى حد بعيد. وهذه المهن تمثل في واقع الأمر جزءاً كبيراً من المهن التي تهم التخطيط التربوي أكثر من غيرها. أما في المهن الأخرى – التي تتألف منها جمهرة الطاقة العاملة – فالصلات بين التعليم والمهنة صلات أضعف دون شك، غير أن تصالب الطرائق التي أشرنا إليها يمكن أن يكون أساساً لتقديرات واقعية للبنية التعليمية التي ينبغي أن تملكها الطاقة العاملة.
* * *
تلك نظرة خاطفة سريعة إلى المشكلات التي يطرحها التنبؤ بالحاجات التعليمية استناداً إلى حاجات الطاقة العاملة. ومنها نرى أن المسألة لا تخلو من صعوبات وعقبات غير أنها صعوبات وعقبات يتغلب عليها البحث الدائب وتطور الطرائق المختلفة المتبعة في هذا المجال. والنتيجة التي نخلص إليها من وراء ذلك كله تظل نتيجة متفائلة، تبين إمكان الاضطلاع بهذه المهمة – دون تناسي حدودها وصعوباتها – وتفتح أمام الباحث بالتالي مجالاً لتجويد الطرائق المتبعة فيها وللإسهام في تطويرها يوماً بعد يوم. والصعوبات التي نلقاها في هذا المجال لا تختلف في الواقع عن طبيعة الصعوبات التي نواجهها في مجال الدراسات الإنسانية عامة، حين نقبل على وضع الطرائق والقواعد العلمية لظواهر تختلف في طبيعتها عن ظواهر المادة الجامدة. ومن الهام أن نقول بهذا الصدد أن عدم الوصول في مجالات الدراسات الإنسانية إلى الدقة والموضوعية اللتين نجدهما في مجال العلوم التي تعرف باسم العلوم الصحيحة، لا يعني بحال من الأحوال أن علينا أن نتنكب الطريق وأن نعزف عن البحث. فللعلوم الإنسانية «موضوعيتها» التي ينبغي أن تكون – تبعاً لطبيعة حوادثها – مختلفة ومستقلة عن موضوعية علوم المادة. وللعلوم الإنسانية «طرائقها» التي ينبغي أن تتصف بصفات نوعية مغايرة لصفات الطرائق المتبعة في علوم المادة. ومن الخطأ أن نعتقد أن الشأو العلمي في الدراسات الإنسانية يحدده مدى اقتراب هذه الدراسات من منهج العلوم الصحيحة ومن طرائق العلوم الصحيحة. فهنالك طبيعة علمية في الدراسات الإنسانية لابد أن تختلف عن الطبيعة العلمية في دراسات المادة الجامدة. والنقل الحرفي في هذا المجال – أكثر من أي مجال آخر – نقل ضار خاطئ.
إن تشابك الظواهر الإنسانية وتعقدها يملي علينا طرائق ذات صفات خاصة، ويملي علينا بوجه أخص أن نطوق هذه الظواهر المتشابكة باللجوء إلى طرائق متشابكة وباستخدام كل الوسائل الممكنة التي تساعد على الإحاطة بها. وهذا ما قصدناه عندما تحدثنا أكثر من مرة عن ضرورة اللجوء إلى تصالب الطرائق وتقاطعها فيما يتصل بموضوعنا، موضوع التنبؤ بالحاجات التعليمية تلبية لحاجات الطاقة العاملة.
ومهما يكن من أمر، فلا حيلة لنا في الاختبار. وبين القبول بتخطيط تربوي عفوي يقدر الحاجات التربوية استناداً إلى تخمينات نظرية اعتباطية لحاجات الطاقة العاملة، وبين الأخذ بتخطيط تربوي مدروس يحاول أن يقيم تنبؤاته على أوسع قدر ممكن من المعلومات والبيانات والإحصاءات، لا خبرة ولا مفاضلة. فالأسلوب السليم المتلائم مع الروح العلمية الصبورة هو دون شك أسلوب البحث والبحث الدائب الجاهد للحصول على أكبر حظ من المعلومات الموضوعية ومن نقاط الاستناد العلمية، نبني على أساسها تخطيطنا التربوي. إنه أسلوب تصحيح نقائص البحث العلمي وثغراته بمزيد من البحث العلمي لا بالتنكر له واليأس منه. إنه الأسلوب العلمي جملة، الذي يستطيع دوماً أن يجعل ممكناً اليوم ما كان يبدو مستحيلاً بالأمس . إنه الإيمان بأن السيطرة على المستقبل – وهي رائدة التخطيط التربوي – تظل دوماً وأبداً هدف كل مجتمع يريد أن يمتلك مقدراته ويمسك زمام نفسه، ويريد أن يتخذ من العلم قوة محققاً كلمة أوغست كونت الشهيرة: التنبؤ فالقوة.
والمجتمع العربي – وهو مجتمع آخذ في طريق النمو والتقدم – مدعو قبل غيره إلى أن يجاوز مرحلة العمل ليومه إلى مرحلة العمل لغده، وإلى أن يبني هذا العمل للغد على أساس التخطيط العلمي المدروس. وقد قامت في معظم البلدان العربية جهود طيبة في هذا المجال نرجو أن تكتمل ونرجو أن تصل إلى مزيد من الدقة، كما نرجو أن تسهم دراستنا الأولية هذه في تقديم رفد لها. ولا شك أن الجهود الكثيرة التي قامت في معظم الدول العربية لوضع خطط تربوية، إلى جانب خطط التنمية الاقتصادية أو ضمنها، ما تزال تعوزها أولاً وقبل كل شيء تلك اللحمة اللازمة بين التربية وبين الاقتصاد. وبدون هذه اللحمة يظل التخطيط التربوي أقرب إلى ميزانيات للتعليم ممددة على سنوات بدلاً من سنة، منه إلى التخطيط العلمي الذي يبني الحاجات التعليمية على أساس معرفة واضحة بحاجات الاقتصاد من جهة وبالحاجات الثقافية العامة من جهة ثانية، دون أن يكون هنالك تناقض بين هذين النوعين من الحاجات كما سبق أن بينا. وخير جسر ننشئه لإقامة هذه الصلة العضوية اللازمة بين خطط التنمية الاقتصادية وبين خطط التنمية التربوية، هو دون شك جسر دراسة حاجات الطاقة العاملة المقبلة وبناء الحاجات التعليمية على أساسها. فهذا الجسر هو جوهر الصلة في الواقع، وهو الجسر الممكن بين الاقتصاد والتربية، وبدونه تظل هذه الصلة في نطاق التقريرات العامة والأقوال النظرية. ولهذا كله كانت عنايتنا بهذا الكتاب المترجم، ولهذا كله نرى في تعميق هذا الميدان المجال الخصيب المنتج للمعنيين بتخطيط التربية في البلاد العربية.
* * *
وأخيراً لابد من كلمة شكر، إلى المركز الإقليمي لتدريب كبار موظفي التعليم في الدول العربية، إدارة وأساتذة وموفدين، فهو الذي أتاح لنا فرصة الاهتمام بهذه الدراسة وفرصة نشرها، وإلى موفدي الدول العربية إلى المركز في دوراته القصيرة والطويلة، الذين هيأوا إلينا – عن طريق الحوار الفكري الدائم معهم – فرصة التعرف على دقائق المشكلات التي تواجه المربي العربي وأكدوا لنا أهمية المشكلة التي يتصدى لها هذا الكتاب عند كل مهتم بالتخطيط. وجل ما نرجو أن تكون هذه الدراسة بداية خصيباً تتيح لهؤلاء الموفدين ولأترابهم من المربين في البلاد العربية أن ينطلقوا أبعد فأبعد في مجال التخطيط التربوي الصحيح، وأن يوغلوا أكثر فأكثر في طريق التخطيط العلمي، وأن يدخلوا في خشوع وصبر محراب العلم، الأداة الوحيدة لكل تقدم حقيقي يرجونه لبلادهم ووطنهم ويريدونه لبني الإنسان.
عبد الله عبد الدائم
بيروت في 8 – 9 – 1964